مصباح المنهاج - كتاب الطهارة المجلد 1

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : 9ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

كتاب الطهارة

اشارة

كتاب الطهارة و فيه مباحث:

المبحث الأول في أقسام المياه و أحكامها

اشارة

المبحث الأول في أقسام المياه و أحكامها و فيه فصول:

الفصل الأول: في تقسيم الماء إلي مطلق و مضاف

الفصل الأول ينقسم ما يستعمل فيه لفظ الماء (1) إلي قسمين.

______________________________

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري و أحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اهدني فيمن هديت، و عافني فيمن عافيت، و تولني فيمن توليت.

اللهم كن في عوني في جميع أموري، أنت حسبي و نعم الوكيل، نعم المولي و نعم النصير، و لا حول و لا قوة إلا بك، عليك توكلت و إليك أنيب.

(1) مقتضي ما ذكره قدّس سرّه عدم كون التقسيم بلحاظ المعني الحقيقي للماء، و لعل ذلك هو المشهور. خلافا لشيخنا الأستاذ دامت بركاته «1»، فقد استظهر أن التقسيم بلحاظ المعني الحقيقي، و أن الماء بما له من المعني شامل للمضاف.

لصحة استعماله فيه و في المقسم و الأولي كونه حقيقة. و لعدم التكلف و العناية في

______________________________

(1) الشيخ حسين الحلي (دامت بركاته) (منه).

ص: 7

______________________________

التقسيم المذكور بحسب الذوق السليم.

نعم، المنصرف من إطلاقه خصوص المطلق، لا مطلق الماء و لا المضاف منه، بل إرادة كل منهما محتاجة إلي قرينة خاصة.

و فيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

و دعوي: عدم العناية في التقسيم مردودة عليه، و لا سيما بعد عدم معروفية التقسيم المذكور بين أهل اللغة، و إنما عهد من الفقهاء لأجل تعلق غرضهم به، و أعمالهم العناية لأجل ذلك غير عزيز.

بل ما اعترف به من انصراف خصوص المطلق كالمنافي لما ذكره أولا من عموم المعني، إذ الانصراف مع عموم المعني إنما يكون لطوارئ خاصة توجب القرينة العامة الارتكازية علي التقييد، و لذا يختص غالبا بعرف خاص أو مقام خاص يناسب الطارئ المذكور، و لا يكون عاما إلا مع عموم الطارئ، و هو يوجب النقل غالبا مع طول المدة، و لا مجال لدعوي ذلك في المقام، إذ لا إشكال في عموم الانصراف و سبق أمده، لعدم معهودية إطلاق الماء مجردا عن الإضافة علي غير الماء المطلق من أحد، و عدم الموجب لانصرافهم المذكور لو لا الوضع.

و إن شئت قلت: لا طريق لإثبات الوضع في أمثال المقام إلا من استعمالات أهل اللغة و تبادرهم، و هي مختصة بالمطلق و لا تناسب التعميم.

نعم، لا يبعد كون إطلاق الماء مع الإضافة علي أقسام الماء المضاف بنحو الحقيقة، كما سيأتي.

هذا، و ظاهر سيدنا المصنف قدّس سرّه: أن التقسيم بلحاظ ما يستعمل فيه لفظ الماء بحيث يكون الاستعمال مأخوذا في الجامع الملحوظ مقسما في المقام.

و ربما يقال: إن التقسيم بلحاظ جامع ارتكازي معنوي، و هو الواجد للعنصر الخاص، الذي يدرك العرف تحققه في المطلق و المضاف معا و إن لم يطلق عليه الماء حقيقة، فإن ما يصح إطلاق الماء عليه و لو مضافا خصوص السائل المشارك

ص: 8

الأول: ماء مطلق، و هو ما يصح استعمال لفظ الماء فيه بلا مضاف إليه، كالماء الذي يكون في البحر أو النهر أو البئر أو غير ذلك، فإنه يصح أن يقال له: ماء، و إضافته إلي البحر مثلا للتعيين، لا لتصحيح الاستعمال.

الثاني: ماء مضاف (1)، و هو ما لا يصح استعمال لفظ الماء فيه بلا مضاف إليه، كماء الرمان و ماء الورد، فإنه لا يقال له ماء إلا مجازا، و لذا يصح سلب الماء عنه.

______________________________

مع الماء المطلق في الماهية الحقيقية و إن خالفه في الحقيقة العرفية، دون بقية السوائل، كالزيت و نحوه مما لا يدرك العرف واجديته لعنصر الماء.

و فيه: أنه إنما يقتضي كون إطلاق الماء مع الإضافة في الموارد المتفرقة بلحاظ الجهة المذكورة، و لا يقتضي كون الجهة المذكورة هي الملحوظة في المقسم في مقام التقسيم.

كيف و لو كان كذلك لزم عموم المقسم لجميع ما يدرك العرف اشتماله علي عنصر الماء كالريق و البول و الدمع و نحوها مما يكون له اسم يخصه و لا يطلق عليه الماء عند العرف حتي مضافا، مع وضوح قصوره عنها إلا بعناية أخري غير العناية الملحوظة للفقهاء في مقام التقسيم، و هو شاهد بكون التقسيم بلحاظ المسمي، لا بلحاظ تلك الجهة.

(1) أشرنا إلي قرب كون إطلاق الماء عليه بلحاظ مشاركته مع الماء في العنصر، و لذا لا يطلق علي مثل الزيت و إن كان معتصرا من الجسم.

كما أنه لا يبعد كون المنشأ في الإطلاق ضيق التعبير، لعدم اختصاص أنواعه غالبا بأسماء تخصها، فاضطروا لإطلاق اسم الماء مضافا لما يميّزه، و لذا لا يجري ذلك غالبا فيما له اسم ظاهر يخصه كاللبن و البول و الريق و العرق و نحوهما و إن كانت مشاركة له في الجهة المذكورة و أمكن تخيل الاعتصار فيها من الأجسام.

ص: 9

______________________________

هذا، و لا يبعد كون إطلاق الماء مع الإضافة في مثل ذلك حقيقة، كما صرح به سيدنا المصنف قدّس سرّه فتكون الإضافة تتمة للاسم الموضوع، لا قرينة علي المجاز في إطلاق لفظ الماء.

و مجرد الاستغناء بالمجاز عن الوضع المذكور لوفائه بغرض التفهيم مع فرض لزوم القرينة له و هي الإضافة، لا ينافي تحقق الوضع لتخفيف مئونة الاستعمال باستغنائه عن ملاحظة العلاقة اللازمة في المجاز.

و لا سيما بناء علي ما هو الظاهر من عدم كون الوضع في أغلب اللغة تعيينيا مستندا لواضع خاص قد لاحظ الآثار و الفوائد المترتبة عليه، و إنما هو تعيني مستند للعرف العام اللغوي بسبب حاجتهم و ارتكازياتهم التي أودعها اللّٰه تعالي فيهم من الاهتمام بالبيان و التفاهم، فإنه حيث كانت الجهة المصححة للاستعمال و الحاجة اللتان أشرنا إليهما ارتكازيتين في جميع ما يكون من هذا النوع فمن القريب جدا تحقق الوضع النوعي بجميع ما يكون من هذا السنخ، و لو بسبب كثرة الاستعمال بحيث تكون الجهة المصححة للاستعمال معيارا في الوضع نوعا، لا علاقة مصححة للمجاز ملحوظة عند الاستعمال، فان الالتفات للعلاقة المذكورة عند كل استعمال محتاج إلي عناية خاصة يبعد التزامها في مثل هذه الاستعمالات الكثيرة المطردة.

بل التأمل في حال الاستعمالات المذكورة عند العرف شاهد بعدم ابتنائها علي ملاحظة العلاقة، و ليست كاستعمال الماء من دون إضافة في الموارد المذكورة لقرينة حالية. بل لا فرق عند العرف بين إطلاق قشر الرمان و ماء الرمان مثلا في عدم الابتناء علي العلاقة، و إن افترقا في كون الإضافة في الأول للتعيين، و في الثاني لتتميم الاسم، كما ذكرنا.

و الأمر سهل، لعدم ترتب الأثر العملي علي ذلك بعد فرض لزوم الإضافة و حصول التفهيم بها، إما لكونها قرينة علي المجاز، أو لكونها متممة للاسم.

ثمَّ إنه ظهر من جميع ما ذكرنا أن الجسم المائع علي قسمين.

الأول: ما لا يدرك العرف واجديته لعنصر الماء، كالزيت. و لا إشكال ظاهرا

ص: 10

______________________________

في عدم مطهريته، و لا يعرف القول بها من أحد.

الثاني: ما يدرك العرف واجديته له، و هو.

تارة: يختص باسم عرفا، و لا يعرف بإطلاق اسم الماء عليه حتي مع الإضافة، كالبول، و اللبن، و الريق و غيرها.

و اخري: لا يطلق عليه الماء الا مع الإضافة، كماء الرمان و ماء الورد.

و ثالثة: يطلق الماء عليه من دون إضافة، كماء النهر و البئر.

و لا إشكال في مطهرية الثالث، كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي. كما أن الكلام وقع بينهم في مطهرية الثاني.

و أما الأول فظاهر بعض مشايخنا عدم القائل بمطهريته، و هو في محله لو كان وجه البناء علي المطهرية في الماء المضاف التمسك بإطلاق الماء.

لكنه غير ظاهر منهم، بل يظهر منهم التمسك بأدلة خاصة، و هي قد تعم القسم المذكور، لورود بعضها في البصاق و النبيذ، و الظاهر أنهما منه.

و يأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الحادية و العشرين من هذا المبحث إن شاء اللّٰه تعالي.

تتميم: قد أهمل سيدنا المصنف قدّس سرّه طهارة الماء و مطهريته، فلم يتعرض لهما هنا، و لعله لوضوحهما في مقام الفتوي و العمل، و ينبغي لنا التعرض لهما هنا، مع النظر في أدلتهما، لأهمية تشخيص حالهما من حيثية العموم و الخصوص.

فيقع الكلام في أمور.

الأول: لا ريب في طهارة الماء المطلق في نفسه.

و يستدل عليه- بعد الإجماع، و ما دل علي طهوريته، بناء علي أن الطهور هو الطاهر، أو مبالغة فيه، أو هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، علي ما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي- بأمور.

الأول: ما دل علي مطهريته- لو تمَّ- لدلالته علي طهارته في نفسه بالملازمة العرفية، خصوصا في مثل الماء من المائعات، التي يلزم عرفا من نجاستها التنجيس لا التطهير.

ص: 11

______________________________

و دعوي: ان ما دل علي عموم مطهرية الماء- لو تمَّ- مخصص أو مقيد بما دل علي عدم حصول التطهير بالماء النجس، فيكون التمسك به في الماء المشكوك الطهارة من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلا مجال في الماء المذكور للبناء علي مطهريته، فضلا عن إثبات طهارته بذلك.

مدفوعة: بأن وضوح توقف مطهرية الماء علي طهارته و الملازمة بينهما ارتكازا موجب لكون عموم مطهريته بيانا لعموم طهارته، فيجب الرجوع للعموم المذكور في الماء المشكوك لإثبات طهارته المستتبعة لمطهريته. و لو فرض ثبوت نجاسة بعض أقسام الماء كان مخصصا للعموم المذكور المستفاد من عموم المطهرية مع فرض الملازمة المذكورة، فيقتصر في التخصيص علي مورد اليقين.

فالمقام نظير ما دل علي جواز لعن بني أمية قاطبة الذي يكون- بضميمة وضوح التنافي بين اللعن و الإيمان- بيانا عرفا لعدم إيمانهم، حيث لا مجال لرفع اليد عن العموم المذكور في من يشك في إيمانه بتوهم تخصيص عموم جواز لعنهم بعدم جواز لعن المؤمن الموجب لكون التمسك بالعموم في من يشك في إيمانه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.

و إنما يتم ذلك لو استفيد اعتبار طهارة الماء في التطهير به من دليل خاص تعبدي، لولاه لكان مقتضي العموم جواز التطهير بالنجس، كما هو الحال في عموم وجوب إكرام العلماء مع ما يدل علي عدم جواز إكرام العالم الفاسق، لعدم كون عدم جواز إكرام الفاسق من الوضوح و المفروغية بنحو ينهض عموم وجوب إكرام العلماء ببيان عدم فسقهم كي يرجع إليه عند الشك في فسق أحدهم. و تمام الكلام في مبحث العموم و الخصوص من الأصول.

هذا، و يأتي في آخر المقام الثاني عند الكلام في مطهرية الماء ما له دخل في المقام.

الثاني: ما دل علي جريان أصالة الطهارة في الماء، كرواية حماد عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: الماء كله طاهر حتي يعلم أنه قذر» «1» و غيرها، حيث استدل بها

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 12

______________________________

بعض مشايخنا.

بدعوي: أنه و إن قيل بسوقها لبيان قاعدة الطهارة الظاهرية فقط، إلا أنها دالة حينئذ علي طهارة الماء واقعا في نفسه بالالتزام، و يكون الشك في الطهارة حينئذ لاحتمال عروض النجاسة، لا لثبوتها بالأصل.

و لا يخفي أنه بناء علي سوقها لبيان الطهارة الظاهرية فقط فموضوع الطهارة الظاهرية ليس هو ذات الماء، بل الماء بقيد الشك، و من الظاهر أن ثبوت الطهارة الظاهرية للماء المشكوك الحكم لا يستلزم عموم الظاهرية لذات الماء، بل فرض العلم بكونه قذرا في الغاية شاهد بوجود النجس الواقعي فيه. و حمله علي خصوص النجس بالعرض مبني علي الملازمة التي عرفت إنكارها.

و منه يظهر أنه لا مجال لتوهم أنه لو فرض كون قسم من الماء نجسا بالذات لم يكن مجري لقاعدة الطهارة، إذ لا أقل من استصحاب النجاسة حينئذ.

لاندفاعه: بأن الماء المذكور إن فرض العلم بنجاسته خرج عن موضوع الحكم لفرض تقييده بالشك، و إن فرض الشك في تطهيره بعد فرض نجاسته بالأصل كان مقتضي العموم المذكور طهارته ظاهرا، لو لا حكومة الاستصحاب علي قاعدة الطهارة في سائر الموارد، و إن فرض الشك في أصل نجاسته امتنع الرجوع لاستصحاب النجاسة فيه، و تعين البناء علي طهارته ظاهرا بمقتضي هذه الروايات.

و دعوي: أن وظيفة الإمام عليه السّلام التنبيه في مثل ذلك علي الحكم الواقعي و عدم الاكتفاء ببيان الوظيفة الظاهرية.

مدفوعة: بأن ذلك مختص بما إذا كان عليه السّلام بصدد التعرض لحكم ذلك الماء بعنوانه الاولي كماء البئر- كما لو سئل عن ذلك- لا في مثل المقام، حيث أنه عليه السّلام بصدد بيان الوظيفة الظاهرية في مطلق الماء المشكوك، و ليس بصدد التعرض للحكم الواقعي، كما هو الحال في سائر موارد بيان الوظيفة الظاهرية.

و إلا ففي موثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كل شي ء نظيف حتي تعلم أنه

ص: 13

______________________________

قذر، فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك» «1»، و في موثق مسعدة بن صدقة عنه عليه السّلام: «كل شي ء هو لك حلال حتي تعلم أنه حرام بعينه فتدعه.» «2»،

و قد تضمن الأول عموم الطهارة الظاهرية في الأشياء، و تضمن الثاني عموم الحل الظاهري لها، فهل يمكن دعوي دلالتهما بالالتزام علي عموم الحل و الطهارة الواقعيين للأشياء في أنفسها؟! فالإنصاف أن الاستدلال بالنصوص المذكورة بناء علي سوقها لبيان الطهارة الظاهرية فقط للماء في غاية الإشكال.

نعم، قد يدعي سوقها لبيان الطهارة الواقعية و الظاهرية معا للماء، فإن الغاية و إن كانت غاية للطهارة الظاهرية، و هي قرينة علي سوق الصدر لبيان الطهارة الظاهرية أيضا لا الواقعية، إلا أنه لما كان موقوفا علي تقييد الماء بالمشكوك الحال، و هو مما لا يناسب التعميم جدا، و علي إلغاء خصوصية الماء في الحكم، لوضوح ثبوت الطهارة الظاهرية في كل مشكوك، و هو خلاف ظاهر أخذ العنوان الذاتي في موضوع الحكم، و لا سيما في مثل الماء الذي ارتكز في أذهان العرف طهارته، حيث ينسبق مع ذلك سوق القضية علي طبق الارتكاز المذكور، كان ذلك مانعا من التصرف في الصدر و تحكيم ظهور الغاية عليه، بل يلزم التفكيك بينه و بين الغاية بجعلها غاية لما يستفاد منه تبعا، من الحث علي الجري العملي علي الطهارة و ترتيب آثارها، فإن الحكم بطهارة الماء واقعا ليس واردا لمحض بيان حاله، بل للحث علي ترتيب الآثار المناسبة له، فكأنه قيل: الماء كله طاهر، و اعمل علي مقتضي الطهارة حتي تعلم أنه قذر، فيكون نظير الاستثناء المنقطع.

و هذا بخلاف موثقي عمار و مسعدة، فإن الموضوع فيهما هو الشي ء، و هو عنوان عرضي لا ينتزع عن الشي ء بلحاظ ذاته فقط، بل بلحاظ الجهات العرضية أيضا، فكما يكون الماء و التراب و القطن و الحديد و غيرها أفرادا له، كذلك يكون المتغير و الميت و ملاقي الدم و غيرها أفرادا له.

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث 4.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث 4.

ص: 14

______________________________

و من الظاهر أن جعل الطهارة و الحل الواقعيين لكل شي ء بهذا العموم الواسع مناف لفرض العلم بالنجاسة و الحرمة في الغاية.

و دعوي: حمل الشي ء في الصدر علي خصوص ما ينتزع بلحاظ الذات، ليكون مرجعه إلي ثبوت الطهارة للأشياء بذواتها، فلا ينافي فرض الشك في النجاسة بلحاظ الطوارئ الخارجية كالملاقاة و الموت و غيرهما.

مدفوعة: بأن الحمل علي ذلك ليس بأولي من حمله علي خصوص المشكوك، بل الثاني أولي، لما فيه من المحافظة علي السنخية بين الغاية و المغيي.

و بعبارة أخري: التفكيك بين الغاية و المغيي بالوجه الذي ذكرنا مخالف للظاهر في نفسه، و إنما يلتجأ إليه في روايات الماء محافظة علي خصوصية الماء و عمومه الارتكازي المصرح به في الصدر، و حيث لا مجال لذلك في الموثقين، إذ لا بد من التصرف في عمومهما علي كل حال، فلا موجب للتفكيك المذكور.

علي أنه لا مجال لحمل الصدر فيهما علي الحكم الواقعي مع ما هو المفروغ عنه من وجود النجس و الحرام ذاتا في الأشياء، فلا بد من حمله علي الحكم الظاهري، فيطابق الغاية. فتأمل جيدا.

ثمَّ إن نصوص قاعدة الطهارة في الماء لو دلت علي عموم طهارته واقعا فهي إنما تقتضي طهارته ذاتا، كما هو المنسبق من أخذ العنوان الذاتي في موضوع الحكم، و ليس لها إطلاق أحوالي يقتضي طهارته الواقعية، ليكون مرجعا في دفع احتمال تنجسه لطارئ، و ليس العموم الأحوالي المستفاد من الغاية إلا لبيان الطهارة الظاهرية.

و منه يظهر الوجه في حمل القذر المفروض في الغاية علي خصوص القذر الطارئ، فإنه هو المناسب لعموم الطهارة الواقعية للماء بذاته.

هذا، و ما ذكرناه من الوجه في استفادة عموم الطهارة الواقعية في الماء من هذه النصوص و إن كان قابلا للإنكار، إلا أنه قريب جدا، مناسب لما ينسبق من النصوص بدوا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

الثالث: ما دل من الروايات الكثيرة علي تنجس الماء القليل بالملاقاة،

ص: 15

______________________________

و الكثير بالتغير، و اعتصامه بدونه «1»، فإنه قد يستدل بذلك.

بدعوي: أن الحكم بالتنجس و الاعتصام ظاهر في المفروغية عن الطهارة الذاتية، إذ لا معني الحكم بهما علي النجس، و حيث كان في الروايات ما هو مطلق أو عام لجميع أقسام الماء كان دالا علي عموم طهارته.

و فيه: أن الروايات المذكورة مسوقة لبيان سببية الملاقاة و التغير للنجاسة و سببية الكرية للاعتصام، و إطلاقه لا يقتضي إلا عموم قابلية السبب للتأثير لا فعلية التأثير، ليستلزم قابلية الموضوع، فلا ينافي عدم تأثيره في بعض الموارد، لقصور الموضوع، لكونه نجسا بالذات.

و إن شئت قلت: الإطلاق مسوق لبيان السببية بعد الفراغ عن قابلية الموضوع، فلا ينهض بإثبات قابلية الموضوع.

و لذا لا يظن من أحد الالتزام بأنه لو ورد عموم حاكم بأن الجلل محرم لأكل الحيوان مثلا كان دالا علي عموم حلية الحيوانات بالأصل، بحيث ينافيه ما دل علي تحريم بعض الحيوانات ذاتا.

غاية الأمر في المقام أن بيان سببية السبب ظاهر في فعلية تأثيره في بعض الموارد، لقابلية الموضوع، و إلا كان بيانه لغوا عرفا، لعدم ترتب العمل عليه، إلا أنه ليس موردا للشك و لا محلا للكلام في المقام.

الرابع: ما دل علي اعتصام الماء في نفسه مطلقا، كالنبوي: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» «2»، فإن الحكم بعدم تنجيسه ظاهر في طهارته عرفا، و ليس عدم تنجيسه لكونه نجسا، و ليس هو في مقام البيان من جهة أخري كي يمنع من الإطلاق، كما تقدم في الوجه السابق، كما أن مقتضي إطلاقه الأحوالي بقاء الماء علي الطهارة، لا مجرد طهارته ذاتا.

لكن العموم المذكور لم يثبت بوجه معتد به إذ لم أعثر علي دليل له غير

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 8، 9 من أبواب الماء المطلق و غيرهما.

(2) رواه عن المعتبر و السرائر في الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

ص: 16

______________________________

النبوي المتقدم و النبوي الآتي، و الأول قد روي مرسلا في المعتبر «1»، و عن عوالي اللئالي «2»، و عن محكي السرائر أنه متفق علي روايته «3». و حجيته بمثل ذلك لا يخلو عن إشكال، بل منع، لقرب أخذه من العامة، لرواية المضمون المذكور من طرقهم، و عدم روايته من طرقنا.

مع أنه مناف لما دل علي اعتبار الكرية في الاعتصام، لصعوبة الجمع بينهما عرفا، لظهوره في أن الاعتصام مقتضي طبيعة الماء التي خلق عليها، و ظهور الأدلة المذكورة في أنه من لواحق الكرية التي هي من سنخ العرض الزائد علي الذات.

فتأمل.

و منه يظهر حال ما عن ابن أبي جمهور الأحسائي: «روي متواترا عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام أن الماء طاهر لا ينجسه إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته» «4»، فإنه- مع ضعف سنده- ظاهر في أن عدم التنجيس كالطهارة من أحكام الماء بحسب طبعه.

و أما ما في غير واحد من النصوص من عدم انفعال الماء بالنجاسة ما لم يتغير، كصحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «5»، و غيره.

فهو وارد في مقام بيان دوران التنجيس مدار التغير و عدمه، بعد الفراغ عن قابلية الموضوع، فلا ينهض إطلاقه بإثبات قابلية كل ماء للتنجيس و أنه طاهر، كما تقدم نظيره. مع أنه لا بد من رفع اليد عن الإطلاق المذكور- لو تمَّ- بما دل علي اعتبار الكرية في الاعتصام، فلا ينهض بإثبات طهارة القليل إلا بفرض فهم عدم

______________________________

(1) راجع ص: 16.

(2) مستدرك الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المطلق حديث 4.

(3) حكاه عنه في الوسائل عند روايته للحديث.

(4) مستدرك الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 17

______________________________

الخصوصية. فتأمل.

الأمر الثاني: الماء المطلق كما يكون طاهرا في نفسه كذلك هو مطهر لغيره من الحدث و الخبث إجماعا مستفيضا كما في مفتاح الكرامة، و كتابا و سنة كادت تكون متواترة، و إجماعا محصلا و منقولا نقلا مستفيضا، بل متواترا، كما في الجواهر. و في المعتبر: «و هو مذهب أهل العلم سوي [عدا، خ. ل] سعيد بن المسيب، فإنه قال: لا يجوز الوضوء بماء البحر مع وجود الماء، و ما حكي عن عبد اللّٰه بن عمر أنه قال: التيمم أحب [أعجب، خ. ل] إلي منه». و لم يستبعد في الجواهر كون تحريم الوضوء بماء البحر مخالفا لضروري الدين.

و كيف كان، فقد يستدل عليه- بعد الإجماع المذكور- بأمور.

الأول: إطلاق الطهور عليه في الكتاب و السنة، و هو مبني علي اقتضاء الطهور للمطهرية، و حيث كان ذلك محل الكلام كان المناسب تحقيق الحال فيه.

و لا يخفي أن ذلك إنما يحتاج إليه في ما خلا عن القرينة المعينة لإرادة المطهر، دون مثل صحيح جميل بن دراج و محمد بن حمران عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام الوارد في التيمم: «ان اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1»، و نحوه غيره، و صحيح داود بن فرقد عنه عليه السّلام: «قال: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسع اللّٰه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض و جعل لكم الماء طهورا، فانظروا كيف تكونون» «2».

و حينئذ نقول: المحتمل بدوا في الطهور أحد أمور.

الأول: أنه مصدر طهر و تطهر، كالطّهور بالضم.

الثاني: أنه الطاهر في نفسه.

الثالث: أنه يفيد المبالغة في الطهارة.

الرابع: أنه ما يتطهر به كالفطور لما يفطر به، فهو اسم جامد نظير اسم الآلة.

______________________________

(1) الوسائل باب 1، من أبواب الماء المطلق، حديث: 1.

(2) الوسائل باب 1، من أبواب الماء المطلق، حديث: 4.

ص: 18

______________________________

الخامس: أنه المطهر بنحو يكون من أسماء الصفات المتضمنة للحدوث.

السادس: أنه الطاهر المطهر بأن يكون من الصفات أيضا.

أما الأول فهو المحكي عن سيبويه، حيث ذكر أن المصدر يأتي بالضم و الفتح معا، كما ذكر ذلك في الوضوء أيضا، و فرّق بينهما غيره و جعل المصدر بالضم لا غير.

و هو- لو تمَّ- لا مجال لاحتماله في المقام، لأن حمل المصدر علي الأعيان- كالماء و التراب- مبني علي تكلف لا مجال لحمل الكلام عليه.

مع أنه لو سلم التكلف المذكور بلحاظ المبالغة فظاهر المصدر إرادة المعني الحدوثي، و هو في المقام المطهرية، لا الطهارة لأنها في الماء أمر تابع لذاته غير حادث له، فيرجع إلي المعني الخامس.

و أما الثاني فقد يتراءي من غير واحد، و إن أمكن حمل كلامهم علي الثالث أيضا، بل هو ظاهر بعضهم.

و كيف كان، فهو خلاف الظاهر جدا، لما صرح به بعض اللغويين- بل هو المقطوع به- من أنه لا يوصف به كل طاهر كالثوب و البدن و غيرهما، فان ذلك كاشف عن تضمنه معني غير الطهارة.

و احتمال ابتناء الإطلاق علي ملاحظة بعض الخصوصيات الزائدة علي الطهارة و هي من شؤونها غير المطهرية، كصعوبة زوالها عنه و نحوه مما يختص بالماء و لا يطرد في غيره من الأمور الطاهرة.

مدفوع: بأن ذلك لو تمَّ في نفسه فإنما يتجه في الاستعمالات الشخصية التي قد تبتني علي النكات الخفية، أما في الاستعمالات الشائعة عند العرف فلا بد من كون الجهة الملحوظة ارتكازية يطّرد الاستعمال بلحاظها، بحيث يكون الخروج عنها محتاجا إلي عناية و قرينة، و الظاهر عدم ملاحظة مثل هذه الجهات في إطلاق الطهور في سائر الموارد التي سنشير إلي بعضها.

و منه يظهر حال الوجه الثالث، فإنه و إن صرح به الزمخشري في أساس

ص: 19

______________________________

البلاغة، و حكي عن أبي حنيفة، بدعوي: أن صيغة «فعول» تفيد المبالغة، كما في الحسود و الحقود و الصبور و الوقور و غيرها.

و لأنهم قد يستعملون (فعولا) فيما لا يفيد التطهير كما في قوله تعالي:

وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ شَرٰاباً طَهُوراً «1» و قول الشاعر:

عذاب الثنايا ريقهن طهور

إلا أنه مندفع: بأن المبالغة في الطهارة لا تختص بالماء عرفا، و لذا صحت المفاضلة فيها، فيقال مثلا: زيد أطهر من عمرو نفسا أو أصلا أو ثوبا، و من الظاهر عدم اطراد استعمال الطهور بلحاظ شدة الطهارة و المبالغة فيها.

و احتمال لحاظ خصوصية زائدة مختصة بالماء قد عرفت ما فيه، و لا سيما مع أن الخصوصية المفروضة لا تطرد في سائر موارد استعمال صيغة المبالغة، بل ليس الملحوظ فيها إلا شدة التلبس بالمادة، ففرض ابتناء المقام علي المبالغة من جهة الصيغة لا يناسب ذلك.

و أما الآية فربما يحمل الطهور فيها علي المطهر، كما عن بعض المفسرين، بل هو المروي، إما من حيث كون الشراب موجبا لازالة آثار الأكل من أجوافهم، فيطهرهم منها، أو لأنه يطهرهم عن التدنس بما سوي اللّٰه تعالي. كما أشار إليهما في مجمع البيان.

و كذا البيت، لا مكان إرادة أن ريقهن يشفي سقم الصب الواله أو نحوه.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من الإشكال في ذلك بأن الطهارة الشرعية لما كانت أمرا اعتباريا متقوما بالحكم الشرعي فهي لا تتصف بالشدة و الضعف، بل بالوجود و العدم لا غير.

فيندفع: بأن الاعتبار و إن لم يقبل الشدة و الضعف إلا أن الأمر المعتبر قد يقبله، كما هو الحال في الطهارة ارتكازا، بل قد يشهد به استحباب تجنب بعض المياه، كماء البئر قبل النزح بناء علي طهارته، و الغسل من بعض الأمور، كفضلات

______________________________

(1) سورة الإنسان: 21.

ص: 20

______________________________

الفرس و الحمار و البغل، كما هو الحال في الطهارة الحدثية، لارتكاز أن الأغسال المستحبة موجبة لمرتبة زائدة من الطهارة، و كذا الوضوءات، بل هو كالصريح مما ورد في الوضوء التجديدي من أنه نور علي نور «1».

نعم، قد يدعي أن المبالغة في الطهارة ملحوظة جهة مصححة لإطلاق الطهور علي ما يحدث التطهير، لأن إفاضة الطاهر للطهارة علي الغير يناسب شدة طهارته، فالمبالغة ليست ملحوظة في المعني المستعمل فيه، لتكون معيارا مصححا للاستعمال- كما في سائر موارد صيغ المبالغة- بل هي جهة ملحوظة للواضع موجبة لمناسبة اللفظ للمعني و سببا لاستعماله فيه و إطلاقه عليه.

و بعبارة أخري: الطهور ليس هو شديد الطهارة و كثيرها- كما هو مفاد صيغة المبالغة قياسا- بل هو المطهر، لا لوضعه لذلك ابتداء، بل لمناسبته للمبالغة في الطهارة.

و كأنه إلي ذلك يرجع ما ذكره غير واحد، فعن الشيخ قدّس سرّه في محكي التهذيب: «لا خلاف بين أحد من أهل النحو أن «فعولا» موضوع للمبالغة و تكرر الصفة، و عدم حصول المبالغة علي ذلك الوجه لا يستلزم عدم حصولها بوجه آخر، و هو هنا باعتبار كونه مطهرا» و قريب منه في محكي الخلاف. و قال ابن الأثير في النهاية: «و الماء الطهور في الفقه هو الذي يرفع الحدث و يزيل النجس، لأن «فعولا» من أبنية المبالغة، فكأنه تناهي في الطهارة».

بل هو الظاهر من بعض من أنكر مجي ء طهور بمعني مطهر، كالزمخشري، قال في الكشاف: «طهورا: بليغا في طهارته. و عن أحمد بن يحيي: هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. فان كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا.

و يعضده قوله تعالي وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ و إلا فليس فعول من التفعيل في شي ء.» و نحوه عن محكي المغرب، و الطراز.

فإن كلامهم- كما تري- راجع إلي ما ذكرنا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 21

______________________________

و إن كان قد يتراءي منه أن الصيغة محافظة علي المبالغة و ان إفادتها للمطهرية لأنها من مظاهرها و مصاديقها الا دعائية بعد تعذر المصداق الحقيقي لها و هو التكثر، لعدم قابلية الطهارة له.

لكن لا مجال له بعد ما عرفت من إمكان المبالغة الحقيقية بلحاظ شدة الطهارة و استحكامها و عدم اطراد الاستعمال معها، فلو تمَّ ما ذكروه تعين إرجاعه لما ذكرنا.

و الحاصل: أنه لا مجال لحمل الطهور في المقام علي أحد المعاني الثلاثة الأول، بل يتعين جمله علي أحد المعاني الثلاثة الأخيرة، فيتضمن التطهير، كما صرح به غير واحد من الفقهاء و اللغويين، بل هو المعروف بينهم. و يناسبه إطلاق الطهور في كثير من الموارد علي الماء مع القرينة المعينة لذلك- كما أشرنا إليه آنفا- و علي غير الماء كالأرض و التراب في أحاديث التيمم و علي النورة و غير ذلك.

بل لا ينبغي التأمل فيه بعد ملاحظة ذلك، لبعد الاشتراك في مثل ذلك جدا كبعد المجاز في الإطلاقات المذكورة.

ثمَّ إن المعني الرابع هو المناسب لمقتضي الهيئة، حيث استعملت في نظيره في مثل السحور و الفطور و الوقود و النشوق و السعوط و الحنوط و اللطوخ و الغسول و الوضوء. بل يظهر من كثير التسالم علي استعمال الطهور بالمعني المذكور، و أن الكلام إنما هو في أن المعني الآخر الوصفي هل يتضمن المطهرية أو لا.

و منه يظهر أن هيئة «فعول» لا تختص بالمبالغة، فلا حاجة إلي ما تقدم من غير واحد في إفادة الطهور للمطهرية من تكلف إرجاعها للمبالغة.

كما لا وجه لما يظهر من المعتبر، و عن كنز العرفان من أن ذلك توقيفي ليس علي مقتضي القياس.

نعم، لو أريد إثبات المطهرية بما هي معني حدوثي وصفي- كما تضمنه المعنيان الأخيران- لم يبعد خروجه عن القياس و توقفه علي تكلف المبالغة

ص: 22

______________________________

بالوجه المتقدم.

إلا أنه لا طريق لإثبات المعني المذكور، لأنه و إن كان قد يشهد به وقوع الطهور وصفا للماء،- كما في الآيتين الشريفتين- و لذا ذكر كثير من اللغويين أن الطهور يرد اسما و وصفا، لكن من القريب رجوعه للمعني الرابع لما بينهما من التناسب، بنحو قد يتوسع و يستعمل أحدهما مكان الآخر بل احتمل في الجواهر كونه بدلا في مثل ذلك.

و إلا فمن البعيد وضعه بوضعين للمعني الجامد و الوصفي، و لعله لذا أنكر في المعتبر وقوعه بمعني مطهر وصفا متعديا، و لذا لا يقال: الماء طهور من الحدث و إن صح أنه مطهر من الحدث.

و الأمر سهل، لعدم الفرق بين المعنيين عملا.

ثمَّ إن أخذ الطهارة في الطهور- كما تضمنه المعني السادس، و صرح به غير واحد- قد يتجه بناء علي لحاظ المبالغة في المقام بالوجه المتقدم.

أما بناء علي المعني الرابع فلا وجه له، و لا يبعد كون ذكرهم له لما تقدم آنفا من أن التطهير بالماء ملازم لطهارته ارتكازا، فهي من لوازم المعني من دون أن تؤخذ فيه، و قد يشهد بذلك وصف النورة بأنها طهور، مع وضوح أن سنخ مطهريتها لا يتوقف علي طهارتها.

و قد تحصل مما ذكرنا أمور.

الأول: أن صيغة فعول لا تختص بالمبالغة، بل تأتي لما تحصل به المادة كالغسول و الوضوء، و هي حينئذ نظير اسم الآلة اسم جامد لا يكون وصفا مفيدا للحدوث، و عليه فمجي ء «طهور» بمعني ما يتطهر به ليس مخالفا للقياس.

الثاني: أن مجي ء «طهور» بمعني مطهر وصفا ليس قياسيا، لما أشار إليه غير واحد من أن «فعولا» لا يصاغ من التفعيل، بل من الفعل، فلو ورد كان سماعيا شاذا، و لا يبعد حينئذ رجوعه للمبالغة.

الثالث: أن مجي ء «طهور» وصفا غير ثابت، و إن صرح به غير واحد، و مجرد

ص: 23

______________________________

التوصيف به- لو ثبت- لا ينافي كونه بمعني ما يتطهر به توسعا، لما بين المعنيين من التناسب.

الرابع: أن حمل «طهور» علي الطاهر في نفسه أو البليغ الطهارة من دون أن يفيد التطهير به لا مجال له بعد ملاحظة الاستعمالات المختلفة، حيث يطرد بمعني المطهر دون الطاهر.

الخامس: أن حمل «طهور» علي المصدر في الآية لا مجال له إلا بتأويل، و هو- لو تمَّ- كان مفيدا للتطهير به.

السادس: أن وصف الماء بالطهور يقتضي كونه طاهرا في نفسه، إما بالملازمة العرفية، لتوقف التطهير به علي طهارته ارتكازا، أو لابتنائه علي المبالغة، و الأول أظهر.

السابع: أن الأقرب في المقام هو الحمل علي المعني الرابع، ثمَّ السادس، ثمَّ الأول، ثمَّ الخامس. و علي الجميع فهو يقتضي التطهير به. و أما الحمل علي الثاني و الثالث فلا مجال له.

و حيث انتهي الكلام في معني الطهور، فاعلم: أن ثبوت الطهورية للماء في الجملة لا إشكال فيه، لتظافر الأدلة به، و إنما الكلام في ثبوت عموم يرجع إليه عند الشك، إما من حيث أفراد الماء، أو من حيث أنحاء الطهارة من الحدث و الخبث.

و ربما استدل أو يستدل علي ذلك بأمور.

الأول: قوله تعالي وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً «1». و يشكل الاستدلال به بوجهين.

أحدهما: أنه مختص بماء السماء الظاهر في خصوص المطر.

و لا مجال لما في الجواهر من تتميمه بالإجماع المركب، لعدم ثبوت الإجماع علي الملازمة بين أفراد الماء المحققة و المقدرة في الحكم غير الإجماع

______________________________

(1) سورة الفرقان: 48، 49.

ص: 24

______________________________

المتقدم علي مطهرية الماء، و هو إجماع بسيط لا مجال للاستدلال به في مورد الشك و الخلاف، كما لو فرض في ماء البحر أو الماء المصنع كيميائيا في المختبرات الحديثة.

بل لو فرض من أحد الشك في مطهرية مثل ذلك فلا يظن منه الشك في مطهرية الماء في الجملة، و هو شاهد بعدم الإجماع علي الملازمة المذكورة.

و مثله ما ذكره من أن جميع المياه أصلها من السماء، مستدلا عليه بقوله تعالي وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَليٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ فَأَنْشَأْنٰا لَكُمْ بِهِ جَنّٰاتٍ. «1».

و زاد بعض مشايخنا فاستدل بقوله تعالي أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَسَلَكَهُ يَنٰابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ. «2»

و قوله سبحانه وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلّٰا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «3».

إذ فيه. أولا: أن الآيتين الأوليين ليستا مسوقتين لبيان أن كل ماء نازل من السماء، بل هما في مقام الإشارة إلي أن الماء النازل من السماء من نعم اللّٰه تعالي الجليلة الخاضعة لقدرته، و المنوطة بإرادته، و هو يناسب الإشارة لمثل ماء المطر الذي يقر في الأرض و يجري في مسالكها و يخرج من منابعها، مكونا الأنهار و العيون ذات الأثر البالغ في حياة الإنسان، و لا يشمل ماء البحر، فضلا عن مثل الماء المصنع كيميائيا.

و لا أقل من اختصاصهما بقرينة الغاية بالماء الصالح للزراعة، كماء الأنهار و العيون و الآبار- كما هو المحكي عن تفسير علي بن إبراهيم في الآية الاولي- و لا يشمل مثل ماء البحر.

و دعوي: أنه متجمع منها فلا يكون قسما آخر في مقابلها.

______________________________

(1) سورة المؤمنون: 18، 19.

(2) سورة الزمر: 21.

(3) سورة الحجر: 21.

ص: 25

______________________________

كما تري! لأن صب الأنهار و نبع بعض العيون فيه لا يستلزم كون جميعه منها، و لا سيما مع كثرته بنحو يناسب استغناءه عنها، بل ظاهر بعض الآيات و الروايات أن الماء أسبق خلقا من الأرض و السماء، و المتيقن منه ماء البحار.

فراجع أوائل كتاب السماء و العالم من البحار.

و أما الآية الثالثة فهي ظاهرة في نزول أمر كل شي ء من السماء بمعني تقديره فيها، نظير قوله تعالي وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ «1»، و ظاهر آية الطهورية النزول الحقيقي، كماء المطر.

و ثانيا: أنه لا عموم لآية الطهورية في طهورية كل ماء نازل من السماء، بل هي مختصة بقرينة الغاية بالماء الصالح للزراعة و الشرب، و هو مختص بماء المطر و ما يتفرع منه من مياه الآبار و العيون و الأنهار.

و ثالثا: أنه ليس لآية الطهورية إطلاق أحوالي يقتضي عدم انفكاك الطهورية عن الماء النازل من السماء، بل ليس مدلولها المطابقي إلا طهوريته حين نزوله.

نعم، لا إشكال في التعدي عنه في الجملة، لفهم عدم الخصوصية، أو بقرينة غلبة الانتفاع بماء المطر و استعماله بعد استقراره في الأرض و تجمعه فيها، و المتيقن من ذلك ما إذا لم يغفل العرف عن كونه ماء المطر النازل من السماء، كالماء المتجمع منه و ماء السيل، دون مثل ماء العيون و الآبار و الأنهار مما لا ينسب عرفا للمطر و إن كان أصله منه، فضلا عن مثل ماء البحر ما لم يعلم بكون أصله منه.

فتأمل.

و ما ذكره بعض مشايخنا من وضوح أن حكم ماء المطر المتجمع في الأرض حكم سائر مياهها.

راجع إلي دعوي الملازمة بين أفراد الماء المستقر في الأرض. و هي غير واضحة المأخذ، كما أشرنا إليه في نظيره قريبا. و لو تمت لم نحتج إلي النظر في

______________________________

(1) سورة الحديد: 25.

ص: 26

______________________________

دليل العموم إذ لا إشكال في مطهرية بعض أفراد الماء المستقر في الأرض فيلزم عموم مطهريتها بضميمة الملازمة المدعاة.

ثانيهما: أنه لا عموم له و لا إطلاق يقتضي طهورية جميع أفراد الماء، لما قيل من ان النكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم.

و قد أجاب عن ذلك في الجواهر.

تارة: بتتميم دلالتها بالإجماع المركب، و يظهر حاله مما تقدم.

و اخري: بأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم إذا وقعت في معرض الامتنان، كما في قوله تعالي فِيهِمٰا فٰاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّٰانٌ «1».

و زاد بعض مشايخنا أن طهورية فرد من أفراد الماء من دون بيانه و تعريفه مما لا يتعقل فيه الامتنان أصلا.

و يندفع: بأن الامتنان لا يتوقف علي عموم الطهورية، بل يكفي فيه طهورية قدر يعتد به يقع موردا للابتلاء العام، كماء المطر المعلوم طهوريته و لو من الخارج.

و لا سيما مع عدم سوق الآية الشريفة للامتنان إلا عرضا، و ليس المقصود بالأصل إلا الامتنان بلحاظ ما يترتب علي إنزال الماء من إحياء البلدة الميتة و سقي الحيوانات و الناس به.

و أما الآية التي نظّر بها في الجواهر فدلالتها علي العموم لجميع أنواع الفواكه ممنوعة، و لو ثبت إرادته منها فهو من دليل خارج.

بقي في المقام شي ء: و هو أنه حيث كانت الطهارة لغة ضد الدنس و النجاسة و الخبث و القذر، كما يستفاد من اللغويين و استعمالات العرف، فهي من الأمور الإضافية الاعتبارية تبعا لاعتبار الدنس و الخبث في شي ء، فكلما اعتبر الخبث و الدنس و النجاسة من جهة كان الخلوص منها طهارة منها، كما أن ما يخلص منها طهور و مطهر.

______________________________

(1) سورة الرحمن: 68.

ص: 27

______________________________

و عليه فلا وجه لما في الجواهر من أن حمل الطهور علي المطهرية الشرعية لا يبتني علي المعني اللغوي، بل علي النقل الشرعي.

و أشكل من ذلك ما حكاه عنهم من أن استعمال لفظ الطهارة في الطهارة الخبثية مجاز حتي بلحاظ النقل الشرعي.

و من ثمَّ استشكل في عموم الطهور لذلك، لاستلزامه استعمال اللفظ في المعني الحقيقي و المجازي معا، ثمَّ قال: «و حمله علي عموم المجاز لا قرينة عليه».

إذ بناء علي ما عرفت لا تصرف من الشارع في مفهوم الطهارة و الطهور ليلزم المجاز أو النقل الشرعي، بل في المصداق، من حيث اعتبار الخبث و الدنس و النجاسة فيما لا يعتبره العرف كذلك.

و أما ما حكاه عنهم من أن الطهارة مجاز في الطهارة من الخبث فلعله بلحاظ خصوص مصطلح الفقهاء، حيث عرفوا الطهارة بأنها استعمال طهور مشروط بالنية، أو أنها اسم للوضوء و الغسل و التيمم إلي غير ذلك مما لا يشمل الطهارة من الخبث، بل هو صريح الشهيد قدّس سرّه في محكي نكت الإرشاد، حيث قال: «إن إدخال إزالة الخبث ليس من اصطلاحنا».

و ما في الجواهر من أن المعني المصطلح هو المعني المتشرعي الذي هو ضابطة الحقيقة الشرعية.

لا وجه له، لعدم ثبوت النقل الشرعي في المقام، بل الظاهر جري الشارع علي المعني اللغوي في استعمالاته، كما تقدم، و لا سيما وقت نزول الآية. بل لا يظن من أحد الالتزام بمجازية الاستعمالات الشرعية الكثيرة الواردة في الطهارة الخبثية. و عليه فلا مانع من عموم الطهور بلحاظ الطهارة العرفية و الشرعية الحدثية و الخبثية.

نعم، لا بد من ثبوت إطلاق معتد به في ذلك في الآية، و هو غير ظاهر، لعدم سوق الآية للحكم بطهورية الماء و تشريع ذلك، لتكون ظاهرة في الطهورية من

ص: 28

______________________________

الأخباث و القذارات الشرعية، و يمكن فيها فرض الإطلاق المقتضي لعموم المطهرية، بل لبيان الامتنان و الأنعام بإنزال الماء الطهور، حيث ذكرت الطهورية وصفا للماء النازل، و يكفي في ذلك طهوريته في الجملة، و لو من الأخباث و القذارات العرفية. فتأمل جيدا.

و قد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا عموم في الآية الكريمة، لا بلحاظ أفراد الماء، و لا بلحاظ جهات التطهير و أنواع الأخباث و الاحداث.

الثاني: ما تضمن أن الماء خلق طهورا، و هو النبوي المتقدم عند الكلام في طهارة الماء.

لكنه لا ينهض إلا بإثبات طهوريته ذاتا بحسب أصل الخلقة، و لا إطلاق له أحوالي ينفي احتمال عروض المانع من التطهير به.

و أما استثناء التغير فحيث كان من الحكم بعدم التنجيس لا من الحكم بالطهورية فهو إنما يقتضي عموم عدم التنجيس لجميع الحالات، لا عموم الطهورية.

و دعوي: أن الحكم بعدم التنجيس ليس في قبال الحكم بالطهورية، و إلا كان المناسب عطفه عليه بالواو، بل هو متفرع علي الحكم بالطهورية من حيث منافاة النجاسة للطهورية، فيرجع الاستثناء إليهما معا، و هو كما يقتضي عموم عدم التنجيس يقتضي عموم الطهورية.

ممنوعة: فإن مجرد عدم العطف لا يوجب الظهور المعتد به، و غايته الاشعار غير الصالح للاستدلال.

مع أن ذلك- لو تمَّ- كان عموم الطهورية بالوجه المذكور كعموم الاعتصام منافيا لأدلة عاصمية الكر، كما تقدم نظيره، هذا مضافا إلي ما تقدم من ضعف سنده بنحو لا يصلح للاستدلال.

الثالث: النصوص الكثيرة الواردة في التيمم المتضمنة أن اللّٰه جعل التراب طهورا كالماء، كصحيح جميل و محمد بن حمران المتقدم في أول الكلام في أدلة

ص: 29

______________________________

الطهورية و غيره.

و فيه: أن كثيرا من هذه النصوص وارد لبيان طهورية التراب بعد الفراغ عن طهورية الماء، و ليس واردا لبيان طهورية الماء، ليكون له إطلاق يقتضي عموم طهوريته، فيرجع إليه في مورد الشك.

و كذا الحال في مثل خبر سماعة: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته. قال: يتيمم بالصعيد و يستبقي الماء، فان اللّٰه عز و جل جعلهما طهورا الماء و الصعيد» «1».

لأنه وارد لتشريع التيمم مع قلة الماء بعد الفراغ عن كون ذلك الماء طهورا في نفسه، لا لبيان طهوريته، ليكون له إطلاق يعم جميع أفراده. فتأمل. و لم أعثر في النصوص المذكورة علي ما هو ظاهر في الإطلاق.

هذا، مع أن النصوص المذكورة لا تنهض بإثبات طهورية الماء من الخبث، لسوقها مساق طهورية التراب التي لا يراد بها إلا طهوريته من الحدث.

إن قلت: التراب قد يكون مطهرا من الخبث، كما في تطهيره باطن القدم و النعل، فلا مانع من التزام كون المراد من هذه النصوص بيان الطهورية من الحدث و الخبث معا، و إن اختص موردها بالأول، لأن المورد لا يخصص الوارد.

قلت: هذا موقوف علي ظهور الكلام في نفسه في العموم، و لا مجال له في المقام، لأن الطهور يصدق علي المطهر من جهة واحدة، و إنما يكون حذف المتعلق ظاهرا في العموم إذا وردت القضية لأجل العمل و لزم من عدم حملها علي العموم الإهمال المانع من ترتب العمل عليها، لا في مثل المقام مما كان المورد صالحا لصرف الطهورية إلي جهة خاصة يترتب العمل عليها، أو لم تكن القضية مسوقة لأجل العمل، بل لمحض الإعلام، فإن الاعلام بالطهورية في الجملة قد يتعلق به الغرض.

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 30

______________________________

مضافا إلي أن مطهرية التراب من الخبث لما لم تكن عامة، بل في خصوص مورد خاص، فلو حملت هذه النصوص علي عموم المطهرية من الحدث و الخبث معا لزم كثرة التخصيص المستهجن فيها.

و أما حملها علي المطهرية في الجملة، ليمكن فرض شمولها لهما معا.

فهو- مع أنه لا ينفع في المقام- لا يناسب مقام التعليل، لوضوح أن التعليل إنما يحسن بالقضايا الكلية، لتكون من سنخ الكبريات الصالحة للاستدلال. فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في أدلة الطهورية، و لم يتضح لنا ما يكون منها صالحا لإثبات عموم يرجع إليه في مورد الشك لو فرض، لا من حيث أفراد الماء، و لا من حيث أنحاء التطهير.

الثاني: مما يستدل به علي مطهرية الماء قوله تعالي وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1».

لكنه لا ينهض بالعموم لا من حيث أفراد الماء، و لا من حيث أنحاء التطهير الحدثي و الخبثي، لوروده في قصّة خارجية خاصة لا عموم لها من الجهتين.

و غاية ما قيل في تفسيره مما ينفع في المقام أنه ورد في غزوة بدر حين أصيب بعض المسلمين بالجنابة فنزل عليهم المطر ليتطهروا به منها. و هو- لو تمَّ- مختص بحدث الجنابة و بماء المطر.

و ما ذكره بعض مشايخنا من أن الانتفاع بماء المطر غالبا يكون بعد نزوله في الأرض و تجمعه فيها، و من الظاهر أن حكمه حينئذ حكم سائر مياه الأرض. قد عرفت الجواب عنه في الآية السابقة.

و أما ما عن الحدائق من اختصاصه بالمجاهدين في وقعة بدر فلا مجال لتعميمه لغيرهم.

فقد يندفع بفهم عدم الخصوصية عرفا لذلك. و هذا هو العمدة في دفعة، لا

______________________________

(1) سورة الأنفال: 11.

ص: 31

______________________________

ما ذكره بعض مشايخنا من دلالة الروايات علي أن نزول الآية في قوم لا يوجب اختصاصها بهم و موتها بموتهم، لأن القرآن يجري أوله علي آخره ما دامت السماوات و الأرض، و هو يجري مجري الشمس و القمر.

لاندفاعه: بأن ذلك إنما ينفي احتمال دخل الخصوصيات الشخصية مع فرض عموم الموضوع المأخوذ في الآية، و لا ينفي احتمال دخل عنوان عام- كالجهاد و الاضطرار- يختص بمن نزلت فيهم الآية، فلا بد من إحراز عدم دخل الخصوصيات المذكورة، و لا تنهض بذلك الآية بعد ورودها في واقعة شخصية إلا بضميمة ما ذكرنا من فهم عدم الخصوصية. فلاحظ.

الثالث: النصوص المتضمنة أن الماء يطهر و لا يطهر، كموثق السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّٰه صلي اللّٰه عليه و آله و سلّم: الماء يطهر و لا يطهر» «1» و غيره.

لكن الظاهر أن الصدر فيها مسوق لبيان الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي الذي تضمنه الذيل، و لا يفيد عموم التطهير به، لا من حيث أفراد الماء، و لا من حيث أنحاء التطهير من أنواع الاحداث و الأخباث.

هذا عمدة ما استدلوا به في المقام، و قد عرفت عدم نهوض شي ء منه بإثبات المطلوب.

و لعل الأولي أن يقال:

أما الطهارة من الحدث، فيكفي في الدليل عليها آيتا التيمم، قال تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ.

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. «2» و قال سبحانه:

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(2) سورة المائدة: 8.

ص: 32

______________________________

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ حَتّٰي تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «1» فإن إطلاق الغسل في صدرهما ظاهر في مقام شرح الطهارة و ظاهر في تحققها بمسماه، و من الظاهر اشتراك جميع أفراد الماء في تحقق الغسل بها.

كما أن عموم الماء في ذيلهما المستفاد من تنكيره في سياق النفي ظاهر في مانعية كل فرد من الماء من مشروعية التيمم و وجوب الوضوء أو الغسل به، فيؤكد إطلاق الصدر.

و كذا الحال فيما عن أبي أمامة: «قال رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم: فضلت بأربع: جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و أيما رجل من أمتي أراد الصلاة فلم يجد ماء و وجد الأرض فقد جعلت له مسجدا و طهورا» «2»، و خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

«في الرجل يكون معه اللبن أ يتوضأ منها للصلاة؟ قال: لا، إنما هو الماء و الصعيد» «3»، و نحوه ما عن عبد اللّٰه بن المغيرة عن بعض الصادقين «4»، لوضوح أن ورودها في شرح ما يتطهر به موجب لظهورها في الإطلاق، بل هو كالصريح فيما عن تفسير النعماني عن علي عليه السّلام: «قال: و أما الرخصة التي هي الإطلاق بعد النهي فإن اللّٰه فرض الوضوء علي عباده بالماء الطاهر، و كذلك الغسل من الجنابة، فقال تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ. «5»، فإن الاقتصار علي تقييد الماء بالطاهر مع الاستشهاد بالآية كالصريح في عدم التقييد فيها بغير الطاهر.

بل لا ينبغي الإشكال في ذلك بعد ملاحظة النصوص الكثيرة الواردة في

______________________________

(1) سورة النساء: 43.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب التيمم حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المضاف حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 51 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 33

______________________________

كيفية الوضوء و الغسل «1»، و بيان بعض المستحبات «2» فيهما، و تقدير مائهما «3»، و النهي عن الإفراط في الوضوء «4»، و إجزاء المطر فيه «5»، و أحكام الجبائر «6»، و وجوب الغسل بالإيلاج من دون إنزال «7»، و كراهة نوم الجنب «8»، و غسل الشعر في الغسل «9»، و نصوص التيمم الواردة في طلب الماء «10»، و عدم إعادة الصلاة لمن وجده بعدها «11»، و انتقاض التيمم بوجدانه «12»، و جوازه مع خوف قلته «13»، و تأخير التيمم إلي آخر الوقت «14»، و التيمم بالطين «15»، و الطهارة بالثلج «16» و غيرها، لأن النصوص المذكورة و إن كانت واردة لبيان أحكام خاصة بعد الفراغ عن مشروعية الغسل و الوضوء بالماء و مشروعية التيمم مع عدمه، و لا ظهور لها في شرح ما يتطهر به، ليتم إطلاق الغسل و الماء فيها من هذه الجهة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء، و باب: 26 من أبواب الجنابة. و باب 6 من أبواب غسل الميت.

(2) راجع الوسائل باب: 16، 26 من أبواب الوضوء. و باب: 24، 40 من أبواب الجنابة. و باب: 6 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء و باب: 21 من أبواب الجنابة.

(4) راجع الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء.

(5) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء.

(6) راجع الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء.

(7) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة.

(8) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة.

(9) راجع الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة.

(10) راجع الوسائل باب: 1، 2 من أبواب التيمم.

(11) راجع الوسائل باب: 14 من أبواب التيمم.

(12) راجع الوسائل باب: 19، 20، 21 من أبواب التيمم.

(13) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب التيمم.

(14) راجع الوسائل باب: 12 من أبواب التيمم.

(15) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب التيمم.

(16) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب التيمم.

ص: 34

______________________________

إلا أن إغفال التقييد فيها- علي كثرتها- مع ارتكاز مناسبة الماء بجميع أفراده للمطهرية ظاهر في الجري علي الارتكاز المذكور، و لا سيما مع تنكير الماء في كثير منها الظاهر في الاجتزاء بأي ماء فرض.

بل ما ورد في حديث وضوء رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم في السماء «1»، الظاهر في كون ذلك أصل التشريع كالصريح في العموم، لوضوح أنه لا جامع ارتكازي بين ماء السماء و ماء الأرض الذي يشرع التطهر به إلا عنوان الماء.

مع أنه لا يبعد تحصيل الإطلاق لبعض هذه النصوص، خصوصا نصوص تغسيل الميت «2»، و إن كان محتاجا الي سبر و تأمل لا يسعه الوقت. و لا يهم ذلك بعد ما عرفت من وضوح الحكم. فلاحظ.

و أما المطهرية من الخبث فيكفي فيها ما تقدم بناء علي ملازمة المطهرية من الحدث للمطهرية من الخبث، و إن لم يتم العكس، بناء علي عدم ارتفاع الحدث بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

و إن استشكل في الملازمة المذكورة أمكن التمسك بإطلاق النصوص الواردة في كيفية التطهير، المتضمنة للأمر بالغسل، أو الغسل بالماء، مثل ما ورد في البول «3»، و الكلب و الجرذ الميت «4»، و الأواني «5»، و الجلود المدبوغة بالنجس «6»، و فيما يستعمله الكفار «7».

فإن بعض هذه النصوص و إن تضمن بيان العدد أو الكيفية، إلا أن مقتضي إطلاقه تحقق التطهير مع الكيفية أو العدد المذكورين بأي فرض. بل هو كالصريح

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(2) راجع الوسائل باب: 2، 6، 31 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 1، 2، 3، 5 من أبواب النجاسات.

(4) راجع الوسائل باب: 12، 26، 53، 70 من أبواب النجاسات.

(5) راجع الوسائل باب: 14، 51، 53 من أبواب النجاسات.

(6) راجع الوسائل باب: 71 من أبواب النجاسات.

(7) راجع الوسائل باب: 73 من أبواب النجاسات.

ص: 35

______________________________

من مثل خبر مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «قال: قال جابر بن عبد اللّٰه:

ان دباغة الصوف و الشعر غسله بالماء، و أي شي ء يكون أطهر من الماء؟!» «1» فان التعليل المذكور ظاهر في عموم المطهرية جدا. فتأمل.

بل التأمل في النصوص الكثيرة الواردة في النجاسات يوجب القطع بعموم مطهرية الماء، لأنها و إن لم ترد في بيان كيفية التطهير، إلا أنها ظاهرة في المفروغية عن عموم مطهرية الماء، خصوصا بملاحظة ما تقدم في نصوص الطهارة من الحدث.

نعم، لا عموم في هذه النصوص من حيث أنواع النجاسات و المتنجسات، إلا أنه يتم بعدم الفصل بين أنواع النجاسات و المتنجسات القابلة للتطهير بالغسل.

بل لعل النصوص المذكورة بمجموعها ظاهرة في المفروغية عن العموم من الجهتين المذكورتين. بل لعله مقتضي عموم التعليل في خبر مسعدة المتقدم.

بقي في المقام شي ء: و هو أن الأدلة المتقدمة كما تقتضي مطهرية الماء بحسب طبعه و أصل خلقته كذلك تقتضي مطهريته بعد طروء الطوارئ عليه و تبدل حالاته، لأن اختلاف أحواله لا يمنع من صدق الغسل، أو الغسل بالماء، أو وجدان الماء، و نحو ذلك مما أخذ في هذه الأدلة، و حيث لا ريب في عروض النجاسة علي الماء و في مانعيتها من التطهير به تعين تخصيص عموم الأدلة المذكورة بالماء الطاهر، فلا مجال للرجوع إليه مع الشك في طهارة الماء، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف المخصص علي التحقيق.

بل لعله من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا يجوز بلا كلام، لأن ارتكاز توقف التطهير بالماء علي طهارته من سنخ القرينة المتصلة المانعة من ظهور هذه الأدلة في العموم، كما قد يومئ إليه ما تقدم عن تفسير النعماني.

و منه يظهر أنه لا مجال للاستدلال بهذه الأدلة علي طهارة الماء عند الشك

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 36

______________________________

فيها، و ما تقدم من أن أدلة مطهرية الماء دالة علي طهارته، إنما يتم في مثل النبوي المتقدم الدال علي عموم طهارة الماء في نفسه مع قطع النظر عن الأحوال الطارية عليه، لأن العموم المذكور حيث لم يثبت تخصيصه كان حجة في إثبات عموم المطهرية المستلزم لعموم الطهارة، بقرينة ارتكاز توقف المطهرية علي الطهارة.

و بعبارة أخري: ارتكاز توقف المطهرية علي الطهارة موجب لكون دليل المطهرية دليلا علي الطهارة، فيما لو أمكن إبقاؤه علي عمومه، كما هو الحال فيما دل علي طهارة الماء في نفسه مع قطع النظر عن الحالات الطارئة عليه، بخلاف ما دل علي مطهريته مطلقا حتي بلحاظ الحالات الطارئة- كالأدلة المتقدمة- لأنه حيث لا إشكال في عروض النجاسة علي الماء في الجملة، يكون الارتكاز المذكور قرينة علي تخصيص العموم المذكور بغير النجس فهو وارد لبيان التطهير بالماء بعد الفراغ عن طهارته، لا لبيان طهارته، فكما لا ينهض بإثبات المطهرية مع الشك في الطهارة لا ينهض بإثبات الطهارة نفسها، سواء شك في طهارة الماء بحسب الأصل، أم في عروض النجاسة عليه، إذ ليس له عمومان أفرادي و أحوالي، قد علم بتخصيص الثاني منهما دون الأول، ليمكن التمسك بالأول لو فرض الشك في طهارة بعض أفراد الماء بحسب أصله، بل له عموم واحد واسع يقتضي مطهرية جميع أفراد الماء في جميع الأحوال، و قد علم بتخصيص العموم المذكور بغير الماء النجس، فلو فرض نجاسة بعض المياه بحسب أصله لم يكن ذلك تخصيصا زائدا، بل فردا للمخصص الواحد.

و قد تحصل من جميع ما ذكرناه في هذا المقام و ما قبله أمور.

الأول: أن دليل عموم طهارة الماء بحسب أصله ينحصر بنصوص قاعدة الطهارة في الماء لو تمَّ ما سبق منا في تقريبها.

و أما أدلة مطهرية الماء فما تضمّن منها طهارة الماء بحسب أصله- كالآية و النبوي المتقدمين- قاصر عن مقام الاستدلال دلالة أو سندا. و ما تضمن منها طهارته مطلقا و لو بلحاظ الطوارئ- كالأدلة المتقدمة منا- مخصص بالطاهر، فلا

ص: 37

______________________________

ينهض بإثبات المطهرية مع الشك في الطهارة، فضلا عن الطهارة.

الثاني: أنه لا دليل ينهض بإثبات طهارة الماء حتي بلحاظ الطوارئ و الأحوال.

الثالث: أنه لا دليل ينهض بإثبات مطهرية الماء، لا من حيث الأفراد، و لا من حيث الأحوال، لأن ما دل علي مطهريته في نفسه قاصر عن إثبات العموم، و ما دل علي مطهريته مطلقا- كالأدلة المتقدمة منا- مخصص بالطاهر، فليس لنا إلا عموم مطهرية الماء الطاهر. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

الأمر الثالث: الماء المضاف.

تارة: يؤخذ من طاهر.

و اخري: يؤخذ من نجس أو متنجس.

أما الأول فهو طاهر سواء حصل بالخلط- كماء الزبيب- أم الاعتصار- كماء الرمان- أم التصعيد- كماء الورد- إذ لا يحتمل تنجسه بأخذه بأحد الوجوه المذكورة.

و لو فرض حصول الشك في ذلك أمكن الرجوع لاستصحاب الطهارة مع الخلط و الاعتصار، بناء علي ما هو الظاهر من جريان الاستصحاب الحكمي في الشبهات الحكمية في مثل المقام، مما كان موضوع الحكم المتيقن- كالجسم- باقيا حقيقة بنظر العرف، بحيث يكون ثبوت الحكم معه بقاء و استمرارا، لأن الخلط و الاعتصار من سنخ الحالات التي لا يتبدل بها الموضوع و إن اختلف الاسم، و ليسا بحيث يغفل العرف معهما عن بقاء الموضوع، بحيث يعدون ما يحصل بعدهما مباينا لما كان قبلهما كالمتولد منه.

و منه يظهر الحكم فيما لو حصل الماء المضاف بالخلط و الامتزاج مع ما هو مستصحب الطهارة، لا مسلوبها، فإنه حيث فرض بقاء الموضوع بعد الامتزاج أو الخلط فكما يجري الاستصحاب قبلهما يجري بعدهما.

هذا، و لو فرض الشك في بقاء الموضوع معهما كفت أصالة الطهارة التي لا

ص: 38

______________________________

خلاف فيها ظاهرا. و يدل عليها موثق عمار المتقدم في أدلة طهارة الماء الشامل للشبهة الحكمية و الموضوعية معا، المطابق لمرتكزات المتشرعة الحاكمة بأن الطهارة مقتضي الأصل الذي عليه العمل ما لم تثبت النجاسة. و يأتي الكلام فيها في أول الفصل الرابع من مباحث المياه. و هي المرجع أيضا فيما لو حصل الماء المضاف بالخلط و الامتزاج مع ما هو مجري لأصالة الطهارة، كما لعله ظاهر.

و أما التصعيد فلو فرض الشك في بقاء الطهارة معه فالمرجع أصالة الطهارة.

و أما الاستصحاب فربما يمنع عنه بدعوي: أن الموضوع معه و إن كان باقيا حقيقة إلا أنه مما يغفل العرف عن بقائه، و لا يجري مع ذلك الاستصحاب علي التحقيق.

و فيه: أن هذا إنما يتم في الماء و البخار، لغفلة العرف عن اتحاد الثاني مع الأول بل يرونه متولدا منه، أما بعد رجوع البخار ماء فهو بنظر العرف متحد مع الماء الذي تحول إلي البخار غير مباين له و إن مرّ بدور البخار الذي يغفل عن اتحاده معه، فتحول البخار إلي الماء رجوع له إلي ما كان، لا تحول آخر لما يباينه، بحيث يكون كتحول البيضة المتولدة من الحيوان إلي حيوان آخر.

فالأولي في المنع عن الاستصحاب أن الماء الحاصل من البخار و إن فرض اتحاده مع الماء الموجود قبله، إلا أن الاستصحاب لما كان هو إبقاء الحكم السابق فانقطاعه في دور بسبب تبدل الموضوع عرفا مانع من جريانه بعد رجوع البخار ماء، لابتناء الاستصحاب علي الاستمرار لا علي الطفرة، فالمانع من الاستصحاب ليس هو تعدد الموضوع، و لا انقطاع الحكم الواقعي المستصحب [1]، بل انقطاع الحكم الاستصحابي بالإبقاء.

______________________________

[1] لإمكان بقاء النجاسة في دور البخار، كما سيأتي. نعم، لو تمت الأدلة الاجتهادية المستدل بها علي طهارة البخار كان المانع من الاستصحاب هو انقطاع الحكم المستصحب. و تمام الكلام في مبحث المطهرات. منه عفي عنه.

ص: 39

______________________________

بل ربما يدعي أن البخار لا يقبل الحكم بالنجاسة و الطهارة، لأنهما يختصان بالأجسام ذات الكثافة المستقرة في الوجود، دون مثل الدخان و البخار و الهواء و إن كانت أجساما حقيقة، و لذا لا ريب في عدم تنجسها بملاقاة النجاسة مع الرطوبة، فيمتنع استصحاب الحكم السابق للعلم بانقطاعه، بل ينبغي استصحاب عدمه و لو بنحو استصحاب العدم الأزلي.

و لا ينبغي أن يقاس بالغبار الذي لا ريب في قبوله الحكم بالطهارة و النجاسة، كما لا ريب في بقاء النجاسة بتحول التراب النجس إليه و عوده ترابا بالتجمع.

للفرق بينهما عرفا، فإن صيرورة الماء بخارا و رجوع البخار ماء من سنخ التحول عرفا، فالبخار مباين عرفا للماء و له نحو وجود لا يقبل الطهارة و النجاسة، بخلاف الغبار، فإنه لا يبتني علي التحول، بل علي محض تفرق الأجزاء الترابية بعد اجتماعها، الذي لا إشكال في عدم دخله في القابلية للنجاسة و الطهارة.

فالذي ينبغي أن يقاس بالغبار هو تفرق الأجزاء المائية بدفع الهواء و نحوه، الذي لا إشكال في بقاء الحكم معه أيضا.

لكن الإنصاف أن البخار و إن لم يكن من سنخ الغبار، إلا أنه لا مجال للجزم بخروجه عن قابلية الحكم بالنجاسة، و لذا لو حكم الشارع بذلك بنحو يتنجس ملاقيه لم يكن الحكم المذكور مستنكرا، و لا مؤوّلا بما يخرجه عن ظاهره.

و أما عدم تنجسه بالملاقاة للنجس فإن أريد به عدم تنجس خصوص محل الاتصال فهو لانصراف أدلة التنجيس عنه، لا لعدم قابليته للتنجس. و إن أريد به عدم تنجس تمامه بملاقاة بعض سطوحه للنجس، فهو لا يرجع إلي عدم قابليته للتنجس، بل إلي عدم سراية النجاسة فيه، نظير عدم اعتصامه بالاتصال بالمادة، و هو أجنبي عن محل الكلام. فلاحظ.

و أما الثاني- و هو المأخوذ من نجس أو متنجس- فلا ينبغي الإشكال في نجاسته مع الخلط و الاعتصار، لليقين ببقاء الحكم معهما أو استصحابه، كما تقدم نظيره.

ص: 40

______________________________

و يزيد هنا بملاقاة النجس لبعض أجزائه الموجب لتنجسه، لغلبة حصول الامتزاج و الاعتصار تدريجا، بحيث يبقي الجسم النجس حافظا لصورته مدة قليلة كافية للتنجيس للماء المخلوط به أو المعتصر منه.

و أما مع التصعيد، فالظاهر البناء علي طهارته، لأصالة الطهارة بعد عدم جريان استصحاب النجاسة لما تقدم، إلا أن ينطبق عليه عنوان نجس نظير الخمر الحاصل بالتصعيد من طاهر أو نجس.

ثمَّ إنه تقدم في أوائل هذا الفصل أنه يلحق بالماء المضاف في الكلام في الطهورية و عدمها ما كان من المائعات واجدا لعنصر الماء، و لا يطلق عليه الماء حتي مع الإضافة، كالنبيذ و البصاق و البول. و أما في الطهارة و النجاسة فالمتبع فيه الدليل الخاص. و لا ضابط له.

هذا تمام الكلام في طهارة الماء المضاف، و أما مطهريته فيأتي الكلام فيها إن شاء اللّٰه تعالي تبعا لسيدنا المصنف قدّس سرّه في المسألة الحادية و العشرون من مباحث المياه. و اللّٰه سبحانه و تعالي ولي التوفيق و التسديد، و هو خير معين.

ص: 41

الفصل الثاني: في أحكام الماء المطلق

اشارة

الفصل الثاني الماء المطلق إما لا مادة له، أو له مادة (1)، و الأول إما قليل لا يبلغ مقداره الكر، أو كثير يبلغ مقداره الكر (2). و القليل ينفعل بملاقاة النجس (3)،

______________________________

(1) و هو الذي يتصل بغيره و يتقوي به، سواء كان ذلك الغير ظاهرا، كمياه الحياض الكبيرة التي هي مادة لما في الحياض الصغيرة المتصلة بها، أم في بطن الأرض، كمادة الجاري أو البئر. بل يشمل المادة المتقطعة التي اعتبرها الشارع الأقدس عاصمة، كماء المطر علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

ثمَّ إن المعروف منهم تقسيم الماء إلي جار، و بئر، و محقون. و هو مستدرك بماء المطر، و بالنابع علي وجه الأرض من دون جريان، كما أن المعيار عندهم في ترتب أحكام الجاري و البئر علي وجود المادة لهما، و من هنا كان التقسيم المذكور في المتن أولي. و الأمر سهل.

(2) لأن الكرية هي المعيار في الكثرة التي هي موضوع الأحكام الخاصة.

و عليها ينزل الكثير في كلماتهم و في النصوص «1» جمعا بين الأدلة، كما يأتي في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

(3) علي المعروف بين الأصحاب. ففي الجواهر: «للإجماع محصلا و منقولا، نصا و ظاهرا، مطلقا في لسان بعض و مستثني منه ابن أبي عقيل فقط في

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

ص: 42

______________________________

لسان آخرين. و قد وقعت حكاية الإجماع للأساطين من علمائنا، كما عن المرتضي رحمه اللّٰه في الناصريات، و الشيخ في الخلاف و الاستبصار، و ابن زهرة في الغنية، و في المختلف مستثنيا ابن أبي عقيل، و مثله في المدارك.».

و يقتضيه بعد ذلك النصوص الكثيرة قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و عن صاحب المعالم، و العلامة المجلسي، و المحقق البهبهاني أن الأخبار بذلك متواترة.

و في الرياض جمع منها بعض الأصحاب مائتي حديث. و عن العلامة الطباطبائي قدّس سرّه في أثناء تدريسه في الوافي إنها تزيد علي ثلاثمائة رواية». و كيف كان فالنصوص المذكورة علي طوائف.

منها: المستفيضة المتضمنة أن الماء إذا بلغ الكر لم ينجس، إما ابتداء، أو بعد السؤال عن ملاقاة الماء للنجاسة، كصحيح معاوية بن عمار: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1»، و صحيح محمد بن مسلم عنه عليه السّلام: «و سئل عن الماء تبول فيه الدواب، و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «2»، و صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام: «سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العذرة ثمَّ تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر» «3».

و غيرها مما هو صريح أو ظاهر في الفرق بين الكر و غيره بالانفعال و عدمه.

بل بعضها ظاهر في معروفية الحكم المذكور و المفروغية عنه، كصحيح إسماعيل بن جابر: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الماء الذي لا ينجسه شي ء قال:

كر.» «4»، و نحوه صحيحه الآخر «5».

فإن النصوص المذكورة تدل علي انفعال ما دون الكر صريحا أو ظاهرا

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 43

______________________________

بمقتضي المفهوم، بل بمقتضي ذكر عنوان الكر، حيث يدل علي دخله في الاعتصام، و عدم كون الاعتصام من لوازم ذات الماء، و إلا كان ذكر الكر موهما لخلاف المراد، لمناسبة الكثرة للاعتصام، فالتعرض لها ظاهر في دخلها جدا.

و مثلها في ذلك ما تضمن السؤال عن قدر الماء و إن لم يصرح فيها بالكريه، كصحيح صفوان الوارد في الحياض تردها السباع و تلغ فيها الكلاب و يغتسل فيها الجنب، حيث قال عليه السّلام: «و كم قدر الماء؟ قال: إلي نصف الساق و إلي الركبة. فقال:

توضأ منه» «1».

و منه يظهر الوجه في الاستدلال بما دل علي اعتصام غير الكر من العناوين الخاصة، كالجاري، و ماء البئر، و الحمام، أو الذي له مادة، بل تعليل اعتصام البئر و ماء الحمام بأن له مادة كالصريح في أن الماء غير معتصم بنفسه لو لا المادة و نحوها، كما ذكر في الجواهر و غيرها.

و منها: ما ورد في سؤر النجس و فضله «2»، من الأمر بصب الماء، و النهي عن الوضوء به و شربه، و الأمر بغسل الإناء، و نحو ذلك مما ورد في الكلب و الخنزير و الطائر إذا وجد في منقاره دما، و الكفار- بناء علي نجاستهم- و غير ذلك مما لا وجه له إلا تنجس الماء القليل.

بل ما ورد في الأسآر المكروهة، كسؤر الحائض المتهمة، و غيرها ظاهر في المفروغية عن التنجس بالملاقاة، و إن لم يجب الاجتناب ظاهرا لعدم العلم به.

بل حتي ما ورد في السؤر الطاهر ظاهر في ذلك أيضا، إذ لو لا المفروغية عن تنجس الماء لم يكن وجه للسؤال و الجواب عن حال ذي السؤر، و أنه ينجس سورة أو لا.

و منها: ما ورد في إدخال اليد الماء و فيها القذر، كموثق سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: إذا أصاب الرجل جنابة، فأدخل يده في الإناء فلا بأس، إذا لم

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(2) ذكر النصوص المذكورة في الوسائل في أبواب الأسئار و غيرها.

ص: 44

______________________________

يكن أصاب يده شي ء من المني» «1»، و غيره من النصوص الكثيرة.

و مثله ما ورد في الماء الذي تقع فيه النجاسة، كالدم و الميتة و المسكر، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسي بن جعفر عليهما السّلام: «و سألته عن رجل رعف و هو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا.» «2»،

و موثق عمار في من يجد في إنائه فأرة «3»، و خبر أبي بصير في حديث النبيذ عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: ما يبل الميل ينجس حبا من ماء.» «4»، و خبر حفص بن غياث: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» «5»، و غيرها من النصوص الكثيرة المتضمنة لانفعال الماء بملاقاة النجاسات.

بل ما تضمن عدم تنجس الماء بملاقاته لبعض الأمور- كالفأرة الحية، و بعض ما لا نفس له سائلة- ظاهر في المفروغية عن تنجسه بالملاقاة في الجملة، و أن عدم تنجسه حينئذ لطهارة الملاقي.

و منها: ما ورد في الإنائين المشتبهين، كموثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيهما هو، و ليس يقدر علي ماء غيره؟ قال: يهريقهما جميعا و يتيمم» «6». و قريب منه موثق عمار «7».

فإن الأمر بإهراق الماء مع فرض الاشتباه و الانحصار كالصريح في تنجسه، بل ظاهر السؤال المفروغية عن ذلك، و أن منشأه خصوصية الاشتباه و الانحصار، إذ

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 9 و في الباب المذكور أحاديث كثيرة تدل علي ذلك.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

ص: 45

______________________________

قد يكونان سببا في تشريع استعمال أحدهما و لو بعد مثل القرعة.

و منها: نصوص نجاسة ماء الغسالة، فإنه لا يحتمل خصوصيته عن بقية أفراد الماء في التنجس، بل ربما احتمل خصوصيتها في عدمه، لأن القول باستثنائها من أدلة التنجس مشهور.

إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة الواردة في الموارد المتفرقة الصريحة أو الظاهرة في انفعال الماء بالملاقاة، بل بعضها ظاهر في المفروغية عنه، و أن الحديث وارد لبيان بعض الجهات الخاصة المتعلقة به، كما أشار إلي كثير منها في الجواهر، و أشرنا لبعضها.

هذا، و قد تقدم الخلاف في ذلك عن ابن أبي عقيل، و عن جماعة من المتأخرين- منهم الكاشاني و الفتوني- موافقته.

و استدل لهم بأمور.

الأول: عموم طهارة الماء، فإن المتيقن في الخروج عنه هو المتغير، و يبقي غيره علي العموم.

و يظهر الجواب عنه مما تقدم منّا في الفصل السابق، فإن العموم المذكور مسوق لبيان طهارة الماء في نفسه بحسب أصله، فلا ينافي انفعاله بالملاقاة أو التغير، و ليس فيهما تخصيص له.

و أما عموم مطهريته الملازمة لطهارته، فهو مختص بالماء الطاهر، و قد خرج منه الماء النجس، فلا ينهض بإثبات مطهرية الماء عند الشك فيها، فضلا عن طهارته.

إن قلت: المتيقن تقييده بالمتغير، فيرجع في غيره إلي عموم المطهرية، المستلزم للطهارة.

قلت: هذا إنما يتم لو فرض أن المتغير بعنوانه مأخوذ في عنوان المخصص، لا بما أنه نجس، بحيث لو فرض كون غيره نجسا أيضا لبقي تحت عموم المطهرية، و احتاج في الخروج عنه إلي مخصص آخر، و من الظاهر أنه لا مجال لذلك، بل الخارج عنوان النجس، و نجاسة غير المتغير موجبة لسعة أفراد التخصيص الواحد، لا لسعة التخصيص نفسه.

ص: 46

______________________________

لوضوح أن الارتكاز الموجب لتخصيص الأدلة قائم بعنوان النجس، لا بعنوان المتغير، و من ثمَّ كان ما تضمن مانعية التغير من المطهرية و من الانتفاع دليلا علي نجاسة المتغير من باب بيان الموضوع- و هو النجاسة- بلسان بيان الحكم- و هو المانعية المذكورة- و لو استفيد منها خصوصية التغير في المانعية المذكورة لم تنهض تلك الأدلة ببيان النجاسة.

كما أنه لو لا ذلك لزم عدم نهوض دليل النجاسة في بعض المياه بإثبات امتناع التطهير به، بل احتاج إلي دليل آخر.

نعم، لو فرض سوق عموم المطهرية لبيان الطهارة لأجل ملازمتها لها فلا بد من الالتزام بأن التخصيص وارد علي العناوين المأخوذة في أسباب النجاسة- كالتغير و الملاقاة و نحوهما- إذ لا معني لتقييد دليل الطهارة بعنوان النجس، لاستحالة أخذ أحد الضدين في موضوع الآخر.

لكن لا مجال لذلك في المقام، لوضوح أن الأدلة المتقدمة مسوقة لبيان المطهرية، و لا إشعار لها في سوقها لبيان الطهارة. و مجرد ملازمتها لها ارتكازا لا يقتضيه، إذ قد لا يتعلق الغرض ببيان الملزوم.

غاية ما في المقام أنه لو تمت المطهرية لاستفيدت الطهارة بضميمة الارتكاز المذكور و إن لم يكن المتكلم بصدد بيانها، كما تقدم في عموم مطهرية الماء بحسب أصله، و لا مجال له في الأدلة المتقدمة الدالة علي مطهريته مطلقا، لما تقدم من تخصيصها بغير النجس، فلا تنهض بإثبات المطهرية مع الشك في الطهارة، فضلا عن الطهارة نفسها.

مع أنه لو فرض اعتماد المتكلم علي الارتكاز المذكور في بيان الطهارة تبعا للمطهرية كان متسامحا في إهمال التقييد بالتغير الذي هو تقييد تعبدي يحتاج إلي تنبيه عليه بالخصوص، أما لو فرض اعتماده علي الارتكاز المذكور في إهمال التقييد بالطاهر و سوق الكلام لبيان المطهرية بعد فرض الطهارة فلا يلزم منه التسامح في شي ء.

ص: 47

______________________________

هذا، و بملاحظة ما تقدم منا في العمومات المذكورة يتضح حال كثير من الجهات المتعلقة بالاستدلال التي أشار إليها في الجواهر. فراجع.

علي أنه لو تمَّ العموم المذكور كفت الأدلة المتقدمة في الخروج عنه في القليل الملاقي للنجاسة، كما كانت أدلة التغير مخرجة عنه فيه.

الثاني: النصوص الكثيرة الظاهرة في إناطة نجاسة الماء بالتغير وجودا و عدما، كصحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء فلا توضأ منه و لا تشرب» «1»، و نحوه خبر أبي بصير الوارد في النقيع الذي تبول فيه الدواب و يقع فيه الدم و أشباهه «2»، و خبر القماط في الماء يمر به الرجل و هو نقيع فيه الميتة و الجيفة «3»، و موثق سماعة في من يمر بالماء فيه دابة ميتة قد أنتنت «4»، و صحيح شهاب بن عبد ربه في الغدير الذي فيه جيفة «5»، و خبر العلاء ابن الفضيل في الحياض التي يبال فيها «6»، و غيرها.

و فيه: - مع قرب انصراف أكثر هذه النصوص أو اختصاصها بما زاد علي الكر، كما هو الغالب في المياه الباقية في الصحاري و القفار و الموجودة في الغدران و الحياض المعدة لها، و لا سيما مع ما فرض فيها من عدم تغيرها بالجيفة و الميتة النتنة- أنه لا بد من الجمع بينها و بين أدلة النجاسة المتقدمة بحملها علي ما زاد علي الكر، إذ لا مجال لحمل تلك الأدلة علي المتنجس بخصوص التغير، لوضوح اشتراك التنجس معه بين الكر و غيره. مع صراحة بعضها في التنجس بالملاقاة التي لا توجب التغير، كما يظهر بملاحظة بعض نصوص الكر- كصحيحي ابن جعفر

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(6) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 48

______________________________

و صفوان المتقدمين- و غيرها مما تقدم، بل لا يبعد ظهور بعض نصوص التغير في تنجس القليل بغيره، كصحيح عبد اللّٰه بن سنان: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة. فقال: إن كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ منه» «1»، لظهوره في توقف عدم التنجيس مع عدم تغير ريح الماء علي كونه قاهرا، الظاهر في لزوم كثرته، و أنه لو كان قليلا لتنجس و إن لم يحمل ريح الجيفة.

و أما حمل كونه قاهرا علي التمهيد لعدم تغيره من دون أن يكون قيدا آخر في قباله. فلعله خلاف الظاهر. فتأمل جيدا.

نعم، قد يشكل ما ذكرنا في صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام: «سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا بينا فلا تتوضأ منه» «2»، بناء علي أن المراد باستبانة الدم في الإناء تغير مائه به، فيدل علي أن انحصار سبب الانفعال بالتغير لا يختص بالكر، لامتناع حمل الإناء عليه، و لو لأنه الفرد النادر.

لكنه يندفع بالمنع من ظهور الاستبانة في التغير، بل هي ظاهرة في كون الدم بمقدار يري في الإناء حين وقوعه و إن لم يوجب تغيره بعد تحلله فيه لقلته، أو لعدم تحلله. و يأتي تمام الكلام في الصحيح عند الكلام في عموم الانفعال إن شاء اللّٰه تعالي.

الثالث: النصوص الظاهرة في عدم تنجس الماء بملاقاة النجاسة. و لا يخفي أن النصوص المذكورة بين ما هو مطلق، و ما هو ظاهر في خصوص القليل.

أما الأول فكموثق سماعة: «سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء. قال:

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 49

______________________________

يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «1»، و غيره «2».

و اللازم تخصيصه بالكر نظير ما تقدم في نصوص التغير، بل هو أولي بذلك بعد ورود التخصيص عليه بنصوص التغير.

و أما الثاني فهو جملة من النصوص ذكرت في المقام ينبغي النظر فيها.

أحدها: خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: رواية من ماء سقطت فيها فأرة، أو جرذ، أو صعوة ميتة. قال: إن تفسخ فيها فلا تشرب من مائها و لا تتوضأ و صبّها، و إن كان غير متفسخ فاشرب منه و توضأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها طرية.

و كذلك الجرة و حب الماء و القربة و أشباه ذلك من أوعية الماء. و قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجسه شي ء، تفسخ فيه أو لم يتفسخ، إلا أن يجي ء له ريح تغلب علي ريح الماء» «3».

و فيه: - مع ضعف سنده- أنه لا ينفع الخصم، لاشتماله علي التفصيل بوجه لا يقول به هو و لا غيره من الأصحاب.

لظهوره. أولا: في التفصيل بين التفسخ و عدمه.

و دعوي: أن ذكر التفسخ للتلازم بينه و بين التغير في الأوعية المذكورة.

ممنوعة، لمخالفتها لظاهر أخذ العنوان، بل المقابلة في الذيل بينه و بين التغير ظاهرة في كونه سببا آخر في مقابله. فتأمل.

بل الظاهر أنه لا تلازم بينهما خارجا و لا سيما مع اختلاف الأوعية و أقسام الميتة في الصغر و الكبر.

و ثانيا: في اختصاص الحكم المذكور بالرواية و الجرة و ما بينهما من الأواني، و لا يعم ما دونهما كالقلة و نحوها من المياه القليلة، بل هو مشعر بالانفعال فيها مطلقا، و يكون المحصّل من الخبر أن ما زاد علي الرواية لا ينفعل إلا بالتغير، و ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(2) راجع بعضها في باب: 9 من أبواب الماء المطلق من الوسائل.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 8، 9.

ص: 50

______________________________

بين الجرة و الرواية ينفعل به و بالتفسخ، و ما دون ذلك ينفعل بالملاقاة مطلقا، و لا قائل بذلك.

و ثالثا: في اختصاصه بالميتة القابلة للتفسخ و عدمه، و التعميم في هذا و ما قبله لجميع أفراد الماء القليل و في جميع أنواع النجاسات بعدم الفصل، لا مجال له بعد ظهور الخبر في خصوصية المورد.

مع أن الخبر في نفسه لا يخلو عن اضطراب، لظهوره تارة في أن المدار علي تفسخ الميتة و عدمه، و اخري في أن المدار علي إخراجها طرية و عدمه.

و الحاصل: أن الخبر- مع ضعفه و اضطرابه في نفسه- مخالف للأحكام المعروفة بين الأصحاب. المأخوذة من الأدلة المعتبرة، المعول عليها عندهم، فلا بد من تأويله أو رد علمه إلي قائله (عليه الصلاة و السّلام).

نعم، عن المختلف مرسلا عنه عليه السّلام: «أنه سئل عن القربة و الجرة من الماء يسقط فيها فأرة أو جرذ أو غيره فيموتون فيها. فقال: إذا غلب رائحته علي طعم الماء أو لونه فارقه، و إن لم يغلب عليه فاشرب منه و توضأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها طرية» «1».

إلا أنه- مع اختصاصه بالميتة- لا مجال للتعويل عليه مع إرساله، و لا سيما مع قرب كونه مأخوذا بالمعني من الخبر المتقدم، علي أن التفصيل فيه بين إخراج الميتة طرية و عدمه مما لا قائل به. فلاحظ.

و أما مضمر زرارة المروي بطريق صحيح عنه المشتمل علي الذيل فقط فهو إنما يكون دليلا علي اعتصام ما زاد علي الرواية، و تنجس ما دونها في الجملة، فلا يكون دليلا للخصم بل عليه، بالإضافة لمنافاته لروايات الكر، لأن حمل الرواية علي الكر بعيد جدا.

ثانيها: خبر محمد بن ميسر الذي لا يبعد كونه موثقا بل صحيحا: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل الجنب ينتهي إلي الماء القليل في الطريق و يريد أن يغتسل

______________________________

(1) المختلف ص: 3.

ص: 51

______________________________

منه، و ليس معه إناء يغرف به و يداه قذرتان. قال: يضع يده ثمَّ [و خ ل] يتوضأ ثمَّ يغتسل. هذا مما قال اللّٰه عز و جل مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1».

بدعوي: أنه نص في الماء القليل.

لكنه- كما تري- وارد في المتنجس، و غاية ما يدعي أن إطلاقه يشمل ما لو كانت اليد حاملة لعين النجاسة، و رفع اليد عن الإطلاق المذكور بالأدلة المتقدمة المتضمنة للانفعال بعين النجاسة غير عزيز. و يأتي عند الكلام في الانفعال بالمتنجس تمام الكلام في هذا الخبر إن شاء اللّٰه تعالي.

ثالثها: خبر أبي مريم: «كنت مع أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حائط له، فحضرت الصلاة، فنزح دلوا للوضوء من ركي له، فخرج عليه قطعة عذرة يابسة، فأكفأ رأسه و توضأ بالباقي» «2». و لا يخفي قوة ظهوره في عدم الانفعال، بل هو كالصريح فيه.

و حمله علي عذرة مأكول اللحم- كما عن الشيخ قدّس سرّه- بعيد جيدا. و ما في الجواهر من إطلاقها عليها كما في صحيح ابن بزيع «3» الوارد في البئر من قوله:

«فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي ء من عذرة [4] كالبعرة و نحوها».

غير ظاهر، لقرب كونه للتشبيه لبيان مقدار العذرة، لا للتمثيل لبيان فرد منها.

و أشكل من ذلك ما فيها أيضا من عدم نصوصيته في كون العذرة في الماء، و ما في الوسائل من احتمال كون المراد بالباقي ما بقي من ماء البئر، لا ماء الدلو، أو أن الدلو كان كرا.

إلا أن يراد بالوجوه المذكورة محض توجيه الرواية في مقابل طرحها، لا التوجيه الذي هو مقتضي الجمع العرفي بين الأدلة.

______________________________

[4] انما يتجه الاستشهاد به بناء علي هذه النسخة التي رواها الكليني، أما علي ما رواه الشيخ من قوله:

«أو يسقط فيها شي ء من غيره» فيكون أجنبيا عما نحن فيه. منه عفي عنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(3) الوسائل باب 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 21.

ص: 52

______________________________

نعم، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «ان أحدا لا يرضي بتوضؤ الامام عليه السّلام من هذا الماء مع ما علم من اهتمام الشارع في ماء الطهارة بما لا يهتم في غيره».

بل ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن أحدا لا يرضي باستعمال هذا الماء في مطلق الانتفاع، فضلا عن الوضوء. ثمَّ قال: «فلا بد من توجيه الرواية قلنا بالنجاسة أو الطهارة. فلا يبعد إذا حمل العذرة فيه علي الروث الطاهر، أو الحمل علي خطأ الراوي في اعتقاده أنها عذرة. و ليس ذلك بأبعد من حمل الفعل علي إرادة بيان الجواز علي تقدير القول بالطهارة».

لكن استبشاع ذلك علي تقدير القول بالطهارة ليس بحد يلزم بالتأويل، بل لا منشأ ظاهرا للاستبشاع المذكور إلا المفروغية عندنا عن النجاسة. فالعمدة في الإشكال في الخبر ضعف السند و الهجر عند الأصحاب.

رابعها: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس» «1».

بدعوي: أن نجاسة الحبل تستلزم نجاسة الماء المستقي به بناء علي انفعال الماء القليل.

لكن الاستدلال به إن كان باعتبار ملاقاة الحبل بنفسه لماء الدلو فهو قد يتم في حال نزول الدلو في البئر، المستلزم لاتحاد مائه مع مائها، لا عند إخراجه منها و انفصاله عنها، فهو يدل علي عدم انفعال ماء البئر بالحبل المذكور- كما يظهر من الوسائل- و هو أجنبي عن محل الكلام.

و إن كان باعتبار تقاطر الماء من الحبل علي الدلو عند إخراجه من البئر.

فهو- لو تمَّ- لا ينهض بإثبات عدم انفعال الماء القليل بالنجس، بل عدم انفعاله بالمتنجس الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي.

خامسها: خبر زرارة: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 54

ص: 53

______________________________

يستقي به الماء. قال: لا بأس» «1».

و يشكل: بأنه لا ظهور له معتد به في طهارة الماء المستقي بالجلد، بل في جواز استعمال الجلد في الاستقاء و لو لسقي الزرع و الدواب، كما عن الشيخ قدّس سرّه حمله عليه. و غايته الإشعار بالطهارة أو الظهور الضعيف الذي يسهل رفع اليد عنه بأدلة الانفعال المتقدمة.

سادسها: خبر الأحول أو غيره عنه عليه السّلام قال: «فقلت: جعلت فداك الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجي به. فقال: لا بأس. فسكت فقال: أو تدري لم صار لا بأس؟ قال: قلت: لا و اللّٰه. فقال: إن الماء أكثر من القذر» «2»، فإن مقتضي عموم التعليل التعدي إلي غير ماء الاستنجاء من المياه الملاقية للقذر.

و فيه: - مع ضعف سنده، و عدم وضوح عموم التعليل لغير ماء الغسالة، لا مكان وروده لدفع توهم كونه حاملا للقذر بمقتضي ارتكاز كون ماء الغسالة حاملا للقذر المغسول به، لا من جهة سببية الملاقاة للتنجس. فتأمل- أنه لا مجال للأخذ بعموم التعليل، لوضوح عدم دوران الاعتصام و الانفعال مدار كون الماء أكثر من القذر و عدمه حتي عند الخصم، بل مدار التغير و عدمه، و قد يحصل التغير مع كون الماء أكثر، و قد لا يحصل مع كون القذر أكثر. و ليس التصرف في التعليل بحمله علي التغير بأولي من البناء علي إجماله و قصره علي مورده. فلاحظ.

و هناك أخبار أخري واردة في ملاقي المتنجس، أو ماء الغسالة، أو الاستنجاء أو غير ذلك مما لا ينفع في المقام، لأن الكلام في انفعال الماء بالنجس في الجملة في مقابل اعتصامه. و كذا ما ورد في ملاقي الكافر و نحوه مما يمكن إرادة طهارة ملاقي الماء منه، و يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

ص: 54

______________________________

هذا تمام ما عثرنا عليه من الأخبار الخاصة بالقليل التي قد يستدل بها لاعتصامه، و قد عرفت قصورها دلالة أو سندا، و لو تمت فهي لا تنهض بمعارضة أخبار الانفعال المتقدمة بعد كثرتها و وضوح دلالتها و تصافق الأصحاب علي العمل بها، بنحو ينبغي أن يكون مضمونها من الواضحات، بل الضرورات الفقهية التي لا يلتفت إلي ما يوهم خلافها، فيلزم تأول نصوص الطهارة ببعض الوجوه المتقدمة أو غيرها و إن بعدت، أو ردّ علمها إلي أهلها عليهم السّلام.

و أما دعوي: صلوحها لصرف نصوص الانفعال عن ظاهرها بحملها علي كراهة استعمال الماء و إن كان طاهرا، لطروء مرتبة من القذر عليه لا تبلغ التنجيس.

فموهونة باباء النصوص المذكورة عن ذلك مع كثرة التعبير فيها بالنجاسة بنحو يصعب حملها علي المبالغة، و لا سيما ما ورد في الإنائين المشتبهين، كما أشرنا إليه آنفا، و ما ورد في الأسآر من التشديد فيه و الأمر بغسل الإناء، الصريح في انفعاله، بنحو يصعب حمله علي استحباب الغسل إلي غير ذلك مما يظهر بالتأمل.

و من جميع ما ذكرنا يظهر حال كثير من المؤيدات أو الأدلة التي سيقت في كلماتهم للقول بعدم الانفعال مما أشار إليه في الجواهر و غيرها، و لا مجال لإطالة الكلام فيها مع وضوح ضعفها، كما يظهر بمراجعتها و التأمل في ما ذكرنا و ذكروه في ردها.

نعم، ينبغي التعرض لأهمها في المقام، و هو ان الانفعال مستلزم للهرج و المرج و الوقوع في الوسواس، بسبب سريان النجاسة في الأشياء، مع ما هو المعلوم من تسامح الناس في ذلك، بنحو يحصل العلم العادي بنجاسة أكثر الأمور، بل أكثر المياه القليلة الموجودة في الأماكن التي لا تتعرض للاعتصام بالمطر و نحوه، و خصوصا في الأماكن التي تقل فيها المياه الكثيرة العاصمة، و يكثر فيها اختلاط الناس و تسامحهم، خصوصا الحرمين الشريفين قديما، حيث يكثر فيهما الابتلاء بالعامة و البدو و نحوهم ممن تكثر منهم المخالفة في أحكام النجاسة،

ص: 55

______________________________

اعتقادا أو عملا، فلو كان البناء علي التنجيس بمجرد الملاقاة لزم نجاسة المياه الموجودة في البلدتين المعظمتين، و لكان اللازم من الناس التقيد في ذلك، و الاهتمام بحفظ المياه من التعرض للنجاسة، بإبعادها عن موارد الاحتمال التي يوجب تكررها العلم بها، و لكثر التنبيه عليه من الشارع الأقدس، فعدم وجود شي ء من ذلك شاهد بالبناء علي عدم الانفعال.

و قد سلّم بعض مشايخنا بلزوم ذلك بناء علي عموم الانفعال و لو بالمتنجس مطلقا، و أطال في تقريبه و توضيحه، و نقل عن الفقيه الهمداني قدّس سرّه الإصرار عليه و الإغراق فيه، و من ثمَّ ذكر أن التخلص عن ذلك منحصر بالتفصيل بالنحو الآتي إن شاء اللّٰه تعالي.

لكن الإنصاف أن الأمر ليس بذلك الوضوح، بل هو مبني علي نحو من المبالغة و الإغراق في البيان، لابتنائه علي إغفال احتمال حصول الطهارة بوجوه غير مقصودة، أو غير محتسبة و لا مألوفة، فإن ذلك و إن كان مغفولا عنه، إلا أنه كثيرا ما يقع، كما يتضح بملاحظة ما يبتلي به الإنسان في وقائعه الشخصية.

و بعد ذلك إن أريد حصول العلم التفصيلي للمكلف بنجاسة جميع المياه، أو أكثر ما يبتلي به منها بحيث يلزم الهرج و المرج. فهو ممنوع جدا.

و إن أريد حصول العلم الإجمالي بنجاسة أكثر المياه الموجودة و إن لم يبتل بجميعها، فلا أثر له في عمل المكلف، و لا يمنع من الرجوع للأصول الترخيصية في محل الابتلاء، كما هو ظاهر.

و لا ملزم مع ذلك بالحذر من تعريض المياه لما قد يوجب الانفعال، كما لا ملزم بتنبيه الشارع علي ما يمنع من حصوله و إن كان كثيرا، إذ لا يجب علي الشارع الاهتمام بتطبيق الأحكام الواقعية خارجا، بل له التساهل في ذلك تيسيرا علي المكلفين في مقام العمل، و عليه يبتني جعل الأحكام الظاهرية. بل هو المقطوع به منه في خصوص باب الطهارة، كما يظهر من النصوص الكثيرة المتضمنة للتنبيه علي الاحتمالات البعيدة المقتضية للسعة و غيرها.

ص: 56

______________________________

و ليس حال المياه إلا كحال غيرها مما يبتلي به المكلف، كالنقود التي تمر بكثير من الناس المتسامحين في طرق اكتسابها، التي لو حرمت علي أحدهم حرمت علي من بعده ممن يتفرع تملكه لها علي تملكه، و الثمار التي يكثر التسامح في اكتسابها أو اكتساب أصولها- من البذور أو الأشجار- حيث يعلم إجمالا بحرمة أكثرها و لو من جهة طروء الحرمة علي بعض أصولها البعيدة، و كذا الحيوانات المتناسلة، و نحو ذلك مما يكثر فيه العلم الإجمالي بالحرمة لو لا ابتلاؤه غالبا بما يسقطه عن التأثير من عدم الابتلاء ببعض الأطراف، بنحو يجوز معه الرجوع للطرق و الأصول الترخيصية، و لعل المياه أهون من كثير منها.

فالإنصاف أنه لا مجال للتعويل علي الوجه المذكور في الخروج عما تقتضيه الأدلة و القواعد التي تقدم و يأتي الكلام فيها إن شاء اللّٰه تعالي. و منه سبحانه و تعالي نستمد العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

بقي شي ء: و هو أن المراد بالكلام في ما تقدم هو تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة في الجملة في مقابل عدم تنجسه مطلقا الذي هو المحكي عن ابن أبي عقيل و الكاشاني و غيرهما.

أما عموم الانفعال بجميع النجاسات و في جميع الأحوال فهو محتاج إلي النظر في الأدلة المتقدمة، حيث إن أكثرها وارد في موارد خاصة لا عموم فيها.

إلا أن الظاهر أن المستفاد منها بعد ضم بعضها إلي بعض و ضمها إلي عدم الفصل هو العموم المذكور، و لو لفهم عدم الخصوصية، بضميمة ما يرتكز في أذهان العرف و المتشرعة من عموم سريان النجاسة في الماء، لأن المنسبق من النصوص المتقدمة الجري علي ذلك.

كما يظهر أيضا من إهمال التعرض للضابط بنحو العموم من حيثية أنواع النجاسات و المياه و الأحوال، مع مزيد الحاجة إليه لو لم يكن العموم مفروغا عنه تبعا للارتكاز العرفي المذكور.

نعم، ذلك مختص بما يوجب الانفعال ارتكازا، دون ما لا يوجب ذلك من

ص: 57

______________________________

صور ملاقاة النجاسة، كما لا يخفي.

هذا، مع أن النصوص وافية بالعموم في الجملة، أما من حيث أنواع الماء فظاهر، لإطلاق الماء في بعضها، و ترك الاستفصال في آخر.

و أما من حيث أنواع النجاسات فيكفي فيه صحيح البزنطي: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة؟ قال: يكفئ الإناء» «1»، و نحوه صحيح أبي بصير «2»، و غيره، فإنها ظاهرة في تنجس الماء مع تنجس اليد مطلقا بأي نجاسة كانت، و حيث إن ذلك يقتضي تنجّسه بما ينجسها بالأولوية العرفية كان مقتضاه تنجس الماء بكل نجاسة قابلة لتنجيس اليد، كما لا يخفي.

و أما من حيثية الأحوال فتحصيل العموم لا يخلو عن إشكال، لعدم أخذ عنوان الملاقاة في شي ء من النصوص التي بين أيدينا، و إنما أخذ فيها عناوين خاصة لها إطلاق من بعض الجهات، فمثل موثق عمار «3» تضمّن وجدان الفأرة في الإناء الشامل لصورتي ورودها علي الماء و وروده عليها، غير الشامل للملاقاة غير المستقرة مثلا، و غير ذلك مما قد يتضح حاله عند الحاجة له في موارد الخلاف.

نعم، قد يستدل علي العموم من حيثية النجاسات و الأحوال معا بإطلاق نصوص الكر الدالة بمفهومها علي الانفعال، لأن مقتضي التركيب فيها و إن كان هو الانفعال في الجملة في مقابل السلب الكلي الذي هو مفاد المنطوق، إلا أن ورود القضية في جواب السؤال عن حال إصابة النجاسة للماء، كما في صحيح محمد بن مسلم المتقدم ظاهر في العموم بلحاظ الأحوال و النجاسات- كما نبه له في الجملة سيدنا المصنف قدّس سرّه- لوضوح أن الجواب فيه مسوق لبيان كلا حالي الكرية و عدمها، فلو كان مفاد المفهوم هو الانفعال في الجملة لم يكن وافيا ببيان حكم

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 58

______________________________

عدم الكرية بنحو يترتب عليه العمل.

إلا أنه لا يبعد اختصاصه بما يكون موجبا للانفعال عرفا، لعدم اقتضاء القرينة المذكورة ما زاد علي ذلك. و كأن العموم المذكور ارتكازي مفروغ عنه عند الكل، كما يظهر من استدلالات بعض من خرج عنه في بعض الموارد، حيث لم يذكر العموم المذكور، بل ذكر ما يلزم بالخروج عنه، مثل ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في وجه عدم انفعال الماء بما لا يدركه الطرف من الدم، و ما ذكره المرتضي قدّس سرّه في وجه اعتبار ورود النجاسة علي الماء، و ما ذكره القائلون بطهارة الغسالة من أن نجاستها تستلزم تعذر التطهير بالماء و غير ذلك مما يظهر من مطاوي كلماتهم.

و كيف كان، فلا ينبغي الإشكال في العموم المذكور في الجملة. و إنما الإشكال فيما يظهر من بعض الأصحاب من البناء علي عدم الانفعال في بعض الموارد، و هي بين ما يأتي من سيدنا المصنف قدّس سرّه التعرض له- كالغسالة و ماء الاستنجاء- و ما لم يتعرض له.

و المناسب هنا الكلام في الثاني، و هو أمور.

الأول: ذكر الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار أن ما لا يدركه الطرف من الدم كرؤوس الإبر إذا وقع في الماء القليل لم ينجسه. و عن غاية المراد نسبته إلي كثير من الناس، و عن المدارك ترجيحه. و عمم الحكم في المبسوط لغير الدم من النجاسات، مستدلا عليه بأنه لا يمكن التحرز عنه.

و هو بظاهره ضعيف، لأن التعذر لا يرفع الأحكام الوضعية، التي هي من سنخ المسببات التابعة لأسبابها. إلا أن يريد بأنه لو كان منجسا مع تعذر التحرز عنه للزم الهرج و المرج، و لكثر السؤال عن طريق التخلص، و حيث لم يقع شي ء من ذلك كشف عن عدم كونه منجسا، بل عن وضوح ذلك.

لكن الشأن حينئذ في تمامية ما ذكره من تعذر التحرز، لقلة الابتلاء بأجزاء النجاسات الدقيقة مع العلم بها، و التحرز منها ممكن غالبا، و تعذره لو فرض ليس

ص: 59

______________________________

من الكثرة بالنحو المستلزم للهرج و المرج، فالمتعين البناء علي الانفعال بها، بل لا يظن من أحد البناء علي عدم الانفعال بتراب النجاسات- كالدم و المني و الميتة و نحوها- مهما دقت أجزاؤه.

اللهم إلا أن يريد بذلك الإشارة إلي أن الغبار المنبث في الجو الذي يكثر الابتلاء به ليس متمحضا في الذرات الترابية، بل يشتمل علي ذرات أمور أخر،- و منها النجاسات المتحللة- فلو بني علي انفعال الماء أو غيره بها لزم الهرج و المرج، لتعذر التحرز عنها.

لكن لا يخفي ندرة الابتلاء بالغبار المعلوم اشتماله علي ذرات النجاسات بنحو يعلم بملاقاتها للماء أو غيره من الأمور الطاهرة، فلا يلزم المحذور المذكور.

مع أن ذلك إنما يكون غالبا مع تحلل النجاسات بتأثير الأرض و الهواء و الشمس، بحيث تعد تالفة عرفا، و يغفل عن بقائها حقيقة، فهو نظير استهلاك النجاسة في الماء مانع من الحكم بنجاستها حتي بالاستصحاب. فلاحظ.

هذا، و قد أشير في كلام جماعة إلي الاستدلال علي الحكم المذكور بصحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا، فأصاب إناءه، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا بيّنا فلا يتوضأ منه» «1».

بدعوي: دلالته علي عدم انفعال الماء بما لا يستبين فيه من أجزاء الدم الصغار.

و استشكل فيه في جامع المقاصد و غيره بإنكار دلالته، و كأنه لما في كشف اللثام و غيره من احتمال كون السؤال عن صورة الشك في إصابة الدم للماء، إما للعلم إجمالا بإصابته لأحد الأمرين منه و من الإناء- كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه- أو للعلم تفصيلا بإصابته للإناء مع الشك في إصابته للماء، فيكون المراد في

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 60

______________________________

الجواب الطهارة الظاهرية، للشك في تحقق رافعها، أو لعدم الأثر للعلم الإجمالي المذكور بعد خروج أحد طرفيه- و هو الإناء- عن الابتلاء.

بل استظهر في الوسائل الثاني من الرواية، و تبعه غير واحد، لأصالة الحقيقة في إسناد الإصابة للإناء في السؤال.

و يندفع: بأنه لا إشعار في السؤال في فرض الشك الذي هو موضوع الحكم الظاهري، بل ظاهره السؤال عن الحكم الواقعي لاحتمال مانعية إصابة الدم للإناء من الوضوء منه واقعا، و هو كاف في القرينة علي حمل إصابة الإناء المفروضة في السؤال علي إصابة الماء.

كما أنه المناسب للتفصيل في الجواب في الدم المفروض الإصابة بين الاستبانة في الماء و عدمها، إذ لو كان المراد صورة الشك في إصابة الماء كان عدم الاستبانة في الماء هو المفروض، فلا يحتاج للترديد بينه و بين الاستبانة في الجواب.

و منه يظهر عدم الفرق بين النسخة المعروفة و النسخة الأخري المتضمنة لرفع «شي ء» التي أشار إليها شيخنا الأعظم قدّس سرّه و شيخنا الأستاذ (دامت بركاته)، و إن لم أعثر علي ما يشير إليها في الاستبصار و الوسائل.

علي أن السؤال قد فرض فيه إصابة الدم للإناء، ففرض التردد بينه و بين الماء- كما هو مقتضي العلم الإجمالي المفروض في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه- لا يتم إلا بفرض التسامح في التعبير عن إصابة الماء الذي في الإناء بإصابة الإناء، و مع فرض ذلك فحمل إصابة الإناء علي إصابة مائه هو الأنسب بمقام السؤال و الجواب من تكلف العلم الإجمالي المذكور.

كما أن فرض احتمال إصابة الماء زائدا علي إصابة الإناء- في كلام صاحب الوسائل و غيره- مستلزم لكون التفصيل في الجواب بين الاستبانة و عدمها في دم آخر غير ما فرض في السؤال إصابته للإناء، و هو بعيد جدا، بل لا يناسب نسخة النصب المفروضة.

ص: 61

______________________________

و بالجملة: التأمل في الصحيح سؤالا و جوابا قاض بظهور ما فهمه الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار من تضمنه التفصيل في الدم الذي يصيب الماء بين الاستبانة و عدمها، و هو الوجه في استدلالهم به في المقام.

و قد اعترف شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأن الصحيح أظهر في ذلك من الاحتمال الذي ذكره.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال المذكور أن الصحيح أعم من المدعي، لأن ما لا يستبين في الماء من الدم الطري ليس خصوص ما لا يدركه الطرف، بل ما هو أكبر حجما بكثير من ذلك، لأن الدم الطري يتحلل و يضمحل في أكثر السوائل و خصوصا الماء بسرعة، فلا يستبين فيه إلا أن يكون بحجم كبير، حيث قد يبقي زمنا قليلا متميزا و يستبين فيه.

و قد أعرض عنه الأصحاب في مضمونه، بحيث يظهر منهم هجره المسقط له عن الحجية، و الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار و إن وجهه بالدم الذي لا يدركه الطرف، إلا أنه ليس لدعوي ظهوره فيه، و لا لاستدلاله به عليه، ليشهد باعتماده عليه، بل لمحض التأويل الرافع للتعارض بين الأخبار- مع مخالفته للظاهر- الذي سلكه في الكتاب المذكور، و ليس من سنخ التأويل العرفي.

و أما العفو عن الدم المذكور فظاهر كلامه فيه أنه أمر مفروغ عنه لا من جهة الصحيح، كما يشهد بذلك تعميمه في المبسوط العفو لغير الدم، و استدلاله عليه بما تقدم، من دون تعرض للصحيح المذكور.

و بالجملة: الأصحاب و إن اختلفوا في العفو عن الدم المذكور، إلا أنه يظهر منهم التسالم علي ترك الصحيح و الإعراض عنه، فلا مجال للاعتماد عليه في الخروج عن عموم الانفعال المتقدم. بل لا بد من حمله علي ما لا ينافيه، و إن كان مخالفا للظاهر، أو ردّ علمه لأهله عليهم السّلام.

نعم، لا بد من فرض ثبوت نجاسة الدم المذكور. و هو ظاهر فيما لو كان تفرق أجزائه بنحو لا يمنع من رؤيته- علي ما يأتي الكلام فيه في محله- و كذا لو كان بعد

ص: 62

______________________________

خروجه من الباطن و الحكم بنجاسته، لظهور أن تفرق الأجزاء لا يوجب الطهارة، إلا أن يرجع إلي الاستهلاك، كما تقدمت الإشارة إليه.

أما لو كان تفرق الأجزاء بنحو يمنع من رؤيته عند خروجه من الباطن، فحيث لا عموم لأدلة النجاسة يشمل الدم المذكور، لاختصاصها بالدم المرئي المتعارف تعين البناء علي طهارته و عدم انفعال الماء و لا غيره به، لأصالة الطهارة.

إلا أنه لا يتضح الابتلاء بالدم المذكور ليكون الحكم بطهارته موردا للأثر.

و ما يقال: من اكتشاف وجود الدم في الحليب عند خروجه من الضرع ببعض الآلات الحديثة، فيبتني الحكم بعدم تنجيسه للحليب علي ذلك.

غير ظاهر، لأنه يكفي في ذلك استهلاكه في الحليب، كاستهلاكه بعد الحكم بنجاسته في الماء أو غيره، و إن كان الفرق بينهما أن الاستهلاك بعد الحكم بالنجاسة إنما يكون غالبا بعد ملاقاته لما يستهلك فيه، فعدم تنجيسه له موقوف علي اعتصامه، كالماء الكثير، دون مثل الحليب، بخلاف الاستهلاك قبل ذلك، كما في الفرض المذكور. فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

الثاني: مقتضي إطلاق كثير من الأصحاب و تصريح بعضهم عدم الفرق بين ورود النجاسة علي الماء و وروده عليها، خلافا لما عن السيد المرتضي و ابن إدريس قدّس سرّهما في الناصريات و السرائر، من تقريب عدم الانفعال مع ورود الماء علي النجاسة.

ففي محكي الناصريات: «و الوجه فيه: أنا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد علي النجاسة لأدي ذلك إلي أن الثوب لا يطهر إلا بإيراد كر من الماء عليه، و ذلك يشق، فدل علي أن الماء الوارد علي النجاسة لا يعتبر فيه القلة و الكثرة كما يعتبر فيما يرد عليه النجاسة».

و في محكي السرائر: «ما قوي في نفس السيد صحيح مستمر علي أصل المذهب و فتاوي الأصحاب به».

و لا يخفي ضعف الاستدلال المذكور، لأن وقوع التطهير بالماء القليل لا

ص: 63

______________________________

ينافي انفعال الماء بورود النجاسة عليه، غاية الأمر أنه يستلزم استثناء الغسالة من عموم الانفعال، أو من عموم مانعية نجاسة الماء من التطهير به، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

علي أن اعتبار ورود الماء في التطهير به أول الكلام، بل قد يدعي تحقق التطهير مع ورود النجاسة علي الماء، و حينئذ كما لا يكون التطهير بالمورود منافيا لانفعاله لا يكون التطهير بالوارد منافيا لانفعاله.

و منه يظهر الإشكال فيما تقدم من السرائر، فإنه إن كان مراده بالأصول و الفتاوي ما تضمن التطهير بالماء القليل توجه الإشكال عليه بما ذكرنا، و إن كان غير ذلك فلا يتضح حتي ننظر فيه.

و مثله الاستدلال بما في خبر عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: اغتسل في مغتسل يبال فيه و يغتسل من الجنابة، فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض. فقال:

لا بأس» «1».

بدعوي: أنه ظاهر في عدم انفعال الماء الواقع علي الأرض النجسة الذي ينزو منها في الإناء، و لا وجه له إلا كون الماء المذكور واردا علي الأرض النجسة، لا مورودا لها.

لاندفاعه: باختصاص ذلك لو تمَّ بالملاقاة غير المستقرة، فلا يدل علي عدم انفعال الوارد مطلقا.

هذا، و قد يوجه التفصيل المذكور بقصور أدلة الانفعال عما لو كان الماء واردا، لظهور ما عدا مفهوم روايات الكر في غير الوارد علي النجاسة، مثل من يدخل يده القذرة في الإناء، و الماء الذي تدخل فيه الدجاجة و قد وطأت العذرة، و الماء الذي يشرب منه الطائر و في منقاره دم، و نحوها.

و أما المفهوم فلا عموم له، بل يقتضي الانفعال في الجملة، كما تقدمت الإشارة إليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف حديث: 7.

ص: 64

______________________________

و يظهر اندفاعه بما تقدم من أن المستفاد من المفهوم و غيره عموم الانفعال بالملاقاة بالوجه الموجب للانفعال عرفا، و لا فرق عرفا بين الوارد و المورود في ذلك، و من ثمَّ كان المفهوم عرفا عدم الخصوصية لورود النجاسة في سائر موارد التنجيس بالملاقاة.

مضافا إلي ثبوت العموم في بعض النصوص، كما في موثق عمار- المتقدمة إليه الإشارة- الوارد فيمن يجد في إنائه فأرة من قوله عليه السّلام: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثمَّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء» «1»، لعدم الاستفصال فيه بين ورود الماء علي الفارة و ورودها عليه، بل لو فرض ورودها عليه فالغالب سقوطها حية طاهرة ثمَّ تموت فيه، فلا يتحقق ورودها عليه و هي نجسة، و إن لم يرد هو عليها أيضا.

كما أنه لو فرض الجهل بالحال فاللازم الحكم بالطهارة ظاهرا لا النجاسة، فكان المناسب التنبيه عليه، لأنه أقرب احتمالا من وقوعها بعد الوضوء في الساعة التي رآها، الذي قد تضمنه ذيل الحديث.

و قد يشهد بذلك أيضا ما ورد في الأسآر النجسة، مثل ما ورد في الكلب الذي يشرب في الإناء، من الأمر بصب الماء و النهي عن شربه «2»، مع أنه قد يفرض ورود الماء علي الإناء حين شربه منه، كما لو فرض عدم اكتفائه بماء الإناء فصب له ماء آخر قبل رفع رأسه.

و أظهر منه ما ورد في سؤر اليهودي و النصراني «3»، لوضوح أنه كثيرا ما يكون الماء هو الوارد علي فيهما بإمالة الإناء إليه.

لكنه موقوف علي العمل بظاهره من نجاستهما، و إلا تعين حمله علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب الأسئار.

(3) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الأسئار.

ص: 65

______________________________

الكراهة، كما ورد في سؤر الحائض غير المأمونة، فلا ينفع في المقام.

إلا أن يستشعر منه المفروغية عن الانفعال مع ورود الماء علي النجاسة، و أن عدم الاجتناب في المورد لعدم اليقين بنجاسة الملاقي أو خفة قذرة.

بل قد يومئ لعدم الفرق بين الوارد و المورود خبر عمر بن حنظلة: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ما تري في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتي تذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّٰه، و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» «1» لظهوره في أن الانفعال في المثال الذي تضمنه الجواب يقتضي الانفعال في مورد السؤال بالأولوية، و لو لا المفروغية عن عدم الفرق بين الوارد و المورود لم يكن للأولوية المذكورة مجال.

و أظهر من الكل ما ورد في أواني الخمر من عدم جواز جعل الماء فيها قبل غسلها، كموثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل، أو ماء، أو كامخ، أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس. و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر، أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس.» «2»، و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الشرب في الإناء يشرب فيه الخمر قدحا عيدان أو باطية. قال: إذا غسله فلا بأس» «3».

لوضوح أن الماء هو الذي يرد علي الإناء المتنجس، خصوصا الإبريق، فلو لا انفعاله به لم يكن ملزم بغسله.

و لا يبعد العثور بالفحص علي نصوص أخر، و فيما ذكرناه كفاية.

هذا، و أما الاستدلال عليه- كما في الجواهر- بإطلاق خبر حفص عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 66

______________________________

فهو كما تري! لوروده في بيان ما يوجب انفعال الماء من أنواع الميتة، لا لبيان كيفية الانفعال به، فلا إطلاق له من هذه الجهة.

بل مقتضي المقابلة بين المستثني و المستثني منه هو انفعال الماء بما له نفس سائلة بنحو القضية المهملة في قبال عدم انفصاله بما لا نفس له بنحو السالبة الكلية، نظير ما تقدم في روايات الكر.

و مثله ما ذكره بعض مشايخنا من الاستدلال بإطلاق ما في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث النبيذ: «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء» «1».

لوضوح أنه كسابقه وارد لبيان الانفعال بالنبيذ و لو مع قلته، لا لبيان كيفية الانفعال به.

و أشكل منه ما ذكره من الاستئناس بما في صحيح البقباق: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن فضل الهرة و الشاة. فقال: لا بأس به، حتي انتهيت إلي الكلب، فقال: رجس نجس، لا تتوضأ بفضله و اصبب ذلك الماء» «2»، و بما في خبر الأحول المتقدم من تعليل طهارة ماء الاستنجاء بأن الماء أكثر من القذر.

بدعوي: أنه لو كان لورود النجاسة خصوصية في الانفعال لذكره عليه السّلام في الأول، لأنه في مقام البيان، و لكان المناسب التعليل بعدمه في الثاني.

لظهور اندفاعه: بأن التعليل في الأول إنما كان لبيان تحقق مقتضي الانفعال في الكلب، فرقا بينه و بين غيره من الحيوانات المذكورة في السؤال، و هو أولي من التعليل بالشرط المعلوم حصوله في الكل.

و التعليل في الثاني مجمل في نفسه- كما تقدم- فلا ظهور لعدم ذكر شي ء آخر في عدم دخله. فتأمل.

و بالجملة: الظاهر وفاء ما ذكرنا في الاستدلال علي النجاسة مع ورود الماء، و الاستغناء عن هذه الوجوه و نحوها مما لا يخلو عن الضعف و الإشكال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 4.

ص: 67

______________________________

هذا، و قد احتمل في الجواهر حمل كلام المرتضي علي وجهين آخرين:

الأول: أن يريد بالوارد ما يرد علي النجاسة و لا يستقر معها.

الثاني: عدم نجاسة العالي بالسافل.

و الظاهر بعد كلا الوجهين عن كلام المرتضي قدّس سرّه، كما اعترف به في الجملة في الجواهر. و يأتي التعرض منا للأول قريبا.

و أما الثاني فإن أريد به صورة التدافع، فسيأتي من سيدنا المصنف قدّس سرّه التعرض له.

و إن أريد به ما يكون مع سكون الماء فلا يظن من أحد الالتزام به علي إطلاقه، كيف و لازمه عدم نجاسة ما في أعلي الجرة بملاقاة أسفلها للنجاسة؟! و هو لا يناسب إطلاق بعض النصوص كموثق عمار المتقدم الوارد في الفأرة، و تخصيصه بضعف الاتصال كالأنبوب لا ضابط له، و العموم هو الأوفق بالعموم المشار إليه آنفا. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي أعلم.

الثالث: مقتضي إطلاق الأصحاب و صريح الجواهر عدم الفرق في الانفعال بين الملاقاة المستقرة و غيرها. و نسب لبعض المشايخ ممن أدركناهم «1» في بعض فتاواه عدم الانفعال مع عدم استقرار الملاقاة و انفصال الماء عن النجاسة بمجردها. مستدلا برواية عمر بن يزيد المتقدمة في الأمر السابق.

بدعوي: دلالتها علي طهارة ما يقع علي الأرض النجسة و ينزو منها في الإناء، و لذا لا ينفعل ما في الإناء به.

نعم، لو قلنا بأن المتنجس لا ينجس الماء مطلقا، أو مع الواسطة لم يكن الحكم بعدم انفعال الماء دالا علي عدم الانفعال بالملاقاة غير المستقرة، لوضوح أن ما ينزو لم يلاق عين النجس، بل الأرض المتنجسة، فيمكن أن يكون طاهرا لعدم انفعاله بالمتنجس، لا لعدم استقرار الملاقاة، كما يمكن أن يكون نجسا غير

______________________________

(1) المرحوم الشيخ محمد رضا آل يس قدّس سرّه.

ص: 68

______________________________

منجس لما في الإناء، لعدم انفعال ماء الإناء بالمتنجس مع الواسطة، فالاستدلال مبني علي انفعال الماء بالمتنجس مطلقا.

و لا مجال للإشكال في سند الرواية بأن فيه معلي بن محمد الذي لم ينصّ أحد علي توثيقه، بل قال فيه النجاشي: «مضطرب الحديث و المذهب، و كتبه قريبة»، و عن ابن الغضائري: «يعرف حديثه و ينكر، يروي عن الضعفاء، و يجوز أن يخرج شاهدا».

لاندفاعه: بأن رواية ابن قولويه عنه في كامل الزيارات شاهد بتوثيقه بعد نصه فيه أنه لا يثبت فيه إلا ما رواه الثقات، مؤيدا بإكثار المشايخ- خصوصا الكليني قدّس سرّه- الرواية عنه مع قلة الوسائط بينهم و بينه، فمن البعيد جدا تعمد الرواية عنه مع جهل حاله، أو مع الوثوق به أو برواياته لمقدمات حدسية بعيدة عن الحس، كما يؤيد أيضا بتصريح النجاشي و ابن الغضائري فيما تقدم بأن كتبه قريبة، و أنه يجوز أن يخرج شاهدا، المشعر بوثاقته في نفسه و بنحو يترتب العمل عليه.

و لا ينافيه ما ذكره النجاشي من اضطراب حديثه الراجع ظاهرا إلي ما ذكره ابن الغضائري من اشتمال حديثه علي المناكير، لأنه لا ينافي وثاقته في نفسه.

و مثله ما في الجواهر من عدم صراحتها في وقوع ما ينزو من الأرض في الماء.

لاندفاعه بأنه بعد التصريح فيها بأنه يقع في الإناء فلا بد من ملاقاته للماء الموجود فيه، إلا أن يفرض خلو الإناء من الماء، و هو- مع بعده جدا- موجب لكون السؤال عن حال الإناء، فيدل علي عدم تنجسه بما ينزو، فينفع في المطلوب أيضا.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال المذكور ما أشار إليه في الجواهر أيضا من عدم القطع بكون ما ينزو واقعا علي مكان البول.

و توضيح ذلك: أن السؤال لم يتضمن ملاقاة ما ينزو للبول، و لا للمكان المتنجس به من أرض المغتسل، بل تضمن ملاقاته لأرض المغتسل الذي يبال فيه و يغتسل من الجنابة، و من الظاهر أن ذلك بنفسه ليس موجبا للانفعال، و لا موهما

ص: 69

______________________________

له، ليكون موردا للسؤال، فلا يظن احتمال السائل انفعال ما ينزو من أرض المغتسل المذكور و لو مع فرض طهارة موضع الملاقاة، بل لا بد من حمل ذكره في كلام السائل علي كونه كناية عما يوهم الانفعال و يوجب السؤال، و هو أحد أمرين:

الأول: وقوعه علي الموضع المتنجس و ملاقاته له بالوجه المذكور، فيكون السؤال عن الحكم الواقعي، و ينفع الجواب في إثبات المطلوب.

الثاني: احتمال ملاقاته للموضع المتنجس من دون يقين بذلك، لاحتمال وقوعه علي غير موضع البول، أو علي موضعه مع احتمال سبق تطهيره بماء الغسل للعلم بتوارد الحالتين عليه أو نحو ذلك، فيكون السؤال عن الحكم الظاهري، فلا ينفع الجواب في المطلوب.

و الأقرب عرفا الثاني، لكون المغتسل المذكور مثارا للشك و ملازما له غالبا، و مثل ذلك كاف في حصول العلاقة الذهنية بين الأمرين، الموجبة للانتقال من أحدهما للآخر، بخلاف الأول، لعدم تحقق العلاقة المذكورة بعد عدم كون الاغتسال في المكان المذكور ملازما غالبا لكون ما ينزو ملاقيا للمتنجس حال نجاسته، لوضوح أن تعرض المغتسل لأن يبال فيه لا يقتضي غالبا تنجس جميع أرضه، و لا بقاء نجاسة ما يتنجس منه بعد تعرضه لجريان ماء الغسل و غيره فيه.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من أن فرض الشك محتاج إلي مئونة زائدة يدفعها إطلاق السؤال و الجواب.

لما عرفت من أنه لا مجال للجمود علي العنوان المذكور في السؤال، بل لا بد من التزام العناية بجعله كناية عن أحد الأمرين المذكورين، و لا ينبغي التأمل في أن الثاني هو الأقرب عرفا.

علي أنه لو تمَّ الاستدلال المذكور فهو مختص بملاقاة المتنجس، و لا وجه للتعدي منه لملاقاة النجس، و مجرد البناء علي الانفعال بالمتنجس لا يوجب فهم عدم الخصوصية له في المقام، لأن إلحاق المتنجس بالنجس في الانفعال في

ص: 70

______________________________

الجملة لا يستلزم إلحاق النجس بالمتنجس في عدمه، و ربما يكون منشأ العفو هو كثرة الابتلاء بالمتنجس بالوجه المذكور الموجب لمشقة الاجتناب، بخلاف النجس.

نعم، لو لم يكن البناء علي عدم الانفعال في الملاقاة غير المستقرة ناشئا من الرواية المتقدمة، بل لدعوي قصور أدلة الانفعال عن شمولها و اختصاصها بالملاقاة المستقرة- كإصابة اليد القذرة للإناء و سقوط الفأرة أو الدم فيه و ولوغ الكلب منه و نحو ذلك- اتجه عموم عدم الانفعال بها للنجس و المتنجس معا.

لكن لا مجال للدعوي المذكورة بعد ما تقدم من ظهور أدلة الانفعال بمجموعها في الإيكال في كيفية التنجيس إلي الارتكاز العرفي الذي لا يفرق فيه بين الملاقاة المستقرة و غيرها، و لذا لا ريب ظاهرا في عدم الفرق بينهما في غير الماء.

و من ثمَّ كان الظاهر من حال المخالف الاعتماد علي الرواية المتقدمة، لا علي الدعوي المذكورة.

هذا، و قد يستدل أو يستأنس للانفعال في الملاقاة غير المستقرة بخبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الكنيف يصب فيه الماء فينضح علي الثياب ما حاله؟ قال: إذا كان جافا فلا بأس» «1» بناء علي أن الجفاف كناية عن عدم رطوبة الموضع بعين النجاسة من البول و نحوه، فيدل علي انفعال ما ينضح إذا وقع علي الموضع النجس.

و إلا فالجمود علي الجفاف يوجب إجمال الرواية المانع من الاستدلال بها.

إلا بدعوي إشعارها أو ظهورها في المفروغية عن الانفعال بالملاقاة غير المستقرة، و إن كان الحكم فيها بعدم الانفعال لأجل جفاف الموضع مما لا يمكن الالتزام به.

فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في الأقوال المفصلة في انفعال الماء بملاقاة النجاسة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 60 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 71

أو المتنجس (1)

______________________________

و لعله يأتي في الانفعال بملاقاة المتنجس ما ينفع في المقام. و اللّٰه سبحانه و تعالي ولي العون و التوفيق و هو حسبنا و نعم الوكيل.

(1) كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب. و لا يعرف الخلاف فيه قبل المحقق الخراساني قدّس سرّه، فقد خالف هو في ذلك، كما حكي أيضا عن بعض المحققين من تلامذته قدّس سرّه لدعوي قصور أدلة الانفعال عنه، لعدم الإجماع عليه، كما لا خبر يدل عليه خصوصا أو عموما منطوقا أو مفهوما، لانصراف الشي ء في الأخبار العامة- و هي أخبار الكر- إلي عين النجاسة، كما ادعي انصرافه في أخبار التغير إلي ما يكون بأوصاف النجاسة دون المتنجس.

و لو سلم عمومه للمتنجس لم ينفع المفهوم المقتضي للانفعال في إثبات العموم له، لما تقدم من دلالته بمقتضي التركيب علي انفعال القليل في الجملة.

و أما الأخبار الخاصة فهي مختصة بعين النجاسة كالميتة و الدم و المني و نحوها، و لا تشمل المتنجس.

و الكل كما تري! فإن التأمل في كلمات الأصحاب (رضي اللّٰه عنهم) شاهد بعموم معاقد الإجماعات المدعاة في المقام، فإنهم و إن عبروا بملاقاة النجاسة، إلا أن عموم بعض أدلتهم للمتنجس و عدم تنبيههم علي عدم الانفعال به مع إطلاقهم القول بأن المتنجس ينجس من دون استثناء للماء من عموم التنجس به، شاهد بما ذكرنا.

كما أنه لا وجه لانصراف «الشي ء» إلي خصوص النجاسات العينية، بل الظاهر عمومه لكل ما من شأنه أن ينجس.

و الفرق بينه و بين أخبار التغير- لو تمَّ فيها الانصراف- هو ارتكاز أن منشأ الانفعال مع التغير هو قهر النجاسة للماء المانع من اعتصامه بالكثرة، و هو مختص

ص: 72

______________________________

بالتغير بأوصافها، بخلاف المقام، فإن منشأ الانفعال فيه ليس إلا ضعف الماء لفرض قلته المقتضي لانفعاله كغيره من الأجسام بكل ما من شأنه التنجيس، و لا موجب للانصراف عن المتنجس.

و بعبارة أخري: المدعي هنا عموم الشي ء للمتنجس، و هناك اختصاص التغير بأوصاف النجاسة، و لذا لو أوجبت ملاقاة المتنجس التغير بأوصاف النجاسة لم يبعد البناء علي الانفعال، فلا سنخية بين المقامين.

نعم، هذا إنما ينفع لو ثبت تنجيس المتنجس لغير الماء، كما لعله ظاهر.

و أما دلالة المفهوم علي الانفعال بنحو القضية المهملة، فقد تقدم في آخر الكلام في انفعال القليل بالنجاسة أنه و إن كان كذلك بمقتضي التركيب في نفسه، إلا أن بعض القرائن تشهد بإرادة العموم منه.

و أما اختصاص النصوص الخاصة بعين النجاسة فلا مجال له بعد ظهور جملة من النصوص في المتنجس أو فيما يعمه، كصحيحي البزنطي و أبي بصير المتقدمين في آخر الكلام في انفعال الماء القليل، المتضمنين لإراقة الإناء بإدخال اليد القذرة فيه.

و دعوي: انصرافها للقذر الحقيقي الذي يكون مع حملها للقذر، دون القذر التنزيلي الذي يكون بتنجسها و لو مع ذهاب عين النجاسة.

مدفوعة: بأن التنجس موجب للقذارة حقيقة و لو مع زوال عين النجاسة، لا تنزيلا، غايته أنه قد لا يوجب قذارتها عرفا، بل شرعا.

و حينئذ فإن أريد الحمل علي القذارة العرفية، فهو- مع عدم مناسبته لمقام الشارع- يستلزم قادحية القذارة العرفية، و إن لم تكن موجبة للتنجيس شرعا، كملاقاة مثل النخامة، و حيث لا ريب في عدم إرادته يتعين الحمل علي القذارة الشرعية الحاصلة بملاقاة القذر من دون تطهير و إن زالت عين النجاسة.

مع أن زوال عين النجاسة قد يكون بوجه يصدق معه أن اليد قذرة حتي عرفا، و إذا ثبت في مثله التنجيس ثبت في غيره بعدم الفصل.

ص: 73

______________________________

و يدل علي الانفعال- أيضا- صحيح شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها: أنه لا بأس به إذا لم يكن أصاب يده شي ء» «1»، و موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قال: إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي ء من المني» «2»، و موثقه الآخر عنه عليه السّلام: في حديث قال عليه السّلام: «و إن كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شي ء من المني، و إن كان أصاب يده فادخل يده في الماء قبل أن يفرغ علي كفيه فليهرق الماء كله» «3»، فإن أصابه الشي ء لليد لا يراد به إلا تنجسها به و لو مع زوال عينه، بل هو كالصريح من موثق سماعة الثاني المتضمنة لإهراق الماء بإدخال اليد قبل الإفراغ عليها الذي لا يراد به إلا تطهيرها، لا مجرد زوال عين النجاسة عنها.

و أظهر من الكل من هذه الجهة صحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم؟ فقلنا: بلي. فدعا بقعب فيه شي ء من ماء، فوضعه بين يديه ثمَّ حسر عن ذراعيه، ثمَّ غمس فيه كفه اليمني، ثمَّ قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة، ثمَّ غرف ملأها ماء، فوضعها علي جبهته.» «4»، لما هو المعلوم من عدم طهارة الكف بزوال عين النجاسة، كما لا ريب في ظهوره في اعتبار طهارة اليد في نفس الغمس، لا في نفس الوضوء بلحاظ اعتبار طهارة الأعضاء عنده، أو باعتبار تنجيسها للأعضاء عند غسلها بها، فإن ذلك يقتضي اعتبار طهارتها عند غسلها أو الغسل بها، لا حين غمسها، كما تضمنه الحديث.

و إليه يشير ما في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن الرجل يبول، و لا يمس يده اليمني شيئا، أ يغمسها في الماء؟ قال: نعم،

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 74

______________________________

و إن كان جنبا» «1».

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من احتمال وروده بلحاظ عدم صحة الوضوء بالماء المستعمل في رفع الخبث، حيث إن غمس الكف النجسة في الماء موجب لتطهيرها به، فيكون مستعملا في رفع الخبث و إن لم يقصد به ذلك.

ففيه: أنه- مع ابتنائه علي عدم اعتبار ورود الماء علي النجاسة في تطهيره لها. و علي المنع من الوضوء بالماء المستعمل حتي علي القول بطهارته، و لا يظهر منه الالتزام بذلك- لا ملازمة بين غمس اليد النجسة في الماء و تطهيرها به ليكون مستعملا في رفع الخبث، لإمكان أن يصيبها حين تنجسها أو بعده ما له جرم خفيف يمنع من استيلاء الماء عليها و تطهيرها به بمجرد الغمس و إن لم يمنع من وصول الماء إليها و تنجسه بها، فإطلاق الحديث يناسب إرادة الانفعال.

بل لا ينبغي التأمل فيه بعد النظر في النصوص المتقدمة المتضمنة لإهراق الماء بإدخال اليد القذرة فيه الظاهرة في انفعاله، لتفسير بعض النصوص لبعض، حيث تصلح تلك النصوص لبيان أن الجهة الموجبة للمنع من الغمس في هذا الصحيح هو انفعال الماء، و صلوح هذا الصحيح لبيان أن منشأ الحكم بالانفعال في تلك النصوص مع إدخال اليد القذرة هو نجاستها لا حملها للقذر. فلاحظ.

و يشهد بالانفعال أيضا ما تضمّن النهي عن وضع الماء في إناء الخمر قبل غسله، كموثق عمار و خبر علي بن جعفر المتقدمين في مسألة انفعال الماء الوارد علي النجاسة، بناء علي ما هو الظاهر من كون المراد من الغسل فيهما هو الغسل المطهّر للإناء، لا الكناية عن زوال عين النجاسة.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في وفاء الأدلة بأن المتنجس كالنجس موجب لانفعال الماء.

نعم، قد يستدل علي عدم انفعال الماء بالمتنجس بجملة من النصوص.

الأول: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الحبل يكون من شعر

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 75

______________________________

الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس» «1»، بدعوي غلبة تقاطر الماء من الحبل إلي الدلو و غلبة مباشرة المستقي للماء مع مماسته للحبل، فلو لا عدم انفعال ماء الدلو بما يتقاطر و باليد المتنجسين بالحبل لامتنع الوضوء به.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من احتمال كون السؤال من جهة الشك في التقاطر، أو من جهة انفعال ماء البئر، أو من جهة استعمال شعر الخنزير في الوضوء العبادي، فلا مجال له.

لاندفاع الأول: بأن فرض الشك و السؤال عن الحكم الظاهري محتاج إلي عناية لا مجال للحمل عليها من دون قرينة، و لا سيما مع بعد الشك في التقاطر و في مباشرة المستقي للماء نوعا.

و الثاني: بأن المناسب عليه السؤال عن ماء البئر، لا عن الماء المستقي كما تضمنه الحديث.

نعم، يدل الجواب بالملازمة علي عدم انفعال ماء البئر.

و الثالث: بأنه لا منشأ له ظاهرا إلا ما ذكره بعض مشايخنا من ذهاب جمع إلي حرمة استعمال نجس العين حتي فيما لا يعتبر فيه الطهارة، بنحو قد يتوهم امتناع ترتب العبادة علي الاستعمال المذكور.

و هو- مع بعده في نفسه لخفاء الملازمة المذكورة- لا يناسب السؤال جدا، بل الأولي حينئذ السؤال عن حكم الاستقاء نفسه.

و احتمال وضوح حرمته عند السائل بعيد جدا لا يناسب النصوص الصريحة و الظاهرة في جواز الاستعمال «2»، التي لا يبعد كون هذا الصحيح منها.

علي أن هذا الوجه و ما قبله لا يمنع من دلالة الصحيح ضمنا علي عدم الانفعال بالقطرات و بمساورة المستقي، لغلبة الابتلاء بهما، فلو فرض الانفعال بهما

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 33، 65 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 76

______________________________

لزم كون الحكم الذي تضمنه الصحيح اقتضائيا غير فعلي غالبا، و هو خلاف الظاهر.

و بالجملة: الاحتمالات المذكورة ليست بنحو تصلح لمنع ظهور الصحيح في عدم البأس بما يلزم غالبا من الاستقاء بالحبل من تقاطر الماء في الدلو و مباشرة المستقي له.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بالصحيح: أنه كما يمكن أن يكون واردا لبيان طهارة ملاقي المتنجس لشعر الخنزير بعد الفراغ عن نجاسة الشعر نفسه، كذلك يمكن أن يكون واردا لبيان طهارة الخنزير بعد الفراغ عن الانفعال لو كان نجسا.

بل لعل الأظهر الثاني، لما فيه من المحافظة علي خصوصية شعر الخنزير في السؤال و الجواب، و أن ذكره ليس بلحاظ الانفعال بملاقيه بعد فرض نجاسته الذي هو من شؤون كل نجس، من دون خصوصية له، لما هو الظاهر من أن خصوصية الخنزير مما يصعب إلغاؤها جدا، بحيث تكون عبرة للجهة العامة المذكورة، بل الجهة المذكورة مما يحتاج التنبيه عليها و صرف السؤال إليها إلي عناية خاصة لا يشعر بها الكلام.

و يظهر ما ذكرنا بملاحظة موثق الحسين بن زرارة: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السّلام و أبي يسأله عن السن من الميتة، و البيضة من الميتة، و إنفحة الميتة.

فقال: كل هذا ذكي. قلت: فشعر الخنزير يجعل حبلا يستقي به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها؟ فقال: لا بأس به. قال الكليني: و زاد فيه علي بن عقبة و علي بن الحسن بن رباط. قال: و الشعر و الصوف كله ذكي» «1».

و دعوي: أنه بعد ثبوت نجاسة شعر الخنزير لا بد من صرف الصحيح إلي حيثية الانفعال بالمتنجس.

مدفوعة: بأنه موقوف علي كون دليل نجاسته من القرائن العرفية الموجبة

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

ص: 77

______________________________

لظهوره الثانوي فيما نحن فيه، ليكون الاستدلال به من صغريات حجية الظهور، و هو غير ظاهر في المقام، بل كما يمكن حمله علي ذلك يمكن حمله علي فرض الشك في الملاقاة و نحوه مما هو مخالف لظاهر الصحيح، و الأولي من الكل إبقاؤه علي ظاهره و استحكام التعارض.

الثاني: خبر محمد بن ميسر الذي لا يبعد كونه موثقا، بل صحيحا: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل الجنب ينتهي إلي الماء القليل في الطريق و يريد أن يغتسل منه، و ليس معه إناء يغرف به و يداه قذرتان؟ قال: يضع يده ثمَّ [و. خ ل] يتوضأ ثمَّ يغتسل. هذا مما قال اللّٰه عز و جل مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1».

بدعوي: أنه نص في مساورة اليد القذرة للماء القليل.

و قد أجيب عن ذلك- كما في الجواهر و غيرها- بحمله علي القليل العرفي، لا ما يقابل الكر، لغلبة كثرة الماء الموجود في الصحاري، المتجمع من المطر و نحوه، بنحو يزيد علي الكر كثيرا، فيصدق القليل علي ما يكون بقدر الكر.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن فرض القلة في السؤال منبه لعدم فرض كريته، و لا سيما مع ظهوره في دخل القلة في احتمال مانعية إدخال اليد القذرة في الماء من الاغتسال به، فلو كان اعتصامه موقوفا علي كريته لكان المناسب التنبيه عليها في الجواب، فإطلاق الجواب مع ذلك ظاهر في عدم دخلها بنحو يصعب جدا حمله علي خصوص الكر.

و منه يظهر وهن احتمال أن يكون منشأ السؤال جهل السائل باعتصام الكر، فإنه لا يناسب تنبيه علي القلة، بل قد لا يناسب التعرض للحرج في الجواب، حيث إن التنبيه علي اعتصام الكر أولي بذلك.

و مثله احتمال كون منشأ السؤال احتمال مانعية إدخال اليد القذرة من الاغتسال بالماء و لو مع اعتصامه، لأنه أيضا لا يناسب فرض القلة الظاهر في كونها

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 78

______________________________

هي المنشأ له.

كما ظهر أيضا أنه لا مجال لحمله علي القذر العرفي، إذ لا منشأ لتوهم مانعيته، فإن المنع من إدخال الجنب يده في الماء و إن حكي عن بعض العامة، إلا أنه لأجل كونه جنبا و لو لم تكن يده قذرة قذارة عرفية. فتأمل.

فالإنصاف أن ظهور الخبر في عدم مانعية إدخال اليد النجسة في الماء القليل من الاغتسال به المستلزم لعدم انفعاله قوي جدا.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر حال السائل المفروغية عن انفعال الماء بملاقاة اليد، و أن السؤال لمكان الضرورة المفروضة في كلامه، و ظاهر الجواب تقريره علي ذلك، إذ لو كان المراد عدم انفعال الماء في نفسه لكان الأولي الجواب بذلك، و الاستشهاد بما يدل علي طهارة الماء أو طهوريته عموما ردعا عن التوهم المذكور، لا التنبيه علي رفع الحرج المناسب لاختصاص الحكم بحال الضرورة، تقريرا لما يظهر من السائل.

و دعوي: أن الحرج حكمة لعدم الانفعال، لا علة يدور الحكم مدارها وجودا و عدما.

مخالفة لظاهر حال السؤال و الجواب جدا، لما ذكرنا من ظهور السؤال في أن منشأه الضرورة المفروضة، و ظهور الجواب في تقرير ذلك، و إنما يتجه ذلك في مثل صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الجنب يحمل [يجعل خ. ل] الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه؟ قال: إن كانت يده قذرة فأهرقه، و إن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه. هذا مما قال اللّٰه تعالي مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1»، لعدم القرينة المانعة منه.

و بالجملة: ظاهر الحديث المفروغية عن انفعال الماء في نفسه و امتناع الغسل به لو لا الحرج.

و تعذر الالتزام بظاهره، لما هو المعلوم من عدم ارتفاع الحكم المذكور

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 79

______________________________

بطروء الحرج، يوجب إجماله، لا حمله علي عدم انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس، ليكون دليلا للخصم، و ينهض بمعارضة أدلة الانفعال. فتأمل جيدا.

الثالث: خبر علي بن جعفر: «عن جنب أصابت يده جنابة، فمسحها بخرقة، ثمَّ أدخل يده في غسله، هل يجزؤه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال عليه السّلام: إن وجد ماء غيره فلا يجزؤه أن يغتسل، و إن لم يجده غيره أجزأه» «1».

و فيه: - مع ضعف سنده- أن التفصيل المذكور فيه مما يناسب ما تقدم في خبر محمد بن ميسر، الذي عرفت تعذر الالتزام به، و لا سيما مع أن مسح المني بخرقة كثيرا ما يبقي معه بعض الأجزاء الدقيقة منه، فينافي الأدلة الكثيرة الواردة في الانفعال بعين النجاسة.

و لعله لذا قد يحمل علي الكر، لعدم التصريح فيه بالقلة- كما نبّه له في الجواهر- فيكون نظير صحيح ابن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «2».

و إن كان الإنصاف أنه بعيد جدا.

الرابع: موثق أبي بصير عنهم عليهم السّلام: «قال: إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس، إلا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة، فإن أدخلت يدك في الماء و فيها شي ء من ذلك فأهرق ذلك الماء» «3».

بدعوي: ظهور ذيله بمقتضي المفهوم في أن إدخال اليد في الماء مع عدم حملها لشي ء من البول و الجنابة لا يوجب إهراقه.

و لا مجال للإشكال في سندها- كما عن بعض مشايخنا- لاشتماله علي عبد اللّٰه بن المغيرة المشترك بين البجلي الثقة و الخزاز المهمل.

______________________________

(1) عن قرب الاسناد طبعة إيران ص: 84.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 80

______________________________

لاندفاعه: بان اشتهار البجلي الثقة- الذي هو من الأعيان، و الذي قال فيه النجاشي: «ثقة، ثقة، لا يعدل به أحد من جلالته و دينه و ورعه»، و نسب رواية كتبه إلي كثير من أصحابنا- هو الموجب لانصرافه عند الإطلاق [1]، خصوصا من مثل إبراهيم بن هاشم الذي هو من الرواة عن البجلي الثقة، و لم تنقل روايته عن الخزاز.

بل إهمال النجاشي للخزاز و انفراد الشيخ في كتابه و إهماله للتصريح بالبجلي مما يقرب اتحادهما، و ان الاختلاف بين الشيخ و النجاشي قدّس سرّهما في نسبة الرجل.

فلاحظ.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال المذكور أن حمل القذر علي عين النجاسة موقوف علي كون «بول أو جنابة» بدلا من «قذر»، أو مضافا إليه إضافة بيانية، و لا قرينة علي ذلك، بل من الممكن كونه مضافا إضافة اختصاص، بلحاظ نشوية منهما، فيحمل علي المعني الاسم المصدري، و هو النجاسة، و يكون المراد: إلا أن يكون أصابها نجاسة بول أو جنابة، و لعل الثاني هو الأظهر.

فلا يكون مفاد المفهوم إلا توقف الإهراق علي بقاء النجاسة الناشئة من البول و الجنابة، لا علي بقاء العين، فيطابق أدلة الانفعال السابقة.

و يناسبه ظهور ورود الذيل لشرح الاستثناء الوارد في قوله عليه السّلام: «إلا أن يكون أصابها.» الشامل لصورة زوال عين النجاسة، لا تقييدا له مع إرجاع الصورة المذكورة لحكم المستثني منه.

إن قلت: الظاهر من قوله عليه السّلام: «و فيها شي ء من ذلك» كون المشار إليه مما يقبل التبعيض، و هو أعيان النجاسات، دون أثرها الحاصل في اليد، و هو النجاسة الشرعية.

قلت: التبعيض كما يكون بلحاظ الأجزاء الخارجية للمركب، فيختص بالأعيان، يكون بلحاظ الأفراد من الجنس، فلا يختص بها، بل يجري في الأثر،

______________________________

[1] و من ثمَّ فهم غير واحد البجلي من إطلاق الكشي حيث عد عبد اللّٰه بن المغيرة من أصحاب الإجماع.

(منه، عفي عنه).

ص: 81

______________________________

فتختلف أفراده و لو من جنس واحد، و الظاهر إرادة الثاني في المقام حتي علي فرض الحمل علي أعيان النجاسة، فلا يراد بقاء بعض مما أصاب اليد عليها، بل حملها لشي ء من البول و الجنابة و إن كان تمام ما أصابها أولا.

نعم، قد يكون التعبير بالإصابة ظاهرا في كون القذر من سنخ الجسم الملاقي لليد. لا العرض القائم بها. إلا أن في كفاية ذلك في الاستدلال إشكالا.

و عليه لا ينهض الموثق بالخروج عن إطلاق النصوص السابقة الظاهرة في تنجيس المتنجس التي يصعب حملها علي خصوص ما لو كان حاملا لعين النجاسة، لقوة ظهورها في موضوعية المتنجس من حيثية كونه متنجسا في الانفعال، و اعتبار طهارة الملاقي في عدم الانفعال، و حملها علي ذلك ليس من التقييد في الحقيقة، بل من إلغاء عنوان الحكم و صرفه إلي ما قد يقارنه، و هو أبعد من التقييد.

و من ثمَّ لا يبعد تقديم الأدلة المذكورة علي الموثق حتي لو فرض تمامية دلالته بدوا بتنزيله علي ما لا ينافي أدلة الانفعال، و لو بإلغاء خصوصية المفهوم فيه. و لعله لذا يغفل عن منافاته لها عند النظر إلي جميعها، و يحتاج ذلك إلي تنبيه.

علي أنه يصعب جدا التفكيك بين النجس و المتنجس بعد ظهور حال الأصحاب في المفروغية عن عدمه مع اختصاص أكثر أدلة الانفعال بالنجس، و ما ذلك إلا لارتكاز عدم الخصوصية عندهم، فإن فهمهم و إن لم يكن حجة، إلا أن تسالمهم علي ذلك مع كثرة الابتلاء بالمتنجس و شيوعه في جميع العصور حتي عصور الأئمة عليهم السّلام يشرف بالفقيه علي القطع بعدم الفرق.

و بعبارة أخري: لا ريب في أن مسألة الانفعال بالنجس و المتنجس مما يكثر الابتلاء به، و تشتد الحاجة لبيان الحكم فيه، كما أن كثرة الأدلة الواردة في الانفعال بالنجس تقتضي وضوح الحكم به في عصور الأئمة عليهم السّلام.

ص: 82

______________________________

أما المتنجس فلو كان البناء فيه علي خلاف ذلك أو علي الإشكال فيه لظهر و شاع بنحو يمنع الأصحاب عن إلحاقه بالنجس، و لا تكفي فيه الأدلة المتقدمة- لو فرض تماميتها- التي لم تلفت نظر الأصحاب و لم تنبههم للخصوصية، بل لم تلفت نظر المخالف حيث لم يستند إليها، بل لدعوي قصور أدلة الانفعال.

فالإنصاف أن التأمل في أدلة الانفعال بالنجس و المتنجس بعد ملاحظة عموم الحكم عند الأصحاب و غفلتهم عن الفرق بينهما مانع من الركون لأدلة التفصيل حتي لو فرض تماميتها بدوا، لأن ذلك يوجب قوة ارتكاز فهم عدم الخصوصية في المقام بنحو يري أن الأدلة المذكورة كبعض ما ورد في النجس معارضة لأدلة أصل الانفعال، المعول عليها في المقام.

و مما ذكرنا يظهر حال ما ذكره بعض مشايخنا من التفصيل بين المتنجس بعين النجاسة، و المتنجس بالمتنجس بالميل للانفعال بالأول دون الثاني، مدعيا قصور أدلة الانفعال عنه، لأن ما تضمن انفعال الماء بإدخال اليد القذرة مختص بما إذا كانت ملاقية لعين النجس، إذ لم ير إطلاق القذر علي المتنجس غير الملاقي لعين النجس، فإن المتنجس بالمتنجس و إن كان نجسا لكنه ليس قذرا.

إذ فيه. أولا: أن التفكيك المذكور أبعد من التفكيك بين النجس و المتنجس عن المرتكزات، لوضوح أن نجاسة المتنجس بالنجس ليست إلا حكمية شرعية، فاقتضاؤها انفعال الملاقي له ليست ارتكازا إلا من جهة حكم الشارع بسراية النجاسة الحكمية بالملاقاة، و ذلك يقتضي السراية في كل ما هو نجس حكما و إن كانت نجاسته بملاقاة المتنجس مع تكثر الوسائط.

و إذا كان التفكيك بين النجس و المتنجس منافيا لتسالم الأصحاب بالتقريب المتقدم، فالتفكيك بين أقسام المتنجس مناف لارتكازيات العرف في فهم الكلام و تلقي الأحكام.

و لو بني علي ذلك لأمكن التفكيك بين النجاسات، بل بين أقسام النجاسة

ص: 83

______________________________

و أحوالها، بالاقتصار علي الخصوصيات المأخوذة في النصوص، و ليس عدم الفصل بينها عندهم إلا كعدم الفصل بين النجس و المتنجس، أو بين أقسام المتنجس، فإن احتمال التفصيل بالوجهين المذكورين أو القول به من حوادث العصور المتأخرة التي لا أثر لها في الكشف عن رأي المعصومين عليهم السّلام، و لا عن القرائن المحيطة بكلامهم الصالحة للتعميم و إلغاء الخصوصية.

و ثانيا: أنه لا مجال لإنكار عموم بعض أدلة الانفعال المتقدمة للمقام. و ما ذكره من إنكار عموم اليد القذرة للمتنجسة بالمتنجس غير ظاهر الوجه، فإن القذارة مقابلة للطهارة و النظافة، فالقذر العرفي ما لا يكون نظيفا عرفا، و القذر الشرعي ما لا يكون نظيفا و لا طاهرا شرعا، كما يشهد به نصوص قاعدة الطهارة في الماء، و في كل شي ء، و قوله في موثق عمار: «سئل عن الكوز و الإناء يكون قذرا كيف يغسل» «1».

و حينئذ إن أريد حمل النصوص المتقدمة علي القذارة العرفية، أشكل إثبات عموم الانفعال بالمتنجس بالنجاسة بها، مع أنه استدل بها علي ذلك.

و إن أريد حملها علي القذارة الشرعية- كما تقدم أنه الظاهر- فهي تشمل كل نجس.

هذا، مع أنه يكفي إطلاق صحيح زرارة الوارد في غمس اليد في ماء الوضوء، المتضمن اعتبار كونها طاهرة بناء علي ما تقدم في تقريب الاستدلال به علي انفعال الماء بالمتنجس.

هذا، و قد يستدل علي التفصيل المذكور بموثق أبي بصير المتقدم:

بدعوي: أن عدم تنجيس المتنجس بالمتنجس للماء متيقنا منه حتي لو حمل القذر فيه علي الأثر المسبب عن البول و الجنابة، لأن نجاسة المتنجس المذكور لا تستند إلي البول و الجنابة و نحوهما من أعيان النجاسات.

و يندفع. أولا: بأنه لا يبعد نسبة نجاسة المتنجس بالمتنجس عرفا لعين

______________________________

(1) الوسائل باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 84

علي الأقوي، إلا إذا كان متدافعا (1)

______________________________

النجاسة بمعني أنها ناشئة منها، لما هو المرتكز من أن المتنجس واسطة في نقل النجاسة من الأعيان المنجسة له إلي الأعيان المتنجسة، و ليس الانفعال به لملاك قائم به مباين لملاك النجاسة المنجسة له. و لا أقل من الشك المانع من الاستدلال.

و ثانيا: بأنه لا مجال للجمود علي خصوصية البول و الجنابة المذكورين في الموثق، فلا بد من حمل ذكرهما علي مجرد التمثيل و الإشارة لمطلق ما يوجب التنجس، و لو لكونهما مورد الابتلاء للجنب غالبا، الذي قد يتوهم عدم جواز إدخاله اليد في الماء مطلقا و إن كانت طاهرة، فلا يصلح الموثق لشرح ما يوجب التنجيس، بل يرجع في ذلك للأدلة الأخر، التي تقدم دلالتها علي الانفعال بكل ما يصدق عليه أنه نجس، و لو كان متنجسا من غير فرق بين أقسامه.

و عليه لا مجال للتفصيل المذكور، خصوصا بعد ما عرفت من صعوبة التفكيك المذكور، فإنه يوجب ارتفاع الوثوق بأصالة الظهور في الموثق لو تمَّ ظهوره في نفسه، فيسقط عن الحجية. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) فقد ادعي في الجواهر الإجماع علي عدم سراية النجاسة من الأسفل إلي الأعلي، و في المقابس: «فإنهم حكوا الإجماع علي عدم سراية النجاسة من الأسفل مطلقا»، و حكي شيخنا الأعظم قدّس سرّه دعواه عن روض الجنان و العلامة الطباطبائي قدّس سرّه في مصابيحه، ثمَّ قال قدّس سرّه: «و هو في الجملة مما لا ريب فيه».

و قد يوجه بما ذكره بعض مشايخنا و أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الماء و إن كان متحدا حقيقة إلا أنه متعدد عرفا، فلا تشمله أدلة الانفعال، لاختصاصها بالماء الواحد.

و فيه: أنه لو تمَّ التعدد العرفي بين ما يكون التدافع منه و ما يكون التدافع

ص: 85

______________________________

إليه، كماء السطح و الأرض في المثال المذكور في المتن، فلا يتم في الخط الواصل بينهما كالخط المتصل بالميزاب و الأرض لو فرض تنجس أسفله.

علي أن التعدد إنما يمنع من انفعال أحد المائين بالنجاسة الواقعة في الآخر، و لا يمنع من انفعال أحدهما بالاتصال بالآخر، نظير الحوضين المتصلين بأنبوب ضعيف، إلا بناء علي عدم تنجيس المتنجس.

فالعمدة في وجه عدم الانفعال قصور أدلته عن شمول المقام، إذ الأدلة الخاصة واردة في الإناء و النور و الركوة و نحوها مما ينصرف أو يختص بصورة استقرار الماء و عدم تدافعه.

و أما الأدلة العامة فالعمدة فيها روايات الكر، و قد تقدم في آخر مبحث انفعال الماء القليل أنها محمولة علي الانفعال بالطرق العرفية الارتكازية، و هي الموجبة للاستقذار عندهم، و من الظاهر عدم كون الملاقاة مع التدافع موجبة للانفعال بنظرهم، بل هي قاصرة عن التأثير في المتدافع منه، كما هو الحال في قذاراتهم.

و أما الاستدلال عليه- كما في المقابس- بأنه لولاه لامتنع التطهير بالماء القليل.

ففيه: أنه لا إشكال في إمكان التطهير به حتي مع عدم التدافع، كما في غسل الثياب في المركن.

و بما ذكرنا يظهر وجه تعميم الحكم في المتن لصور التدافع الثلاث، و عدم الاقتصار علي صورة التدافع من الأعلي إلي الأسفل التي هي معقد إجماعاتهم.

لعموم الارتكاز المشار إليه لجميع الصور المذكورة.

بل لا يبعد كونه قرينة علي إلغاء خصوصية العنوان المذكور حتي في كلماتهم، فبقية الصور داخلة في الإجماع لبا، و إن لم تدخل فيه لفظا، و إلا فمن البعيد جدا التزامهم بالانفعال فيها مع منافاته للارتكاز المذكور و كثرة الابتلاء بها.

ص: 86

بقوة (1)، فالنجاسة تختص حينئذ بموضوع الملاقاة (2)،

______________________________

(1) ظاهره اعتبار قوة الدفع، كما صرح به بعض مشايخنا، بل ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن المتيقن من الإجماع صورة التسنيم و ما يشبهه من التسريح، و أن المرجع في غيرهما عموم الانفعال، لصدق وحدة الماء.

بل شكك في الجواهر عموم كلماتهم لمثل انكفاء الإناء علي الأرض النجسة، الذي هو يستلزم غالبا مرتبة معتدا بها من التدافع.

لكن الظاهر كفاية التدافع بالمقدار الذي يصدق معه الجريان عرفا، بحيث يري العرف عدم استقرار الماء، لما أشرنا إليه من الارتكاز، و التشكيك فيه هنا- كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه- في غير محله.

و لا أقل من الشك في عموم أدلة الانفعال، فيرجع لأصالة الطهارة، كما نبه له صاحب الجواهر و سيدنا المصنف قدّس سرّهما. و لا يهم مع ذلك قصور الإجماع.

علي أن عمومه قريب جدا، بقرينة الارتكاز المذكور، الموجب للغفلة عن الانفعال في مثل ذلك.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه فيظهر الإشكال فيه مما تقدم من عدم كون وحدة الماء عرفا معيارا في المقام.

نعم، إذا كان التدافع و الجريان ضعيفا جدا بحيث يصدق الاستقرار عرفا لم يبعد عن الارتكاز البناء علي الانفعال. فلاحظ.

(2) يعني: و لا تسري إلي الجهة التي يتدافع منها إليه، و إن كانت تسري في مجموع ما لا تدافع فيه من موضع الملاقاة بلا إشكال، كالماء المتجمع من الميزاب في الحفر.

ثمَّ إن ما ذكر لا يختص بالماء، بل يجري في غيره من المائعات من أقسام الماء المضاف و غيره كاللبن و الزيت و غيرهما، لعين ما ذكرنا من الوجه.

ص: 87

و لا تسري إلي غيره، سواء كان جاريا من الأعلي إلي الأسفل (1)، كالماء المنصب من الميزاب إلي الموضع النجس، فإنه لا تسري النجاسة إلي أجزاء العمود المنصب، فضلا عن المقدار الجاري علي السطح، أم كان متدافعا من الأسفل إلي الأعلي (2)، كالماء الخارج من الفوارة الملاقي للسقف النجس، فإنه لا تسري النجاسة إلي العمود و لا إلي ما في داخل الفوارة، و كذا إذا كان متدافعا من أحد الجانبين إلي الآخر.

و أما الكثير الذي يبلغ الكر فلا ينفعل بملاقاة النجس فضلا عن المتنجس (3)،

______________________________

(1) تقدم أن هذا هو معقد إجماعاتهم المدعاة في المقام.

(2) تقدم أن هذه الصورة و ما بعدها و إن خرجتا عن معقد إجماعاتهم لفظا، إلا أنه لا يبعد دخولهما في مرادهم بقرينة الارتكاز الذي هو الدليل في جميع الصور.

(3) الظاهر أنه في الجملة لا خلاف فيه، بل صرح في الجواهر بأن عليه الإجماع المحصّل و المنقول، و في مفتاح الكرامة: «و قد نقل الإجماع جماعة كثيرون علي عدم نجاسته».

و يقتضيه النصوص الكثيرة «1» التي تقدم بعضها في مبحث انفعال القليل، و يظهر من بعضها المفروغية عن الحكم «2». و يظهر من غيرها من النصوص دخل الكثرة في انفعال الماء و إن لم يصرح فيها بالكريه، فتحمل عليها جمعا، كصحيح صفوان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «عن الحياض التي بين مكة و المدينة، تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب، و تشرب منها الحمير، و يغتسل فيها الجنب، و يتوضأ منها. قال:

______________________________

(1) راجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 88

______________________________

و كم قدر الماء؟ قال: إلي نصف الساق و إلي الركبة. قال: توضأ منه» «1»، و موثق أبي بصير عنه عليه السّلام: «و لا تشرب من سؤر الكلب إلا أن يكون حوضا كبيرا يستقي منه» «2». و كذا الحال في المطلقات الواردة في الغدران، و الحياض، و الماء النقيع، و ماء الطريق و نحوها مما تضمن عدم انفعاله إلا بالتغير، كما تقدم التعرض لبعضها.

و أما موثق سماعة عن أبي بصير: «سألته عن كر من ماء مررت به و أنا في سفر قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان؟ قال: لا توضأ منه و لا تشرب منه» «3».

فلا بد من حمله علي التغير- كما عن الشيخ قدّس سرّه- أو علي الكراهة، لاشتماله علي ما ليس بنجس، كما احتمله في الوسائل.

هذا، و المعروف المشهور عدم الفرق بين جميع المياه في ذلك، و عن ظاهر المفيد في المقنعة و سلار في المراسم استثناء ما في الأواني و الحياض و الحكم بنجاسته حتي مع الكثرة، و عن ظاهر النهاية ذلك في الأواني.

و لم يتضح وجهه بعد عموم كثير من نصوص الكر، و ظهورها في أن المدار علي كمية الماء من دون دخل لمحله، و خصوص ما ورد في الحياض، كصحيح صفوان المتقدم و غيره، و مرسل عبد اللّٰه بن المغيرة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: الكر من الماء نحو حبي هذا، و أشار إلي حب من تلك الحباب التي تكون بالمدينة» «4».

فتأمل.

و لعله لأجل ذلك رمي القول المذكور بالشذوذ- كما قيل- و حمل- كما عن المنتهي- علي الكثرة العرفية، لا ما يكون بقدر الكر.

تنبيه: الظاهر توقف سريان النجاسة مع القلة و الاعتصام مع الكرية علي سيلان الماء، فلو كان جامدا لحقه حكم سائر الأمور الجامدة من انفعال موضع

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 89

إلا إذا تغير (1)

______________________________

الملاقاة فقط و عدم اعتصامه بالكريه، كما لا يكون متمما للكر، كما صرح به غير واحد.

كل ذلك لاختصاص أدلة الأحكام المذكورة بالماء، و السيلان مأخوذ في مفهومه و إن لم يكن دخيلا في حقيقته، و هو المطابق لارتكاز دخله في الأحكام المذكورة.

و لا وجه للإشكال في اعتبار السيلان في العاصمية- كما في القواعد و عن التحرير- فضلا عن الجزم بعدم اعتبارها فيه- كما عن المنتهي و الحواشي المنسوبة للشهيد- و لا سيما مع الحكم بعدم السريان مع القلة، بل يلحقه حكم الجامد من إلقاء ما يكتنفه.

إذ مع فرض اختصاص الماء بالسائل لا وجه للأول، و مع فرض عمومه للجامد لا وجه للثاني.

اللهم إلا أن يكون الوجه فيه ما ورد في الدهن و نحوه «1» إذا كان جامدا بدعوي: أن عدم سريان النجاسة فيها مع الجمود يقتضي عدم سريانها في الماء معه، لأولويته في الطهارة. فتأمل.

(1) فإنه ينجس بلا خلاف ظاهر، بل في الجواهر: «عليه الإجماع محصلا و منقولا كاد يكون متواترا، بل في المعتبر أنه مذهب أهل العلم كافة، و في المنتهي أنه قول كل من يحفظ عنه العلم».

و تقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «2»، و صحيح عبد اللّٰه بن سنان: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المضاف و المستعمل، و باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة و غيرهما.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 90

بلون النجاسة أو طعمها أو ريحها (1)

______________________________

حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ» «1» و غيرهما.

فيتعين رفع اليد بها عن عموم نصوص الكر و إن كان بين الطائفتين عموم من وجه، إذ لا مجال لحمل نصوص التغير علي ما دون الكر بعد ظهور كثير منها في كثرة الماء بنحو يمتنع حمله علي ما دون الكر، و لو لأنه الفرد النادر، خصوصا مثل صحيح عبد اللّٰه بن سنان المتقدم الظاهر في اعتبار كون الماء قاهرا، علي ما يتضح بمراجعة ما تقدم عند الكلام في أدلة الانفعال.

بل لما كان بعض نصوص انفعال القليل صريحا في انفعاله بمجرد الملاقاة من دون تغير، فحمل نصوص التغير علي القليل موجب للغويتها، لوضوح تأخر التغير عن الملاقاة، فلا يستند الانفعال له.

و بالجملة: لا ريب في لزوم حمل نصوص اعتصام الكر علي غير صورة التغير بأن تحمل علي الاعتصام من الانفعال بمحض الملاقاة الثابت فيما دون الكر.

هذا، و يأتي إن شاء اللّٰه تعالي أن انفعال الماء بالتغير يعم جميع أقسام الماء، و لا يختص بالراكد، و هو مورد إجماع الجواهر المتقدم.

(1) ظاهرهم عدم الفصل بين الصفات الثلاث في الانفعال، إلا ما حكاه في الجواهر عن بعض المتأخرين من التشكيك في الانفعال بالتغير اللوني، لكن ذكر أنه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، بل هو من قبيل التشكيك في الضروري.

و كيف كان، فالأمر في الريح ظاهر، لتظافر النصوص به، و كذا في الطعم، لاشتمال كثير من النصوص عليه، كصحيح ابن بزيع عن الرضا عليه السّلام: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتي يذهب الريح و يطيب

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 91

______________________________

طعمه، لأن له مادة» «1» و غيره، و بها ترفع اليد عن ظهور بعض النصوص في الحصر بالريح، كصحيح ابن سنان المتقدم و غيره. و لا سيما مع ورود تلك النصوص في الميتة و الجيفة التي تغير الريح قبل غيره من الصفات.

و أما اللون فقد يستدل عليه.

تارة: بما ذكره بعض مشايخنا من ملازمة التغير به للتغير بالريح و الطعم.

و اخري: بإطلاق التغير في مثل صحيح ابن بزيع عن الرضا عليه السّلام: «قال: ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلا أن يتغير» «2»، قال في الجواهر: «فإنه لا ريب في شمولها للتغير اللوني، بل قد يدعي أنه أظهر الأفراد». و لا سيما مع اشتمال بعضها- كخبر أبي بصير «3» - علي الدم الذي يكون لونه أظهر صفاته.

و ثالثة: بالنصوص المتضمنة له بالخصوص كالنبوي: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» «4»، و خبر العلاء بن الفضيل:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الحياض يبال فيها؟ قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول» «5»، و ما في صحيح شهاب بن عبد ربه عنه عليه السّلام: «قلت: فما التغير؟ قال:

الصفرة» «6»، و غيرها.

لكن الأول: إن تمَّ رجع إلي عدم الانفعال بالتغير اللوني، لسبق الانفعال بغيره. علي أنه غير ظاهر في مثل الدم مما يشتد لونه، إذ لا يبعد كون تغيره به أسبق.

و الثاني: إنما ينفع في قبال أصل الطهارة، لا في قبال ظهور بعض النصوص في الاختصاص بالريح و الطعم- كصحيح ابن بزيع المتقدم- لصلوحها لتفسير التغير

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(6) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 92

______________________________

و حمله عليهما. فتأمل.

و أما الثالث: فهو موقوف علي حجية النصوص المذكورة لتنهض برفع اليد عن مثل صحيح ابن بزيع المتقدم.

و قد تقدم في مبحث عموم مطهرية الماء الإشكال في حجية النبوي.

كما أن خبر العلاء بن الفضيل ضعيف بمحمد بن سنان، و كذا بقية النصوص المشار إليها.

إلا صحيح شهاب حيث لا غمز فيه ظاهرا، لروايته في بصائر الدرجات بسند صحيح.

و طريق الوسائل إلي كتاب البصائر صحيح بناء علي وثاقة أحمد بن محمد ابن يحيي العطار، كما تقدم في مسألة عدم قدح الصغائر في العدالة «1».

علي أن كتاب بصائر الدرجات من الكتب المعروفة التي لا تحتاج إلي إسناد، و إنما يذكر السند لها لمحض التعبد، أو التبرك باتصال السند بالمعصومين عليهم السّلام.

و لا سيما مع تأيد الصحيح ببقية الأخبار خصوصا خبر علاء بن الفضيل الذي لا يخلو عن اعتبار، لأن ابن سنان و إن ضعّف إلا أنه لا يبعد وثاقته في نفسه [2]، و أن منشأ الطعن فيه روايته لمضامين توهم الغلو، و لا سيما مع وقوعه في أسانيد كثير من روايات الأعيان الطاعنين عليه و غيرهم، إذ لا أقل من وثوقهم بالروايات المذكورة لقرائن خاصة.

هذا، مع أن تسالم الأصحاب علي عدم الفرق بين الصفات الثلاث كاف في جبر هذه النصوص لو فرض فيها شي ء من الضعف. فلاحظ.

______________________________

[2] يأتي في المسألة السابعة عشرة عند الكلام في تحديد الكر بالمساحة تفصيل الكلام في محمد بن سنان و تقريب توثيقه. منه عفي عنه.

______________________________

(1) مصباح المنهاج- الاجتهاد و التقليد: 242.

ص: 93

تغيرا فعليا (1).

______________________________

(1) يعني: و لا يكفي التغير التقديري، كما هو المصرح به في كلام جمع، و عن الذكري و الروض أنه ظاهر المذهب، و في كشف اللثام أنه ظاهر الأكثر، خلافا للقواعد و محكي المنتهي و المختلف و الإيضاح من الاكتفاء بالتغير التقديري، مع احتمال العدم في الأخيرين، و في جامع المقاصد و عن مجمع الفائدة و محكي المهذب أنه أرجح و أقرب للاحتياط.

هذا، و من الظاهر أن التغير المذكور في النصوص و كلمات الأصحاب لإيراد به ما يعم التغير الواقعي الدقي الذي ليس من شأنه الظهور للحس لضعفه، لظهور كون المراد بالنصوص في المقام و غيره- مما يتضمن أخذ عنوان خاص في موضوع حكم عملي- الإشارة إلي أمر يتعارف الاطلاع عليه، ليترتب عليه العمل.

بل لا ينفك عن التغير بالنحو المذكور وقوع كثير من النجاسات في الماء، كالبول و الدم و العذرة و الجيفة مع صراحة النصوص في التفصيل بين التغيير و عدمه، فلو أريد بالتغيير ما يعم ذلك لم يكن للتفصيل المذكور مجال.

و بعد أن كان ظاهر الأدلة هو التغير القابل للإدراك بالحس يقع الكلام في أن المدار في التغير المذكور علي وجوده الفعلي، أو علي تقدير وجوده و إن لم يوجد فعلا لجهات خاصة.

و توضيح ذلك أن عدم ظهور التغير في الماء لأحد أمور:

الأول: قصور النجاسة عن التأثير.

تارة: لقصور في نوعها بحيث لو وقعت نجاسة من نوع آخر لأوجبت التغير، كالبول الذي لا يوجب مقدار خاص منه تغيير لون الماء و إن أوجبه ذلك المقادر من الدم.

و اخري: لقصور في شخصها لفقده الوصف، أو لضعف الوصف فيه، إما بحسب أصله، أو لطارئ عليه بعد وجوده.

ص: 94

______________________________

الثاني: قصور الماء عن أن يتأثر بالنجاسة، و هو:

تارة: يكون لاشتماله علي ما يمنع من التأثر كالأملاح و نحوها، إما بحسب أصله عرفا كمياه الآبار، أو بإضافته إليه بوجه لا يخرجه عن الإطلاق.

و اخري: يكون لحمله قبل ملاقاة النجاسة نفس الوصف الذي تحدثه النجاسة، إما بحسب طبعه عرفا- كالمياه الكبريتية الصفراء و المياه الطينية الحمراء- أو بطروء ما يوجب ذلك فيه من الأصباغ و نحوها.

الثالث: عدم تحقق شرط التأثير، كما لو توقف تأثير النجاسة في الماء علي تعرضه للحر و نحوه مما لم يتحقق.

هذا، و لم يعرف من أحد احتمال الاكتفاء بالتقدير في الوجه الثالث، و الصورتين الأوليين من الوجهين الأولين، بل لا ينبغي الريب في ذلك في الجملة بعد النظر في النصوص، حيث لم ينبه فيها إليه مع شدة الحاجة إليه، لكثرة الابتلاء به و الغفلة عنه. فاحتمال الاكتفاء بالتغيير التقديري إنما هو في الصورة الثانية من كل من الوجهين الأولين.

أما الصورة الثانية من الوجه الأول فهي الظاهرة من العلامة قدّس سرّه و من تبعه ممن سبقت الإشارة إليه، قال في القواعد: «لو وافقت النجاسة الجاري في الصفات فالوجه عندي الحكم بنجاسته إن كان يتغير بمثلها علي تقدير المخالفة، و إلا فلا».

و أما ما في الجواهر من إمكان حمله علي الصورة الثانية من الوجه الثاني، فهو خلاف ظاهره، حيث كان المناسب أن يقول: إذا وافق الجاري النجاسة. إلخ.

فاختصاصه بالصورة التي ذكرناها أو عمومه لها مما لا ينبغي أن ينكر.

نعم، لا يشمل تمام أقسامها، بل يختص بصورة فقد الوصف، بل يظهر من الجواهر اختصاصه بصورة فقد الوصف بعد وجوده، لا فقده بحسب الأصل، حيث يظهر منه المفروغية عن عدم التقدير فيه و في صورتي ضعف الوصف، بل نقل عن المصابيح الإجماع علي ذلك.

و كيف كان، فقد يستدل للتقدير في ذلك بوجوه عمدتها: ان أخذ التغيير

ص: 95

______________________________

ليس لدخله بنفسه في التنجيس، بل لكشفه عن غلبة النجاسة علي الماء، و ذلك يقتضي الاكتفاء بكون النجاسة بالمقدار الموجب للتغيير و إن لم يتحقق فعلا لفقدها للوصف.

و ربما يشير لذلك ما عن المنتهي، حيث قال: «بلوغ الكرية حد لعدم قبول التأثير عن الملاقي إلا مع التغير، من حيث أن التغير قاهر للماء عن قوته المؤثرة في التطهير. و هل التغير علامة علي ذلك و الحكم يتبع الغلبة أم هو المعتبر؟ الأولي الأول. فلو زال التغير من قبل نفسه لم يزل عنه حكم التنجيس».

و فيه: أنه إن أريد بالغلبة استيلاء النجاسة علي الماء بسبب تأثيرها فيه- كما قد يظهر من عبارة المنتهي المتقدمة بقرينة التفريع- فهو مساوق لاعتبار التغير و لا ينفع في إثبات الانفعال مع عدم فعليته.

و إن أريد بها ما ينتزع من صلوح النجاسة للتأثير، لا من فعلية التأثير فهو عين المدعي. مع أنه لا ينفع في إثبات الانفعال في مورد الكلام، لعدم شأنية النجاسة الملاقية للماء للتأثير فيه.

و إن أريد بها كون النجاسة بكمّ خاص يقتضي التغيير و لو مع عدم فعلية التأثير، فهو- مع مخالفته لظهور الأدلة في دخل التغير بنفسه واقعا لا بلحاظ كشفه عما هو الدخيل- مما يقطع ببطلانه، ضرورة اختلاف كمية النجاسة المغيرة باختلاف أنواع النجاسات و أفرادها و أنواع المياه و أفرادها، و اختلاف الظروف من الحر و البرد و غير ذلك مما لا مجال معه لحمل نصوص التغير علي اعتباركم خاص.

مع أن الغلبة بالنحو المذكور تقتضي الانفعال في أكثر الصور المتقدمة أو جميعها، و لم يظهر منهم البناء علي ذلك، بل عرفت دعوي الإجماع علي عدم الانفعال في بعضها، و هو المقطوع به من النصوص في بعض آخر.

و هناك بعض الوجوه ظاهرة الوهن. مثل ما عن المختلف من أن النجاسة تدور مدار الأوصاف، فإذا فقدت وجب تقديرها.

ص: 96

______________________________

و أن ظاهر النصوص استناد التنجيس للنجاسة، و ليس التغير إلا علامة لها، و أنه لو لم يبن علي التقدير لزم عدم الانفعال و لو زادت النجاسة علي الماء أضعافا مضاعفة.

لاندفاع الأول: بأنه بظاهره عين الدعوي، بل مقتضي دوران النجاسة مدار الأوصاف عدمها عند عدمها.

و الثاني: بأن التنجيس لا يستند لمطلق النجاسة، بل لخصوص المغيّر منها، فلا يحصل مع عدم فعلية التغيير. إلا أن يرجع هو و ما قبله للوجه الأول، الذي عرفت الجواب عنه.

و يندفع الثالث: بأنه استبعاد في فرض لا واقع له، لأن ذلك يخرج الماء عن الإطلاق، فيخرج عن محل الكلام.

و كأن هذا الوجه هو الذي دعا إلي القول بالتقدير، و لعله لذا قال في محكي حاشية المدارك: «و لعل القائل بالتقدير مطمح نظره مثل البول الممزوج بالماء، و إلا فاعتبار التقدير في مثل الميتة في ماء البئر و ما ماثل الميتة فاسد قطعا.».

و بالجملة: لا مجال للبناء علي التقدير في ذلك بعد مخالفته لظاهر الأدلة، بل هي آبية عنه جدا بعد ملاحظة شدة الاختلاف بين أفراد النجاسات في الأوصاف بنحو ليس هناك ضابط عرفي يمكن دعوي إشارة النصوص إليه غير التغير الفعلي.

و أما الصورة الثانية من الوجه الثاني، فالظاهر شيوع القول فيها بالانفعال بين المتأخرين، و في الجواهر أنه نقل أنه أفتي به كل من تعرض له، و عن الحدائق أنه قطع به متأخرو الأصحاب من غير خلاف معروف في الباب، و ظاهر جامع المقاصد أنه لا تردد فيه حتي ممّن تردد في الاكتفاء بالتقدير فيما سبق.

و قد أشار غير واحد إلي وجهه، ففي محكي المدارك: «لو خالفت النجاسة الجاري في الصفات لكن منع من ظهورها مانع- كما لو وقع في الماء المتغير بطاهر أحمر دم مثلا- فينبغي القطع بنجاسته، لتحقق التغير حقيقة، غاية الأمر أنه مستور

ص: 97

______________________________

عن الحس»، و نحوه في جامع المقاصد و عن المعالم، و حكي نحو ذلك في الجواهر عن المصابيح، و زاد: «بل قد يقال: إنه لا بد أن تؤثر النجاسة فيه اشتدادا، فيتحقق التغير فيه حسا».

و مع هذا فقد أنكر ذلك في الرياض مدعيا عدم الفرق بينه و بين ما إذا كان عدم التغير لقصور في النجاسة، و وافقه غير واحد منهم شيخنا الأعظم قدّس سرّه و سيدنا المصنف قدّس سرّه.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعد أن تعرض لكلام مدعي حصول التغير: «لا خفاء في امتناع تلون محل واحد شخصي بلونين، و قد عرفت أن تلون الماء بالنجاسة لا يكون إلا مع تأثيرها فيه فعلا، و أنه لو فرض ممازجة جسمين متساويين في اللون لم يصر أحدهما منفعلا بلون الآخر، بل كل جزء من المجموع مركب من جزئين، لون كل منهما قائم بنفسه غير مؤثر في الآخر، لامتناع الترجيح بلا مرجح. فلا أجد معني لظهور وصف النجاسة، و تحقق التغير، و الاستيلاء، و دعوي استتاره عن الحس، و لا لما ذكر من أنه لا بد من تأثير النجاسة اشتدادا في لون الماء الموافق، و قد مثلنا لك أن زيادة اللبن علي اللبن لا تؤثر في بياضه».

و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لامتناع اجتماع المثلين كالضدين، فإذا كان الماء متلونا بمثل لون النجاسة كيف يتلون بلونها؟».

و الظاهر أن كلا طرفي النزاع قد نقل في مقام الاستدلال إلي ما لم ينظر إليه الآخر.

و توضيح ذلك: أن حمل الماء الصفة من النجاسة و تغيره.

تارة: يكون بسبب تفاعلها معه و إن لم تختلط به، كالميتة المغيرة لرائحة الماء و إن لم تختلط به.

و اخري: يكون بتوسط انبثاثها فيه من دون تفاعل، كالبول الأصفر الموجب لاصفرار الماء باختلاطه به.

أما في القسم الأول فحمل الماء للوصف سابقا لا يمنع من تغيره بالنجاسة،

ص: 98

______________________________

ضرورة أن اجتماع العلل علي معلول واحد فيما يقبل التأكد- كالأوصاف المذكورة- يوجب التأكد، و هو نحو من التغير.

و أما في الثاني فإن كان الوصف في النجاسة أشد منه في الماء أوجبت الزيادة المذكورة شدة الوصف في الماء.

و إن كان وصف النجاسة أخف من وصف الماء أثرت النجاسة في الماء تخفيف الوصف، لاشتراكها معه فيما كان يمتاز به من الزيادة.

و إن كانا متساويين في الوصف بحسب المرتبة تعين عدم تغير الماء بالنجاسة، لانشغال كل منهما بوصفه من دون زيادة له لينقلها إلي ما يختلط به.

نعم، لو فرض خلو الماء عن الوصف لتأثر بوصف النجاسة و أخذ منه بسبب انبثاثها فيه، و خف الوصف فيهما، إلا أن هذا محض تقدير.

و كأن من ادعي تحقق التغير نظر إلي القسم الأول و الوجه الأول من القسم الثاني، و من أنكره نظر إلي الوجه الثالث من القسم الثاني، كما يشهد به ما سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و كيف كان، فاللازم التفصيل بين الوجهين- كما قد يظهر من الجواهر- فما يكون موجبا لشدة الوصف يحكم بانفعال الماء به، لأنه نحو من التغير الفعلي، فيدخل في إطلاق الأدلة، من دون فرق بين ظهوره للحس لقوة أثر النجاسة، و خفائه عليه بسبب شدة الوصف الأول في الماء و ضعف أثر النجاسة، فإن ذلك قد يوجب صعوبة التمييز بين حالي الماء قبل تأثير النجاسة و بعده، إلا أنه من باب التباس الأمر علي الحس لتشبعه بالوصف السابق، لا لعدم صدق التغير عرفا.

نعم، يتعين البناء علي عدم الانفعال لو كانت الشدة بمرتبة ضعيفة، بأن يكون عدم إدراك العرف لها لعدم اعتدادهم بها، بحيث لا تكون بنظرهم موجبة لصدق التغير بالإضافة لذلك الماء- و إن فرض صدقه بالإضافة إلي الماء الصافي، إذ لا يبعد اختلاف حالات الماء في مقدار الوصف الذي يصدق معه التغير عرفا- لما تقدم في أول الكلام من قصور النصوص عن التغير الدقي و اختصاصها بالعرفي.

ص: 99

______________________________

و الفرق بينه و بين ما ذكرنا أن عدم ظهور التغير للحس فيه لقصور في نفس التغير، و عدم ظهوره فيما ذكرنا لقصور في الحس عن إدراكه للمانع من ظهوره مع صلوحه للظهور، نظير الظلام، و لا دليل علي قادحية ذلك بعد شمول إطلاقات التغير.

و بالجملة: المعتبر فعلية التغير، كما هو مقتضي الأدلة، لا فعلية الظهور للحس، لعدم الدليل عليه، و إنما اعتبرت شأنية الظهور للحس لتحديد التغير المستفاد من الأدلة اعتباره.

و لعل هذا هو مراد الشهيد قدّس سرّه، حيث قال في محكي البيان: «و المعتبر في التغيير المحسوس به لا التقدير، إلا أن يكون الماء مشتملا علي صفة تمنع من ظهور التغيير، فيكفي التقدير».

بل لا يبعد كونه مرادا لجميع من علّل بتحقق التغير و عدم ظهوره، و إن كانت أمثلتهم قد تعم غير ذلك. بل من البعيد جدا أن يكون مراد المانع من الاكتفاء بالتغيير التقديري ما يعم هذه الصورة.

و أما ما لا يوجب شدة الوصف- و هو الوجه الثالث من القسم الثاني- فاللازم البناء علي عدم الانفعال به، لقصور النصوص عنه و ظهورها في التغير الفعلي المفروض عدم تحققه.

و ربما يوجه القول بالانفعال بوجوه كثيرة، عمدتها وجهان.

الأول: ما أشار إليه غير واحد من مشايخنا [1] من أن التغير موجود حقيقة، لأن انتقال اللون للماء ليس إلا بسبب انبثاث أجزاء الجسم المتلون في الماء، فيري معه، و ذلك موجود في المقام، لأن المفروض انبثاث أجزاء النجاسة في الماء و إن لم يمكن تمييزها بسبب تلونه قبلها، فالمقام من باب وجود المانع عن ظهور التغير للحس، لا من باب عدم فعليه التغير.

و فيه: أن ذلك إنما يتم بحسب النظر الدقي، لا العرفي، و إلا فالعرف يري أن

______________________________

[1] الشيخ حسين الحلي، و السيد أبي القاسم الخوئي دامت بركاتهما. منه عفي عنه.

ص: 100

______________________________

انبثاث الجسم المتلون في الماء سبب لاتصاف الماء باللون، و لا يرونه في المقام موجبا لذلك بنحو يصدق معه تغير الماء الذي هو المأخوذ في الأدلة.

الثاني: ما أشار إليه المحقق التستري في المقابس من أنه لو فرض في محل الكلام تخليص الماء من اللون الأول لظهر لون النجاسة، و لا بد معه من الحكم بنجاسته، مع ظهور أن الأثر المذكور الموجب للنجاسة إنما حدث قبل التصفية، فلا بد أن يؤثر النجاسة من حين حدوثه و إن منع المانع من ظهوره.

و فيه: أن حدوث الأثر المذكور و إن كان سابقا علي تخليص الماء من اللون الأول، إلا أنه لا يصحح عرفا نسبة التغيير للنجاسة إلا بعد التخليص من اللون الأول، فيترتب حكمه- و هو التنجيس- حينئذ.

نعم، ما مثّل به قدّس سرّه من فرض اللون الأول بطين أحمر قد يكون خارجا عما نحن فيه، لأن اختلاط الماء بالطين- كاختلاطه بالرمل- لا يصحح عرفا نسبة لونه بالماء و إن أوهمه، بل هو بنظرهم محض خلط، نظير خلط مسحوق الفحم بالنورة، لا يوجب تلون النورة و إن أوهمه بسبب صعوبة التمييز بينهما، و حينئذ لا يمنع عرفا من نسبة التغيير للنجاسة و إن لم يظهر، نظير ما سبق في القسم الأول.

إلا أن يكون احمرار الطين بنحو يجعله صبغا لتأثيره في الماء و إن صفي بركوده كما لا يبعد ذلك في مثل الطين الأرمني، و إن كان تشخيص ذلك لا يخلو عن صعوبة، و الأمر سهل بعد رجوعه إلي تنقيح الصغري الذي لا يهم في محل الكلام.

و هناك بعض الوجوه الأخر تعرض لها في المقابس، و أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في نقلها و ردّها بما لا مجال لاستقصائه، و هي بين ما يبتني علي استبعادات محضة، أو قضايا غير مسلّمة، أو فهم الأدلة بوجه غير ظاهر. فراجع.

و الحاصل: أنه لا مجال في مثل ذلك للبناء علي التقدير بعد خروجه عن ظاهر الأدلة، بل لا ينبغي الريب فيه في الجملة بلحاظ ما هو المعلوم من اختلاف

ص: 101

______________________________

أنواع المياه في الطعوم و الألوان، بل الروائح، كمياه الآبار المالحة، و مياه الكبريت الصفراء و غيرها.

و من الظاهر دخل ذلك في تغير الماء بالنجاسة عرفا، فالاكتفاء في النصوص بالتغير الظاهر في الفعلي العرفي و عدم التنبيه علي التقدير مع الابتلاء بالمياه المذكورة موجب لقوة ظهور النصوص في عدم الاكتفاء بالتقدير.

و لعل هذا هو الذي دعا المحقق الخونساري قدّس سرّه علي ما حكي عنه إلي عدم اعتبار التقدير فيما لو كان وصف الماء أصليا، كما في المياه الكبريتية، و اعتباره فيما لو كان الوصف عارضا بصبغ و نحوه.

و إن كان هو أيضا في غير محله، بل يتعين عدم الاعتبار بالتقدير مطلقا في الفرض، عملا بظاهر الأدلة.

نعم، الظاهر عدم الأثر لذلك أو ندرته، لملازمته غالبا لكون الماء مضافا، لأن الكلام في النجاسة التي من شأنها أن تغير الماء لو لا اتصافه بمثل وصفها.

و من الظاهر أن تغير الماء بمحض الخلط بالنجاسة موقوف إما علي كثرتها أو علي شدة وصفها، و الأول ملازم غالبا لصيرورة الماء مضافا بالخلط.

و أما الثاني فحيث كان المفروض مساواة الماء للنجاسة في مرتبة الوصف فهو ملازم غالبا لكون الماء مضافا قبل الخلط. فتأمل.

بقي الكلام في الصورة الثانية من القسم الثاني، و هي التي تكون النجاسة فيها موجبة لتخفيف الوصف، و ربما تكون خارجة عن كلام الكل.

و لا يبعد البناء فيها علي الانفعال، لصدق التغير الكاشف عن استيلاء النجاسة علي الماء و غلبتها له، إذ لا فرق فيه بين نقل النجاسة للماء من وصفه الأصلي إلي وصف طارئ، و نقلها له من وصفه الطارئ إلي وصفه الأصلي، حتي لو قيل باعتبار التغير بخصوص وصف النجاسة- علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة الخامسة- لأن المراد من تغيره بوصفها مفارقته لصفته و أخذه لصفتها، و إن كان

ص: 102

مسألة 1 إذا كانت النجاسة لا وصف لها

مسألة 1: إذا كانت النجاسة لا وصف لها (1)، أو كان وصفها يوافق وصف الماء (2) لم ينجس الماء بوقوعها فيه (3)، و إن كان بمقدار بحيث لو كان علي خلاف وصف الماء لغيّره.

مسألة 2 إذا تغيّر الماء بغير اللون و الطعم و الريح

مسألة 2: إذا تغيّر الماء بغير اللون و الطعم و الريح، بل بالثقل أو الثخانة أو نحوهما لم ينجس أيضا (4).

______________________________

بنحو أخف، ففي ظرف حمرة النجاسة و صفاء الماء يكون تغيره بصفتها بتلونه بالحمرة ببعض مراتبها، و في ظرف شدة حمرته و خفة حمرتها يكون تغيره بصفتها بتغيره من الحمرة الشديدة إلي الحمرة الخفيفة، و مثلها في ذلك النجاسة الفاقدة للصفة.

نعم، لا بد من كون التغير بالنحو المعتد به عرفا مع ظهوره للحس أو التباسه عليه، و لا يكفي مجرد التغير الدقي، علي ما تقدم في نظيره. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

(1) تقدم أن هذه الصورة هي مورد كلام العلامة و من تبعه، و أن عدم الاعتبار بالتقدير فيها في محله.

(2) بأن يكون الماء حاملا لوصف مشترك بينه و بين النجاسة، و تقدم أن هذه الصورة هي مورد كلام جماعة من المتأخرين. و أن اللازم البناء فيها علي الانفعال مع حصول التغير بشدة الوصف في الماء أو خفته، و إن التبس علي الحس. إلا أن يكون عدم الظهور للحس لعدم التغير أصلا، أو لكونه دقيا غير عرفي.

(3) يعني: و مضي المدة التي يتوقف عليها التغير مع اختلاف الوصف.

(4) كما هو المصرح به في القواعد و غيرها، و هو الظاهر من كل من اقتصر علي ذكر الصفات الثلاث، و في كشف اللثام: «و أما عدم اعتبار سائر الأوصاف فكأنه لا خلاف فيه» و في المقابس: «و هو موضع وفاق، كما يظهر منهم، و قد حكي الإجماع عليه صريحا في الدلائل و شرح المفاتيح، و ظاهرا في الناصريات و الغنية و التنقيح و الذخيرة و غيرها».

ص: 103

______________________________

و قد يستدل عليه بما تضمن حصر سبب الانفعال بالتغير في الريح و الطعم، كصحيحي ابن بزيع «1» المتقدم أحدهما و غيرهما، و الخروج عن الحصر المذكور باللون لأدلته المتقدمة لا يقتضي الخروج عنه في غيره، فيرفع اليد بذلك عن إطلاق التغير في صحيح ابن بزيع الثالث المتقدم، و خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «أنه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب. فقال: إن تغير الماء فلا تتوضأ منه، و إن لم تغير أبوالها فتوضأ منه. و كذلك الدم و أشباهه» «2».

لكن كما يمكن ذلك يمكن الجمع بإلغاء الحصر في نصوص التغير بالصفات، بقرينة اختلافها في تعدادها بنحو يناسب إلغاء خصوصية كل منها و حملها علي الحصر بلحاظ أصل التغير، فلا تنافي الإطلاق المذكور.

نعم، لو كان النبوي حجة كان ظهوره في الحصر بالصفات المذكورة محكما علي الإطلاق بلا إشكال. إلا أنه عرفت الإشكال في حجيته.

كما لا مجال لدعوي انجباره في المقام بعمل الأصحاب، لعدم ظهور اعتمادهم عليه، بل علي النصوص الأخري. بل مفروغيتهم عن عدم اعتصام غير الكر قرينة إعراضهم عنه.

هذا، و لكن إثبات الإطلاق لا يخلو عن إشكال، لقرب احتمال كون صحيح ابن بزيع مختصرا من صحيحيه الآخرين المشتملين علي التقييد بالريح و الطعم، لاشتراكهما معه في المتن، و في الإمام الذي روي عنه، و في من يروي عن ابن بزيع، و هو أحمد بن محمد، و لا سيما مع صراحة أحد الصحيحين في عدم سؤال ابن بزيع للإمام عليه السّلام و أنه كتب إلي من يسأله، لبعد تعدد السؤال مع ذلك جدا. بل من القريب كون حذف التتمة في الصحيح المذكور لنقله بالمعني، لأجل انصراف التغير إلي الأوصاف المعهودة، و كما فهمه الأصحاب، و لا يبقي مع ذلك وثوق بالإطلاق.

و أما خبر أبي بصير فهو- مع عدم خلو سنده عن الإشكال، و اشتماله علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

ص: 104

مسألة 3 إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالمجاورة للنجاسة

مسألة 3: إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالمجاورة للنجاسة لم ينجس أيضا (1).

______________________________

بول الدواب الذي لا يوجب التنجيس- لا ظهور له في الإطلاق، لوضوح أنه و إن لم يتضمن التخصيص بصفة، إلا أنه مختص بالتغير بالدم الذي يكون التغير الظاهر فيه هو التغير بالصفات الثلاث أو بعضها.

بل لا يبعد انصراف إطلاق التغير عرفا إلي الصفات المذكورة، لأنها الصفات الظاهرة عندهم، كما قد يشهد به ظهور تسالم الأصحاب علي ذلك. مع أن تعين الجمع الذي ذكرناه بين الإطلاق و نصوص الصفات لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح أقربيته من الوجه الأول بنحو يمكن الاعتماد عليه في الاستدلال، خصوصا مع قرب كون نصوص الصفات مفسرة له، لا مقيدة، لقرب انصرافه بدوا إليها. فإنه لا أقل مع جميع ذلك من الاجمال الموجب للرجوع إلي عموم الاعتصام.

ثمَّ إن الكلام إنما هو في التغير بالصفة التي لها نحو ثبوت، كالتي ذكرت في المتن، و أما الحرارة و البرودة، فلا ينبغي الإشكال في انصراف إطلاق التغير عنها، لاختصاصه عرفا بما يكون له نحو استحكام، و لذا ينصرف تغيير النار أو الشمس أو الهواء عن ذلك.

(1) كما في المبسوط و المعتبر و كشف اللثام، و عن المنتهي و التذكرة و نهاية الأحكام و الروض و المدارك، و هو منصرف إطلاق غيرهم، بل في الجواهر: «لعله لا خلاف فيه، بل مجمع عليه». و في مفتاح الكرامة: «و الأستاذ نقل الإجماع عليه في شرحه، و أن الأصحاب فهموا مباشرة النجاسة لا مجاورتها، و في الذخيرة أنه لا خلاف فيه».

و يكفي فيه قصور أدلة التغير عن شموله المقتضي للرجوع إلي عموم الاعتصام، لأنها بين ما هو مختص بملاقاة النجاسة- كما ورد في الغدير الذي فيه

ص: 105

______________________________

الجيفة و الحياض التي يبال فيها و الماء الذي يقع فيه الدم و غيرها- و ما هو مجمل من هذه الجهة، لوروده في مقام بيان شرطية التغير في الانفعال بعد الفراغ عن تمامية المقتضي له، كالنبوي «1» لوضوح أن المراد به «لا ينجسه شي ء مما يوجب التنجيس لغيره» و لا يعم ما ليس من شأنه التنجيس، كالمجاور و الطاهر، لظهور أن ذلك هو المناسب لاعتصام الماء المفروض فيه. و مثله في ذلك صحيح ابن بزيع «2» المختصر الذي تقدمت الإشارة إليه في المسألة السابقة.

و أظهر منهما في ذلك صحيحاه الآخران «3» المتضمنان تعليل اعتصام البئر بأن له مادة، لظهورهما في الاختصاص بما يوجب الانفعال لو لا المادة.

و هذا هو الظاهر أيضا في صحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «4»، فان بيان عدم الانفعال مع غلبة الماء إنما هو لبيان مانعية غلبة الماء من انفعاله في فرض وجود مقتضية، لما هو المعلوم من أن التغير ليس هو المقتضي للانفعال، بل هو شرط في تأثير مقتضية، و هو الملاقي دون المجاور.

نعم، في خبر محمد بن القاسم عن أبي الحسن عليه السّلام: «في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمس أذرع أو أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال: ليس يكره من قرب و لا بعد، يتوضأ منها و يغتسل ما لم يتغير» «5».

لكنه- مع ضعف سنده، و عدم ظهوره في التغيير بمحض المجاورة، بل بسريان النجاسة في الأرض و لو بنحو الرطوبة غير المسرية- مختص بالبئر المختصة بأحكام كثيرة.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 106

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 106

مسألة 4 إذا تغير الماء بوقوع المتنجس لم ينجس

مسألة 4: إذا تغير الماء بوقوع المتنجس لم ينجس (1)،

______________________________

(1) كما في القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام، و عن الروض و المدارك و الذخيرة، و نسبه في كشف اللثام للأكثر، و في مفتاح الكرامة عن شرح أستاذه دعوي الإجماع عليه ممن عدا الشيخ، و في الجواهر في رد احتمال العموم قال: «و يمكن استنباط الإجماع عند التأمل علي خلافه».

خلافا للسيد في محكي الجمل، و الشيخ في المبسوط، فعن الأول: «كل ماء علي أصل الطهارة إلا أن تخالطه- و هو قليل- نجاسة، أو يتغير- و هو كثير- أحد أوصافه من لون أو طعم أو رائحة»، فإن عدم تفريقه بين ما ينجس القليل بالملاقاة و الكثير بالتغير ظاهر في عموم الثاني للمتنجس، لعموم الأول له عندهم.

و في الثاني عند الكلام في المضاف النجس: «و لا طريق إلي تطهيرها بحال إلا أن يختلط بما زاد علي الكر من المياه الطاهرة المطلقة، ثمَّ ينظر فيه فإن سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز أيضا استعماله بحال، و إن لم يسلبه إطلاق اسم الماء و غيّر أحد أوصافه إما لونه أو طعمه أو رائحته فلا يجوز أيضا استعماله بحال، و إن لم يتغير أحد أوصافه و لم يسلبه إطلاق اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه المطلقة فيه»، فإنه و إن كان في مقام بيان عدم تطهير المضاف مع تغييره للكر، إلا أنه لو لا تنجيسه للكر لم يكن وجه لحرمة الاستعمال مع فرض عدم خروج الكر عن الإطلاق. و من ثمَّ لا يبعد ظهور ميل المحقق قدّس سرّه في المعتبر إلي ذلك أيضا، لأنه نقل عن الشيخ قدّس سرّه ذلك مستشهدا به، و لم ينبه علي خلاف له في ذلك، كما أنه حكي عن التحرير التصريح بذلك أيضا.

بل لا يبعد كون ظاهر من لم ينبه علي الفرق بين النجس و المتنجس عدم الفرق بينهما، نظير ما تقدم في انفعال القليل بالمتنجس، و لا سيما مع عدم تنبيههم لخلاف السيد و الشيخ قدّس سرّهما و من تبعهما.

و من ثمَّ لا مجال لدعوي الشهرة علي التفصيل، فضلا عن الإجماع.

ص: 107

______________________________

و كيف كان، فعمدة ما يستدل به علي الانفعال مع التغير بالمتنجس أدلة التغير العامة، و إلا فالأدلة الخاصة كلها واردة في أعيان النجاسات، كالميتة و الدم و البول، فاللازم النظر في العمومات المذكورة، و هي النبوي «1»، و صحاح ابن بزيع «2» الواردة في البئر.

أما النبوي فهو- كما تقدم في المسألة السابقة- وارد لبيان شرطية التغير في الانفعال في ظرف تحقق المقتضي له، و حيث كان المتنجس من شأنه التنجيس لغير الماء كان مقتضي إطلاقه كونه موجبا لانفعال الماء مع تغيره به.

و قد استشكل فيه.

تارة: بانصراف لفظ «شي ء» إلي خصوص أعيان النجاسات، نظير ما تقدم من المحقق الخراساني في التفصيل في انفعال القليل بين النجس و المتنجس.

و اخري: بانصراف التغير إلي خصوص وصف النجس. قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «إذ هو الذي يساعده الارتكاز العرفي من اختصاص النفرة بذلك لا غير عندهم، للفرق بين ظهور أثر النجس بالذات في الماء و بين ظهور أثر الطاهر بالذات فيه و إن كان نجسا بالعرض، فإن الأول يناسب البناء علي نجاسة الماء دون الثاني، لأن النفرة الذاتية في الأول تستوجب النفرة عن الأثر، بخلاف الثاني، لعدم النفرة الذاتية فيه، و النفرة العرضية زائلة بزوال موضوعها، لفرض الاستهلاك».

و يشكل الأول: بأنه لا وجه للانصراف المذكور بعد ما ذكرنا من ظهور النبوي في بيان شرطية التغير في فرض تحقق المقتضي، و المفروض تحققه في المتنجس.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في وجه الاختصاص من أن المتنجس إنما ينجس ما يلاقيه بواسطة نجس العين. فإن رجع إلي دعوي: أن مقتضي التنجيس قائم بالنجس لا بالمتنجس، فلا يدخل المتنجس في الإطلاق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 6، 7.

ص: 108

______________________________

ففيه: أن النجس سبب في صيرورة المتنجس مقتضيا للتنجيس، فالمتنجس يكون بسبب النجس مقتضيا مثله، و لا وجه لحمل الإطلاق علي خصوص ما يكون اقتضاؤه لذاته.

و إن رجع إلي دعوي: أن ترتب اقتضاء المتنجس علي اقتضاء النجس مانع من إرادتهما معا من الإطلاق، لاختلاف الرتبة، بل يختص بالنجس، لأنه أسبق رتبة.

فيدفعه: أن ترتبهما في الاقتضاء خارجا لا يمنع من عموم الإطلاق لهما بلحاظ صدق مفهومه عليهما معا.

و إن رجع إلي دعوي: أن النجس بسبب ذلك يكون أقرب إلي الذهن، فيختص به الإطلاق.

ففيه: أن ذلك لا يكفي في انصراف الإطلاق إليه، فضلا عن اختصاصه به.

و أما الثاني فهو موقوف علي استفادة أن منشأ الانفعال بالتغير هو الاستقذار و النفرة للأثر الحاصل، ليختص بأثر النجاسة دون أثر المتنجس، و لا طريق لإحراز ذلك من النبوي و نحوه.

بل لعل منشأه مقهورية الماء و مغلوبيته مع ظهور الأثر فيه و إن لم يكن مستقذرا بنحو لا يكون مقتضي الاعتصام- من الكثرة و المادة- صالحا لعصمته و دفع النجاسة عنه.

نعم، قد يستفاد ذلك من بعض النصوص الأخري، كما سيأتي.

فالإنصاف أنه لا مجال للخروج بمثل هذه الوجوه عن الإطلاق.

نعم، تقدم غير مرة أن النبوي قاصر عن مقام الاستدلال، لضعف سنده، و منافاته لأدلة اعتبار الكرية و المادة في الاعتصام، بنحو يصعب الجمع بينها و بينه جدا.

فاللازم النظر في صحاح ابن بزيع، و قد تقدم في المسألة الثانية الإشكال في الاستدلال بصحيحه المختصر، لقرب اختصاره من الصحيحين الآخرين، فلم يبق إلا الصحيحان المذكوران، و استفادة الإطلاق منهما في غاية الإشكال بعد

ص: 109

______________________________

قوله عليه السّلام: «فينزح حتي يذهب الريح و يطيب طعمه» كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و توضيحه: أن طيب الطعم إنما هو في مقابل خبثه، فيدل علي أن خباثة الحاصل مع التغيير أمر مفروغ منه في المقام، و لا يراد بالخباثة العرفية الراجعة إلي نفرة الطعم، لعدم اختصاصه بما يوجب الانفعال، و عدم اطراده فيه، بل ما ينتزع من الخباثة الشرعية.

و من الظاهر أن انتزاع الخباثة للطعم لا تصح عرفا إلا بلحاظ خباثة منشئه، فيختص بطعم نجس العين، أما المتنجس فهو و إن كان خبيثا، إلا أن الخبث فيه لما كان عارضا فهو لا يصحح عرفا نسبة الخبث لما هو من شؤون ذاته و هو الطعم.

بل لعل الصحيح المذكور قرينة علي كون معيار الحكم بالانفعال مع التغير هو نفرة الأثر الذي يحمله الماء، لا غلبة النجاسة بلحاظ أصل تأثيرها في الماء، فالمراد بغلبة النجاسة مع التغير تأثيرها في الماء أثرها المناسب لخبثها المنافي لطهارته و المانع من اعتصامه، كما قد يرجع إليه ما تقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه فلو تمَّ هذا كان صارفا لإطلاق النبوي و صحيح ابن بزيع المختصر- لو غض النظر عما تقدم فيهما- كما أنه لا مجال للعموم أيضا لو أريد بطيب الطعم ما يقابل نفرة الذوق منه، و غض النظر عما تقدم، لوضوح أن مصحح ذكره ليس الا غلبة تحققه مع التغير، أو لفرض نجاسة خاصة موجبة لذلك، كالميتة، و الأول مختص بنجس العين، إذ لا يغلب في المتنجس نفرة الطعم، و الثاني موجب لإجمال الصحيحين، المسقط لاطلاقهما عن الحجية.

نعم، لو أريد من طيب الطعم محض زوال أثر الملاقي، لا ما يقابل الخبث لم يكن قرينة علي تقييد الصحيحين و لا غيرهما.

لكنه خلاف الظاهر، و لا أقل من إجماله المانع من إطلاق الصحيحين اللذين عرفت أنهما العمدة في المقام، فيرجع إلي عموم دليل الاعتصام.

ص: 110

إلا أن يتغير بوصف النجاسة التي تكون للمتنجس، كالماء المتغير بالدم يقع في الكر فيغير لونه و يكون أصفر، فإنه ينجس (1).

______________________________

هذا، و أما الاستدلال- كما في المقابس- علي الاختصاص بأثر نفس العين بما تضمن حصر التغير بما كان بالجيفة، بدعوي: أن المتيقن في الخروج عنه هو التعدي إلي مطلق نجس العين دون المتنجس.

فيدفعه أن الحصر المذكور- لو فرض ثبوته- فحمله علي الحصر الإضافي بلحاظ خصوص فرض وجود الميتة- فلا ينافي الانفعال بالتغير بغيرها في فرض وجوده، لخروجه عن موضوع الحصر- أقرب عرفا من إبقاء الحصر علي حقيقته، ثمَّ الخروج عنه بالنحو المذكور.

مع أنه لا دليل علي الحصر المذكور، لأن النصوص الخاصة بالميتة بين ما هو صريح في أن حصر الانفعال بالتغير بها في فرض وجودها في الماء، لا مطلقا، فلا يدل علي عدم الانفعال في فرض التغير بغيرها، بل هو خارج عن موضوع الحصر، و ما هو ظاهر في ذلك، كصحيح حريز المتقدم في المسألة السابقة، فإن فرض غلبة الماء علي ريح الجيفة في صدره ظاهر في فرض وجود الميتة، فلا إطلاق فيه لصورة وجود غيرها.

نعم، قد يستدل عليه بصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

«سمعته يقول: لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب و أعاد الصلاة و نزحت البئر» «1».

لكن النتن لا يختص بالميتة، بل يكون من غيرها من النجس و المتنجس، بل الطاهر كاللحم المذكي.

(1) كما صرح به شيخنا الأعظم و المحقق التستري قدّس سرّهما و غيرهما، و هو الظاهر مما حكي عن السيد الطباطبائي قدّس سرّه من النجاسة إذا كان التغير بواسطة

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

ص: 111

______________________________

المتنجس، بخلاف ما إذا كان بصفاته.

و يقتضيه ما تقدم من عموم الشي ء في الروايات العامة للمتنجس، و اختصاص التغير فيها بوصف النجاسة، فإن الجمع بين الأمرين يقتضي التفصيل بالوجه المذكور، خلافا لما في الجواهر من عدم التنجيس مع اضمحلال النجاسة و استهلاكها. و قد يستظهر من كل من أطلق عدم الانفعال مع التغير بالمتنجس.

و استدل عليه في الجواهر بأن انتقال صفات النجاسة من دون ملاقاة لها كانتقالها بالمجاورة لا يوجب التنجيس.

و فيه: أن ملاقاة المتنجس مقتضية للتنجيس بمقتضي الإطلاق المتقدم و ليست كالمجاورة، و الشرط- و هو التغير بصفات النجاسة- حاصل بالفرض.

نعم، قد يتجه ورود ذلك علي شيخنا الأعظم و المحقق التستري و غيرهما ممن صرح باختصاص الإطلاق بعين النجاسة.

ثمَّ إن المدار في ذلك علي كون الوصف مما من شأن النجاسة إن تحدثه، بحيث يصح نسبة الأثر لها و إن كان نقله بواسطة المتنجس، فلو لم يصح نسبة الأثر للنجاسة، بل للمتنجس، و لو لكونه مشاركا للنجاسة في الوصف، لا مجال للبناء علي الانفعال، لقصور الوجه المتقدم عنه.

كما أنه لو كان الوصف مما من شأن النجاسة إن تحدثه في الماء و إن لم يكن وصفا لها قبل ملاقاته تعين البناء علي الانفعال، لما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي في المسألة الخامسة. فلاحظ.

هذا، و قد يستدل علي الانفعال في المقام بوجهين.

الأول: أنه لا يعتبر في التغيير بالنجاسة ملاقاتها لكل جزء من أجزاء الماء، بل يكفي ملاقاتها لبعض أجزائه و سريان أثرها منه إلي غيره، كما لو غيّرت الميتة جانب الماء و سري التغيّر إلي الباقي- من دون ملاقاته للميتة، فالمنفصل عن النجاسة لم يتغير بملاقاتها، بل بملاقاة المتنجس المتغير بها و الناقل لأثرها، فلا بد أن يراد من التغير بالنجاسة ما يعم مثل ذلك، لأن التغير حقيقة بها و إن كان بتوسط

ص: 112

______________________________

ملاقاة المتنجس، كما ذكره المحقق التستري قدّس سرّه.

و فيه: أنه مع ملاقاة النجاسة لبعض الماء الواحد و تغييرها لجميعه تدريجا يصدق عرفا تغيير الجميع بملاقاة النجاسة التي هي موضوع الانفعال بالفرض. أما اتصال التغير بعد انفصال النجاسة عنه أو استهلاكها فيه بماء آخر فلا يوجب صدق تغير الماء الآخر بملاقاة النجاسة بل بملاقاة المتنجس المفروض عدم كونها موجبة للانفعال.

و دعوي: أن التغير في الحقيقة بالنجاسة، إن أريد بها أنه بملاقاتها، فهو ممنوع، لفرض استهلاكها في المتنجس أو انفصالها عنه، فلا يصدق عرفا ملاقاتها له.

و إن أريد بها أنه بسببها في الجملة، فهو لا ينفع، إذ لا يكفي سببية النجاسة للتغير مع عدم الملاقاة، كما في المجاورة.

نعم، قد يكون استبعاد الفرق بين الأمرين مؤيدا لما ذكرنا من عموم الانفعال للمتغير بالمتنجس مع اختصاص التغير بصفات النجاسة، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

الثاني: ما ذكره المحقق التستري من أن الماء المتغير بالنجاسة إذا اتصل بغيره فغيّره فلا مجال للبناء علي طهارة الجميع، للإجماع و النصوص علي أن المتغير لا يطهر مع بقاء تغيره، و لا علي التفصيل بين المتغير بالنجاسة و المتصل به، للإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد، فيتعين البناء علي نجاسة الجميع.

و قد أجاب عن ذلك بعض مشايخنا بأنه مع فرض عدم استهلاك أحد المائين بالآخر يتعين البناء علي طهارتهما لتعارض ما دل علي انفعال المتغير بالنجاسة مع ما دل علي اعتصام الكر بعد فرض اتحاد المائين في الحكم، فيتساقطان و يرجع إلي أصالة الطهارة فيهما معا.

و هو راجع إلي التشكيك فيما ذكره المستدل من الإجماع علي نجاسة المتغير مع بقاء تغيره، و إلا كان الإجماع المذكور دليلا قطعيا لا يعارض بعموم

ص: 113

______________________________

اعتصام الكر، بل يخصصه، و من الصعب جدا التشكيك في ذلك، إذ كيف يمكن الالتزام بأن المتغير بالنجاسة مع عدم تغييره للمتصل به يبقي علي النجاسة، فإذا غيّره طهر معه، بل ما تضمنه صحيحا ابن بزيع من لزوم النزح حتي يذهب الريح و يطيب الطعم كالصريح في أن المتغير بالنجاسة لا يطهر بمجرد اختلاطه مع ما يرشح من البئر بعد النزح حتي يذهب التغير، فان ذلك ملزم في المقام بتقديم دليل نجاسة المتغير. علي دليل اعتصام الكر، و لا وجه معه للتوقف و الرجوع لأصالة الطهارة. هذا مع أن تشخيص مفاد الأصل في المقام يبتني علي مباني لا مجال لاطالة الكلام فيها. فلاحظ.

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور: أن الإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد مختص بغير صورة تغير بعضه تغيرا منجسا، إذ مع ذلك لا ريب في اختصاص الانفعال بالمتغير و طهارة غيره إذا كان كثيرا، فإذا فرض اختصاص التغير المنجس بالتغير بالنجاسة لزم التفصيل في الماء الواحد المتغير بعضه بالنجاسة و بعضه بالمتنجس بالتزام نجاسة الأول دون الثاني، نظير ما لو اتصل الماءان المتغير أحدهما بملاقاة النجاسة و الآخر بمجاورتها، فإنه يتعين البناء علي نجاسة الأول و طهارة الثاني إذا كان كرا. و ليس في ذلك مخالفة للإجماع، و تخيل مخالفته له ناشئ من استيضاح عموم التغير المنجس، لمحل الكلام.

نعم، تغيير المتغير بالنجاسة لغيره.

تارة: يكون بمحض اتصاله به من دون امتزاج.

و اخري: يكون بامتزاجه به.

و في الأول لا محذور في التفكيك بين المائين، لما ذكرنا.

أما في الثاني فحيث كان الامتزاج مانعا غالبا من اعتصام المتغير بالمتنجس و إن كان كثيرا لتفرق أجزائه و انفصال بعضها عن بعض بالمتغير بالنجاسة لزم انفعاله بالملاقاة للمتغير بالنجاسة لا بتغيره به.

إلا أن يفرض استهلاك المتغير بالنجاسة في الماء الآخر، لكثرته، و إن تغير به،

ص: 114

مسألة 5 يكفي في حصول النجاسة التغير بوصف النجس في الجملة

مسألة 5: يكفي في حصول النجاسة التغير بوصف النجس في الجملة و لو لم يكن متحدا معه (1)، فإذا أصفر الماء بملاقاة الدم تنجس.

______________________________

بنحو لا يمنع عرفا من اتصاله و اعتصامه.

أو يفرض امتزاج المتغير بالنجاسة ببعض الماء الآخر مع بقاء الباقي علي اتصاله و اعتصامه و إن تغير. و كلام المحقق التستري و إن كان مختصا بالامتزاج، إلا أن كلام غيره يعم صورة عدمه.

و قد تحصل من جميع ذلك: أنه بناء علي ما ذكرنا من عموم المقتضي للتنجيس للمتنجس و اختصاص التغير بوصف النجاسة يكون المعيار في الانفعال هو تغير الماء بواسطة المتنجس و لو مع عدم الامتزاج، و بناء علي اختصاص المقتضي بعين النجاسة فالوجه المذكور إنما يقتضي الانفعال في صورة الامتزاج المانع من اعتصام الماء لتفرق أجزائه في المتنجس بملاك الملاقاة لا بملاك التغير، و لذا ينجس أيضا حتي لو فرض عدم تغيير المتنجس للماء، كما في امتزاج الدهن بالماء في حال غليانه معه.

و منه يظهر عدم إمكان التعدي بعدم الفصل عن غير الماء من المتنجسات الموجبة لتغيير الماء بوصف النجاسة، لأن عدم الفصل إنما يتم لو كان ملاك التنجيس التغير، أما حيث كان هو الملاقاة المانعة من الاعتصام فعدم الفصل فيما لا يوجب ذلك غير ثابت فتأمل جيدا.

(1) فإن اعتبار اتحاد الوصف حتي في المرتبة مما لا مجال له جدا، لغلبة خفة الوصف في الماء عما هو عليه في النجاسة عينها، خصوصا فيما يوجب التغير بامتزاجه و انبثاثه في الماء، كالدم، فلا مجال لحمل أدلة التغير عليه. و من ثمَّ لا مجال لحمل كلام الجواهر عليه و إن كان قد يوهمه.

هذا، و ظاهر المتن لزوم كون الوصف الحادث من سنخ وصف النجاسة،

ص: 115

______________________________

و في الجواهر: لعله الأقوي، اقتصارا علي المتيقن في الخروج عن استصحاب الطهارة.

و فيه: أنه لا مجال للاقتصار علي المتيقن مع إطلاق التغير في غير واحد من النصوص كصحاح ابن بزيع «1» المشار إليها في المسألة السابقة، و صحيح معاوية بن عمار «2» المتقدم فيها أيضا، و صحيح حريز «3» المتقدم في المسألة الثالثة، و خبر أبي بصير «4» المتقدم في المسألة الثانية، و خبر أبي خالد القماط: «انه سمع أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول في الماء يمر به الرجل و هو نقيع فيه الميتة و الجيفة. فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضأ منه، و إن لم يتغير ريحه و طعمه فاشرب و توضأ» «5» و ما في صحيح شهاب بن عبد ربه عنه عليه السّلام:

«و جئت تسأل عن الماء الراكد من الكر [البئر خ. ل] مما لم يكن فيه تغير أو ريح غالبة. قلت: فما التغير؟ قال: الصفرة. فتوضأ منه، و كلما غلب كثرة الماء فهو طاهر» «6»، فإن النصوص المذكورة ظاهرة في كفاية التغير بالنجاسة في قهرها للماء و تنجيسها له.

و حملها علي خصوص ما كان بوصف النجاسة الثابت لها بلا قرينة، خصوصا مع كثرة كون التغير ليس بمحض امتزاج النجاسة بالماء و انبثاثها فيه المستلزم غالبا لحمله لصفتها، بل بتفاعلها معه الذي قد يسبب حدوث وصف في الماء غير موجود في النجاسة، و حمل الإطلاقات المتقدمة علي ما عدا ذلك صعب جدا.

و لا سيما مع كون لازمه البناء علي الطهارة لو شك في وجود الوصف في

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 6، 7.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 116

______________________________

النجاسة، كما هو الغالب في تغيير الميتة للطعم مع عدم امتزاجها بالماء الذي هو مورد بعض النصوص.

هذا، مع أن الإطلاق المذكور لما كان مناسبا جدا للمتركزات العرفية في مقهورية الماء بمجرد تغيير النجاسة له، كما قد يشير إليه ذيل صحيح شهاب المتقدم، فمن الصعب جدا حمله علي خصوص التغير بوصف النجاسة.

نعم، قد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي الاختصاص.

تارة: باختصاص الاستقذار العرفي بذلك.

و اخري: بظهور جملة من النصوص فيه، ففي صدر صحيح شهاب المتقدم الوارد في الجيفة تكون في الغدير: «قال: توضأ من الجانب الآخر، إلا أن يغلب الماء الريح فينتن» «1» و موثق سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يمر بالماء و فيه دابة ميتة قد أنتنت. قال: إذا كان النتن الغالب علي الماء فلا تتوضأ و لا تشرب» «2» و في خبر العلاء عنه عليه السّلام في الحياض التي يبال فيها: «قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول» «3» و في صحيح ابن بزيع: «حتي يذهب الريح و يطيب الطعم» «4».

و يشكل الأول: - بعد تسليم عدم الاستقذار العرفي في المقام- بما تقدم من عدم الدليل علي كون ملاك الحكم هو نفرة الأثر إلا صحيح ابن بزيع المشار إليه في آخر كلامه، و هو لا يقتضي إلا قادحية خبث الطعم الذي لا يبعد أن يكفي فيه استناده لما هو خبيث بالذات، بحيث يكون من شؤونه و آثاره و إن لم يكن موجودا فيه قبل ذلك.

و يشكل الثاني: بعدم صلوح شي ء من النصوص المذكورة لإثبات ذلك، فإن

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 117

______________________________

ذكر الجيفة في صحيح شهاب منبه للريح و ظاهر في فرض وجوده، فاعتبار غلبته في التنجيس غير ظاهر في الحصر الحقيقي، بل الإضافي، لبيان الطهارة من حيثيته، فلا ينافي الانفعال مع التغير من غير جهته، كالريح الذي لم يكن موجودا في النجاسة و غير الريح من بقية الصفات وجدت أم لم توجد فيها، و لذا لم يذكر الطعم و لا اللون مع فرضه في الذيل.

و لا أقل من كون الجمع بذلك بينه و بين نصوص التغير بغير الريح أقرب عرفا من حمله علي الحصر الحقيقي ثمَّ تخصيصه بها، و لا سيما مع قوله عليه السّلام في ذيله: «و كلما غلب كثرة الماء فهو طاهر»، فإنه كالصريح في إعطاء الضابط العام لبيان اختصاص عدم الانفعال بما إذا كانت الكثرة بنحو تقتضي عدم تغير الماء بالنجاسة.

و منه يظهر الحال في موثق سماعة، لصراحته في فرض نتن الميتة. و كذا الحال في خبر الفضيل، إذ لا مجال لحمله علي الحصر الحقيقي مع ما هو المعلوم من الانفعال بغير اللون، و لا سيما مع قرب أن يكون تغير الماء برائحة البول و طعمه أسبق غالبا من تغيره بلونه، لتقارب لونيهما.

فالإنصاف أن النصوص المتقدمة لا تنهض بالخروج عن الإطلاق المتقدم المناسب للارتكاز جدا.

هذا، و يلحق بهذه المسألة أمران.

الأول: لو كان في الماء وصف أصلي أو عرضي- كالصفرة في ماء الكبريت، أو بسبب صبغ طارئ- و أوجبت النجاسة تخفيفه أو زواله فالظاهر- تبعا لغير واحد- الانفعال، لصدق التغير بالنجاسة، سواء كان التغير بسبب امتزاج النجاسة و انبثاثها في الماء أم بسبب تفاعلها معه.

بل تقدم في آخر الكلام في التغيير التقديري أن الصورة الأولي داخلة في التغيير بوصف النجاسة، فما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه بناء علي اعتبار التغيير بوصف النجاسة يتعين البناء علي عدم الانفعال لو كانت النجاسة مزيلة

ص: 118

______________________________

لوصف الماء مطلقا، لعله في غير محله. فتأمل.

الثاني: أنه و إن لم يعتبر في التغير أن يكون بوصف النجاسة إلا أنه لا بد أن يكون مستندا إليها عرفا، بحيث يكون من شأنها تأثيره و لو لخصوصية صنفها أو شخصها، فلو لم يستند إليها عرفا، بل إلي أمر آخر طارئ عليها و إن استهلك فيها فلا مجال للبناء علي الانفعال.

لانصراف الإطلاق عنه بعين الوجه المتقدم في انصراف الإطلاق عن وصف المتنجس، كما لو أضيف للبول مقدار من الزعفران أوجب طيب رائحته فطيب رائحة الماء الملاقي له، أو أضيف للدم مقدار من الصبر أوجب مرارته فصار الماء الملاقي له مرّا.

فكما يكون التغير بوصف النجاسة بواسطة المتنجس موجبا للانفعال، كذلك لا يكون التغير بوصف المتنجس بواسطة النجاسة موجبا له. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

بقي في المقام فروع متعلقة بالتغير و باعتصام الكر، أهمل سيدنا المصنف قدّس سرّه ذكرها، فينبغي التعرض لها تتميما للفائدة، مستمدا منه تعالي العون و التوفيق.

الأول: لو استند التغير للنجس و الطاهر معا، فقد أطلق في العروة الوثقي عدم الانفعال، و قطع في المقابس بالنجاسة إذا كان النجس صالحا للتغير. و يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه الاشكال حتي مع ذلك، لظهور الأدلة في استناد التغير إلي نفس النجاسة.

و الذي ينبغي أن يقال: الوصف الحادث في الماء.

تارة: يكون قابلا للتأكد بحيث يستند ببعض مراتبه للنجس و ببعضها للطاهر.

و اخري: يكون متركبا عرفا من وصفين كالحلاوة و الحموضة و إن أطلق عليه اسم واحد عرفا.

و ثالثة: لا يكون قابلا لكلا الأمرين، إما لكون أثر كل من الأمرين منفردا

ص: 119

______________________________

متحدا سنخا مع أثر الآخر من دون أن يقبل التأكد- لو فرض إمكان ذلك- أو لاختلاف سنخ أثر كل منهما منفردا، إلا أن اجتماعهما يوجب وجود وصف ثالث مباين لهما بسيط عرفا، كما قد يدعي في بعض الألوان.

و لا ينبغي الإشكال في عدم الانفعال في الجميع لو فرض كون النجس وحده لا يصلح للتأثير بنحو معتد به صالح للظهور للحس و إن كان له نحو من التأثير الدقي، كما تقدم في أول الكلام في التغير التقديري.

و أما لو كان أثره معتدا به عرفا بحيث يمكن تمييزه حسا لو كان وحده فالظاهر الانفعال في الصورة الأولي- كما صرح به سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره- و في الثانية- كما هو مقتضي إطلاق المحقق التستري- لإطلاق أدلة التغير إذ لا يستفاد منها إلا اعتبار استناد التغير لملاقاة النجس المفروض حصوله هنا.

و مجرد عدم تمييز الأثر بحده في الصورة الاولي و تركبه مع غيره في الثانية لا يخرجه عن الإطلاق المذكور.

و أما في الصورة الثالثة فالأمر لا يخلو عن إشكال، لعدم صحة التغيير الفعلي للنجس وحده، و مجرد دخله في التأثير غير كاف في الدخول في إطلاقات التغير بالنجس، لظهورها في استقلاله به. كما أن مجرد استقلاله بالتأثير لو فرض كونه وحده لا يكفي في ذلك، لظهور الأدلة في الاستقلال الفعلي لا التقديري، فالمقام نظير التغيير التقديري الذي تقدم عدم الاعتداد به.

اللهم الا أن يستفاد من قوله عليه السّلام في ذيل صحيح شهاب المتقدم: «و كلما غلب كثرة الماء فهو طاهر» أن المعيار في الطهارة في فرض وجود مقتضي التغيير كثرة الماء بنحو تمنع من التغيير بالنجس، و ليس الأمر كذلك في المقام، لفرض عدم مانعية كثرة الماء من التغير بالنجاسة، و أن عدم استقلال النجاسة بالتأثير لوجود العلة الأخري لا لكثرة الماء و مانعيته. فتأمل جيدا.

الثاني: لا إشكال ظاهرا في أن الانفعال مشروط بظهور التغير، و لا يكفي فيه ملاقاة ما يوجب التغير قبل ظهور أثره، كما صرح به في المقابس. لظهور الأدلة في

ص: 120

______________________________

إناطته بالتغير بنحو الشرط المقارن، لا المتأخر.

نعم، قد يتوهم دلالة النبوي «1» علي الانفعال بمجرد ملاقاة ما يوجب التغير.

بدعوي: ظهور قوله صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم: «إلا ما غير» في أن المنجس نفس الأمر المغير.

لكنه يندفع: بأنه ظاهر في أن المنجس هو المغير بما هو مغير، لا بذاته، و العنوان المذكور لا ينطبق عليه إلا بعد فعلية التغير بسببه.

كما لا ريب في عدم اعتبار بقاء النجاسة متميزة في الماء حين ظهور التغير، بل يكفي استهلاكها فيه بسبب انبثاثها، لإطلاق ما دل علي الانفعال بوقوع النجاسات في الماء و تغييرها له، كخبر أبي بصير «2» الوارد في الدم، و خبر العلاء «3» الوارد في البول و صحيح معاوية بن عمار «4» الوارد فيما يقع في البئر. خصوصا مع كثرة استهلاك مثل ذلك قبل استيعاب التغيير للماء.

علي أن وقوع ما ينبث في الماء لا ينفك عن تغييره لبعض الماء قبل استهلاكه، فينجس الماء المتغير به، كما ينجس بقية الماء بناء علي ما تقدم في المسألة الرابعة من الانفعال بالمتنجس الحامل لوصف النجاسة. و كيف كان فالانفعال في مثل ذلك ليس محلا للإشكال.

و إنما الإشكال فيما لا ينبث من النجاسات في الماء- كالميتة- لو فرض ملاقاته للماء و ظهور أثره فيه بعد انفصاله، فقد صرح غير واحد من المعاصرين بالانفعال فيه، لإطلاق الأخبار و عدم التفصيل فيها بين الملاقاة المؤثرة بالفعل و الملاقاة المؤثرة بعد مدة.

لكن تحصيل الإطلاق بالنحو الذي ينفع فيما نحن فيه لا يخلو عن إشكال، لأن النصوص علي أقسام ثلاثة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

ص: 121

______________________________

الأول: ما ورد فيما ينبث في الماء كالدم و البول. و هو أجنبي عما نحن فيه، لعدم قابليته عادة للانفصال عن الماء بعد وقوعه فيه، و غايته أنه يستهلك فيه، و قد عرفت أنه لا يمنع من الانفعال.

الثاني: ما ورد فيما لا ينبث فيه كالميتة، و هو مختص بما إذا كان التغير حين وجوده في الماء.

نعم، قد يتوهم الإطلاق من صحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «1».

لكن تقدم في مسألة التغيير بالمجاورة عدم تمامية الإطلاق فيه من هذه الجهة، لوروده لبيان شرطية التغير في الانفعال بعد الفراغ عن وجود المقتضي له، و ليس واردا لبيان المقتضي ليتم إطلاقه من هذه الجهة و يكشف عن كفاية الملاقاة و لو قبل التغير في تحقق المقتضي.

الثالث: الأخبار العامة، و هي النبوي «2» و صحاح ابن بزيع و معاوية بن عمار «3» الواردة في البئر.

و ما عدا الأخير منها كصحيح حريز وارد لبيان شرطية التغير في الانفعال بعد الفراغ عن ثبوت مقتضية، فلا إطلاق لها يقتضي كفاية الملاقاة قبل التغير.

و أما الأخير- و هو صحيح معاوية- فقد يوهم الإطلاق المذكور، لقوله عليه السّلام:

«لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن.» فان مقتضي إطلاقه تنجيس ما يقع في البئر لها مع النتن سواء بقي إلي حين النتن، أم أخرج قبل حصوله.

لكن من القريب جدا انصرافه إلي خصوص صورة بقائه إلي حين النتن، لما

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 6، 7، 10.

ص: 122

______________________________

هو المرتكز من كون المقتضي للتنجيس ليس إلا ملاقاة النجس الملازمة لوقوعه و أن النتن من سنخ الشرط الذي لا يؤثر إلا في ظرف وجود المقتضي، و ليست الملاقاة من سنخ المعد، و المقتضي هو التغيير، ليكون التأثير مقارنا له و لو مع عدم الملاقاة حينه. فتأمل.

هذا، مضافا إلي أن الصحيح لم يتضمن اعتبار نتن الماء، بل نتن نفس ما يقع، و حيث لا إشكال في عدم كفاية نتن النجس في انفعال الماء فلا بد من كون ذكره كناية عن نتن الماء لفرض الملازمة بينهما غالبا في مثل البئر التي لا يتخللها الهواء، بل ينحبس النتن في جوها و يسرع انتقاله للماء، و من الظاهر أن نتن النجاسة إنما يلازم نتن الماء في ظرف بقائها فيه حينه، و ذلك مانع من إطلاقه بنحو يقتضي كفاية التغير المنفصل عن الملاقاة.

هذا، و أما الاستدلال بتنقيح المناط، بدعوي: أن التغير في الحقيقة لا يكون إلا بتأثير النجاسة و لو لوجود بعض أجزائها الدقيقة في الماء.

فيندفع: بأن ذلك لا يكفي في التنجيس، و الا لجري في التغيير بالمجاورة إذ التأثير فيها أيضا يستند إلي بعض الأجزاء الدقيقة المنبثة من النجس في الهواء و المنتقلة بواسطته في الماء.

و مثلها دعوي: أن التغير مع استمرار الملاقاة لا يستند إلي بقاء الملاقاة، بل إلي حدوثها السابق عليه، فلا أثر لبقائها.

لاندفاعها: بأن عدم دخل بقاء الملاقاة في التغير لا ينافي دخله في الانفعال.

و بالجملة: لا يتضح المخرج عن عموم أدلة الاعتصام في المقام.

الثالث: لا ريب في أن مقتضي إطلاق الأدلة كفاية التغير و لو بعد مدة طويلة من ملاقاة النجس للماء، كما صرح به في العروة الوثقي، و أمضاه كثير من شراحها و محشيها.

نعم، اعتبروا العلم باستناد التغير للنجس مستدلين عليه بالأصل علي اختلاف منهم في تقريبه بما لا مجال لاطالة الكلام فيه.

ص: 123

______________________________

و الظاهر أن الأولي الرجوع لاستصحاب عدم تغيير ما وقع للماء، أو عدم تغير الماء به، بمفاد ليس الناقصة، الراجع إلي عدم تغييره للماء أو عدم تغير الماء به، فان المستفاد من الأدلة اعتبار ملاقاة ما هو نجس للماء، و تغييره له أو تغيره به، و الأصل عدم تحقق الثاني، لكونه مسبوقا بالعدم في ظرف وجود الماء و وجود الملاقي، و هو لا ينافي العلم بوجود التغير في الجملة.

و لا مجال للرجوع لاستصحاب عدم استناد التغير للنجس، لا لكونه من استصحاب العدم الأزلي، بل لعدم أخذ الاستناد- بمعناه الاسمي أو الحرفي- وصفا للتغير المعتبر زائدا عليه.

هذا، و لكن الرجوع للأصل في الفرض علي إطلاقه في غاية الإشكال، لورود غير واحد من النصوص في اجتناب الماء بتغيره بالميتة الموجودة فيه، مع أنه كثيرا ما لا يتيسر العلم باستناد التغير للنجاسة الموجودة في الماء، لاحتمال تغيّره قبلها بغيرها مما لا يوجب الانفعال، أو بمجاورتها أولا ثمَّ وقعت فيه بعد حصول التغير، أو احتمال مشاركة غيرها في التغير، فعدم التنبيه في النصوص المذكورة- خصوصا ما ورد منها في الماء الذي يمر به الرجل، حيث يغلب الجهل بحالته السابقة- ظاهر في أن الأصل في التغير الحاصل حين وجود النجاسة في الماء أن يكون ناشئا من ملاقاة النجاسة فيوجب الانفعال، و الا لزم عدم ترتب العمل علي النصوص المذكورة غالبا، مع ظهورها في البيان الذي يترتب عليه العمل، لا محض بيان كبري الانفعال بالتغير مع عدم ترتب العمل إلا بعد انسداد باب الاحتمالات المذكورة و نحوها.

نعم، المتيقن من ذلك ما إذا لم تكن هناك جهات خاصة مثيرة لاحتمال عدم استناد التغير للنجاسة، كوجود أمر آخر يحتمل دخله أو استقلاله في التغير، أو طول المدة في حدوث التغير بالنحو الذي لا يتعارف، فالرجوع للأصل حينئذ في محله.

و مثله ما لو لم يعلم بأن الوصف الحادث مما من شأن النجس أن يحدثه،

ص: 124

______________________________

لخروجه عن المتيقن أيضا.

كما لا بأس بالرجوع للأصل في غير صورة وجود التغير حين وجود النجاسة من صور الشك، كما لو شك في أصل التغير بنحو الشبهة الموضوعية مع احتمال ارتفاعه أو بقائه و خفائه بسبب ظلمة و نحوها. أو علم بوجوده و احتمل استناده للطاهر أو للمجاورة للنجاسة من دون أن يعلم ملاقاة النجاسة للماء، كما لو كانت النجاسة قريبة من الماء، و احتمل انحساره عنها بعد تغيره بها.

و كذا لو شك في نجاسة الملاقي الموجب للتغيير، كما لو احتمل كون الدم مما لا نفس له. لعدم المخرج في مثل ذلك عن عموم أدلة الأصول.

الرابع: تقدم أنه لا بد من ملاقاة الماء المتغير للنجس، و لا يكفي مجاورته للنجاسة. و حينئذ يقع الكلام فيما لو استند التغير إلي مجموع الداخل في الماء و الخارج عنه.

و لا ينبغي الإشكال في الانفعال لو كان الأثر المستند للمقدار الملاقي مضرا به عرفا، و كان الخارج دخيلا في زيادة التغير، نظير ما تقدم في الفرع الأول.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم الانفعال لو لم يكن كذلك، و كان النجس الملاقي مباينا للنجس الخارج، كميتتين استند التغير إلي مجاورة إحداهما و ملاقاة الأخري.

أما لو كان النجس أمرا واحدا كالميتة الخارج بعضها من الماء و استند التغير بالمقدار المعتد به لتمامها فقد استظهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه الانفعال، لصدق تغيره بما وقع فيه، و وافقه غير واحد منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و ظاهر بعض الأعاظم قدّس سرّه و غيره الإشكال فيه. بل جزم غير واحد من مشايخنا و غيرهم بعدم الانفعال. بدعوي: عدم تحقق موضوعه، و هو ملاقاة النجس الذي يوجب التغير.

أقول: إن استفيد من الأدلة الاكتفاء في الانفعال بالنجس بملاقاته في الجملة و تغييره للماء تمَّ ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه، لفرض تحققهما في المقام.

ص: 125

______________________________

و إن استفيد منها لزوم كون التغير مسببا عن الملاقاة بحيث يكون مستندا لخصوص المقدار الملاقي من النجس اتجه البناء علي الطهارة، لفرض عدم تحقق ذلك في المقام.

و قد يدعي أن مقتضي الأدلة العامة- كالنبوي «1» و صحاح ابن بزيع «2» - الأول، لأن المراد بالشي ء فيها ما يقتضي التنجيس، و هو في المقام صادق علي الميتة، إذ لا إشكال في أنه يكفي في اقتضائها للتنجيس ملاقاتها و لو ببعض أجزائها، فمع فرض تحقق التغير بها مع ذلك فقد تمَّ المقتضي و الشرط و لزم البناء علي الانفعال.

بل قد يتعين لأجل ذلك البناء علي الانفعال لو فرض العلم باستناد الملاقاة لخصوص الخارج، كما احتمله سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و لا مجال لما ذكره بعض المشايخ المعاصرين قدّس سرّه [3] من أن ذلك يشبه القول بالانفعال مع التغير بالمجاورة.

للفرق بينهما بعدم تحقق المقتضي- و هو الملاقاة- في المجاورة و تحققه هنا.

نعم، لو كانت الملاقاة لا تقتضي الانفعال- كالملاقاة بما لا تحله الحياة من أجزاء الميتة- كان نظير المجاورة.

اللهم إلا أن يقال: المستفاد من الأدلة المذكورة لزوم استناد التغير لما هو المقتضي للتنجيس، لا للنجس كيف اتفق، كما هو صريح النبوي، و صحيح ابن بزيع المختصر، و ظاهر صحيحيه المفصّلين، و لو بضميمة المفروغية عن عدم كفاية التغير بالنجس الذي لا يلاقي الماء مع ملاقاة الماء لنجس لا يصلح لتغييره، و من الظاهر ان المقتضي للتنجيس في ظرف ملاقاة النجس ببعض أجزائه ليس هو

______________________________

[3] المرحوم الشيخ محمد تقي الآملي قدّس سرّه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 6، 7.

ص: 126

______________________________

النجس بتمامه، بل خصوص الجزء الملاقي منه، فلا بد من استناد التغير إليه استقلالا، و لا يكفي غيره من أجزاء النجس في التغيير، فضلا عن استقلالها به دونه.

نعم، مقتضي الإطلاق كفاية استناد التغيير لملاقاة الملاقي و لو بسبب اتصاله بالأجزاء الخارجة عن الماء، في مقابل ما إذا استند التغيير للاجزاء الخارجة بالمجاورة من دون دخل لاتصالها بالجزء الملاقي، و لا يعتبر استناده لخصوص الملاقي بحيث لو فرض انفصاله عن بقية الأجزاء لأوجب التغير، عملا بالإطلاق.

بل من المقطوع عدم اعتبار ذلك، لما هو المعلوم من أن الملاقاة إنما تكون للجزء الظاهر، و من الغالب عدم اقتضائه للتغيير لو لا اتصاله بالاجزاء الباطنة التي يكون النتن بسبب تفسخها. فلاحظ.

هذا، و قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه الاستدلال بإطلاق نصوص الماء المتغير بالجيفة التي تكون فيه، مع غلبة بروز بعض الجيفة، و التفكيك بينه و بين غيره من فروض المسألة بعيد عن المرتكز العرفي، و لا مجال للالتزام في الجميع بالطهارة في صورة استناد التغير لمجموع الداخل و الخارج.

أقول: الاستدلال إن كان باعتبار إطلاق النصوص المذكورة لفظا.

ففيه: أن الإطلاق المذكور مقيد بما أشرنا إليه من أن المستفاد من النصوص الأول لزوم استناد التغير لما هو المقتضي للتنجيس، و هو خصوص الجزء الداخل.

و إن كان باعتبار غلبة خروج بعض الجيفة عن الماء بنحو يمنع عن التقييد المذكور.

ففيه: أن غلبة خروج بعض الجيفة لا يستلزم غلبة دخل الخارج في المقدار المعتبر من التغير، بل يغلب كفاية المقدار الداخل في التغيير، لكثرته أو سرعة تفسخه و نتنه، كالبطن.

و منه يظهر الوجه في التفكيك بين الفرض الغالب في موارد الروايات و غيره من صور خروج بعض النجاسة مما يعلم معه بدخل الخارج في التغيير، فضلا عن استقلاله به.

ص: 127

______________________________

و إن كان باعتبار غلبة عدم العلم باستقلال الداخل في التغيير مع أنه لو كان معتبرا في الانفعال ثبوتا كان مقتضي الأصل الطهارة ظاهرا، فعدم التنبيه لذلك في الروايات المذكورة مع ورودها مورد العمل لا لمحض بيان كبري الانفعال مع التغير ظاهر في عدم اعتبار ذلك في الانفعال.

ففيه: - مع عدم وضوح الغلبة المذكورة، خصوصا مع بعد التغيير بالمجاورة في المياه المكشوفة التي هي مورد الروايات المشار إليها-: أن ذلك إنما يمنع من الرجوع للأصل المقتضي للطهارة في ظرف الشك، لا البناء علي الطهارة واقعا حتي مع العلم بعدم استقلال الداخل في التغيير، نظير ما تقدم في الفرع السابق.

و المتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا دليل علي الانفعال في الفرض المذكور، فضلا عما لو علم باستناد التغيير للخارج فقط.

الخامس: لو تغير بعض الماء تنجس بالتغير، فإن كان الباقي كرا أو معتصما بالمادة بقي علي اعتصامه بلا خلاف ظاهر، بل مقتضي ما في مفتاح الكرامة من أن المخالف في ذلك بعض الشافعية الاتفاق عليه.

و يقتضيه عموم أدلة الاعتصام، و اختصاص أدلة المتغير بخصوص التغير دون تمام الماء. و قد يحمل عليه موثق سماعة: «سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء قال: يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «1».

و إن لم يكن كرا تنجس بالملاقاة للمتغير، كما يظهر منهم المفروغية عنه.

و وجهه ظاهر.

السادس: لو زال تغير الماء من قبل نفسه أو بتصفيق الرياح أو باتصاله ببعض الأمور الطاهرة غير المطهرة لم يطهر، كما صرح به في المعتبر و الشرائع و غيرهما، بل ظاهر كثير من كلماتهم الواردة في كيفية تطهير الماء بعد زوال تغيره المفروغية عنه. بل ادعي شيخنا الأعظم قدّس سرّه الإجماع عليه في القليل. و أما في الكثير فقد ادعيت الشهرة علي ذلك، بل عن المنتهي عدم نسبة الخلاف فيه الا للشافعي

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 128

______________________________

و أحمد. خلافا لما عن المحكي عن يحيي بن سعيد من القول بالطهارة، و عن العلامة قدّس سرّه في نهاية الأحكام التردد فيه.

و كيف كان فاللازم النظر في الدليل علي النجاسة ثمَّ في المخرج عنه.

و قد يظهر من بعض مشايخنا أنه مقتضي إطلاق أدلة التغير، نظير إطلاق ما دل علي نجاسة ملاقي النجس المقتضي لنجاسته سواء أشرقت الشمس عليه أم لم تشرق، و سواء كانت الملاقاة باقية أم لا؟

لكن استفادة الإطلاق من الأدلة المذكورة في غاية الإشكال. أما ما كان منها بلسان النبوي و نحوه فهو لا يدل إلا علي حدوث التنجيس من دون نظر إلي أمد النجاسة، كما لعله ظاهر. و أما ما كان منها بلسان آخر، مثل ما في خبر أبي خالد القماط: «إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضأ منه» «1»، فهو و إن كان قد يظهر منه بدوا الإطلاق، لإطلاق النهي فيه عن الشرب و الوضوء من الماء الذي تغير، الشامل لما بعد تغيره، إلا أن تعليق الجزاء علي شرط له نحو استمرار كثيرا ما يراد منه دورانه مدار بقاء الشرط، لا ثبوته مطلقا و لو بعد ارتفاعه، فكما قد يراد بقولنا: إن سافر زيد حسنت حاله، كون السفر علة لحسن حاله مطلقا و لو بعد رجوعه، كذلك قد يراد به كونه علة لحسن حاله ما دام مسافرا، و كما قد يراد بقولهم: إذا سخن الماء بالشمس كره استعماله، كراهة الاستعمال مطلقا و لو بعد برودة الماء، كذلك قد يراد به كراهة الاستعمال ما دام الماء ساخنا، و مع كثرة الاستعمال المذكور يشكل ظهوره في الإطلاق، و لا سيما مع مناسبة الوصف للحكم، كما في المقام.

هذا، مع معارضة الإطلاق- لو تمَّ- بما في موثق سماعة: «إذا كان النتن الغالب علي الماء فلا تتوضأ و لا تشرب» «2»، و ما في صحيح عبد اللّٰه بن سنان: «إن

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

ص: 129

______________________________

كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ» «1»، لوضوح أنه مع زوال التغير بعد حدوثه لا يصدق أن النتن غالب علي الماء، كما أنه يصدق أنه لا توجد منه الريح، فيتعين سقوط الإطلاقين، أو الجمع بينهما بحملهما علي بيان سببية التغير لحدوث التنجيس من دون نظر إلي بقائه.

و بالجملة: تحصيل الإطلاق المعتد به المقتضي لبقاء النجاسة بعد ارتفاع التغير لا يخلو عن إشكال، بل الظاهر ورودها لبيان سببية التغير لحدوث النجاسة من دون نظر لأمدها. و من ثمَّ لا يري العرف منافاة الأدلة المذكورة لما دل علي تطهير الماء المذكور بملاقاته للمادة و نحوها.

و أما أدلة انفعال الملاقي فظهورها في بقاء النجاسة بعد الملاقاة لقرائن خاصة بها، مثل الأمر بإهراق الماء و الزيت و نحوهما الظاهر في عدم الانتفاع بها و الأمر بغسل الثوب الظاهر في احتياجه للتطهير و عدم طهارته بمجرد زوال الملاقاة، و نحو ذلك مما لا يناسب الطهارة بمجرد ارتفاع الملاقاة.

و الا فهي أيضا لا إطلاق لها في بيان أمد النجاسة بالملاقاة، و لذا لا تكون الأدلة الشارحة للتطهير منافية لإطلاقها عرفا، بل هي نظير أدلة بطلان النكاح بالرضاع و الطلاق مع أدلة تحققه بأسبابه، حيث لا نظر في الثانية إلا لأصل حدوث النكاح، و ليس بقاؤه إلا لأن من شأنه البقاء لو لا الرافع، لا من جهة ظهور الأدلة المذكورة في استمراره، لتنافي أدلة البطلان.

نعم، قد يستدل علي بقاء النجاسة مع قلة الماء بأن التنجس فيه ليس بالتغير حقيقة، بل بالملاقاة، لأنها أسبق منه رتبة و زمانا، و ليس التغير إلا مؤكدا للتنجيس، و حيث لا إشكال في بقاء نجاسة القليل غير المتغير، و عدم ارتفاعها إلا باتصاله بالعاصم، فالمتغير أولي بذلك، و لا وجه لزوال نجاسته بزوال التغير. و لعله لأجل ذلك سبق نقل الإجماع علي بقاء النجاسة في القليل.

و عمدة الإشكال إنما هو في الكثير الذي يكون التغير هو الموجب لنجاسته

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 130

______________________________

لا مجرد الملاقاة، فكما يمكن أن يكون التغير علة لها بنحو يكفي حدوثه في بقائها بعده يمكن أن يكون بنحو تدور مداره وجودا و عدما.

إن قلت: التغير ليس هو المنجس للكثير، بل هو شرط في تنجسه بما يلاقيه من النجس و المتنجس، و حينئذ كما يكون تنجيس الملاقي للقليل من دون تغيير مقتضيا لبقاء نجاسته ما لم يطهر باتصاله بالمعتصم، كذلك يكون تنجيس الملاقي للكثير مع التغير مقتضيا لبقاء نجاسته ما لم يطهر بذلك.

و لعله إلي هذا يشير ما تقدم في الاستدلال علي الاكتفاء بالتغيير التقديري من أن ظاهر النصوص استناد التنجيس للنجاسة و ليس التغير إلا علامة لها، و ما تقدم عن المنتهي من قوله: «بلوغ الكرية حد لعدم قبول التأثير عن الملاقي إلا مع التغيير، من حيث أن التغيير قاهر للماء عن قوته المؤثرة في التطهير، و هل التغير علامة علي ذلك و الحكم يتبع الغلبة، أم هو المعتبر؟ الأولي الأول، فلو زال التغير من قبل نفسه لم يزل عنه حكم التنجيس».

قلت: التنجس و إن استند للملاقاة، إلا أنه تقدم عدم الإطلاق في أدلة الانفعال بالملاقاة يقتضي استمرار النجاسة، و إنما استفيد في القليل بقاء النجاسة بعد الملاقاة بقرائن خاصة لا تجري في الكثير، و لا سيما مع قلة ذهاب التغير بنفسه أو بالهواء و نحوه بالنحو الذي لا يستكشف معه من عدم التنبيه عليه عدم الطهارة به.

هذا، و قد استدل شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره علي عدم كفاية زوال التغير في الطهارة بما في صحيحي ابن بزيع «1» من الأمر بالنزح حتي يذهب الريح و يطيب الطعم، بناء علي ما هو الظاهر من كون «حتي» غائية لا تعليلية و كأنه لدعوي: أنه ظاهر في انحصار المطهر بذلك، و عدم كفاية زوال التغير بنفسه.

و فيه: أنه لو تمَّ ظهور (حتي) في الغائية بنحو يصلح للاستدلال فهو كما قد يكون لأخذ النزح المغيّي قيدا في التطهير زائدا علي زوال التغير، كذلك قد يكون

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 131

______________________________

لأجل كونه علة خارجية له، حيث لا يزول التغير غالبا بدون نزح.

و لعل هذا هو المتعين في مورد الرواية، إذ الظاهر أنه لو زال التغير بتكاثر الماء في البئر من دون نزح كفي في طهارة الماء اتصاله بالمادة و تدافعها عليه.

مع أنه لو تمَّ البناء علي عدم كفاية ذلك في البئر فلا مجال للتعدي منها لغيرها من موارد اتصال الماء بالمادة أو الكثير، و هو كاشف عن خصوصية في البئر، و حينئذ لا يدل ذكر النزح فيها علي عدم كفاية ذهاب التغير في غيرها، إذ لا مجال لدعوي عدم الفصل بين البئر و غيرها من المياه غير المعتصمة بعاصم، بعد ثبوت الفصل بينها و بين غيرها من المياه المعتصمة العاصمة. فلاحظ.

فالعمدة في المقام: أن الظاهر من حال الشارع الأقدس في الأحكام الوضعية- كالطهارة و النجاسة و الحرية و الرقية و الملكية و الزوجية و غيرها- جعلها بنحو يكون من شأنها البقاء، بحيث يبني علي بقائها ما لم يثبت الرافع، و لم يخرج عن ذلك إلا النكاح المنقطع، الذي كان التحديد فيه محتاجا إلي عناية في أصل جعله، بحيث لو لا العناية المذكورة لكان نكاحا دائما من شأنه البقاء.

و يشهد بما ذكرنا عدم تعرض أدلة جعل الأحكام الوضعية لبيان أمدها مع مسيس الحاجة لذلك لو لم يكن البناء علي استمرارها و احتياج ارتفاعها إلي دليل، و لكثر السؤال عن ذلك فيها. و لذا جري الفقهاء علي ذلك في مقام الاستدلال، حيث صار ديدنهم البحث عما يقتضي الرفع، الظاهر في مفروغيتهم عما ذكرنا من الأصل.

و هذا الأصل و إن كان من سنخ الاستصحاب، إلا أنه مستغن عن أدلته، و عن النظر في مبانيه، بل هو أصل متشرعي خاص. بل لا يبعد كونه أصلا عقلائيا، لبناء العقلاء علي ذلك في أحكامهم الوضعية فيكون نظير أصالة عدم النسخ.

و لو غض النظر عن ذلك كفي عموم أدلة الاستصحاب، بناء علي ما هو الظاهر من أن المعيار فيه علي اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة فيما هو الموضوع و المعروض الحقيقي للمستصحب بنظر العرف، لما هو المعلوم من ان النجاسة

ص: 132

______________________________

بنظرهم عارضة و محمولة علي الماء الشخصي بذاته، الموجود في حالتي التغير و عدمه، و ليس التغير إلا من عوارضه غير المقومة له في مقام معروضيته لها، و ليس هذا مبنيا علي التسامح العرفي، بل علي اعمال نظر العرف في المعروض الحقيقي للمستصحب.

من دون فرق فيما ذكرنا بين أن يكون دليل نجاسة المتغير بلسان: إن تغير الماء تنجس، و أن يكون بلسان: الماء المتغير نجس، إذ الاختلاف في ذلك لا يوجب اختلاف سنخ المعروض عندهم، بل يتعين عندهم حمل «المتغير» في الثاني علي كونه عنوانا تعليليا لثبوت النجاسة لذات الماء.

فلا مجال لتوهم امتناع جريان الاستصحاب لدعوي تعدد الموضوع.

هذا، و قد استشكل بعض مشايخنا- تبعا للفاضل النراقي قدّس سرّه- في الاستصحاب في المقام و غيره من الاستصحابات الحكمية بمعارضتها باستصحاب العدم الثابت قبل التشريع، فإن الحكم في الزمان الثاني حادث تابع للجعل الشرعي مسبوق بالعدم الأزلي السابق علي التشريع، فيستصحب و يعارض الاستصحاب الوجودي.

فاستصحاب نجاسة الماء من حين التغير إلي حين ارتفاعه و إن جري ذاتا في المقام، إلا أنه معارض باستصحاب عدم النجاسة للماء بعد تغيره، إذ قبل التشريع لم يكن الماء نجسا لا حال التغير و لا بعده، و المتيقن بعد التشريع انتقاض العدم بالإضافة إلي حال التغير، و يشك في انتقاضه بالإضافة إلي ما بعده، فيستصحب.

و يندفع: بأن كلّا من الاستصحابين يبتني علي ما ينافي مبني الآخر، فلا يجتمعان معا حتي يتعارضا، فالاستصحاب الوجودي يبتني علي كون وجود الحكم المشكوك في زمان الشك استمرارا لوجوده في زمان اليقين، لاتحادهما موضوعا، و الاستصحاب العدمي يبتني علي كونه موجودا آخر مباينا له، لاختلافهما في الموضوع، و لا يعقل اجتماع ذلك في الحكم الواحد، بل إن استفيد

ص: 133

______________________________

من دليل الحكم- و لو بضميمة الرجوع للعرف- الأول جري الاستصحاب الوجودي، و امتنع الاستصحاب العدمي، لانتقاض العدم بالوجود المتيقن، و إن استفيد الثاني جري الاستصحاب العدمي، و امتنع الاستصحاب الوجودي، لتعدد الأمر المتيقن و المشكوك، كما أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذلك، و حيث كان المفروض في كلامهم هو الأول فلا مجال لتوهم المعارضة.

و توضيح ذلك: أنه لو فرض وجوب الجلوس قبل الزوال و شك في وجوبه بعده، فان احتمل كون الزوال قيدا في الجلوس الواجب كان الجلوس بعد الزوال مباينا للجلوس المتيقن الوجوب، و امتنع استصحاب وجوب الجلوس، و لزم الرجوع لاستصحاب عدم وجوب الجلوس بعد الزوال الثابت قبل التشريع، أو لأصالة البراءة منه.

و إن علم بعدم أخذ الزوال قيدا في الجلوس الواجب، بل ليس الواجب إلا ذات الجلوس المنطبق علي ما يكون بعد الزوال قهرا، و إنما احتمل كون الزوال قيدا لوجوب الجلوس المذكور، تعين الرجوع لاستصحاب وجوب الجلوس الي ما بعد الزوال.

و أما استصحاب عدم وجوب الجلوس بعد الزوال بلحاظ ما قبل التشريع مع ذلك، فإن أريد به استصحاب عدم وجوب ذات الجلوس إلي ما بعد الزوال بنحو يكون الزوال ظرفا للعدم المستصحب مع كون العدم مضافا لماهية الجلوس المطلقة، فلا مجال له، للعلم بانتقاضه بوجوب ذات الجلوس قبل الزوال.

و إن أريد به استصحاب عدم وجوب الجلوس الواقع بعد الزوال، بنحو تكون الخصوصية قيدا للجلوس الواجب، فهو يجري بلا إشكال لو فرض ثبوت الأثر لعدم الوجوب بالنحو المذكور، لأن انتقاض العدم المطلق لا يستلزم انتقاض العدم الخاص.

لكنه لا يعارض الاستصحاب الوجودي المذكور و لا ينافيه، لأن عدم ثبوت الوجوب للجلوس الخاص بخصوصيته لا ينافي ثبوته لمطلق الجلوس المنطبق

ص: 134

______________________________

عليه بعد الزوال قهرا. و يجب العمل علي الاستصحاب الوجودي، فيؤتي بالجلوس بعد الزوال، إذ يكفي فيه وجوب الماهية و الذات المنطبقة عليه قهرا، و هو لا ينافي عدم وجوبه بخصوصيته، لأن اللامقتضي لا يزاحم المقتضي، بل العمل علي الثاني، كما لعله ظاهر.

و منه يظهر الحال في المقام، فإن النجاسة لما كانت محمولة و معروضة علي الماء الخارجي الجزئي، فهو غير قابل للتقييد بزمان دون زمان، و ليس هو كالجلوس الذي هو أمر كلي قابل للتقييد بذلك، فلا بد من كون الزمان فيما نحن فيه ظرفا للمستصحب، لا قيدا في موضوعه، و حينئذ لا يجري استصحاب العدم، للعلم بانتقاضه بثبوت النجاسة للذات في الزمان الأول، بل يجري الاستصحاب الوجودي لا غير.

نعم، يظهر من بعض مشايخنا التمسك في المقام باستصحاب عدم الجعل للحكم في الزمان الثاني و معارضته بالاستصحاب الوجودي المفروض.

بدعوي: أن الجعل بالإضافة إلي زمان الشك حادث مسبوق بالعدم قبل التشريع، فيستصحب عدمه بعده، فيقال: لم يكن وجوب الجلوس بالإضافة إلي ما بعد الزوال مجعولا قبل التشريع فهو غير مجعول بعده، و لم تكن نجاسة الماء بالإضافة إلي ما بعد زوال تغيره مجعولة قبل التشريع، فهي غير مجعولة بعده، فيعارض بذلك الاستصحاب الوجودي.

و فيه: أن الأثر العملي إنما يترتب علي المجعولات الشرعية- كالتكليف و النجاسة و نحوهما- دون جعلها، لوضوح أن المجعولات لما كانت أمورا اعتبارية فلا مصحح لاعتبارها إلا ترتب الآثار العقلية- كوجوب الإطاعة- و الشرعية- كالمانعية من الوضوء و حرمة الشرب- عليها، فليس موضوع الآثار إلا المجعولات، كما هو ظاهر أدلة الآثار أيضا، و حينئذ لا يجري استصحاب عدم الجعل و لا يعارض الاستصحاب الوجودي إلا بناء علي الأصل المثبت.

و دعوي: أن الجعل متحد مع المجعول حقيقة أو عرفا.

ص: 135

______________________________

ممنوعة جدا، بل هما مختلفان كاختلاف الإيجاد مع الموجود، فإن الجعل أمر حقيقي قائم بالجاعل قيام العرض بمعروضه، و المجعول أمر اعتباري قائم بموضوعه، كما أن الإيجاد أمر حقيقي من سنخ العرض أيضا قائم بالموجد، و الموجود قد يكون جوهرا قائما بنفسه، كما قد يكون عرضا قائما بموضوعه.

و مثلها دعوي: أن توقف فعلية الحكم المجعول علي الجعل كتوقفه علي موضوعه، فكما يصح استصحاب الموضوع لإحراز الحكم المترتب عليه، أو عدم الموضوع لإحراز عدم الحكم المترتب عليه، كذلك يصح استصحاب عدم الجعل لإحراز عدم الحكم المجعول.

لاندفاعها: بأن التلازم بين الموضوع و حكمه شرعي، و التلازم بين الجعل و المجعول خارجي عرفي، فالأصل في الأول سببي، و في الثاني مثبت.

مع أنه لو تمَّ لزم حكومة استصحاب عدم الجعل علي استصحاب المجعول كحكومة استصحاب عدم الموضوع علي استصحاب حكمه، لا المعارضة بينهما و التساقط، كما هو المدعي.

ثمَّ إن في المقام جهات أخر للكلام استقصاؤها في علم الأصول أنسب. و ما ذكرناه كان في إثبات صحة الاستصحاب الحكمي الوجودي بنحو يترتب عليه الأثر، الذي هو المهم في المقام.

هذا، و حيث عرفت الدليل علي النجاسة يقع الكلام فيما يخرج عنه مما استدل به علي الطهارة، و هو أمور.

الأول: النبوي المرسل، كما عن المبسوط و الخلاف و السرائر و عوالي اللئالي و محكي المسائل الرسية للسيد المرتضي: «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» «1»، و في جواهر القاضي نسبه إلي قولهم عليهم السّلام.

بدعوي: أن مقتضي إطلاقه الأحوالي عدم حمل الكر للخبث مطلقا لا قبل التغير و لا حينه، و لا بعد زواله، خرج منه حال التغير و بقي الباقي تحت

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

ص: 136

______________________________

العموم، بناء علي ما هو الظاهر من أن المرجع في مثل ذلك عموم العام لا استصحاب حكم المخصص.

لكن ضعف الخبر مانع من العمل به. و إرساله ممن عرفت لا يكفي في حجيته، و ما عن السرائر من رواية المؤالف و المخالف له ان أريد به الاتفاق علي روايته في الجملة و لو مرسلا فهو لا يكفي في حجيته، و إن أريد به التسالم منهم علي صدوره بألفاظه، فهو غير ثابت، و لا سيما مع خلو أمهات كتب الحديث لأصحابنا عن ذكره، بل قد يكون مراد بعضهم الإشارة به إلي مضمون الحديث المشهور من طرقنا: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» الذي هو أجنبي عما نحن فيه بلا كلام، كما لعله ظاهر كلام القاضي في جواهره، و لا سيما مع ظهور كلامه في نسبته لأهل البيت عليهم السّلام.

كما يمكن كونه من روايات العامة، و ذكره أصحابنا في كتبهم مجاراة في مقام الاستدلال، كما هو ظاهر السيدين في الناصريات و الانتصار و الغنية.

و لا مجال لدعوي انجباره بعمل بعض من ذكره في مسألة الماء النجس المتمم كرا بطاهر. لعدم كونه بمرتبة تكفي في الحجية، كما يأتي في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

هذا، و ظاهر المستدل به و بعض المانعين المفروغية عن تمامية دلالته، لدلالته علي ما يعم الدفع و الرفع، فهو كما يدل علي أن بلوغ الكرية مانع من حدوث النجاسة في الماء كذلك يدل علي أنه مانع من بقائها فيه، لأن عدم الحمل أعم من ذلك.

بل هو الذي أصرّ عليه بعض مشايخنا في مسألة المتمم كرا بطاهر، بدعوي:

أن المراد بعدم حمل الخبث عدم الاتصاف بالنجاسة.

لكنه غير ظاهر، كما ذكره غير واحد، لأن هيئة الفعل إنما تدل علي الحدث، لا علي محض الاتصاف بالمادة، بخلاف اسم الفاعل، فالفرق بين قولنا:

زيد غدا مريض، و قولنا: يمرض زيد غدا، ان الأول يدل علي محض اتصاف

ص: 137

______________________________

زيد بالمرض و لو من جهة استمراره فيه، و الثاني يدل علي حدوث المرض له، و لا يكفي فيه استمراره.

نعم، ربما يصح إطلاق الفعل بلحاظ الاستمرار، إما لتقوم المادة به، كما في مثل البقاء و الاستمرار و نحوهما، أو لابتناء المادة علي التجدد، بحيث يكون كل جزء فعلا مباينا للآخر و إن كان متصلا به، بحيث يعتبر امرا واحدا كما في الكلام و الأكل و الشرب أو لإعمال عناية في الفعل الواحد المستمر بتحليله و فرضه أفعالا متعددة، أو لكون المراد بالمادة ما هو نتيجة المصدر المبني علي الاستمرار. كما ربما يستفاد إلحاق البقاء بالحدوث بقرائن خاصة خارجة عن الكلام.

و لا ملزم بشي ء من ذلك في المقام، لوضوح عدم تقوم الحمل بالاستمرار، و عدم كونه من سنخ الكلام مما تتصل أجزاؤه و تعددت حقيقة.

كما لا قرينة علي إعمال العناية فيه بتحليله، و لا علي حمله علي نتيجة المصدر و لا علي إلحاق بقائه بحدوثه، بل المتيقن من الحديث كون الكرية مانعة من حدوث حمل الخبث بالمعني المصدري، فيكون مطابقا لقولهم عليهم السّلام: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1» الذي لا ريب في اختصاصه بالدفع، و لعله لذا نسبه في السرائر إلي رواية المؤالف و المخالف. و لذا فسر الشيخ قدّس سرّه محكي التهذيب و الاستبصار قوله عليه السّلام «إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجسه شي ء» بقوله:

«لم يحمل خبثا». بل ذلك هو الظاهر مما حكي عن غير واحد من كتب اللغة، كتاج العروس و المصباح و النهاية.

و بالجملة: المتيقن من الحديث الاختصاص بالدفع، و لا يعم الرفع، و حيث لا إشكال في عدم دفع الكرية للنجاسة مع التغير، فلا يدل الحديث علي ارتفاعها بعده. فتأمل جيدا.

الثاني: قوله عليه السّلام في صحيح ابن بزيع: «فينزح حتي يذهب الريح و يطيب

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

ص: 138

______________________________

طعمه» «1».

بدعوي: أن «حتي» تعليلية نظيرها في قولنا: أسلم حتي تسلم، أو غائية مع كون ما بعدها علة غائية لما قبلها نظيرها في قولنا: تأمل حتي تفهم المراد، فتدل علي أن علة طهارة البئر ذهاب الريح و طيب الطعم، فيتعدي من البئر لغيرها بعموم العلة المنصوصة.

و فيه: أنه لا قرينة علي الأمرين، بل قد تكون لمحض الغاية نظيرها في قوله تعالي لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عٰاكِفِينَ حَتّٰي يَرْجِعَ إِلَيْنٰا مُوسيٰ «2».

بل لا ريب في عدم كونها لمحض التعليل، لما هو المعلوم من عدم إرادة نزح تمام البئر لأجل ذهاب الريح و طيب الطعم، بل خصوص النزح بمقدار يترتب عليه ذلك، و هو راجع إلي كونها غائية. نعم، يمكن أن يكون ما بعدها علة غائية، و إن لم يكن عليه قرينة.

مع أنه لو فرض إفادتها التعليل فعموم التعليل انما يقتضي التعدي عن النزح إلي غيره من أسباب زوال التغير في البئر، لا التعدي إلي غير البئر مما يزول عنه التغير، لأن الحكم المعلل هو مطهرية النزح للبئر، المستفادة من قوله: «فينزح.»،

لا أصل ثبوت الطهارة للبئر، ليتعدي لغيرها.

مثلا لو قيل: تحرم الخمر لأنها مسكرة، كان ظاهره حرمة كل مسكر، أما لو قيل يحرم ماء الشعير بالغليان لأنه يوجب إسكاره، فهو لا يدل إلا علي أن كل ما يوجب إسكار ماء الشعير محرم له، لا أن كل مسكر حرام.

و حينئذ لعل طهارة البئر بزوال التغير لكون التغير مانعا من الاعتصام بالمادة المفروضة في البئر، فيكون ارتفاعه موجبا لتأثير المقتضي للاعتصام، و هو المادة، لا لكونه تمام المقتضي لتطهير البئر، ليتعدي لغير البئر مما لا مقتضي فيه للتطهير.

بل يتعين ذلك بلحاظ التعليل بقوله عليه السّلام: «لأن له مادة» بناء علي رجوعه

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(2) سورة طه: 91.

ص: 139

______________________________

للحكم المذكور وحده أو مع الحكم الأول المذكور في الصدر، لا لخصوص الحكم الأول.

الثالث: دعوي ظهور بعض نصوص التغير في دوران الحكم مداره وجودا و عدما، كصحيح عبد اللّٰه ابن سنان و موثق سماعة «1» المتقدمين في أول المسألة.

ففي الأول: «إذا كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ».

و في الثاني: «إذا كان النتن الغالب علي الماء فلا تتوضأ و لا تشرب».

لكن قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «الظاهر من الأخبار إناطة الحكم بغلبة الماء علي أوصاف النجاسة أو غلبتها عليه في أول الأمر، فلا يشمل ما كان غالبا بعد أن كان مغلوبا».

و ما ذكره قدّس سرّه قريب جدا. و لا أقل من انصراف الخبرين لذلك بقرينة التعبير بقاهرية الماء في الأول، و غلبة النتن في الثاني، لقرب كون القاهرية في الأول إشارة إلي الكثرة المانعة من التغير في مقابل المقهورية، كما أن غلبة النتن في الثاني ليس عبارة عن محض ظهوره، بل قهر الماء به، و من الظاهر أن المعيار في القاهرية و المقهورية بين الوصف و الماء هو حدوث التغير في مقابل عدمه، و لا دخل لبقائه، بل ارتفاعه بعد حدوثه ينشأ من أسبابه الخاصة من هواء و نحوه، لا من قاهرية الماء له بعد مقهوريته به.

بل لا أقل من كون ما ذكرنا هو مقتضي الجمع بين نصوص التغير علي اختلاف ألسنتها، فان التأمل في مجموعها شاهد بأنها مسوقة لبيان حدوث النجاسة بسبب حدوث التغير، و لا نظر لها إلي بقائها، كما تقدم في أول الكلام في أدلة النجاسة، فلا مخرج عما عرفت من الاستصحاب المقتضي للنجاسة. و اللّٰه العالم.

هذا، و أما الكلام في كيفية تطهير المتغير بعد زوال تغيره فهو الكلام في تطهير كل ماء نجس قليلا كانت أو كثيرا، و يأتي التعرض لذلك في المسألة العشرين

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 11، 6.

ص: 140

______________________________

من هذا الفصل إن شاء اللّٰه تعالي.

السابع: الماء النجس لا يطهر بتتميمه كرا، سواء تمم بطاهر أم بنجس، كما في المعتبر و الشرائع و القواعد و كشف اللثام، و عن الخلاف و المنتهي و التحرير و المختلف و النهاية و التذكرة و الذكري و الدروس و البيان و محكي ابن الجنيد.

و نسبه في جامع المقاصد إلي المتأخرين، و هو قول الأكثر، كما عن الذخيرة، و أكثر المتأخرين، كما عن المدارك، و الأشهر، كما عن التذكرة.

خلافا لما عن الوسيلة من طهارته بتتميمه بطاهر. و لما في جواهر القاضي من إطلاق طهارته بالتتميم الشامل لما لو تمم بنجس، و هو المحكي عن المسائل الرسية للسيد المرتضي، و المراسم و السرائر و المهذب و الإصباح و الجامع و الإيضاح، و مال إليه في جامع المقاصد، و نسبه إلي أكثر المحققين و عن السرائر الإجماع عليه.

و العمدة فيما ذكرنا أن التتميم إن كان بطاهر فمقتضي عموم قولهم عليهم السّلام:

«إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1» نجاسة الماء الطاهر بملاقاة النجس، لأنه دون الكر.

و دعوي: أن الملاقاة في المقام لما كانت موجبة للكرية المانعة من الانفعال كانت خارجة عن العموم، لاستحالة كون الشي ء علة لأمر و لما يمنع عنه.

مدفوعة: بأن المستفاد من العموم هو عاصمية الكرية من الانفعال بملاقاة النجس المباين للكر لا المقوم له، فلا تكون الكرية في المقام عاصمة كي يمتنع كون الملاقاة الموجبة لها منجسة. و ليس المنشأ في ذلك ظهور الحديث في لزوم سبق الكرية علي الملاقاة كي يمنع ذلك، بل ظهوره في كون المنجس المفروض مباينا للماء الكر، و لا يظن بأحد منعه.

و إن شئت قلت: المفروض في الحديث أمران.

الأول: ما يوجب الانفعال.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

ص: 141

______________________________

الثاني: الماء المعروض له، الذي إن كان كرا لم ينفعل، و إلا ينفعل. و حيث ينطبق الأول في المقام علي الماء النجس ينطبق الثاني علي الماء الطاهر، لا علي مجموع الماء، و حيث فرض كون الطاهر دون الكر كان مقتضي إطلاق الحديث انفعاله.

و أما توهم: أن الانفعال بملاقاة النجس المتمم لكرية الطاهر موقوف علي ثبوت عموم انفعال ما دون الكر بكل نجس، و لا مجال لإثباته بالرواية المتقدمة، لأن مفهومها الدال علي انفعال القليل قضية مهملة في قوة الجزئية لا تقتضي إلا انفعال القليل ببعض النجاسات، لا بكل نجس.

فمدفوع: بما تقدم في آخر الكلام في أدلة انفعال الماء القليل من تقريب العموم المذكور من الرواية المتقدمة و غيرها، و أن المستفاد منها انفعال الماء بكل ما من شأنه التنجيس لغير الماء، و منه الماء النجس في المقام. فراجع.

و أما لو كان التتميم بالنجس فهو و إن كان خارجا عن العموم المذكور، إذ لا معني لتنجيس النجس، إلا أنه يدل علي بقاء النجاسة فيه بالأولوية، كما لا يخفي.

هذا، و لو غض النظر عن الاستدلال المذكور أمكن الرجوع للاستصحاب، بناء علي ما تقدم في الفرع السابق من التعويل علي الاستصحاب الحكمي في أمثال المقام.

أما فيما لو تمم بنجس فظاهر. و أما فيما لو تمم بطاهر فمقتضي الاستصحاب بدوا و إن كان هو بقاء الطهارة فيما كان طاهرا و النجاسة فيما كان نجسا، إلا أن استصحاب النجاسة في النجس حاكم علي استصحاب الطهارة في الطاهر لأن الطاهر في نفسه إذا كان أقل من كر و لاقي نجسا ينجس.

لكن شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) أنكر الحكومة في المقام بدعوي: أن منشأ الشك في كلا المائين هو الملاقاة المفروضة في المقام، حيث يحتمل طهارة النجس بملاقاة الطاهر، كما يحتمل تنجس الطاهر بملاقاة النجس، و لا وجه لتقدم أحدهما علي الآخر رتبة، ليكون الأصل فيه حاكما علي الأصل في الآخر و سببيا

ص: 142

______________________________

بالإضافة إليه.

نعم، لو كان الشك في بقاء طهارة الطاهر مسببا عن الشك في بقاء نجاسة النجس مع العلم بحال الملاقاة و أنها تقتضي الانفعال علي تقدير النجاسة كان استصحاب نجاسة النجس حاكما علي استصحاب طهارة الطاهر، كما لو لاقت اليد الطاهرة الماء المستصحب النجاسة.

و فيه: أن احتمال الطهارة بسبب الملاقاة ناشئ من احتمال ارتفاع نجاسة النجس، لاحتمال اعتصام أحد المائين بالآخر بسبب اتصالهما و حصول الكرية لهما، و بعد فرض إجمال أدلة الاعتصام من هذه الجهة و استصحاب نجاسة النجس يتعين جريان حكم ملاقاة النجس مترتبا في المقام، فيكون استصحاب نجاسة النجس حاكما علي استصحاب طهارة الطاهر، كما ذكرنا.

و بعبارة أخري: الشك في ترتب حكم ملاقاة النجس علي الطاهر ناشئ من احتمال حدوث ما يرفع نجاسته أما لو فرض العلم ببقاء نجاسة النجس فيعلم بانفعال الطاهر به، كما ينفعل بغيره، و كما ينفعل غيره به، و ذلك لعموم أدلة انفعال الماء القليل بملاقاة النجس، فمع فرض حكم الاستصحاب ببقاء نجاسة النجس يتعين الحكم بنجاسة الطاهر، و يكون حاكما علي استصحاب طهارته.

اللهم إلا أن يرجع ذلك إلي التشكيك في عموم انفعال القليل بملاقاة النجس لمثل المقام، فلا ينفع العلم ببقاء نجاسة الماء فضلا عن استصحابها في انفعال الطاهر به.

لكن أشرنا إلي ثبوت العموم آنفا فليس الشك ناشئا من احتمال استثناء الملاقاة في المقام من عموم الانفعال بملاقاة النجس، بل من احتمال طهارة النجس بسبب حدوث الكرية له، بنحو يرتفع موضوع الانفعال به، فمع فرض استصحاب نجاسته لا ريب في ترتب الحكم المذكور عليه. فتأمل جيدا.

هذا، و قد يقرّب الاستصحاب بوجه آخر في كثير من صور المسألة، فإن الملاقاة الموجبة للانفعال كثيرا ما تكون أسبق من الاتحاد الموجب للكرية

ص: 143

______________________________

العاصمة، إذ يكفي في الانفعال أدني ملاقاة بين المائين، و لا بد في الكرية من الاتصال بنحو معتد به مع تساوي السطوح في الجملة و نحو ذلك مما هو متأخر عن الملاقاة الموجبة للانفعال.

و حينئذ مقتضي عموم دليل الانفعال نجاسة كلا المائين في الآن الأول، و يرفع اليد به عن استصحاب طهارة الطاهر. غاية الأمر أنه يشك بعد تحقق الاتحاد و صدق الكر علي المجموع في طهارته، و مقتضي الاستصحاب بقاء نجاسته، كما لو كان متمما بنجس.

و مما ذكرنا يظهر ضعف القول بالطهارة في خصوص ما تمم بطاهر، لانحصار الوجه فيه بدعوي: معارضة استصحاب الطهارة في الطاهر لاستصحاب النجاسة في النجس للإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد، و بعد تساقطهما يكون المرجع قاعدة الطهارة فيهما معا.

وجه الضعف: أنه لا مجال لاستصحاب طهارة الطاهر مع عموم انفعال القليل بالملاقاة. و لو غض النظر عنه كان استصحاب نجاسة النجس حاكما علي استصحاب طهارة الطاهر، كما تقدم.

هذا مضافا إلي أن الإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد إنما يوجب سقوط الاستصحابين إذا رجع إلي اتحاد حكمه حتي ظاهرا، لرجوعه إلي العلم بعدم دخول كلا القسمين في عموم الاستصحاب، فيسقط فيهما معا، لعدم المرجح لأحدهما، و عدم الدليل علي التخيير بينهما، كما هو المقرر في سائر موارد العلم بعدم دخول كلا الفردين في عموم دليل التعبد.

لكنه غير ظاهر، بل غاية ما يدعي هو اتحاد حكم الماء الواحد واقعا و هو لا يمنع من العمل بالأصل الظاهري الجاري في كل من قسميه و إن اختلف مؤداه فيهما، و العلم الإجمالي بكذب أحد الاستصحابين واقعا لا يمنع من العمل بهما بعد عدم لزوم مخالفة عملية منه.

علي أن اتحاد حكم الماء الواحد- حتي واقعا- مما لم يتضح منشؤه بعد

ص: 144

______________________________

ثبوت اختلاف قسمي الماء الواحد في مثل الماء الكثير المتغير بعضه دون بعض.

نعم، ربما يدعي ذلك في خصوص صورة الامتزاج.

لكنه- مع عدم اختصاص محل الكلام به- غير ظاهر أيضا، كما لعله يأتي الكلام فيه عند الكلام في تطهير الماء النجس في المسألة العشرين من هذا الفصل.

و أما ما يظهر من بعض مشايخنا من أنه مع امتزاج المائين يكونان موضوعا واحدا عرفا.

فإن أراد به ارتفاع موضوع كل من الأصلين و تبدله بموضوع واحد ليس له حالة سابقة. فمن المقطوع به عدم زوال كل من الموضوعين لا حقيقة و لا عرفا، و أن الماء الواحد مركب منهما لا أنه بدل في الوجود عنهما.

و إن أراد به اتحاد كل من المائين الموجودين سابقا مع الماء الواحد الحاصل بعد امتزاجهما بحيث يكون بقاء له، حتي يكون مقتضي الاستصحاب في كل منهما جريان حكمه علي تمام الماء المذكور، فيتعارض الاستصحابان فيه و يتساقطان.

ففيه: أن الماء المذكور متحد مع المائين بمجموعهما لا مع كل منهما بمفرده فاستصحاب حكم كل منهما لا يقتضي إلا ثبوت حكمه لبعض الماء المذكور لا لتمامه. و مجرد عدم تميز كل من الجزئين لا يمنع من استصحاب حكمه مع امتيازه واقعا، نظير امتزاج النورة النجسة و الملح الطاهر مع جفافهما.

نعم، قد يتم أحد الوجهين لو كان أحد المائين قليلا مستهلكا في الآخر.

و لعله خارج عن محل الكلام.

و إن أراد تحقق الوحدة العرفية في الماء بمجرد امتزاج بعضه ببعض.

فهو لا ينافي بقاء كل من الموضوعين الذي هو المعيار في جريان الاستصحاب فيه، إذ لا دخل للوحدة المذكورة في بقائه قطعا، بل هي من سنخ الحالات الطارئة علي الموجود الواحد.

و كأن مرادهم من اتحاد الماء الواحد حكما في المقام هو اتحاد المائين

ص: 145

______________________________

القليلين المتصلين.

و هو إنما يتم مع تحقق شرط الانفعال فيهما، حيث يكون كلاهما نجسا، و لذا لو قلنا بعدم انفعال الماء القليل اتجه البناء علي بقاء الطاهر علي طهارته، كما أنه لو قلنا بعدم انفعال الماء الوارد علي النجاسة اتجه البناء علي بقاء الوارد علي طهارته لو كان النجس هو المورود، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و عليه يكون مرجع الإجماع المذكور إلي ما ذكرنا من انفعال الطاهر بالنجس علي تقدير بقاء نجاسته، المستلزم لما تقدم من حكومة استصحاب نجاسة النجس علي استصحاب طهارة الطاهر، لا تساقطهما بالمعارضة.

و بالجملة: لا يتضح منشأ تساقط الأصلين في المقام، بل لا بد من البناء إما علي حكومة استصحاب النجاسة- كما ذكرنا- أو علي العمل بكل من الأصلين في مورده، المستلزم لعدم الفائدة في استصحاب طهارة الطاهر مع الامتزاج، لعدم تيسر الانتفاع به خالصا عن الماء النجس، كما لعله ظاهر.

هذا و قد استدل للطهارة مطلقا بوجوه.

الأول: ما عن السيد المرتضي قدّس سرّه: من الإجماع علي طهارة الكر الملاقي للنجاسة إذا شك في سبق كريته علي الملاقاة أو تأخرها عنه، فلو لا بناؤهم علي طهارة المتنجس بصيرورته كرا لم يكن وجه لذلك.

و فيه: أنه لا ملازمة بين الأمرين، إذ المرجع في تلك المسألة إما أصالة الطهارة أو الاستصحاب المقتضي للطهارة تارة و النجاسة أخري علي ما يأتي تفصيله إن شاء اللّٰه تعالي، أما في المقام فالمرجع عموم الانفعال أو استصحاب النجاسة علي ما تقدم.

بل فرض الشك في تلك المسألة ظاهر في أنه مع العلم بلحوق الكرية للملاقاة يتعين البناء علي النجاسة. فلاحظ.

الثاني: ما عنه أيضا من أن بلوغ الكرية يستهلك النجاسة، فلا فرق بين وقوعها قبل البلوغ و بعده.

ص: 146

______________________________

و فيه: أنه لا ظهور لقولهم عليهم السّلام: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» في كون الكرية موجبة لاستهلاك الماء للنجاسة بعد ظهورها فيه، بل في مانعيتها من ظهور النجاسة فيه، و تعميمه لرفع النجاسة الحادثة سابقا في غير محله، و إلحاقه به قياس لا مجال له.

الثالث: النبوي المتقدم في الفرع السابق: «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» بناء علي ظهوره فيما يعم الرفع و الدفع.

و أما الإشكال في الإطلاق المذكور بمعارضته بإطلاق ما دل علي انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة الشامل للمقام.

فمدفوع: بأن من القريب جدا الجمع بينهما بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من حمل الثاني علي الاقتضاء دون الفعلية، فالملاقاة من حيث هي تقتضي النجاسة لعموم دليل الانفعال، لو لا عروض الكرية التي هي من سنخ الرافع لها و المانع منها، كما هو الحال في سائر موارد اجتماع العنوان الاولي و الثانوي.

و مثله الإشكال فيه بمعارضته بالنهي عن غسالة الحمام في مثل موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام ففيها تجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، فهو شرهم، فان اللّٰه تبارك و تعالي لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و إن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «1». لعموم النصوص المذكورة لما إذا بلغت الغسالة كرا، بل هو الغالب في مجمع الغسالة، كما هو المفروض فيها.

فإنه يندفع: بظهور نصوص غسالة الحمام في أن منشأ النهي ليس هو النجاسة بالمعني المصطلح، لتنافي النبوي بل الخباثة المعنوية الحاصلة من الاغتسال بالماء خصوصا من المذكورين فيها، كما يشهد به ذكر غسالة ولد الزنا، و الغسالة من الزنا في بعضها، مع عدم نجاسة الماء بذلك بلا إشكال.

و مجرد التنبيه في الموثق المتقدم إلي أن الناصب أنجس من الكلب لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 5.

ص: 147

______________________________

يكفي الدلالة علي كون العلة هي نجاسة الماء، إذ هو لا ينافي الخباثة بالمعني الذي ذكرنا، نظير ما تضمنته بعض هذه النصوص «1» من أن ولد الزنا لا يطهر إلي سبعة آباء.

و لا سيما مع ظهور بعض هذه النصوص في الكراهة، كخبر محمد بن علي بن جعفر عن الرضا عليه السّلام: «قال: من اغتسل في الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومن إلا نفسه. فقلت لأبي الحسن: إن أهل المدينة يقولون: إن فيه شفاء من العين. فقال: كذبوا. يغتسل فيه الجنب من الحرام و الزاني و الناصب الذي هو شرهما و كل من خلق اللّٰه ثمَّ يكون فيه شفاء من العين!» «2».

فالعمدة في الاشكال في الاستدلال بالنبوي المذكور ما تقدم في الفرع السابق من ان المتيقن منه الدفع. مضافا إلي ضعف سنده، كما تقدم أيضا.

و دعوي: انجباره في المقام بعمل من عرفت، خصوصا مع ما عن السرائر من دعوي الإجماع عليه.

مدفوعة: بعدم وضوح الاعتماد منهم عليه بنحو يكفي في جبره، إذ ما ادعاه في السرائر أنكره عليه في المعتبر، و ظاهر ما نقله في المعتبر عن المرتضي اعتماده علي الوجهين الأولين، لا علي النبويّ.

و القاضي في الجواهر و إن ذكر النبوي، إلا أنه ذكر أيضا أن الطاهر لا ينجس لصيرورته كرا، و النجس يطهر للإجماع علي عدم اختلاف الماء الواحد، و ظاهره عدم تطبيق الكر علي مجموع الماء، و إلا لكان النبوي دالا علي ارتفاع نجاسة النجس بلا حاجة إلي الإجماع، و من ثمَّ لا يبعد كون مراده بالخبر الذي نقله مضمون الرواية المشهورة المختصة بالدفع، خصوصا مع ظهور كلامه في نسبة الخبر لهم عليهم السّلام لا للنبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم، كما تقدم التنبيه له في الفرع السابق.

و أما بقية من ذهب إلي هذا القول فلا يتيسر لنا الاطلاع علي كلامهم، حتي

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 148

______________________________

نعلم اعتمادهم علي النبوي.

علي أن اعتماد هذا المقدار لا يكفي في جبره. و لا سيما مع ما تقدم في الفرع السابق من احتمال كون منشأ ذكرهم للخبر ذهابهم إلي اتحاد مضمونه مع مضمون الرواية المشهورة، كما احتمله في المعتبر أيضا.

و بالجملة: لا طريق لتحصيل الاعتماد بالمقدار الجابر لضعف سند النبوي بنحو ينهض بالاستدلال به في المقام.

هذا، مضافا إلي بعد القول المذكور بلحاظ ما تستلزمه أدلته من طهارة النجس المتمم كرا بالماء المضاف الطاهر أو النجس إذا لم يسلبه إطلاق اسم الماء.

بل لازمه كفاية التتميم بعين النجاسة كالبول مع ذلك، و إن لم يظهر منهم الالتزام بذلك. و اللّٰه سبحانه ولي التوفيق و التسديد.

الثامن: إذا حدثت الكرية و الملاقاة في آن واحد فهل يحكم بطهارة الماء و اعتصامه أو بانفعاله؟ وجهان، بل قولان.

الأقوي الأول، كما صرح به السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي، و وافقه جمع من شراحها و محشيها، منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و قوي بعض الأعاظم قدّس سرّه الثاني، و وافقه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) و بعض المعاصرين قدّس سرّه. و توقف آخرون.

و قد استدل للقول بالطهارة و الاعتصام بإطلاق أدلة اعتصام الكر الشامل للملاقاة المقارنة و اللاحقة.

و ما قيل من لزوم تقدم الموضوع علي الحكم.

مدفوع: بأن اللازم تقدم الموضوع رتبة لا زمانا، بل يستحيل تقدمه زمانا لاستلزامه تخلف الحكم عن موضوعه الذي هو محال، كتخلف المعلول عن علته.

هذا، مضافا إلي ما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه من ارتكاز كون الكرية من سنخ المانع عن الانفعال، و يكفي في تأثير المانع مقارنته للمقتضي حدوثا، و لا أثر لسبقه عليه.

ص: 149

______________________________

ثمَّ إنه لو فرض لزوم تقدم الموضوع زمانا، فكما تكون الكرية موضوعا للاعتصام بمقتضي المنطوق أو غيره من نصوص الكر، كذلك يكون عدمها موضوعا للانفعال بمقتضي المفهوم أو غيره من أدلة انفعال القليل، فلا بد من وجوده حينه، و لا يكفي سبقه عليه مع ارتفاعه حينه، فتكون صورة التقارن خارجة عن عموم الحكمين، و المرجع فيها استصحاب الطهارة.

و لا مجال لتوهم الرجوع فيها لعموم انفعال الماء بملاقاة النجاسة، فإن العموم المذكور- لو فرض تحصيله من غير أدلة الكر- مخصص بنصوص اعتصام الكر، فيكون موضوع الانفعال مقيدا بما لا يكون كرا، فيجري فيه ما تقدم.

نعم، لو كان المستفاد من أدلة الاعتصام أن موضوعه سبق الكرية، بأن يكون اعتبار السبق لأخذه في الموضوع زائدا علي الكرية، لا لكونه من لوازم موضوعية الكر، اتجه كون موضوع الانفعال هو عدم سبق الكرية، فيشمل صورة التقارن، و يتعين البناء فيها علي النجاسة.

لكن لا مجال لذلك، بل هو خلاف إطلاق النصوص الظاهرة في موضوعية الكرية لا غيرها. و ربما يرجع ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في المقام إلي ذلك، و إن كانت عبارته لا تساعد عليه. فراجع و تأمل جيدا.

هذا، و قد يستدل علي النجاسة.

تارة: بانصراف نصوص الاعتصام إلي سبق الكرية، فمع عدم سبقها يتعين الانفعال.

و اخري: بما عن شيخنا الأستاذ من أن كلّا من الكرية و النجاسة قد وقعا علي الماء القليل، و مقتضي عموم انفعال القليل انفعاله في المقام و إن حصلت معه الكرية.

و يندفع الأول: بأنه لا منشأ للانصراف المذكور إلا الترتب بين الكرية و الاعتصام في الأدلة، و هو كسائر موارد الترتب بين الموضوع و حكمه لا يقتضي التقدم الزماني، بل الرتبي، و لو اقتضي التقدم الزماني لم ينفع، كما تقدم.

ص: 150

______________________________

أما استفادة أخذ التقدم زائدا علي الكرية في موضوع الاعتصام فمما لا مجال له، كما تقدم.

و غاية ما يدعي هو إجمال نصوص اعتصام الكر بالإضافة إلي هذه الصورة و عدم وضوح شمولها لها، و هو يقتضي إجمال عموم الانفعال أيضا بالإضافة إليه، لانحصار الدليل علي العموم المذكور بالنصوص المذكورة، الدالة بمنطوقها علي الاعتصام و بمفهومها علي الانفعال، و إجمال المنطوق مستلزم لإجمال المفهوم.

نعم، لو كان لأدلة الانفعال الأخري إطلاق حجة يشمل الكثير اتجه لزوم الاقتصار في الخروج عنه علي المتيقن من أدلة الاعتصام، المفروض خروج محل الكلام عنه.

لكن لا وجود للإطلاق المذكور، لاختصاص نصوص الانفعال الأخري بما هو ظاهر في القلة، كالإناء و نحوه، و لو فرض وجوده كان معارضا ببعض إطلاقات عدم الانفعال المشار إليها في أدلة القول بطهارة القليل، فالمرجع في المقام بعد فرض إجمال نصوص الكر إما إطلاقات عدم الانفعال المشار إليها، أو استصحاب الطهارة. و يأتي في أواخر الفرع اللاحق و في أوائل المسألة السابعة عشرة ما له نفع في المقام.

و يندفع الثاني: بأن الملاقاة في المقام ليست للقليل بما هو قليل، لفرض مقارنتها للكرية الحاصلة بعد القلة، بل لذات الماء المسبوق بالقلة، و معني ورود الكرية علي القليل ذلك، لا كون القليل بما هو قليل معروضا للكرية، لاستحالة كون أحد الضدين معروضا للآخر، و المعتبر في الانفعال هو ملاقاة القليل بما هو قليل، إذ لا بد في الموضوع من تحققه حين الحكم، و لا يكفي سبقه عليه و إن كان متصلا به، كما تقدم.

التاسع: إذا شك في كرية الماء بنحو الشبهة الموضوعية، فقد صرح في المعتبر، و القواعد، و جامع المقاصد، و كشف اللثام بانفعاله بملاقاة النجاسة، و هو المحكي عن التذكرة، و النهاية، و التحرير، و الدلائل، و مجمع الفوائد، و عن محكي

ص: 151

______________________________

الذخيرة: «و لم أر تصريحا بخلافه».

و عن الذخيرة الإشكال فيه، و الميل إلي الرجوع لأصالة الطهارة في الماء، و عن المنتهي احتمال الرجوع لاستصحابها.

و الكلام. تارة: مع عدم العلم بسبق الكرية أو القلة في الماء، إما لفرض العلم بوجوده دفعة أو للجهل بحالته السابقة.

و اخري: مع العلم بذلك.

أما مع عدم العلم بسبق الكرية أو عدمها في الماء فقد يستدل عليه بما في كشف اللثام من أن الأصل عند ملاقاة النجس التنجيس.

لكن لا يخفي أن المراد بالأصل المذكور.

تارة: هو عموم الانفعال بملاقاة الماء.

و اخري: الأصل الظاهري في ظرف الشك و عدم الدليل.

أما الأول فهو مخصص بأدلة الكر فلا يجوز الرجوع إليه مع الشك في الكرية بناء علي التحقيق من عدم حجية العام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص.

و أما ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من اختصاصه بما إذا دار الخاص بين المتباينين، كما لو خصص عموم وجوب إكرام العلماء بدليل حرمة إكرام زيد، و تردد زيد بين شخصين، أما لو دار بين الأقل و الأكثر- كما في المقام، حيث يكون هناك أفراد متيقنة الكرية غير المشكوك- فالعام حجة في الافراد المشكوكة، لأنه يكفي في ثبوت حكم العام عدم العلم بثبوت حكم الخاص.

فلا مجال له، لأن العام قد خرج منه عنوان الخاص الواقعي، فحكمه مشروط بعدم ثبوت حكم الخاص واقعا، و لا يكفي فيه الشك في ثبوت حكمه، بل اللازم الرجوع فيه للأصول التي يختلف مؤداها. علي أن الأمر في المقام قد يدور بين المتباينين، كما لو علم بكرية أحد المائين و قلة الآخر. فتأمل.

هذا، و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من الإشكال في ذلك بعدم ثبوت كون الانفعال هو مقتضي العموم، بل قد يدعي أن الاعتصام هو مقتضي العموم، كما

ص: 152

______________________________

يشهد به النبوي المشهور و بعض النصوص المتقدمة إليها الإشارة في أدلة القول بطهارة الماء القليل، بل هو الذي أصر عليه شيخنا الأستاذ.

فلا يخلو عن تأمل، لعدم حجية النبوي، كما تقدم عند الكلام في أدلة عموم طهارة الماء.

و أما النصوص المذكورة فهي لا تتضمن الحكم بعموم الاعتصام للماء، بل اعتصام بعض المياه الخاصة، كالماء الذي يمر به الرجل في الطريق و نحوه، و استفادة العموم منها إنما هي بعدم الاستفصال، فتكون محكومة لمثل صحيح ابن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العذرة ثمَّ تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء» «1»، لظهوره في التحديد العنواني، و أن حكم الكر من سنخ المستثني من عموم الانفعال، بنحو يلزم بحمل تلك النصوص علي أن الحكم بالطهارة فيها لفرض تحقق عنوان الخاص فيها و هو الكرية، لا لعموم الاعتصام، بل هو المناسب لجميع نصوص الكر، لمناسبة إناطة الطهارة بالعنوان الوجودي لكونه هو الخاص، و التنجيس هو مقتضي العموم في الماء، كما هو مقتضاه في غيره.

نعم، التخصيص في العموم المذكور لما كان متصلا فالقول بحجية العام معه في الشبهة المصداقية أضعف منه مع التخصيص المنفصل، كما حقق في محله.

فلاحظ.

و أما الثاني فقد يقرب بوجوه.

الأول: ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الملاقاة من سنخ المقتضي للانفعال، و الكرية مانع منه، و مع تحقق المقتضي لا يرفع اليد عن مقتضاه إلا مع العلم بالمانع و إن لم يحرز عدم المانع بالاستصحاب.

و لعل ذلك هو المراد بما في جامع المقاصد من أصالة عدم المانع في ظرف تحقق المقتضي، و هو الذي نقل عنهم في محكي الذخيرة تعليل البناء علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 153

______________________________

الانفعال به، فإنه لا يبعد كون مرادهم عدم الاعتناء باحتمال المانع، لا استصحاب عدمه، ليعتبر فيه شروط الاستصحاب.

و قد استشكل فيه بعض المعاصرين رحمه اللّٰه بعدم وضوح كون الكرية من سنخ المانع من الانفعال، بل لعلها موجبة لقصور اقتضاء الملاقاة عنه، نظير قصور قليل الدم عن تغيير الماء الكثير.

و فيه: أن الظاهر قابلية الكر لأن يتأثر بالنجاسة، و قابلية النجاسة للتأثير فيه، و لذا يتحقق ذلك فعلا مع تفرق أجزاء الماء مهما كان كثيرا، و ليس اجتماع أجزاء الكثير ارتكازا موجبا لتبدل الخاصية الذاتية في الماء أو النجاسة، بل ليس هو إلا أمرا خارجا عن الذات من سنخ المانع ارتكازا عن فعلية التأثير مع تحقق القابلية، فتحقق موضوع قاعدة المقتضي في المقام قريب جدا للمرتكزات.

و العمدة في الاشكال ما ذكره غير واحد من عدم ثبوت قاعدة المقتضي بنحو مطلق، فإنه و إن بني العرف علي مقتضاها في كثير من الموارد- كالشك في القرينة الصارفة عن مقتضي الظهور الاولي، و الشك في التعذر و الحرج المسقطين للتكليف و غير ذلك- إلا أنه لا طريق لإحراز عموم البناء عليها شرعا و عرفا بنحو يمكن الاعتماد عليها في المقام.

إلا أن ترجع إلي استصحاب عدم المانع، فيلزم النظر في تمامية شروط الاستصحاب في المقام علي ما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي.

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه، و وافقه فيه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في ظاهر كلامه من أن تعليق الحكم الترخيصي تكليفيا كان- كالحل- أو وضعيا- كالطهارة- علي عنوان وجودي- كالكرية- ملازم عرفا لعدمه ظاهرا عند عدم إحرازه، فإن لم تحرز الكرية في المقام لا مجال للبناء علي الطهارة و الاعتصام.

و فيه: أنه لا منشأ ظاهرا لما ذكره، سواء أراد به دلالة الجعل المذكور عرفا علي إيجاب الاحتياط شرعا تخصيصا لأدلة البراءة و قاعدة الطهارة و نحوهما، أو علي التعبد شرعا بعدم الحكم أو بعدم الموضوع عند عدم إحرازه، أم أراد به بناء

ص: 154

______________________________

العرف علي الاحتياط أو أصالة عدم الحكم أو الموضوع فيكون ذلك أصلا ثانويا عقلائيا، نظير أصالة عدم القرينة، فإنه علي جميع التقادير لا دليل علي ما ذكره، خصوصا مع التفريق بين الحكم الترخيصي و الإلزامي، كما أوضحنا، في مبحث الشبهة الموضوعية التكليفية. فراجع.

و أشكل من ذلك ما نسبه إليه بعض المعاصرين رحمه اللّٰه من دعوي ظهور تعليق الحكم مطلقا و إن كان إلزاميا علي العنوان الوجودي في كونه معلقا واقعا علي إحرازه، لا علي وجوده الواقعي، فمع فرض عدم إحرازه لا يتحقق الموضوع واقعا.

إذ فيه: أن ذلك خلاف ظاهر أخذ العنوان، فلا بد عليه من قرينة خاصة مفقودة في المقام و في أكثر الموارد. علي أنه مخالف لما في تقرير درسه قدّس سرّه و نسبه إليه غير واحد، من اختصاص ذلك بالحكم الترخيصي أولا، و من كونه حكما ظاهريا ثانيا. فراجع.

الثالث: أن مقتضي الاستصحاب عدم الكرية، و عمدة تقريبه وجهان.

الأول: ما ذكره بعض مشايخنا من ظهور جملة من الآيات في أن المياه كلها نازلة من السماء، و قد ذكر في علم الطبيعة الحديث أن أصل مياه الأرض هو المطر، و عليه يقطع بأن المياه الموجودة كلها مسبوقة بالقلة، لأنها نزلت علي شكل قطرات و لم تكن كرا، فيستصحب عدم الكرية لكل ماء مشكوك الكرية، للعلم بعدم كريته سابقا حين وجوده.

نعم، لا يتم ذلك فيما لو علم بطروء الكرية و القلة علي الماء، و شك في السابق منهما.

و فيه: - بعد الغض عما تقدم في أدلة عموم مطهرية الماء من التشكيك في أن المطر أصل لجميع مياه الأرض- أنه لا ريب في كون الكرية من المقادير التي لا يفرق فيها بين اتصال الأجزاء و تفرقها.

نعم، لا إشكال في عدم كفاية ذلك في الاعتصام، بل لا بد من اتصال الأجزاء المقومة لوحدة الماء عرفا، فالكرية شرط في اعتصام الماء الواحد المتصل

ص: 155

______________________________

بعضه ببعض.

و لا يخفي أن المتيقن سابقا للماء الواحد المشكوك حاله ليس هو القلة، بل تفرق الأجزاء، و المفروض العلم بعروض الواحدة عليه، و انتقاض حاله السابق، و أما كميتة فهي لم تتغير قطعا، بل يشك فيها من أول الأمر، فلا يعلم بسبق عدم الكرية له حتي يستصحب.

الثاني: استصحاب عدم الكرية في الماء، بلحاظ حال ما قبل وجوده، بناء علي ما هو الظاهر من جواز الرجوع لاستصحاب العدم الأزلي، لأن الكرية أمر زائد علي وجود الماء و إن كانت مقارنة له، فيستصحب عدمها، لليقين به قبل وجود الماء.

و قد يشكل: بأن الكرية لما كانت من سنخ المقادير المنتزعة من نفس الأجزاء المجتمعة في الوجود لم يكن لها حالة سابقة حتي بلحاظ حال ما قبل وجود الماء، لانتزاعها من مقام ذات الموجود الخارجي التي لا يعقل انفكاكه عنها و لا سلبها عنه حتي قبل وجوده، و ليست منتزعة من أمر زائد علي ذات الماء الموجود عارض لوجوده، كالبرودة و الحرارة، ليصح سلبها عنه بلحاظ حال ما قبل وجوده، فكما لا يصح سلب العشرة عن العشرة بلحاظ حال ما قبل وجودها، لأن عنوان العشرة منتزع من واقع ذواتها مع قطع النظر عن وجودها، كذلك لا يصلح سلب الكرية عن الكر بلحاظ ما قبل وجوده، و كذا الحال في جميع العناوين المنتزعة من المقادير و الكميات.

و بعبارة أخري: المقصود سلب الكرية أزلا عن الماء الخارجي، فلا بد من كون موضوع النسبة السلبية نفس ذلك الماء لا بقيد وجوده، و من الظاهر أن الماء المذكور متقوم بأجزائه المقومة لكميته، فإن كانت أجزاؤه بقدر تنتزع منه الكرية لم يصح سلب الكرية عنه أزلا، لأن تقومه بأجزائه لا يناط بوجوده، بل هو تابع لذاته.

و إلي هذا يرجع ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه، و حكي عن بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

ص: 156

______________________________

و ليس المراد بذلك أنها من عوارض ماهية الماء، ليدفع- كما عن بعض مشايخنا- بأنه لم يؤخذ في ماهية الماء كمّ خاص، بل هي تصدق علي القليل بعين صدقها علي الكثير.

فإن الكمّ و إن لم ينتزع من مقام ماهية الماء الكلية، إلا أنه منتزع من واقع الفرد الموجود بلحاظ سعته، و ليس المقصود إلا سلب الكرية عنه، لا عن الماهية المذكورة.

كما لا مجال للإشكال عليه بما يرجع إلي ما سبق من بعض مشايخنا من أن الكرية منتزعة من اتصال الأجزاء و اتحادها التابع لوجودها لا لذاتها.

لما تقدم من اندفاعه: بأن اتصال الأجزاء لا دخل له في الكرية، بل هو مقوم لوحدة الماء عرفا، و المفروض حصوله، بل هي منتزعة من الكمّ و المقدار المتقوم بالأجزاء لا بقيد الاتصال.

نعم، لو كانت الكرية منتزعة من نفس الوزن و المساحة كان استصحاب عدمها الأزلي متجها، لوضوح أنهما نحو نسبة قائمة بوجود الماء.

لكن الظاهر أن التحديد بهما لمحض التقدير و بيان الكمّ، فهما معرفان للكر، لا مقومان له، و ليس المقوم له إلا الكمّ المنتزع من واقع الفرد الموجود من الماء المتقوم بأجزائه.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لحمل الوزن و المساحة علي محض التقدير و التعريف بلحاظ كمية الماء المتقومة بأجزائه، بل الظاهر دخلهما في موضوع الكرية الموضوعة للأحكام بنفسهما، و لذا لو طرأ علي الكر ما يوجب نقص مساحته، كالبرودة الموجبة لتقلصه خرج عن الاعتصام، كما أنه لو طرأ علي القليل ما يوجب سعة مساحته، كالحرارة الموجبة لتمدده، حصل له الاعتصام، مع عدم تبدل كمية أجزائه و عدم تغير واقعها [1].

______________________________

[1] من هنا يتضح أن الكرية و جميع الأوزان و المكاييل إما أن لا تكون من الكميات، أو يراد بالكمية ما لا ينتزع من خصوص ذات الموجود، بل مما زاد عليها من حيثيات و إضافات. منه عفي عنه.

ص: 157

______________________________

بل لعل مثل ذلك ما لو اختلط بالماء ما يوجب تبدل وزنه أو مساحته مع استهلاكه فيه و عدم خروجه عن إطلاق الماء عرفا، فان الوزن و المساحة و إن كانا قائمين بالأمر المختلط بالماء حقيقة كقيامهما بالأجزاء المائية، إلا أنهما منسوبان عرفا للماء، بحيث يكون الأمر المختلط موجبا عرفا لتبدل وزن الماء أو مساحته مع عدم محافظة الماء علي أجزائه و عدم تبدلها.

و عليه ليست الكرية منتزعة من واقع الأجزاء المائية، ليمتنع استصحاب عدمها عند الشك، بل من الوزن و المساحة المتقومين بنحو من النسبة المتقومة بوجود الماء، لا بذات الماء الموجود، فعنوان الكر لا يحكي عن واقع الأجزاء نحو حكاية عنوان العشرة، بل عن نحو من نسبة قائمة بوجود الأجزاء ينتزع منها المساحة و الوزن لا واقع لها قبل وجود الماء الخاص، فيصح أن يستصحب عدمها الأزلي بلحاظ حال ما قبل وجود الماء، فان الماء قبل وجوده و إن لم ينسلخ عن إجزائه، إلا أنه منسلخ عن الوزن و المساحة، فيصح سلبهما عنه، كما يصح سلب سائر العوارض القائمة بالوجود، كالبرودة و الحرارة.

هذا حاصل ما يوجه به استصحاب العدم الأزلي في المقام، فإن تمَّ لزم البناء علي عدم الاعتصام، و إن كان اللازم التأمل، لاحتمال كون ذلك مبنيا علي النظر الدقي الذي لا يعول عليه في الاستصحاب، بل المعوّل فيه علي الموضوع الحقيقي بنظر العرف الذي قد يساعد في المقام علي كون الكرية من سنخ الكم المنتزع من واقع الأجزاء بذواتها. و منه سبحانه و تعالي نستمد العون و التوفيق.

هذا كله مع عدم العلم بالحالة السابقة، و أما معه فقد صرح غير واحد باستصحابها، سواء كانت هي الكرية أم عدمها، بل يظهر من بعضهم أنه من المسلمات.

و هو في محله بناء علي ما اشتهر في العصور المتأخرة من أن المعيار في موضوع الاستصحاب علي التسامح العرفي، لأن موضوع القضية المشكوكة و إن اختلف عن موضوع القضية المتيقنة حقيقة، لتقومه بأجزائه، و المفروض أن الشك

ص: 158

______________________________

في الكرية و عدمها بعد اليقين بأحدهما إنما يكون غالبا لزيادة الأجزاء أو نقصها، إلا أن العرف بنظره المسامحي قاض باتحاد الماء و أن القلة و الكثرة حالتان طارئتان علي الموضوع الواحد، كالحرارة و البرودة.

نعم، لا بد من كون الزيادة أو النقيصة بمقدار يتسامح فيه عرفا لقلته بالإضافة إلي الماء المتيقن الحال، بحيث يصدق عرفا: كان هذا الماء كذا، أما لو كان بمقدار يعتد به عرفا، بحيث لا يصح نسبة الحال المتيقنة سابقا لنفس الماء المشكوك عرفا، فلا مجال للاستصحاب، لتعدد الموضوع.

لكن أشرنا في الفرع السادس و غيره إلي عدم العبرة بالتسامح العرفي، بل لا بد من البقاء الحقيقي لما هو الموضوع عرفا، و من الظاهر قيام الكثرة و القلة بنظر العرف بالماء بحسب حدوده الخارجية المتقومة بأجزائه بمجموعها بشرط عدم لحاظ غيرها معها، بحيث يكون ذلك مقوما للمعروض، و لا يتبدل الحال إلا بتبدل المعروض، و ليستا كالحرارة و البرودة موضوعهما الذات الخارجية بنفسها لا بمجموعها، بنحو لا يوجب معه نقصها أو زيادتها تبدلا في المعروض.

و إطلاق البقاء فيما نحن فيه مع الزيادة أو النقصان مبني علي التسامح، نظير تسامحهم في إطلاق الرطل علي ما نقص عنه أو زاد عليه قليلا، و لا عبرة به في جميع الموارد، و منها الاستصحاب.

نعم، لو احتمل تبدل الحالة السابقة لبعض الطوارئ من دون تبدل في أجزاء الماء، كالحرارة الموجبة لسعته، و البرودة الموجبة لتقلصه، أمكن الاستصحاب بلا إشكال، لبقاء الموضوع حقيقة.

بل لا يبعد ذلك فيما لو كان التبدل المحتمل لإضافة أمر آخر غير الماء- كالملح- مستهلك فيه عرفا أو لاستخراجه منه بتصفية دقيقة و نحوها مما لا يوجب تبدل الموضوع العرفي للقلة و الكثرة عرفا، و هو الماء، و إن أوجب تبدل الموضوع الدقي، لقيام الوزن أو المساحة بذلك كقيامه بالماء حقيقة، لكن العرف يغفل عن دخل ذلك، بحيث لا يكون إطلاق الوصف علي الماء و الحكم

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 160

ص: 159

______________________________

باستمراره فيه تسامحيا مجازيا، بل يكون حقيقيا، نظير إطلاقهم الحنطة علي ما يكون منها مختلطا بقليل من التراب، فان مثل ذلك مغتفر في موضوع الاستصحاب، علي ما حقق في محله.

و هذا بخلاف ما إذا أضيف له أو أخذ منه شي ء من الماء، لعدم الفرق بين المضاف و المضاف إليه، و المأخوذ و المأخوذ منه في قيام الكرية و القلة بهما عرفا، بحيث يكون صدق البقاء معهما تسامحيا لا حقيقيا.

فلا يجري الاستصحاب بلحاظ الحال السابق، بل يتعين الرجوع لاستصحاب العدم الأزلي بالتقريب المتقدم الذي لا يفرق فيه بين العلم بسبق الكرية و العلم بعدمها و تعاقب الحالتين- لزيادة الماء و نقصه- و عدم العلم بالحالة السابقة أصلا كما قد يظهر بالتأمل.

ثمَّ إنه لو فرض عدم استصحاب الكرية و لا عدمها، لعدم جريان استصحاب العدم الأزلي، المشار إليه فيقع الكلام في مقتضي الأصل في الماء حينئذ، و أنه هل يلزم ترتيب أحكام القلة أو الكرية؟

الظاهر أنه يختلف باختلاف الأحكام المذكورة.

توضيح ذلك: أن ما قيل بامتياز الكر فيه عن غيره من الأحكام خمسة.

الأول: عدم الانفعال بملاقاة النجاسة.

الثاني: تطهير الماء النجس باتصاله أو امتزاجه به.

الثالث: تحقق التطهير به مع ورود المتنجس عليه، بناء علي اختصاص ذلك بالكر، و أنه لا بد في القليل من وروده علي النجاسة.

الرابع: كفاية استيلاء الماء علي المتنجس في تطهيره به، حتي في مثل الفراش و الثوب، و لا يحتاج معه للعصر و نحوه، حيث قيل بذلك في الكر، بخلاف القليل.

الخامس: عدم اعتبار التعدد فيه، حتي في مثل النجاسة بالبول، و في الإناء، و نحوهما مما يحتاج إلي التعدد في القليل.

ص: 160

______________________________

أما الأول: فاللازم البناء عليه في المقام، لاستصحاب الطهارة أو أصالتها، بعد فرض عدم أصل حاكم عليها يقتضي الانفعال.

و لا مجال لتخيل الرجوع فيه لاستصحاب الاعتصام أو الانفعال لو فرض العلم بحال الماء سابقا. بدعوي: ان امتناع استصحاب الكرية أو عدمها لتبدل الموضوع لا ينافي صحة استصحاب الحكم لأنه قائم بذات الماء لا بمجموع الأجزاء و هي لا تتبدل بزيادة الماء و نقصه.

لاندفاعه: بأن الاعتصام و الانفعال ليسا من الأحكام الفعلية الثابتة للماء، بل هما منتزعان من تنجسه بالملاقاة و عدمه، فمرجع الاستصحاب في الحقيقة إلي استصحاب النجاسة علي تقدير الملاقاة أو عدمها علي تقديره، الذي هو من الاستصحاب التعليقي الذي لا يجري علي التحقيق، و لا سيما في مثل المقام مما لم تكن القضية التعليقية مصرحا بها في الأدلة و انما استفيدت ضمنا. فلاحظ.

و أما الثاني: فلا مجال للبناء عليه في المقام، بل يلزم البناء علي استصحاب نجاسة الماء النجس مع استصحاب طهارة مشكوك الكرية، و إن لزم منه اختلاف الماء الواحد في الحكم الظاهري مع الامتزاج، فضلا عن عدمه، لعدم ثبوت الإجماع علي اتحاد الماء الواحد في الحكم الواقعي، فضلا عن الظاهري، كما تقدم في مسألة تتميم النجس كرا.

نعم، تقدم هناك حكومة استصحاب النجاسة لفرض عدم كرية الطاهر، و لا مجال له هنا بعد فرض عدم إحراز ذلك.

لكن لا يبعد حكومته بعد الامتزاج لاستلزامه تقطع الماء الطاهر بالنجس المستلزم لتنجسه به، لعدم عاصمية بعضه لبعض حتي لو كان كرا.

و لا أقل من لغوية الحكم بطهارته، لعدم الانتفاع به مع امتزاجه بالنجس، كما تقدم نظير ذلك في مسألة المتمم و في أواخر المسألة الرابعة.

نعم، لو فرض قلة النجس بنحو يستهلك في مشكوك الكرية قبل أن يوجب تقطعه لم يبعد البناء علي طهارته بالاستهلاك المذكور، كما ذكره بعض مشايخنا.

ص: 161

______________________________

و لا أقل من عدم كونه مانعا من استصحاب مشكوك الكرية حينئذ.

و أما الثالث: فقد ذكر غير واحد لزوم البناء علي عدمه، للشك في تحقق سبب التطهير، فتستصحب نجاسة المتنجس و إن لم يحكم بانفعال الماء به. و العلم بكذب أحد الاستصحابين غير ضائر بعد عدم لزوم مخالفة عملية منه.

لكن يظهر من صاحب الجواهر قدّس سرّه تقريب حصول التطهير بذلك، قال في نظير المقام بعد أن أشار إلي المنع من التطهير عملا بالأصل المتقدم: «علي أنه يمكن القول به أيضا، لأنه ليس لنا ماء لا ينجس بملاقاة المتنجس، و مع ذلك لا يطهر المتنجس بالغسل فيه، بل الحكم بطهارته مع وضع المتنجس فيه، و تحقق الغسل كاف في الحكم بالتطهير به. فتأمل جيدا».

و كأنه أشار بذلك إلي أن عدم التطهير مع ورود الماء المتنجس علي الماء القليل ليس لمجرد عدم كونه كرا، بل لانفعال الماء بالمتنجس المانع من تطهيره له، فهو من أحكام الانفعال الذي هو من أحكام عدم الكرية، لا من أحكام عدم الكرية ابتداء، فإذا فرض عدم إحراز موضوع الانفعال- و هو عدم الكرية- في الماء و استصحاب طهارة الماء بعد وقوع المتنجس فيه، كان الاستصحاب المذكور حاكما علي استصحاب نجاسة المتنجس، لأنه محرز لشرط تطهير الماء له، فيقتضي ارتفاع نجاسته بغسله فيه.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) من امتناع الحكومة في المقام، لأن جريان استصحاب طهارة الماء مسبب عن الشك الناشئ من وقوع المتنجس في الماء، فلا يعقل حكومة تلك الطهارة علي بقاء نجاسة المتنجس.

فلم يتضح المراد به، إذ لو أراد امتناع حكومة المسبب علي السبب، ففيه: - مع أن لازمه حكومة استصحاب نجاسة الثوب علي استصحاب طهارة الماء، عكس ما ذكرنا، لا العمل بكل من الاستصحابين في مورده، كما ادعاه هو و غيره- أن طهارة الماء المستصحبة ليست مسببة عن بقاء نجاسة المتنجس، التي ندعي حكومتها عليها، بل عن وقوعه في الماء.

ص: 162

______________________________

مع أن تسببها عن وقوعه في الماء ليس شرعيا، بل خارجي، لأن الحكم بها مسبب عن الشك، المسبب خارجا عن الوقوع المذكور، و المعيار في تحاكم الأصول التسبب بين مؤدياتها شرعا.

اللهم إلا أن يريد أن الشك في طهارة الماء كما ينشأ عن الشك في كريته كذلك ينشأ عن نجاسة ملاقية، فلا يعقل حكومة استصحابها علي استصحاب نجاسته.

لكن يدفعه: أن الشك في طهارة الماء إنما ينشأ من نجاسة الملاقي في رتبة الملاقاة، و هي متيقنة لا معني لحكومة استصحاب طهارة الماء عليها، و المدعي إنما هو حكومته علي استصحاب نجاسته بعد الملاقاة التي هي مشكوكة، و لا دخل لها في الشك في طهارة الماء.

و إن أراد أن الشك في بقاء طهارة الماء و الشك في بقاء نجاسة المتنجس مسببان عن أمر واحد، و هو وقوع المتنجس في الماء، فلا مجال لحكومة الأصل في أحدهما علي الأصل في الآخر، نظير ما تقدم منه في مسألة تتميم النجس كرا.

ففيه: أن تسبب الشك في تطهير المتنجس عن وقوعه في الماء في طول تسببه عن الشك في بقاء طهارة الماء، فمع فرض إحراز طهارة الماء بالاستصحاب يتعين حكومة الاستصحاب المذكور علي استصحاب نجاسة المتنجس، للسببية بينهما، كما ذكرنا.

نعم، لو كان عدم تطهير الثوب بوقوعه في غير الكر من أحكام غير الكر في عرض الحكم بنجاسته امتنعت الحكومة في المقام، لعدم السببية بين المؤديين.

لكنه خلاف الظاهر، علي ما يتضح في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

و أما الرابع: فيظهر الكلام فيه مما تقدم في الثالث، و لا يبعد أن يكون منشأ التفصيل فيه بين الكر و غيره هو تنجس الملاقي مع عدم الكرية و طهارته معها، فمع فرض استصحاب طهارة الماء في المقام يتعين الاكتفاء باستيلائه، كما في الكثير.

و تمام الكلام في محله، إذ اللازم إعمال النظر في أدلة تلك المسألة، و لا

ص: 163

______________________________

يسعه المقام.

و أما الخامس: فالظاهر عدم ترتبه في المقام، لعدم وضوح كون الاكتفاء بالمرة في الكر من أحكام طهارته و عدم انفعاله، بل هو لو تمَّ من أحكام كريته في عرض الحكم بعدم انفعاله، فاستصحاب طهارة الماء في المقام مع عدم إحراز كريته لا ينفع في إحراز الاكتفاء في التطهير به بالمرة، ليكون حاكما علي استصحاب نجاسة المتنجس، إلا بناء علي الأصل المثبت.

هذا، و لو فرض في مثل ذلك غسل المتنجس بالماء المشكوك في المرة الأولي بالغمس فلا مجال لغسله في المرة الأخري بذلك الماء، للعلم بعدم دخول تلك الغسلة في أدلة التطهير، إما لطهارة المتنجس بالغسلة الأولي، لكون الماء كرا، أو لنجاسة الماء بملاقاته له، لعدم كريته.

و دعوي: أن مقتضي استصحاب طهارة الماء تحقق التطهير به بالغسل مرتين و لو بالوجه المذكور.

مدفوعة: بأن التطهير بالغسل مرتين إنما يكون مطهرا مع طهارة الماء في المرة الثانية و بقاء نجاسة المتنجس قبلها، و الاستصحاب و إن أحرز كلا الأمرين، إلا أنه يعلم تفصيلا بكذب الاستصحاب في إحراز الأثر المشترك، و هو المطهر، بنحو لا مجال للتعبد به ظاهرا، و ليس هو كالعلم الإجمالي بكذب أحد الأصلين في مقتضاه غير المانع من العمل بهما مع عدم لزوم مخالفة قطعية لتكليف منجز.

و عليه لا يحرز تطهير المتنجس، لانحصار مطهرة بالغسل مرة في الكر، و مرتين بالماء الطاهر، و كلا الأمرين لا مجال لإحرازه في المقام، لفرض عدم إحراز الكرية، العلم بعدم الغسل مرتين بالماء الطاهر المشمول لأدلة التطهير، فيتعين غسله بغيره.

بل الظاهر لزوم غسله مرتين أيضا لا مرة واحدة، و عدم احتساب الغسلة الأولي غمسا [1] في الماء المشكوك، للعلم بعدم دخول تلك الغسلة و الغسلة

______________________________

[1] بناء علي أن الغمس في الماء القليل منجس له بنحو يمنع من التطهير به. و كذا الحال فيما بعده.

منه عفي عنه.

ص: 164

______________________________

الثانية معا في أدلة التطهير، لأن الماء المشكوك إن كان كرا خرجت الغسلة الثانية عن أدلة التطهير، و إلا خرجت الاولي عنه.

و منه يظهر أنه لو لم يكتف باستيلاء الماء في مشكوك الكرية، بأن التزم فيه بالعصر مثلا، امتنع الغسل به حتي فيما لا يحتاج إلي التعدد، للعلم بعدم دخول تلك الغسلة في أدلة التطهير، لانحصار المطهر بالغسل بالكر، و الغسل بغيره مع العصر، بنحو تبقي النجاسة بدونه، و الأول غير محرز، و الثاني معلوم العدم، للعلم بعدم دخل العصر في رفع النجاسة إما لكرية الماء [1]، أو لنجاسته بمجرد ملاقاة المتنجس، فلا ينفع الغسل به مع العصر في تطهيره. فتأمل جيدا.

و قد يظهر من جميع ما ذكرنا أنه كما يجري الأصل مع العلم بكذبه تفصيلا كذلك لا مجال لترتيب الأثر الواحد إذا استند إلي مجموع أصلين يعلم بكذب أحدهما إجمالا، لاستلزامه العلم بعدم ترتب الأثر المذكور واقعا المانع من التعبد به ظاهرا.

و كذا لا يعمل بالأصلين مع لزوم مخالفة عملية منهما و إن اختص كل منهما بالأثر و لم يشتركا في أثر واحد. و إنما يجوز العمل بالأصلين المعلوم كذب أحدهما إجمالا إذا اختص كل منهما بأثر، و لم يلزم منهما مخالفة عملية.

تذييل: ما تقدم إنما هو لو شك في الاعتصام بنحو الشبهة الموضوعية، للشك في الكرية و يناسب هنا التعرض للوظيفة العملية في الشبهة الحكمية في الاعتصام إما للشك في تحديد الكر، أو للشك في بعض الشروط المعتبرة فيه، كتساوي السطوح و نحوه، مع فرض إجمال أدلة الكر. و تظهر كثير من جهات الكلام فيه مما تقدم.

و محصله: أنه لا مجال للتمسك فيه بعموم انفعال الماء، إذ لا دليل علي العموم المذكور، إلا الحصر المستفاد من نصوص الكر، و هو مجمل بعد فرض

______________________________

[1] بناء علي أن الكر لا يحتاج فيه للعصر. منه عفي عنه.

ص: 165

______________________________

إجمال الكر و عدم تمامية الإطلاق لأدلته، فلا ينفع في مورد الشك.

بل ربما يدعي حينئذ الرجوع إلي إطلاق بعض النصوص الظاهرة في عدم الانفعال حتي في القليل، فينبغي الاقتصار في الخروج عنها علي المتيقن.

و ليست معارضة بإطلاق يقتضي الانفعال، لما أشرنا إليه في آخر الكلام في الملاقاة المقارنة للكرية من عدم ثبوت الإطلاق المذكور، لاختصاص نصوص الانفعال- غير روايات الكر- بما هو ظاهر في القلة، كالإناء و الركوة و الحب و نحوها.

اللهم إلا أن يقال: إطلاق عدم الانفعال لمّا لم يكن عنوانيا، و إنما استفيد من عدم الاستفصال فنصوص الكر مع كثرتها و وضوح مضمونها تكشف عن احتفافها بالقرينة الصارفة للكرية المغنية عن الاستفصال، كما لا يبعد كونه منصرف أكثرها، لورودها في الغدير و نحوه، فإجمال الكر يوجب إجمالها، لرجوعه إلي إجمال القرينة المحتفة بها. فالاستدلال بعمومها في مورد الإجمال في غاية الإشكال.

مع أنه إن أريد من الرجوع لعموم الاعتصام إثبات طهارة الماء، فهو غير مهم بعد وفاء الاستصحاب أو أصالة الطهارة به.

و إن أريد به إثبات جميع أحكام الكر حتي ما كان منها علي خلاف مقتضي الأصل، بدعوي: أنه لما كان الاعتصام ملازما لبقية أحكام الكر بل لنفس الكرية كان العموم الذي هو دليله دليلا عليها.

فلا مجال له، لعدم حجية العموم في اللازم المذكور عنها، لأن ملاك حجية العموم مع إجمال المخصص إنما هو عدم جواز رفع اليد عن الحجة بغير الحجة، لا كونه رافعا لإجمال المخصص، لعدم تعرضه لذلك بوجه. فتأمل جيدا.

و أما قاعدة المقتضي فقد سبق إنكارها. مع أنه لا يبعد اختصاصها- لو تمت- بما إذا شك في وجود المانع بنحو الشبهة الموضوعية، و لا تنفع في مثل المقام مما شك فيه في مانعية الموجود بنحو الشبهة الحكمية.

و مثلها ما سبق عن بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن تعليق الترخيص أو مطلق الحكم علي عنوان وجودي ملازم عرفا لعدمه ظاهرا أو واقعا عند عدم إحرازه.

ص: 166

______________________________

كما أنه لا مجال لاستصحاب الكرية أو عدمها حتي لو تمَّ في الشبهة الموضوعية، لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم المردد، فان مرجع الشك في المقام إلي إجمال الكر العاصم، و تردده بين ما يعلم حصوله في مورد الشك و ما يعلم بعد حصوله.

و عليه يتعين الرجوع في أحكام الكر إلي مقتضي الأصول المتقدمة، كما هو ظاهر الجواهر، خلافا لما أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لزوم البناء علي الانفعال.

تارة: لعموم أدلته المقتصر في الخروج عنها علي المتيقن.

و اخري: لأصالة عدم السبب العاصم، فيحرز الانفعال. لاندفاعه بما أشرنا إليه من منع التمسك بعموم الانفعال في المقام. و بأنه لا مجال للرجوع لأصالة عدم السبب، لعدم أخذ عنوان السبب في أدلة الاعتصام، بل هو عنوان انتزاعي، و إنما أخذ فيها عنوان الكرية، فمع فرض إجمالها يمتنع الاستصحاب، لكونه من استصحاب المفهوم المردد. و لو فرض جواز استصحاب المفهوم المردد فهو قد يقتضي الاعتصام، كما لو كان الماء مسبوقا بما يقطع معه بالكريه.

و إن رجع كلامه إلي التمسك بقاعدة المقتضي، فقد تقدم منعه.

هذا، و يأتي في أوائل المسألة السابعة عشرة ما له نفع في المقام.

العاشر: لو كان الماء قليلا طاهرا ثمَّ علم بطروء الكرية عليه و ملاقاته للنجاسة و لم يعلم السابق منهما فظاهر المعتبر و القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام و غيرها طهارته مطلقا، بل ظاهر مفتاح الكرامة حيث لم يعقب كلام العلامة في ذلك المفروغية عنه، بل تقدم عن المرتضي في مسألة تتميم النجس كرا الإجماع علي ذلك.

و ينبغي الكلام تبعا لذلك في عكسه، و هو ما لو كان الماء كرا ثمَّ علم بطروء القلة و ملاقاة النجاسة عليه و لم يعلم السابق منهما. و عليه يقع الكلام في مقامين.

الأول: فيما لو كان الماء قليلا طاهرا ثمَّ علم بطروء الكرية عليه و ملاقاته

ص: 167

______________________________

للنجاسة و لم يعلم السابق منهما. و صوره ثلاث.

الاولي: أن يعلم تاريخ الكرية دون الملاقاة. و يتجه البناء فيها علي الطهارة، كما ذكره في العروة الوثقي و غير واحد من شروحها و حواشيها. لاستصحاب عدم الملاقاة إلي زمان الكرية المقتضي لاعتصام الماء.

و قد يستشكل فيه بوجوه.

الأول: ما يظهر من الآشتياني قدّس سرّه في حاشية الرسائل و غيره ممن عاصرناهم و قاربنا عصورهم من منع الاستصحاب المذكور، لأنه لا يحرز كون الملاقاة بعد الكرية إلا بالملازمة.

و فيه: أنه لا حاجة إلي إحراز كون الملاقاة بعد الكرية، بل يكفي إحراز عدم الملاقاة إلي حين الكرية، إذ لا يعتبر في عاصمية الكرية إلا طهارة الماء حينها و عدم انفعاله قبلها، كما تقدم في مسألة المتمم كرا، و الاستصحاب المذكور ينهض بإحراز ذلك. و مجرد العلم بتحقق الملاقاة لا يلزم بإحراز حالها بعد إحراز حال الماء.

و بالجملة: موضوع الاعتصام هو الكرية مع طهارة الماء و عدم نجاسته قبلها، و الأول محرز بالوجدان، و الثاني محرز بالاستصحاب المذكور.

الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا من أن موضوع النجاسة مركب من الملاقاة و عدم الكرية، و ليس هو عبارة عن أمر منتزع من اجتماعهما، كالملاقاة المقيدة بمقارنة عدم الكرية، ليكون عدمه موردا للأثر و يجدي استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، فالاستصحاب المذكور لا أثر له، لعدم إحرازه ارتفاع موضوع النجاسة.

و فيه: أنه إنما يتم لو أريد بالاستصحاب نفي الملاقاة الخاصة بمفاد ليس التامة، بحيث يكون عدم الكرية قيدا للملاقاة المنفية بالاستصحاب، لما ذكره من أن موضوع النجاسة ليس أمرا بسيطا و هو الملاقاة الخاصة، بل هو مركب من الملاقاة و عدم الكرية، فنفي الملاقاة الخاصة لا يجدي في نفي موضوع النجاسة.

ص: 168

______________________________

أما لو أريد بالاستصحاب نفي الملاقاة بنفسها في زمان عدم الكرية، بنحو يكون الزمان المذكور ظرفا للعدم المستصحب، فلا إشكال، لوضوح أنه لما كان موضوع النجاسة مركبا من أمرين الملاقاة و عدم الكرية، و كان الاستصحاب المذكور محرزا لعدم الأول، فهو يكفي في إحراز عدم النجاسة، كما أن إحرازه بالأصل يكفي في إحراز النجاسة.

الثالث: دعوي تبدل الموضوع، لأن الماء الذي يعلم بعدم ملاقاته للنجاسة سابقا ليس هو الماء المشكوك بتمامه، بل بعضه و هو ما عدا الزيادة التي أوجبت كريته، فلا مجال للاستصحاب بناء علي ما تقدم في الفرع السابق من عدم الاعتبار في موضوع الاستصحاب بالتسامح العرفي، و لذا تقدم المنع من التمسك باستصحاب الكرية أو عدمها في مثل ذلك.

و فيه: أن قيام الملاقاة و عدمها بالماء ليس كقيام الكرية و عدمها به، فان البعض المسبوق بالقلة يكون بنفسه معروضا للملاقاة و عدمها لا بقيد اجتماعه بغيره، و يراد استصحاب عدم الملاقاة له لا للمجموع.

نعم، الزيادة قبل الملاقاة توجب اعتصام المجموع و عدم تنجسه بالملاقاة الطارئة، كما أن الزيادة بعد الملاقاة توجب تنجس الزائد بملاقاة الماء المتنجس لا بملاقاة نفس النجاسة، و ذلك لا يستلزم تبدل الموضوع.

و هذا بخلاف الكرية و عدمها، فإنهما من الكم القائم بالماء الواحد بحده الخارجي المتقوم بالأجزاء المجتمعة بنفسها، و لا يراد بالاستصحاب إلا إثبات صفة البعض المتيقنة للكل المشكوك أو العكس، و هو مستلزم لتبدل الموضوع.

ثمَّ إن الوجوه المذكورة لو تمت فهي إنما تمنع من جريان استصحاب عدم الملاقاة في الماء، لا من جريان استصحاب الطهارة أو أصالتها فيه، بناء علي ما سبق من أن ملاقاة ما لم تحرز كريته و لا عدمها لا تقتضي الحكم بانفعاله ظاهرا، و بعد الحكم بطهارة الماء ظاهرا و العلم بصيرورته كرا يحكم باعتصامه.

نعم، بناء علي ما سبق من غير واحد من لزوم البناء في مثل ذلك علي

ص: 169

______________________________

انفعال الماء لقاعدة المقتضي أو نحوها يتعين البناء علي نجاسته في المقام حينئذ.

لكن تقدم ضعف المبني المذكور.

و منه يظهر حال دعوي معارضة استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية- لو فرض جريانه في نفسه- باستصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة- بناء علي ما ذهب اليه بعضهم من معارضة الاستصحاب في معلوم التاريخ للاستصحاب في مجهوله- فان المعارضة المذكورة- لو تمت- انما تمنع من البناء علي طهارة الماء بناء علي الحكم ظاهرا بانفعال ما لم يحرز كريته و لا عدمها، و لا تمنع منه بناء علي المختار في المسألة من الرجوع للاستصحاب أو أصالة الطهارة في الماء.

نعم، بناء علي عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية لأحد الوجهين الأولين و جريان استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة يكون الاستصحاب المذكور محرزا للنجاسة و حاكما علي استصحاب الطهارة المذكور.

و هذا بخلاف ما لو كان المانع هو الوجه الثالث، فإنه- لو تمَّ- يمنع من كلا الاستصحابين، كما لو سقطا بالمعارضة.

علي أن المحقق في محله عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالإضافة إلي مجهول التاريخ، فلا يجري حينئذ استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة، كي يعارض استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، أو يحكم علي استصحاب الطهارة.

و الذي تحصل: أنه ليس لنا في المقام إلا استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، و استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة.

و أن القول بالطهارة يبتني علي انفراد الأول بالجريان، أو علي عدم جريانهما معا ذاتا أو من جهة المعارضة مع البناء علي أن الأصل في الماء غير المحرز الكرية و لا عدمها عدم الانفعال.

كما أن القول بالنجاسة يبتني علي انفراد الثاني بالجريان- كما ذهب إليه بعض مشايخنا- أو علي عدم جريانهما معا مع البناء علي أن الأصل في الماء غير

ص: 170

______________________________

المحرز الكرية و لا عدمها هو الانفعال.

الصورة الثانية: أن يعلم بتاريخ الملاقاة و يجهل تاريخ الكرية.

و اللازم البناء علي النجاسة- كما في العروة الوثقي و غير واحد من شروحها و حواشيها- لاستصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة غير المعارض باستصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، بناء علي ما تقدم من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ.

فان ظاهر أدلة الكر انفعال الماء بالملاقاة مع عدم الكرية، فمع إحراز الملاقاة بالوجدان و عدم الكرية بالاستصحاب يحرز موضوع الانفعال، و يكون حاكما علي استصحاب طهارة الماء.

و ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث الأصل المثبت من الفرائد من عدم جريان الاستصحاب المذكور، لأن اللازم إحراز وقوع الملاقاة حال القلة و تقدمها علي الكرية.

لا يتضح وجهه، إذ لو رجع إلي دعوي تركب موضوع الانفعال من القلة و الملاقاة، فظاهر أدلة الكر خلافه، لظهورها في أخذ الكرية في موضوع الاعتصام، المستلزم لكون موضوع الانفعال عدمها، لا عنوان القلة، مع أنه كما يمكن استصحاب عدم الكرية الملازم للقلة يمكن استصحاب القلة بنفسها، فيخرج عن الأصل المثبت.

و إن رجع إلي دعوي: أخذ عنوان التقدم في موضوع الانفعال، بحيث لا يكون الموضوع مركبا من الملاقاة و عدم الكرية، بل هو عبارة عن الملاقاة المتقدمة علي الكرية، و الاستصحاب المذكور لا يحرز عنوان التقدم. فلا شاهد عليه من الأدلة، بل ظاهرها أخذ عدم الكرية لا غير، كما ذكرنا.

إن قلت: تقدم في الفرع السابق المنع من استصحاب عدم الكرية، لابتنائه علي التسامح العرفي في موضوع الاستصحاب، و هو غير معتد به.

قلت: إنما لا يجري استصحاب عدم الكرية لو أريد به إثبات حال تمام الماء

ص: 171

______________________________

الموجود، لإحراز انفعاله، حيث تقدم أن ما يعلم بعدم كريته حقيقة هو بعضه لإتمامه.

أما لو أريد إثبات حال خصوص البعض المتيقن عدم كريته سابقا، فلا إشكال فيه، لاتحاد الموضوع فيه حقيقة لا تسامحا، و ذلك هو المراد في المقام، حيث إن الماء الملاقي للنجاسة يعلم بعدم كريته سابقا، و يشك في اتصاله بما يوجب كريته قبل الملاقاة، فيستصحب حاله السابق المتيقن لإثبات انفعاله بالملاقاة، لا لإثبات انفعال تمام الماء، و إنما يحكم بانفعال بقية الماء لملاقاته للماء القليل المتنجس، لا لملاقاته لنفس النجاسة.

و منه يظهر أن المستصحب في الحقيقة ليس هو عدم الكرية، للعلم بعدم انقلاب الماء الملاقي للنجاسة عن حاله، بل هو عدم صيرورة الملاقي جزءا من الكر، فإن ذلك حال طارئ علي الماء قابل للشك و الاستصحاب.

و هذا بخلاف ما تقدم في الفرع السابق، فإنه بعد فرض اتحاد الماء بعضه مع بعض لا بد في انفعاله من عدم كريته بمجموعه، و لا طريق لإحراز ذلك إلا باستصحاب عدم كريته، المبني علي التسامح العرفي. فتأمل جيدا.

الصورة الثالثة: أن يجهل تاريخ الملاقاة و الكرية معا.

و اللازم البناء علي الطهارة- كما في العروة الوثقي و غيرها- لاستصحاب طهارة الماء، و لا يجري كل من استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة، و لا استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية.

إما لعدم جريان الأصل ذاتا في كل من مجهولي التاريخ بالإضافة إلي الآخر، و إن جري في عمود الزمان- كما هو الظاهر- أو لسقوطه في كل منهما بالمعارضة للآخر- كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه- فيكون بحكم الماء المشكوك الكرية الذي تقدم في الفرع السابق أن المرجع فيه استصحاب الطهارة، و هو يقتضي في المقام الاعتصام بعد فرض تحقق الكرية.

و مما تقدم يظهر الوجه فيما ذكره غير واحد من البناء علي النجاسة في هذه

ص: 172

______________________________

الصورة، و أنه إما أن يبتني علي عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية ذاتا، و جريان استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة، بناء علي جريان الأصل في مجهول التاريخ بالإضافة إلي الآخر- كما جري عليه بعض مشايخنا- أو علي أن الأصل في الماء الذي لم تحرز كريته و لا عدمها هو الانفعال لقاعدة المقتضي و نحوها. و قد تقدم ضعف كلا المبنيين.

المقام الثاني: فيما لو كان الماء سابقا كرا معتصما، ثمَّ علم بطروء القلة عليه و ملاقاته للنجاسة، و لم يعلم السابق منهما.

و صوره أيضا ثلاث.

الاولي: أن يعلم تاريخ الملاقاة و يجهل تاريخ الكرية. و قد ذكر في العروة الوثقي و غير واحد من شروحها و حواشيها أن الحكم فيه الطهارة.

و يكفي فيه استصحاب الطهارة، بل الظاهر جواز الرجوع فيه لما هو سابق عليه رتبة، و هو استصحاب الكرية إلي حين الملاقاة، الذي هو في الحقيقة عبارة عن بقاء الملاقي علي حاله السابق كرا مجتمع الأجزاء أو جزءا من كر مجتمع الأجزاء، لما أشرنا إليه في الصورة الثانية من المقام السابق، فان الشك في الحقيقة في ذلك، لا في خروج الكر عن كونه كرا.

هذا، و لا مجال لدعوي: معارضة الاستصحاب المذكور باستصحاب عدم الملاقاة إلي حين ارتفاع الكرية و حدوث القلة. لما تقدم من عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ. مضافا إلي ما يأتي في الصورة الثانية من عدم جريان الاستصحاب المذكور ذاتا.

مع أن فرض المعارضة إنما يقتضي البناء علي النجاسة بناء علي أصالة الانفعال في مشكوك الكرية، و قد تقدم المنع منه و أن المرجع فيه استصحاب طهارة الماء.

الصورة الثانية: أن يعلم تاريخ القلة و يجهل تاريخ الملاقاة. و قد حكم في العروة الوثقي بالنجاسة حينئذ، و أمضاه بعض المحشين عليها و منهم بعض

ص: 173

______________________________

الأعاظم قدّس سرّه.

و كأنه لاستصحاب عدم الملاقاة إلي حين ارتفاع الكرية و حدوث القلة، غير المعارض باستصحاب الكرية إلي حين الملاقاة، لما تقدم من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالإضافة إلي مجهولة.

لكن الظاهر- تبعا لما ذكره غير واحد من شراح العروة و محشيها- هو الطهارة، لعدم الأثر لاستصحاب عدم الملاقاة المذكور، فان موضوع الانفعال هو حدوث الملاقاة حين عدم الكرية، و هو لازم مؤدي الاستصحاب المذكور لا عينه.

نعم، لو ثبت التعبد بأصالة تأخر الحادث بنحو يحرز بها وجوده المتأخر، لا مجرد عدمه في الزمان السابق- الذي هو مفاد الاستصحاب المذكور- كانت حجة في إثبات حدوث الملاقاة بعد ارتفاع الكرية الذي هو موضوع الانفعال.

لكنه غير ثابت. فلا مخرج عن استصحاب الطهارة في المقام بناء علي ما تقدم من أنه المرجع في الماء الذي لا تحرز كريته و لا عدمها.

و لعل ما صدر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من إمضاء الحكم بالانفعال مبني علي أنه الأصل في الماء المذكور، كما تقدم منه في الفرع السابق.

الصورة الثالثة: أن يجهل التاريخان. و الحكم فيها الطهارة- كما صرح به في العروة الوثقي و غير واحد من شروحها و حواشيها- و الوجه فيه استصحاب طهارة الماء، لما أشرنا إليه في نظير هذه الصورة من المقام الأول من عدم جريان الأصل في كل من مجهولي التاريخ بالإضافة إلي الآخر، فلا مجال لاستصحاب الكرية إلي حين الملاقاة، بل تصل النوبة إلي استصحاب الطهارة في الماء، كما ذكرنا.

نعم، بناء علي جريان الاستصحاب ذاتا في كل من مجهولي التاريخ بالإضافة إلي الآخر، فالمرجع هو استصحاب الكرية إلي حين الملاقاة، غير المعارض باستصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، لأنه مثبت، كما ذكرناه في الصورة الثانية.

ص: 174

و الثاني: - و هو ماله مادة- لا ينجس بملاقاة النجاسة (1).

______________________________

و مما ذكرنا في هذه الصور و ما قبلها يظهر الكلام فيما لو فرض العلم بحدوث الملاقاة حين الكرية و احتمل استمرارها إلي ما بعد ارتفاعها، فان استصحاب الملاقاة إلي ما بعد زمان الكرية يقتضي النجاسة، و استصحاب الكرية في تمام أزمنة الملاقاة يقتضي الطهارة.

فإن جري الأول وحده- كما في صورة العلم بتاريخ ارتفاع الكرية- كان حاكما علي استصحاب طهارة الماء، و لزم البناء علي نجاسته. و إن جري الثاني وحده- كما في صورة العلم بتاريخ ارتفاع الملاقاة- أو لم يجريا معا- كما في صورة الجهل بالتاريخين- لزم البناء علي الطهارة.

و ما تقدم من المباني الأخر في جريان الأصل في مجهول التاريخ و معلومه و تعارض الأصلين جار هنا. و تفصيل ذلك يعلم مما تقدم. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

هذا تمام ما أردنا التعرض له من الفروع التي أهملها سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و بقيت فروع اخري أشار إليها في العروة الوثقي أهملناها، لعدم أهميتها، أو لظهور الكلام فيها مما تقدم. و الحمد للّٰه رب العالمين. و هو ولي العصمة و السداد.

(1) يعني: و إن لم يكن كرا، كما نسبه في الجواهر إلي المشهور، بل ربما ادعي الإجماع عليه في بعض الأقسام كالجاري، و إن وقع الخلاف في بعضها، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي.

و يقتضيه عموم التعليل في صحيح ابن بزيع عن الرضا عليه السّلام: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء، إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتي يذهب الريح و يطيب طعمه، لأن له مادة»، و نحوه صحيحه الآخر «1»، فإنه قد تضمن في صدره الحكم بعدم الانفعال، و في ذيله الحكم بالطهارة بمجرد زوال التغير، و التعليل إما أن يرجع

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 175

______________________________

للأول، لأنه الذي سيق له الكلام بالأصل، أو للثاني، لأنه الأقرب، أو لهما معا، لمناسبته لهما معا ارتكازا، و احتياجهما معا للتعليل، حيث وقعا موردا للكلام، بل أطبق العامة- كما قيل- علي خلافهما، و استفاضت به النصوص.

أما علي الأول و الثالث فالاستدلال بعموم التعليل واضح.

و أما علي الثاني فلأن رافعية المادة للنجاسة تستلزم دافعيتها لها عرفا. بل ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه أنها تقتضيه بالأولوية. علي أنه لو غض النظر عن التلازم بينهما فمقتضي الإطلاق ارتفاعهما بمجرد حدوثها مع فرض عدم التغير، فلا يكون وجودها إلا رتبيا، و لا استقرار لها في الزمان، و مثل ذلك لا أثر له عملا، ليقبل الجعل شرعا.

نعم، هو موقوف علي التعدي عن النجاسة الموجبة للتغير التي هي مورد الحديث و التعليل، و لا ينبغي الريب فيه، لفهم عدم الخصوصية، بل القطع به بعد معلومية أن التنجس مع التغير أولي بالبقاء و أقوي من التنجس بدونه. فتأمل جيدا.

هذا، مع أن التردد بين الوجوه المذكورة إنما يتجه لو كان كل من الحكمين مستقلا عن الآخر و مجعولا في قباله، و هو خلاف ظاهر الحديث الشريف، فان مقتضي تفريع قوله عليه السّلام: «فينزح» علي ما قبله كون الحكم الثاني من شؤون الحكم الأول و مرتبطا به و مترتبا عليه، و يتعين رجوع التعليل للأول لا غير، و لا معني لرجوعه إلي الثاني فقط و إن كان أقرب، لأن الأقربية إنما تقتضي ترجيحه لو كان مستقلا عن الأول، بحيث يكون رجوع التعليل للأبعد مستلزما لخلو الأقرب عنه مع افتقاره إليه، لا في مثل المقام مما كان تعليل الحكم الأول موجبا لاستغناء الثاني عن التعليل، لأنه من شؤونه و توابعه.

بل إرجاع التعليل للثاني حينئذ مخالف للظاهر جدا، لأن مقتضي تفريعه علي الأول كون الأول هو العلة له، فيستغني عن التعليل، و لا يحتاج إليه إلا منشؤه الذي سيق الكلام له بالأصل، كما لعله يظهر بالتأمل.

و وجه ترتبه عليه أن المستفاد من الحكم الأول بضميمة التعليل ان عدم

ص: 176

______________________________

الانفعال مسبب عن أن المادة مقتضية للاعتصام و الطهارة، و حينئذ فمانعية التغير من الطهارة إنما تقتضي النجاسة ما دام التغير موجودا، لاختصاص تأثير المانع في فرض وجود المقتضي بحال وجوده، و لا معني لتأثيره مع ارتفاعه، بل يتعين تأثير المقتضي و ارتفاع أثر المانع مع عدم سقوط المقتضي عن الاقتضاء، كما في المقام، لوضوح عدم تغير المادة و عدم تنجسها.

و منه يظهر الفرق بين المقام و ما إذا ارتفع تغير الكر من قبل نفسه، فإن الكرية و إن كانت مقتضية للاعتصام، إلا أنها لما كانت قائمة بالماء و كان تغيره موجبا لانفعاله كان ذلك مسقطا للمقتضي عن الاقتضاء ارتكازا، فلا يؤثر بعد ارتفاع المانع.

نعم، لو اتصل المتغير بكر لم يتغير اتجه كونه نظير المقام في كونه عاصما للماء بعد ارتفاع تغيره و مطهرا له، لاشتراكه معه في الجهة الارتكازية التي أشار إليها التعليل.

هذا، و قد يقال: ان التعبير عن ماء البئر بالسعة لا يراد به السعة الحكمية بلحاظ اعتصامه، ليكون قوله عليه السّلام: «لا يفسده شي ء» تأكيدا و تفسيرا له، و يستدل بعموم تعليله، بل المراد به كثرته وسعة وجوده فلا يعم القليل.

و فيه: - مضافا إلي ما قيل من عدم مناسبة التعبير عن الكثرة بالسعة- أن حمل السعة علي الكثرة يقتضي سوقها لتمهيد الحكم بعدم التنجس و تعليله، فلا موقع لتعليل الحكم المذكور بعد ذلك بأن له مادة، بل لا بد من جعل ذلك تعليلا للسعة، لبيان أن الكثرة الموجبة للاعتصام نعم الكثرة الحاصلة من الاتصال بالمادة، و لا يعتبر فيها وحدة الماء عرفا و اجتماعه، فينفع في إثبات المطلوب.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم و حكاه عن البهائي قدّس سرّهما من إجمال التعليل، لاحتمال رجوعه إلي ترتب ذهاب الريح و طيب الطعم علي النزح، نظير قولك:

لازم غريمك حتي يوفيك حقك، فإنه يكره ملازمتك.

ففيه: ما أشار إليه غير واحد من ان الكلام غير مسوق لبيان ترتب ذهاب

ص: 177

______________________________

التغير علي النزح، بل لبيان توقف الطهارة علي النزح الرافع للتغير، و ليس ترتب ذهاب التغير علي النزح في الجملة إلا متصيدا من ذلك، و صرف التعليل إلي القضية المتصيدة التي لم يتصد المتكلم لبيانها بعيد جدا.

نعم، لو كانت «حتي» للتعليل كان الكلام مسوقا لبيان ترتب ذهاب التغير علي النزح و أمكن صرف التعليل إليه.

لكنه خلاف الظاهر، إذ لا إشكال في عدم إرادة مسمي النزح بنزح البعض، لعدم ترتب ذهاب التغير عليه، و لا نزح الكل، لارتفاع موضوع طيب الطعم معه، بل المراد النزح الخاص المناسب لحملها علي الغائية، و هو النزح منه إلي أن يذهب تغيره، فيكون ذهاب التغير قيدا في النزح، كما يكون ترتبه عليه في الجملة متصيدا لا يمكن صرف التعليل إليه.

هذا، مضافا إلي أن ترتب ذهاب التغير علي النزح في الجملة- مع كونه أمرا خارجيا لا يناسب اهتمام الشارع بتعليله- مستغن عن التعليل لوضوحه.

و منه يظهر الفرق بين الحديث الشريف و المثال الذي ذكره، إذ ليس في المثال المذكور ما يصلح لصرف التعليل إليه إلا ترتب الوفاء علي ملازمة الغريم، و هو كاف في تعيين «حتي» للتعليل، و ليس هو من الوضوح بحد يستغني عن التعليل، كما أن التعرض له ليس خارجا عن وظيفة المتكلم.

فالإنصاف أنه لا مجال للتشكيك في رجوع التعليل للحكم بالاعتصام و قوة ظهوره في عاصمية المادة مطلقا، كما ذكرنا.

نعم، الرجوع إليه موقوف علي العمل بالحديث في البئر، أما لو فرض إهماله فيها أشكل الاعتماد عليه في غيرها، إذ كما يمكن أن يكون إهماله فيها لخصوصية مخرجة عن عموم عاصمية المادة، يمكن أن يكون لعدم تمامية العموم المذكور، و لا قرينة علي أحد الأمرين، و خروج المورد عن عموم العام يوهنه، لصعوبة التفكيك بين المورد و الوارد في إعمال أصالة الظهور عرفا، و ليسا مفادين متباينين ليسهل التفكيك بينهما في الحجية.

ص: 178

______________________________

إلا أن الظاهر هو العمل بالعموم في مورده- كما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي- فيتجه الاستدلال به في المقام.

هذا، و يمكن الاستدلال أيضا بما دل علي اعتصام ماء الحمام، الذي يأتي الكلام فيه في المسألة التاسعة عشرة إن شاء اللّٰه تعالي، بناء علي ما هو الظاهر من عدم كون عنوان الحمام دخيلا في موضوع الحكم، و أن المراد به الإشارة إلي المياه الخارجية الموجودة في الحمامات. و هي مياه الحياض الصغيرة، بلحاظ فرض المادة لها، فيتعدي منها إلي جميع ما له مادة.

نعم، يلزم الاقتصار فيها علي المتيقن من الخصوصيات المحتمل دخلها في الحكم و تحققها في مياه الحمامات الموجودة في عصر صدور الروايات، لعدم الإطلاق فيها بعد فرض عدم دخل عنوانها في موضوع الحكم و عدم تحديد موضوعه فيها، بل هي نظير القضايا الخارجية يجب الاقتصار فيها علي المتيقن.

فلاحظ.

ثمَّ إنه لو تمَّ الدليل علي اعتصام ذي المادة فلا مجال لمعارضته بأدلة انفعال القليل، لانحصار تلك الأدلة بالنصوص الواردة في الإناء و الكوز و الدلو و نحوها، و نصوص الكر الدالة بمفهوم الحصر علي انفعال ما دونه، و الأولي مختصة بما لا مادة له، و الثانية و إن كان بينها و بين أدلة اعتصام ذي المادة عموم من وجه، إلا أنه يلزم تقديم أدلة الاعتصام بحمل تلك النصوص علي غير ذي المادة، لئلا يلزم إلغاء خصوصية المادة في أدلتها، إذ لو حملت نصوص المادة علي ما بلغ الكر كفي في الاعتصام الكرية و لا أثر للمادة.

و كذا الحال في غير نصوص الكر من أدلة الانفعال لو فرض لها إطلاق أو عموم يشمل ماله مادة.

هذا، و لو فرض استحكام التعارض بين أدلة الاعتصام و الانفعال فقد ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن المرجع عموم النبوي «1» الدال علي اعتصام الماء مطلقا و لو

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

ص: 179

______________________________

كان قليلا، أو أصالة الطهارة.

لكن تقدم غيره مرة الإشكال في الاستدلال بالنبوي.

نعم، قد يستدل بالعموم المستفاد من ترك الاستفصال في بعض النصوص التي أشرنا إليها في أدلة القول بعدم انفعال القليل.

لكن النصوص المذكورة بين ما هو مختص بما لا مادة له، و لا بد من حمله علي الكر، و ما لا عموم فيه للماء القليل بنفسه لقرينة فيه.

فالأول: كصحيح ابن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا يتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «1»، و نحوه موثق أبي بصير «2» و غيره «3».

و الثاني: كموثق سماعة: «سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء. قال:

يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «4»، فإن الأمر فيه بالوضوء من الناحية التي ليس فيها الميتة موجب لقرب احتمال فرض الماء قد تغير بعضه بالميتة دون بعض، و هو لا يكون إلا في الكثير.

و قريب منه في ذلك كثير من النصوص «5» المفصلة بين تغيره و عدمه، فإن فرض عدم التغير مناسب لكثرة الماء جدا. علي أنه لا يبعد عدم الإطلاق لبعضها، لورودها في مقام بيان كون التغير موجبا للانفعال، و ليست في مقام البيان من جميع الجهات. فتأمل.

و أما ما ذكره من أن عدم الانفعال مقتضي أصالة الطهارة لو فرض سقوط

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 13، 16. و باب: 9 منها حديث: 13 و 16.

(4) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(5) راجع الوسائل باب: 3.

ص: 180

إلا إذا تغير (1) علي النهج السابق فيما لا مادة له (2).

______________________________

العمومين بالمعارضة.

فهو كما ذكره، بل الأولي الرجوع فيه لاستصحابها.

هذا، مع أن من الظاهر أن العموم و الأصل لا يقتضي الحكم الثاني الذي تضمنه الصحيحان، و هو طهارة الماء النجس بالاتصال بالمادة، بل مقتضي الاستصحاب نجاسته، و إن كان ذلك خارجا عن محل الكلام. اللهم إلا أن يتمسك فيه بالصحيحين المتقدمين، لعدم المعارض لهما في ذلك. فتأمل جيدا.

(1) لما تقدم في أدلة تغير الكر من الإجماع و النصوص، فان بعض الأصحاب و إن نقل الإجماع علي النجاسة في الموارد الخاصة كالجاري و المحقون، إلا أن المستفاد من ملاحظة كلامهم في الموارد المذكورة أن التغير منجس لجميع أقسام الماء، و هو الذي نسبه في المعتبر إلي أهل العلم كافة، و قال في الجواهر: «أما نجاسة الجاري بذلك، بل جميع المياه، فلا أعلم فيه خلافا، بل عليه الإجماع محصلا و منقولا كاد يكون متواترا. و في المنتهي أنه قول كل من يحفظ عنه العلم».

كما أن عموم النصوص للمقام مما لا ينبغي التأمل فيه، و كفي دليلا علي انفعال ذي المادة مع التغير إطلاق صحيح حريز: «كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «1» و خصوص نصوص البئر، و منها صحيحا ابن بزيع المتضمنان للتعليل بالمادة.

(2) من اعتبار التغير بصفات النجاسة و عدم كفاية التغير التقديري و غير ذلك، فإن بعض أدلة تلك الخصوصيات لو اختصت بما لا مادة له فخصوصية موردها ملغية بعد ما علم من عدم اختصاص حكم التغير به، و عدم احتمال اختلاف التغير المنجس بحسب الموارد. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 181

من دون فرق بين ماء الأنهار (1)، و ماء البئر (2)،

______________________________

(1) الكلام فيه هو الكلام في الماء الجاري، الذي يأتي الكلام فيه في المسألة السادسة إن شاء اللّٰه تعالي.

(2) كما في القواعد و عن أكثر كتب العلامة، و نسب إلي المشهور بين المتأخرين، و عن الشهيد في نهاية المراد أنه مذهب العماني، و حكي نسبته إلي أبي عبد اللّٰه الحسين الغضائري و محمد بن جهم، و عن الهداية: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء» [1] ثمَّ ذكر مقادير النزح من دون تصريح بالنجاسة.

و نسب القول المذكور للشيخ قدّس سرّه في التهذيبين. لكن كلامه فيهما ظاهر في النجاسة مع العفو عن الاستعمال جهلا، و قد يظهر من غيره- علي ما حكي.

و كيف كان، فالقول بالطهارة مطابق لنصوص كثيرة.

منها: صحيح ابن بزيع المتقدم، و نحوه صحيحه الآخر، و صحيحه الثالث المختصر «2».

و منها: صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سمعته يقول: لا يغسل الثوب، و لا تعاد الصلاة مما وقع في البئر، إلا أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب و أعاد الصلاة و نزحت البئر» «3»، لظهوره في عدم وجوب النزح مع عدم النتن.

و مثله في ذلك صحيح محمد بن مسلم: «أنه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن البئر يقع فيها الميتة. فقال: إن كان لها ريح نزح منها عشرين دلوا» «4»، بناء علي أن ذكر العشرين لغلبة زوال الريح بها، و إلا كان مجملا.

______________________________

[1] نقله عنها في مفتاح الكرامة و هو الموجود في نسختين مخطوطتين منها، و يناسبه ما في صحيح ابن بزيع. لكن في النسخ المطبوعة: «و ماء النهر واسع». منه عفي عنه.

______________________________

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 22 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 182

______________________________

و منها: صحيح زرارة «1» و موثق ابنه الحسين «2» الواردان في الاستقاء من البئر بحبل من شعر الخنزير المتقدمان في أدلة القول بعدم انفعال القليل بالمتنجس، بناء علي المفروغية فيها عن نجاسة شعر الخنزير، حيث يدلان حينئذ علي عدم انفعال البئر بمماسة الحبل و جواز الوضوء منها.

لكن تقدم الإشكال في ذلك. فراجع.

نعم، قد يستدل بخبر زرارة الوارد في الاستقاء بجلد الخنزير «3»، المتقدم في أدلة القول بعدم انفعال الماء القليل بالنجس، إذ من البعيد عدم المفروغية فيه عن نجاسته، فعدم التنبيه فيه علي انفعال البئر ظاهر في عدمه.

اللهم إلا أن يقال: إنما يدل عدم التنبيه علي ذلك لو كان الانفعال مما يخفي علي السائل، و ربما يدعي وضوحه بمقتضي الأدلة الكثيرة الآتية بنحو يستغني عن التنبيه و يلزم بصرف السؤال لخصوص حكم الاستقاء تكليفا. و لعله لذا لم ينبه فيه علي انفعال ما يخرج بالدلو مع أنه قليل منفصل عن المادة.

و منها: صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن بئر ماء وقع فيها زبيل [زنبيل خ. ل] من عذرة رطبة أو يابسة، أو زبيل من سرقين، أ يصلح الوضوء منها؟ قال عليه السّلام: لا بأس» «4»، و نحوه موثق عمار، إلا أنه قال: «لا بأس إذا كان فيها ماء كثير» «5»، بناء علي أن التقييد فيه بالكثرة لملازمة وقوع ذلك لتغير البئر مع عدمها، لا لاعتبار الكرية في اعتصام البئر، و إلا كان من أدلة القول بذلك، الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي.

و الإشكال في الاستدلال بهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 3. و أورده مع تتمة له في باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

ص: 183

______________________________

تارة: بأن العذرة و السرقين أعم من النجس.

و اخري: بأن وقوع الزبيل المذكور في البئر لا يستلزم إصابة ما فيه لمائها.

كما تري لاندفاع الأول: بأن العذرة ظاهرة في عذرة الإنسان عرفا، بل لغة، علي ما صرح به غير واحد من اللغويين، كما يشهد به ما ذكروه من أن منشأ تسميتها بذلك أنهم كانوا يلقونها في أفنية الدور التي هي عذراتها. و لا أقل من كونه المتيقن منها. و لا سيما مع مقابلتها بالسرقين في الرواية، بل لا أقل من شمولها لها، المصحح للاستدلال بعدم الاستفصال.

و اندفاع الثاني: بأن الظاهر كون ذكر الزبيل لبيان مقدار الواقع في البئر من العذرة و السرقين، لا لبيان وقوعه فيها معه. مع أن غلبة ملازمة وقوع الزبيل لملاقاة ما فيه مانع من الحمل علي عدم الملاقاة لو فرض إمكانه خارجا.

و أضعف من ذلك الإشكال في الاستدلال بغير واحد من نصوص المقام.

تارة: بحملها علي المصنع الذي يزيد ما فيه علي الكر أو الغدير.

و اخري: بإمكان أن يراد جواز استعمال الماء بعد النزح في مقابل التعطيل المطلق.

لوضوح مخالفة الأول للظاهر جدا، خصوصا بملاحظة اشتمال بعض النصوص علي التعبير بالنزح الظاهر في النزح المعهود.

و أما الثاني فيوهن بأن منصرف السؤال الاستعمال قبل النزح لشيوع مشروعيته، و بعد احتمال مانعية وقوع الزبيل المذكور من استعمال الماء مطلقا ليمكن صرف السؤال و الجواب إليه.

و كأن ارتكابهم لهذه المحامل و نحوها للفرار من الطرح بعد المفروغية عن تقديم نصوص النجاسة عملا، لا لكونها هي الظاهرة منها بدوا أو بعد الجمع العرفي بينها و بين نصوص النجاسة، و إلا فمخالفتها للظاهر لا تخفي عليهم.

و منها: مرسل علي بن حديد عن بعض أصحابنا: «كنت مع أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في طريق مكة، فصرنا إلي بئر فاستقي غلام أبي عبد اللّٰه عليه السّلام دلوا فخرج

ص: 184

______________________________

فيه فأرتان، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: أرقه، فاستقي آخر فخرج فيه فأرة، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: أرقه. قال: فاستقي الثالث فلم يخرج فيه شي ء. فقال: صبه في الإناء، فصبه في الإناء» «1»، و في المعتبر: «فقال: صبه في الإناء، فتوضأ و شرب» «2».

و كذا مرسل الصدوق عنه عليه السّلام: «كانت في المدينة بئر وسط مزبلة، فكانت الريح تهب و تلقي فيها القذر، و كان النبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم يتوضأ منها» «3».

و منها: النصوص الكثيرة المتضمنة لعدم إعادة الوضوء و الصلاة و عدم غسل الثوب لمن استعمل ماء البئر جاهلا بوقوع النجاسة فيها، كصحيح معاوية بن عمار المتقدم، و صحيحه الآخر عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «عن الفأرة تقع في البئر، فيتوضأ الرجل منها، و يصلي، و هو لا يعلم، أ يعيد الصلاة و يغسل ثوبه؟ فقال: لا يعيد الصلاة و لا يغسل ثوبه» «4». و قريب منه موثقا أبي بصير و أبان بن عثمان، و موثق أبي أسامة و أبي يوسف، و خبر أبي عيينة عنه عليه السّلام، و موثق يعقوب بن عيثم عنه عليه السّلام الوارد في البئر التي يقع فيها سام أبرص «5»، و نحوها ما تضمن جواز أكل الخبز الذي يعجن بماء البئر التي فيها الميتة إذا أصابته النار «6»، بناء علي ما هو المعروف من عدم كون النار من المطهرات الشرعية للنجاسات المتعارفة، بل لا يبعد شمول إطلاق بعضها لما إذا استعمل الماء جهلا بالحكم مع العلم بالموضوع.

فإن هذه النصوص و إن ظهر منها المفروغية عن تأثير النجاسة شيئا في البئر يقتضي تركها و نزحها، لأن السؤال عن وجوب التدارك ظاهر في المفروغية عن أن الاستعمال لا ينبغي وقوعه و لا يقدم عليه لو لا الجهل، بل صرح في بعضها بالنزح، إلا أنها لا تناسب الانفعال جدا، لما هو المعلوم من أن الطهارة شرط واقعي

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(2) المعتبر ص: 11.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 20.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 5، 11، 12، 13، 19.

(6) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 17.

ص: 185

______________________________

للاستعمال، كما يومئ إليه صحيح معاوية بن عمار الأول الظاهر في أن وجوب النزح لا ينفك عن وجوب الإعادة و أنهما معا من لوازم النجاسة.

علي أنه لو فرض تصحيح الوضوء بالماء النجس لمطابقته للأمر الظاهري، و لو في خصوص المورد، إلا أن عدم تنجس الثوب مع نجاسة الماء مما تأباه المرتكزات جدا.

و كيف يمكن التفكيك بين الثوب و الماء الذي أصابه خصوصا مع العلم بالحال قبل جفاف الثوب، بل و هو في الماء؟!.

و قد فصل الشيخ قدّس سرّه في التهذيب بين التغير و عدمه، فحكم بالعفو في الثاني دون الأول مع أنهما بملاك واحد بناء علي النجاسة بالملاقاة، بل إطلاق نصوص النزح شامل لما إذا أوجبت النجاسة التغير، فلو فرض كون النزح بمجرد الملاقاة ناشئا عن نجاسة الماء كان مقتضي إطلاق هذه النصوص العفو عن استعمال الماء النجس المذكور و لو مع التغير، و لا يظن من أحد التزامه، و ما ذلك إلا لقوة ارتكاز أن النجاسة تستلزم عدم العفو، بنحو توجب انصراف نصوص العفو عن صورة التغير التي لا إشكال في النجاسة معها.

و دعوي: أن العفو مع التغير و إن كان مقتضي إطلاق النصوص، إلا أنه يجب تقييدها بصحيح معاوية بن عمار المتقدم الصريح في عدم العفو منه.

مدفوعة: بأن ظاهر الصحيح المذكور ملازمة النجاسة لعدم العفو، و أن عدم التدارك في غير صورة التغير لعدم النجاسة، فهو لا ينفع القائل بالنجاسة فيها.

هذا، و قد استدل في الجواهر علي الطهارة بخبر محمد بن القاسم أو صحيحه عن أبي الحسن عليه السّلام: «في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمس أذرع أو أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال: ليس يكره من قرب و لا بعد يتوضأ منها و يغتسل ما لم يتغير الماء» «1».

و فيه: أنه إنما يدل علي أن قرب البئر من النجاسة مع عدم التغير لا ينجسها،

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 186

______________________________

و هو أجنبي عن محل الكلام، لعدم الملاقاة بوجه عرفي، و إن أمكن فرض ملاقاة الماء المتصل بماء البئر بمسام الأرض و مجاريها، و عدم الانفعال معه خارج عن محل كلامهم.

و كفي بالنصوص الأخري دليلا علي عدم الانفعال مع اعتبار أسانيد كثير منها و وضوح دلالتها.

و مع هذا كله فقد ذهب إلي القول بالنجاسة جماعة من أعيان الأصحاب و أكابرهم، كالصدوق في الفقيه و الأمالي، و المفيد، و السيد، و الشيخ، و أبي الصلاح، و المحقق، و كثير غيرهم علي ما حكي عن بعضهم، بل عن غير واحد نسبته للأكثر أو المشهور، و في المعتبر أنه الأظهر بين الأصحاب، بل عن غير واحد نفي الخلاف فيه، و عن آخرين دعوي الإجماع عليه، و في الانتصار أنه من متفردات الإمامية، و عن غاية المراد أن عليه عملهم في سائر الأعصار و الأمصار، و عن ظاهر الأمالي أنه من دينهم. إلي غير ذلك مما يظهر منه معروفية القول المذكور و اشتهاره، خصوصا بين القدماء.

و يقتضيه منصرف الأمر بالنزح في النصوص الكثيرة الواردة في تحديد المقادير المنزوحة المختلفة باختلاف النجاسات الواقعة في البئر.

لوضوح أن الأمر المذكور ليس نفسيا، إذ لا إشكال في جواز ترك النزح و هجر البئر، بل هو شرط للانتفاع بالماء، و المرتكز أن مانعية وقوع النجاسة من الانتفاع بالماء ليست إلا لانفعاله بها، كما ينفعل في كثير من موارد ملاقاتها.

و فيه: أن الأمر بالنزح و إن كان ظاهرا في ذلك بدوا، إلا أن نصوص العفو عن الاستعمال المتقدمة مع التنبيه فيها للنزح ظاهرة في أن النزح ليس من جهة النجاسة المانعة من الاستعمال المقتضية للتدارك، فهي من سنخ الحاكم علي نصوص النزح المفسر لها، لا من سنخ المعارض، لينظر في الترجيح بينها.

و لا سيما مع قرب عدم ورود نصوص النزح في مقام تشريعه، بل لبيان مقداره حسب اختلاف النجاسات مع المفروغية عن أصل تشريعه من دون

ص: 187

______________________________

تعرض لمنشئه.

هذا مضافا إلي كثير من القرائن في نصوص النزح لا تناسب كونه لأجل تطهير الماء بعد انفعاله بملاقاة النجاسة.

منها: شدة الاختلاف بينها في مقدار المنزوح، فإن القاعدة في ذلك و إن اقتضت الاقتصار علي الأقل و استحباب الأكثر، إلا أن كثرة ذلك موهنة لظهور النصوص في الانفعال جدا، إذ حمل الأكثر علي عدم كونه مطهرا يقرب حمل الأقل عليه مع كونهما من سنخ واحد، و لا سيما مع اتحاد السياق في بعضها، مثل ما اشتمل علي نزح الكل لبول الصبي و مطلق البول و الخمر «1»، مع أنه مختص عندهم بالأخير، و غير ذلك مما هو كثير جدا.

و من ثمَّ وقع الأصحاب في كثير من المفارقات في مقام الاستدلال علي التحديدات المذكورة تظهر للمتأمل في كلامهم.

و منها: التخيير في كثير منها بين الأقل و الأكثر، فإنه لا يناسب بيان المطهر الرافع للنجاسة جدا. و لا سيما مع شدة الاختلاف بين أطراف التخيير كمية، كالتخيير بين العشرين و الثلاثين و الأربعين، أو بين الأخيرين، لموت السنور «2»، و غير ذلك.

و منها: ما في غير واحد منها من الأمر بنزح دلاء «3»، أو دلاء يسيرة «4»، فان هذا بدوا ليس من سنخ المجمل، بل من سنخ المطلق الذي يكفي فيه الأقل، و هو ثلاثة، و لو كان هو المراد لكان الأولي ذكره، لأنه الأنسب بالتحديد، فإهمال التحديد به موجب لنحو من الاجمال، و لا سيما مع عدم كفاية ذلك إجماعا في كثير من موارد تلك النصوص أو كلها، فالاكتفاء به من قبل السائل لا يناسب الحمل

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 3، 4.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 21، و باب: 15 منها حديث: 6. باب: 17 منها حديث: 2، 5، 6.

(4) الوسائل باب: 21 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 188

______________________________

علي التطهير، لأهمية الحكم عملا المقتضية لشدة الحاجة للبيان الواضح.

و منها: التسامح في بعض التحديدات للنجاسة الملاقية، كقولهم عليهم السّلام:

«الكلب و شبهه» «1» و: «الفأرة و أشباهها» «2» و: «شاة أو ما أشبهها» «3».

و أشدها في ذلك موثق عمار: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر، فقال: ينزح منها دلاء. هذا إذا كان ذكيا فهو هكذا، و ما سوي ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أقله العصفور ينزح منها دلو واحد، و ما سوي ذلك فيما بين هذين» «4» فان التسامح في التحديد بهذا النحو من الامام عليه السّلام في مقام البيان و اكتفاء السائل به لا يناسب أهمية الحكم.

و منها: الأمر في كثير منها بالنزح في غير مورد ملاقاة النجاسة، كاغتسال الجنب و موت الوزغ و العقرب، فإن الالتزام بالانفعال فيها بعيد عن المرتكزات جدا، و الحمل علي عدمه يناسب ذلك في بقية النصوص، خصوصا مع وحدة السياق في بعضها. إلي غير ذلك من الجهات التي تظهر بالتأمل في النصوص، و النظر إلي ما وقع فيه الأصحاب من الاضطراب في جهات مهمة و فروع كثيرة، فإن ذلك بمجموعه لا يناسب مثل هذا الحكم ذي الآثار المهمة، و لا سيما مع كثرة الابتلاء بالآبار، خصوصا في تلك العصور، و هو مما يقرب عدم أهمية الحكم جدا.

نعم، قد يستدل علي الانفعال ببعض النصوص التي قد تصلح لبيان وجه الأمر بالنزح في النصوص.

منها: صحيح ابن بزيع: «كتبت إلي رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 18 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 21 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 189

______________________________

يسقط فيها شي ء من عذرة [غيره خ ل] كالبعرة و نحوها ما الذي يطهرها حتي يحل الوضوء منها للصلاة؟ فوقع عليه السّلام بخطه في كتابي: ينزح منها دلاء» «1» و صحيح علي ابن يقطين عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام: «سألته عن البئر تقع فيها الحمامة و الدجاجة أو الكلب أو الهرة. فقال: يجزيك أن تنزح منها دلاء، فان ذلك يطهرها إن شاء اللّٰه تعالي» «2» و موثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث طويل: «و سئل عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير. قال: تنزف كلها، فان غلب عليه الماء فلينزف يوما إلي الليل يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين، فينزفون يوما إلي الليل و قد طهرت» «3». فان مقتضي تصريح الامام عليه السّلام في الأخيرين و تقريره في الأول أن النزح لتطهير البئر المناسب لانفعالها و تنجسها بما وقع فيها.

و فيه: أن الاكتفاء في التطهير علي تقدير النجاسة بمسمي الدلاء في الأولين- كما هو مقتضي الإطلاق فيهما خصوصا الثاني- خلاف إجماعهم- كما قيل- لاختلاف الأمور المذكورة فيهما اختلافا فاحشا، حسب الفتوي و النصوص الأخري، فهما متروكا الظاهر، فلا بد إما من التزام الإهمال و ورود الجواب لبيان مطهرية النزح في الجملة مع إيكال التفصيل لبيان آخر، أو التزام نصب القرينة لإرادة العدد الخاص من لفظ الدلاء بالنسبة إلي كل من النجاسات المسؤول عنها، و الأول لا يناسب ورود السؤال و الجواب لأجل العمل، و الثاني مقطوع البطلان، كما أشار لذلك في الجملة شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

فالأقرب الحمل علي الاستحباب، و يكون إطلاق التطهير بلحاظ نحو من القذارة تحصل من الملاقاة يكره معها الاستعمال، و هي غير النجاسة التي هي محل الكلام و مورد الأحكام، علي ما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي.

فإن ذلك هو المناسب لهذا النحو من التسامح في التحديد، كما أشرنا إليه

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 21.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 23 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 190

______________________________

آنفا. و إلا تعين الالتزام بإجمال الخبرين و عدم صلوحهما للاستدلال.

و منه يظهر حال الثالث، فان ترك مضمونه إجماعا موهن للاستدلال به و مقرب لحمله علي ما ذكرنا.

كما ظهر حال الاستدلال بما تضمن ترتب الوضوء و الشرب علي النزح، حيث قد يظهر منه بطلان الأول و حرمة الثاني بدونه، كصحيح علي بن جعفر المتضمن نزح ما بين الثلاثين و الأربعين لسقوط الشاة المذبوحة و هي تشخب دما، و نزح دلاء يسيرة لسقوط الدجاجة أو الحمامة المذبوحة «1» و للرعاف. و خبره المتضمن لنزح سبع دلاء لموت الفارة من دون تقطع و نزح عشرين لموتها مع التقطع «2». و صحيح الفضلاء المتضمن نزح دلاء لموت الدابة و الفارة و الكلب و الخنزير و الطير «3»، و مثله خبر البقباق «4» إلا أنه لم يذكر فيه الخنزير.

فإنه بملاحظة ما تقدم يتعين حملها علي ما ذكرنا.

و منها: صحيح عبد اللّٰه بن أبي يعفور و عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: إذا أتيت البئر و أنت جنب فلم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد، فإن رب الماء رب الصعيد، و لا تقع في البئر و لا تفسد علي القوم ماءهم» «5».

فإن تشريع التيمم إنما يكون مع تعذر الماء الطاهر، و هو إنما يتم بناء علي الانفعال. كما أن التعبير بالإفساد ظاهر في الانفعال و امتناع استعمال الماء، نظير ظهور التعبير بعدمه في صحاح ابن بزيع المتقدمة في عدم الانفعال.

و فيه: ما أشار إليه غير واحد من أن انفعال البئر موقوف علي نجاسة بدن الجنب، و هو غير مفروض في السؤال، بل لازمه امتناع الغسل، لنجاسة البدن

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 22.

ص: 191

______________________________

و الماء، لا فساد الماء علي أهله بعده، كما كان المناسب عليه التعرض للعفو عن الصلاة بالخبث من جهة التعذر كما تعرض عليه السّلام لتهوين ترك الطهارة المائية و الاكتفاء بالترابية.

و دعوي: أن الاغتسال مع طهارة البدن و إن لم يوجب انفعال الماء إلا أنه يمنع من استعماله بمقتضي ما دلت عليه نصوص النزح، و هو كاف في صدق الإفساد، فيكشف عن عدم اعتصام ماء البئر، و أنه كالماء القليل الذي يمتنع استعماله إذا اغتسل به من الحدث الأكبر، فينفعل بملاقاة النجاسة مثله.

مدفوعة: بأن ذلك لا يكفي في مشروعية التيمم حينئذ، بل يجب الاغتسال به ثمَّ تطهيره بالنزح، فلا بد من كون منشأ النهي عدم إحراز رضا أهل الماء بذلك، أو التسهيل بلحاظ صعوبة تطهير البئر، فيرجع إلي بيان جواز ترك الغسل لا إلي وجوبه، و هو كما يمكن أن يكون للجهة المذكورة يمكن أن يكون من جهة لزوم استقذار الماء عرفا أو تعرضه للتعفن، أو تعكره بما يختلط به من طين و نحوه، أو نحو ذلك مما يوجب الرغبة عن استعماله.

و دعوي: ظهور إفساد الماء في خصوص امتناع استعماله شرعا لنجاسة أو نحوها.

ممنوعة، و الفرق بين هذا الصحيح و صحاح ابن بزيع أنها قد تضمنت الحكم بعدم الفساد، و ظاهر حكم الشارع بشي ء أنه من شؤونه و مجعولاته، أما هذا الصحيح فلم يتضمن الحكم بالفساد، بل النهي عنه، و لا ظهور للمنهي عنه في كونه أمرا شرعيا، كما لا يخفي.

و منها: صحيح زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير: «قلنا له: بئر يتوضأ منها يجري البول قريبا منها أ ينجسها؟ فقال: إن كانت البئر في أعلي الوادي، و الوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاث أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك شي ء، [و إن كان أقل من ذلك نجسها. خ ل] قال: و إن كانت البئر في أسفل

ص: 192

______________________________

الوادي و يمر الماء عليها، و كان بين البئر و بينه تسعة أذرع لم ينجسها. و ما كان أقل من ذلك فلا يتوضأ منه. قال زرارة: فقلت له: فان كان مجري البول يلصقها و كان لا يثبت علي الأرض. فقال: ما لم يكن له قرار فليس به بأس و إن استقر منه قليل، فإنه لا يثقب الأرض و لا قعر له حتي يبلغ البئر، و ليس علي البئر منه بأس، فيتوضأ منه، إنما ذلك إذا استنقع كله» «1». وجه الاستدلال دعوي ظهوره في تنجس البئر بوصول البول إليها.

لكن قال في محكي المنتهي: «ان القائلين بانفعال البئر بالملاقاة متفقون علي عدم حصول التنجيس بمجرد التقارب، فلا بد من تأويله عندهم لمخالفته لإجماعهم».

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بقوله: «و الانصاف أن هذه الحسنة و إن لم تحمل علي ظاهرها من حيث عدم انفعال البئر بمجرد قرب المبال فيها [منها. ظ] إلا أنها ظاهرة في الانفعال عند العلم بوصول البول إليها».

أقول: إن كان الظهور المذكور بملاحظة أن تنجس البئر بقرب المبال المستلزم لوصول رطوبة البول لها يقتضي تنجسها مع وقوع البول نفسه فيها بالأولوية العرفية.

ففيه: أنه مع فرض سقوطه عن الحجية بمدلوله المطابقي لا مجال لحجيته في المدلول الالتزامي، و فرض حمله في المدلول المطابقي علي الكراهة أو التغير يقتضي حمله عليهما في المدلول الالتزامي المذكور.

و إن كان بملاحظة قوله عليه السّلام في ذيل الصحيح: «فإنه لا يثقب الأرض و لا قعر له حتي يبلغ البئر.» لظهوره في التنجيس لو ثقب البول الأرض و بلغ البئر، الذي هو عين المدعي.

ففيه: أن الظاهر أن الذيل المذكور تفصيل في مورد السؤال، و هو تقارب محل البول و البئر، لا بيان لأمر آخر خارج عنه، فلا بد من أن يراد ببلوغ البول للبئر

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 193

______________________________

هو البلوغ الملازم للتقارب، لا وصوله لها رأسا الذي هو محل الكلام. فالظاهر عدم تمامية الاستدلال بالصحيح المذكور.

و منها: صحيح أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عما يقع في الآبار. فقال:

أما الفارة و أشباهها فينزح منها سبع دلاء. و كل شي ء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس به» «1».

و قد جعلها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ظاهرة في الانفعال. و ضعفه ظاهر، فان ثبوت البأس فيما له نفس أعم من الانفعال، بل ليس هذا الصحيح إلا كسائر نصوص النزح الظاهرة في ثبوت البأس في الجملة، بالاستعمال مع الملاقاة.

هذا تمام ما يستدل به للقول بالانفعال، و قد عرفت عدم تمامية شي ء منه.

و لو فرض تمامية ظهوره و غض النظر عما تقدم لم ينهض بمعارضة نصوص الطهارة التي هي أظهر دلالة، خصوصا صحاح ابن بزيع. و لا سيما صحيحيه المشتملين علي التعليل بالمادة، فإن ظهورهما في بيان الحكم بالطهارة و دفع ما يختلج في النفوس من شبهة الانفعال، و تأكيد ذلك بالتعليل، ملزم بتقديمهما علي جميع ما يوهم الانفعال من الأدلة.

نعم، قد يستشكل في نصوص الاعتصام بأن إعراض القدماء عنها يكشف عن اطلاعهم علي خلل فيها مانع من العمل بها مهما قوي ظهورها و سندها، بل قوتهما مما يزيدها و هنا، حيث لا يحتمل معه كون الاعراض بسبب تخيل قصورها، كي لا يمنع من الاعتماد عليها في حق من يري تماميتها و فساد منشأ الاعراض.

و لا مجال لتوهم: أن اهتمامهم بتوجيهها و حملها علي ما لا ينافي أخبار الانفعال ظاهر في اهتمامهم بها و عدم إعراضهم عنها.

لأن التوجيهات المذكورة لما كانت ظاهرة الوهن فهم لم يذكروها إلا فرارا من الطرح بعد المفروغية عن عدم العمل بها، كما أشرنا إليه عند الكلام في صحيح

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 194

______________________________

ابن جعفر.

نعم، لو كان المدعي كشف إعراضهم عن اطلاعهم علي كذبها و عدم اهتمامهم بصدورها، لكان التوجيه مانعا من ذلك، و لذا لم يهتموا بتوجيه روايات العامة.

إلا أن الإعراض المسقط للحجية لا ينحصر وجهه باطلاعهم علي خلل في الصدور، بل يكون غالبا لجهات أخر لا تنافي التوجيه فرارا عن الطرح.

لكنه يندفع بعدم ظهور الإعراض منهم بالنحو المسقط للحجية، لما عرفت من ذهاب بعضهم للطهارة، بل يظهر من بعض من يعمل بنصوص النجاسة الاعتداد بنصوص الطهارة في مقام العمل.

فقد تقدم عن الصدوق في الهداية التعبير بمضمون صدر صحيح ابن بزيع.

و في المقنع بعد أن ذكر مقادير النزح للنجاسات و منها العذرة قال: «و إن وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زنبيل من سرقين فلا بأس بالوضوء منها، و ليس عليك عن أن تنزح منها شيئا. و روي عبد الكريم.» ثمَّ ذكر موثق أبي بصير المتضمن العفو عن استعمال الماء جهلا في الوضوء و غسل الثياب و العجن، و قد أشرنا إليه آنفا.

و تقدم من الشيخ قدّس سرّه العفو أيضا عملا بنصوصه التي عرفت ظهورها في الطهارة.

و عن الكليني قدّس سرّه أنه بعد أن ذكر صحيح ابن بزيع المتقدم في أدلة الانفعال قال: «و بهذا الاسناد قال: ماء البئر واسع لا يفسده شي ء.» و مقتضي ما يظهر من ديباجة الكافي- من أنه ألفه ليكون مرجعا في أخذ الأحكام لا لمجرد جمع الروايات و أنه عند التعارض يتعين التخيير- جواز الأخذ برواية الاعتصام إما لعدم منافاتها للرواية الأولي، للجمع بينهما عرفا بما ذكرنا، أو للتخيير بينهما بما ذكرنا.

بل هو المظنون من حال أكثر القدماء الذين كان شأنهم ذكر الروايات في كتبهم لعملهم بها لا لمحض الحفظ، و إن لم يصل إلينا كلامهم. و إلا فلو كان طرح

ص: 195

______________________________

الروايات المذكورة، مسلما بينهم لم يخف علي أعيان المتأخرين و أكابرهم، و لم يذهبوا للقول بالاعتصام لأجلها مهما قويت دلالتها.

نعم، الظاهر تحقق الشهرة من القدماء الذين التزموا بتحرير الفتاوي و حفظت كلماتهم علي ما هو ظاهر كلامهم، و مثل ذلك لا يكفي في سقوط نصوص الاعتصام عن الحجية، و لا سيما مع قرب كون منشئه خفاء وجه الجمع بين النصوص عليهم، و ترجيحهم نصوص الانفعال لكثرتها و موافقتها للاحتياط، لا ظهور خلل في نصوص الطهارة لهم مانع من العمل بها في نفسها، و مع ذلك كيف يحصل الوثوق بخلل في النصوص المذكورة مسقط لها عن الحجية، بل الظاهر حجية النصوص المذكورة و رفع اليد بها عن ظاهر نصوص الانفعال لو فرض غض النظر عن المناقشات المتقدمة فيها.

هذا، و لو فرض استحكام التعارض بين النصوص المذكورة و أن اللازم منه التساقط فالمرجع بعد تساقطها نصوص الكر المقتضية للتفصيل بين القليل و الكثير.

اللهم إلا أن يقال: نصوص الكر و إن كانت بدوا شاملة للماء الذي له مادة إلا أن ورود الأدلة باعتصام ذي المادة في الجملة كأدلة ماء الحمام كاشف عرفا عن اختصاصها بالماء الراكد الذي لا مادة له، إذ لو فرض عمومها لما له مادة لزم رفع اليد عن ظهورها في حصر الاعتصام بالكر، و حيث كان ظهورها في ذلك أقوي من ظهور إطلاق الماء فيها في عموم ذي المادة لزم رفع اليد عن عمومها المذكور محافظة علي ظهورها في الحصر المذكور.

بل قد يدّعي انصراف نصوص الكر في نفسها عن ذي المادة، و أنها ناظرة لاعتصام الماء الراكد بعضه ببعض، و لا نظر فيها للاعتصام بأمر خارج عنه.

و كيف كان، فلا مجال للرجوع في البئر لنصوص الكر، بعد فرض تعارض نصوصها، بل المرجع استصحاب الطهارة، أو أصالتها المقتضية لاعتصامها مطلقا.

و ربما يدعي ترجح نصوص اعتصام البئر.

ص: 196

______________________________

تارة: بموافقتها للكتاب و السنة الدالين علي عموم طهارة الماء.

و اخري: بمخالفتها للعامة، لما قيل من إطباقهم علي النجاسة.

و يندفع الأول: بما تقدم في الفصل السابق من أنه لا دليل علي عموم طهارة الماء بلحاظ الأحوال لينفي به احتمال انفعال الماء بالملاقاة و يحرز به الاعتصام، و أن غاية ما يمكن إثباته هو عموم طهارة الماء بلحاظ الأفراد بحسب أصله، و هو لا ينفع في المقام.

و يندفع الثاني: بعدم وضوح موافقة نصوص الانفعال للعامة و مخالفة نصوص الاعتصام لهم، لظهور شدة الاختلاف بينهم في ذلك، فالمحكي عن المالكية اعتصام البئر مطلقا مع استحباب النزح، و هو المحكي عن محمد بن الحسن الشيباني و أبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة في ظاهر كلامهما، و عن بشر انفعال البئر و عدم طهارتها بالنزح، لعدم المطهر لأرضها و حيطانها، و عن الشافعية و الحنابلة التفصيل بين بلوغها قلتين و عدمه كالماء الراكد.

و من الظاهر مخالفة نصوص الانفعال لجميع الأقوال حتي القول بالتفصيل، لأن المتيقن من كثير من نصوص النزح الشمول للكثير، لتضمنها نزح الدلاء الكثيرة و التراوح مع غلبة الماء.

نعم، حكي عن الحنفية و بعض علماء العامة من غير أئمة المذاهب انفعال البئر و طهارتها بالنزح مطلقا، كما هو مفاد النصوص المذكورة، و من الظاهر أن ذلك- لو تمَّ- لا يكفي في الترجيح، إذ لا يراد بموافقة العامة إلا موافقة القول الشائع المعروف بينهم، لا موافقة قول بعضهم مع مخالفة الآخرين.

علي أنه كيف يمكن خفاء موافقة نصوص الانفعال للعامة علي أعيان الأصحاب و قدمائهم حتي أفتوا بمضمونها و أهملوا نصوص الطهارة لأجلها، مع شيوع الابتلاء بالمسألة المناسب لظهور الخلاف بيننا و بين العامة فيها لو فرض، كما ظهر خلافنا معهم في الأوقات و نحوها.

و ما أبعد ذلك عما ذكره السيد المرتضي قدّس سرّه في الانتصار من أن القول

ص: 197

______________________________

المذكور من متفردات الإمامية.

و بالجملة: اضطراب كلام العامة و اختلاف النقل عنهم و إهمال أعيان الأصحاب لذلك مانع من الرجوع للمرجح المذكور.

هذا، و عن البصروي التفصيل في انفعال ماء البئر بين بلوغه كرا و عدمه.

و لعله إليه يرجع ما عن الجعفي من اعتبار بلوغها ذراعين في الأبعاد الثلاثة في اعتصامها. إذ لا يبعد ابتناؤه علي تحديده الكر بذلك.

و قد يدعي أنه لازم للعلامة و غيره ممن اعتبر الكرية في اعتصام الجاري، لأن البئر لا تزيد عليه. و إن كان لا يخلو عن إشكال.

و كيف كان فقد يستدل له.

تارة: بالنصوص الخاصة، كموثق عمار المتقدم المتضمن لعدم البأس بالوضوء في البئر التي يقع فيها زنبيل من عذرة إذا كان فيها ماء كثير، و خبر الحسن بن صالح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «إذا كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شي ء» «1»، و الرضوي: «كل بئر عمق مائها ثلاثة أشبار و نصف في مثلها فسبيلها سبيل الجاري، إلا أن يتغير لونها و طعمها و رائحتها» «2»، فيخصص بها نصوص الاعتصام بعد تقديمها علي نصوص الانفعال، أو تكون شاهد جمع بين الطائفتين.

و اخري: بما أشرنا إليه آنفا من أنه بعد تساقط نصوص البئر بالمعارضة فالمرجع نصوص الكر المقتضية للتفصيل المذكور.

و ثالثة: بغلبة كثرة ماء البئر الموجب لانصراف نصوص الطهارة إليها و قصورها عن صورة القلة، بل هو مقتضي فرض السعة في صحيح ابن بزيع بناء علي أنها بمعني الكثرة، فيرجع مع القلة إلي عموم انفعال القليل.

و رابعة: بأن الترجيح في المقام لنصوص الانفعال، إلا أنه لا بد من تقييدها بالقليل، إذ لو شملت الكثير لزم كون المادة سببا للانفعال، فإن الكثرة عاصمة لماء

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 8.

(2) مستدرك الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

ص: 198

______________________________

البئر لو انقطعت عنه المادة و صار من الراكد.

و يشكل الأول: بقصور النصوص المذكورة عن إفادة التفصيل المذكور، إذ لا وجه لحمل الكثرة في الموثق علي الكرية، إذ لم يثبت كونها حقيقة فيها شرعا، بل الظاهر منها الكثرة العرفية بالنحو الذي يزيد علي الكر، و لعله دفعا لمحذور التغير اللازم من وقوع المقدار المذكور مع عدمها، و إلا فالظاهر أن الكرية لا تكفي في منع التغير بالمقدار المذكور، المستلزم لكون الحكم بالطهارة اقتضائيا.

و أما الخبر و الرضوي فضعفهما مانع من الاعتماد عليهما، مع موافقتهما لمذهب بعض العامة، و مخالفتهما لظاهر نصوص الاعتصام و الانفعال معا، لظهور الاولي في خصوصية المادة المناسب لعدم اعتبار الكرية، و كون المتيقن من أكثر الثانية ما زاد علي الكر.

و لعله لذا حمل الشيخ قدّس سرّه خبر الحسن علي التقية، لمخالفة حكم البئر لحكم الغدير عندنا.

و يندفع الثاني: - مضافا إلي ما سبق من ترجيح نصوص الاعتصام- بما تقدم آنفا من قصور نصوص الكر عن شمول ذي المادة، جمعا بين ما دل علي اعتصامه في الجملة و ظهورها في الحصر.

و منه يظهر اندفاع الثالث، لانحصار عموم انفعال القليل بنصوص الكر.

و بقية أدلته مختصة بمواردها كالإناء و الركوة و التور و غيرها مما لا يشمل البئر. علي أن الغلبة لو كفت في انصراف الإطلاق فلا مجال لها في المقام مع اشتمال بعض نصوص الاعتصام علي التعليل بالمادة. و فرض السعة في صحيح ابن بزيع لا ينهض بذلك، كما تقدم عند الكلام في عموم عاصمية المادة.

كما ظهر اندفاع الرابع، إذ لا وجه لترجيح نصوص الانفعال بعد ما سبق، مع أن المذكور في تقييدها استبعاد محض لا ينهض دليلا علي التخصيص، خصوصا بعد ما عرفت من أن المتيقن من كثير منها ما زاد علي الكر، و أن القول المذكور مما يظهر من الشيخ خروجه عما عليه الأصحاب.

ص: 199

______________________________

نعم، يصلح الوجه المذكور لتأييد القول بالاعتصام مطلقا تقديما لنصوصه علي النصوص الأخري.

بقي الكلام في النزح، فقد اختلف القائلون بالطهارة في حكمه، فعن المنتهي و الموجز وجوبه تعبدا، و نسب في كلام غير واحد إلي الشيخ قدّس سرّه في التهذيب، لكن تقدم أن كلامه ظاهر في النجاسة مع العفو عن الاستعمال جهلا.

و كيف كان، فعمدة الدليل علي ذلك ظهور أوامر النزح في الوجوب المولوي، إما بدوا، أو بعد تعذر حمله علي الإرشاد للنجاسة بسبب نصوص الطهارة.

و فيه: أن بعض أدلة الطهارة و إن لم يناف ذلك، مثل ما دل علي العفو عن الاستعمال، إلا بعضها ينافيه، لظهور صحيحي معاوية بن عمار و محمد بن مسلم في انحصار وجوب النزح بالتغير.

بل لما لم يمكن الالتزام بوجوب النزح نفسيا، إذ لا إشكال في جواز هجر البئر، بل المراد به توقف الاستعمال عليه- كما هو ظاهر صحيح ابن جعفر، و خبره، و صحيح الفضلاء، و خبر البقباق المتقدم إليها الإشارة في أدلة الانفعال- كان راجعا إلي أن ملاقاة النجاسة تقتضي نحوا من الفساد في الماء، فيدفعه صحاح ابن بزيع الحاكمة بسعة ماء البئر و عدم فساده بما يقع فيه، كما يدفعه صحيح ابن جعفر و موثق عمار المتضمنان جواز الوضوء بماء البئر التي يقع فيها زنبيل من عذرة، لقوة ظهورها في عدم توقفه علي النزح.

بل أكثر ما تقدم من القرائن المنافية لحمل نصوص النزح علي مطهريته للماء بعد انفعاله مانع من حملها علي وجوبه تعبدا، كما يظهر بالتأمل فيها.

كما أن ما تقدم في أدلة الانفعال من التعبير بالتطهير- كصحيحي ابني بزيع و يقطين- آب عن حمل أوامر النزح علي الوجوب التعبدي جدا.

ص: 200

______________________________

و بالجملة: الحمل المذكور مناف لأكثر أدلة الاعتصام و الانفعال، فلا مجال لحمل أوامر النزح عليه، و لا سيما مع ما أشرنا إليه من عدم قوة ظهور نصوص النزح في الوجوب، لقرب ورودها لبيان مقدار النزح بعد الفراغ عن مشروعيته، لا لتشريعه.

فالأقرب حمل نصوص النزح علي ثبوت مرتبة من القذارة تحصل بالملاقاة يكره معها الاستعمال، و هي غير النجاسة التي هي محل الكلام و مورد الأحكام، علي ما أشرنا إليه آنفا، كما هو الحال في كثير من المياه التي ورد النهي عن استعمالها مع ثبوت طهارتها. و مثله كثير من موارد الأمر بالغسل مع ثبوت عدم وجوبه.

و مثل هذه القذارة يصح التعبير عنها بالنجاسة، كما ورد نظيره في صحيح الفضلاء الآخر المتقدم المتضمن لحكم مقاربة البئر للبالوعة، و يصح التعبير عن رفعها بالتطهير، كما تقدم في بعض النصوص.

لكن بعض مشايخنا منع ذلك.

أولا: لعدم كونه جمعا عرفيا.

و ثانيا: لاستحالة اجتماع الطهارة مع النجاسة و لو بمرتبة ضعيفة منها، لأنهما ضدان، كالسواد الذي يمتنع اجتماعه مع مرتبة ضعيفة من البياض.

و قد رتب علي ذلك استحكام التعارض بين النصوص و ترجيح نصوص الطهارة بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة، و بعد إهمال نصوص النجاسة لا يبقي دليل علي استحباب النزح.

و فيه: أن النجاسة و الطهارة و إن كانتا صفتين متضادتين، إلا أنهما من الأمور الإضافية، فكل قذارة و خبث نحو من النجاسة يكون عدمها طهارة بالإضافة إليها و رفعها تطهيرا منها. و من هنا صح إطلاق الطهارة تارة في مقابل النجاسة الخبثية، و اخري في مقابل الحدث، كما صح نفيها عن ولد الزنا، و أنه لا يطهر إلي سبعة آباء، إلي غير ذلك من موارد إطلاقها المتفرقة.

ص: 201

______________________________

و ليس المراد من ثبوت مرتبة من القذارة في المقام أنها مرتبة من النجاسة التي هي محل الكلام و مورد الأحكام، بحيث تكون فردا منها، لوضوح استحالة اجتماعها مع الطهارة، كما ذكره، بل هي سنخ آخر يكره معه الاستعمال و يستحب التطهير منه قبله، أو أنها من سنخ النجاسة المذكورة إلا أنها لا تبلغ أدني مراتبها لتكون من أفرادها و يستحيل اجتماعها مع الطهارة منها.

نعم، لما كان موضوع الأحكام المهمة هو النجاسة بالنحو الخاص ذي المرتبة الخاصة انصرف إطلاق الأدلة إليها، كما انصرف إطلاق الطهارة و التطهير إلي ما يقابلها، حتي صارت حقيقة فيها، و هو لا يمنع من الحمل علي غيرها بقرائن خاصة، نظير ما تقدم في صحيح الفضلاء من إطلاق النجاسة علي البئر بمقاربة البالوعة، مع الإجماع علي طهارتها، كما تقدم.

و نظير ما اعترف به هو من أنه لو عمل بنصوص النجاسة لزم الجمع بين نصوص النزح المختلفة في المقدار المنزوح بالاقتصار علي الأقل و حمل الأكثر علي الاستحباب، فكما أمكن حمل نصوص الأكثر علي الاستحباب مع ظهورها في الإرشاد إلي التطهير بقرينة نصوص الأقل أمكن حمل جميع نصوص النزح عليه بقرينة أخبار الطهارة.

و مع ذلك لا مجال لإنكار كون الجمع المذكور عرفيا، و لا سيما مع معروفية هذا النحو من الجمع بين الأصحاب في المقام و غيره.

و قد أشرنا آنفا إلي أن ذلك هو المناسب للتسامح في التحديد في بعض النصوص و تعبيرهم عليهم السّلام بمثل: «دلاء» و معه لا موجب لما ذكره من حمله علي عدم كونهم عليهم السّلام في مقام بيان الحكم الواقعي.

كما أن ما ذكره من ترجيح نصوص الطهارة بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة قد تقدم ما فيه.

و أما ما ذكره في توجيه احتمال الاستحباب من حمل الأخبار علي التحفظ علي نظافة المياه و دفع الاستقذار العرفي.

ص: 202

______________________________

فهو أبعد مما ذكرناه، لأن استحباب النظافة العرفية و إن لم يكن بعيدا عن الأدلة، إلا أنه لا يناسب نصوص المقام الظاهرة في بيان طريق التطهير بتحديد مقادير النزح، لوضوح أن بيان طريق التطهير من الاستقذار العرفي ليس من وظيفة الشارع، فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

تنبيهات:

الأول: إذا تغيرت البئر بالنجاسة فقد اختلفت أقوالهم في مقدار النزح المطهر لها، فبين قائل بكفاية زوال التغير، و ملزم بنزح الجميع إلا مع التعذر، فيتراوح عليه يوما إلي الليل، أو يكتفي بزوال التغير، و ملزم بأكثر الأمرين من زوال التغير و نزح المقدر مطلقا أو مع تعذر نزح الجميع. إلي غير ذلك من الأقوال التي بلغ بها في مفتاح الكرامة إلي ثمانية، مما لا مجال لإطالة الكلام فيه و في أدلته.

و الظاهر الاكتفاء بذهاب التغير، كما في القواعد، و جامع المقاصد، و كشف اللثام، و عن المهذب، و المقنعة، و الإصباح، و بقية كتب العلامة، و الموجز، و البيان، و المدارك و غيرها، و عن الدلائل أنه المشهور بين المتأخرين.

و تقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيحي ابن بزيع المتقدمين المشتملين علي التعليل بالمادة، و غير واحد من نصوص النزح المتضمنة لحكم التغير، كقوله عليه السّلام في موثق سماعة: «و إن أنتن حتي يوجد النتن في الماء نزحت البئر حتي يذهب النتن من الماء» «1» و قوله عليه السّلام في صحيح الشحام: «فإن تغير فخذ منه حتي يذهب الريح» «2» و غيرهما.

و بها يرفع اليد عن إطلاق نزح البئر في صحيح معاوية بن عمار، فيحمل علي نزحها في الجملة و لو بنزح بعضها في مقابل عدم نزحها مع عدم التغير الذي

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 203

______________________________

يستفاد من الصدر، بل لا يبعد كون ذلك هو الظاهر منه بدوا بمقتضي المقابلة بين صدره و ذيله.

نعم، لا مجال لذلك في بعض نصوص النزح المتضمنة لنزح الكل أو لنزح مقدار معين، كخبر منهال: «فان كانت جيفة قد أجيفت فاستق منها مائة دلو، فان غلب عليها الريح بعد مائة فانزحها كلها» «1» و صحيح محمد بن مسلم المتقدم المتضمن لقوله عليه السّلام: «إن كان لها ريح نزح منها عشرون دلوا» «2» بناء علي عدم كون ذلك لملازمة القدر المذكور لذهاب التغير، و لا سيما في نزح الكل لغلبة ذهاب التغير قبله، بل يتعين في مثل ذلك الحمل علي الاستحباب، كما حمل النزح في بقية الموارد عليه بناء علي عدم الانفعال.

نعم، بناء علي الانفعال بالملاقاة لا يبعد لزوم الجمع بين أكثر الأمرين من ذهاب التغير و نزح ما تقتضيه النجاسة الواقعة مع عدمه، جمعا بين دليليهما، لظهور نصوص الاكتفاء بالنزح المذهب للتغير في النظر لحيثية التغير، فلا ينافي وجوب ما زاد عليه لحيثية الملاقاة، و إن اختلفت في ذلك كلماتهم بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

هذا، و الظاهر كفاية زوال التغير و لو بغير النزح، كما في جامع المقاصد، لظهور التعليل في صحيح ابن بزيع في أن المادة مقتضية للاعتصام و التغير مانع منه، فكما تقتضي دفع النجاسة عند عدمه تقتضي رفعها عند ارتفاعه، للزوم الاقتصار في تأثير المانع علي حال وجوده، كما سبق، فذكر النزح فيه ليس الا لكونه مقدمة لارتفاع التغير، لا لموضوعيته، و ذلك هو الحال في سائر موارد ارتفاع التغير عن الماء مع اتصاله بالعاصم.

نعم، يشكل الأمر بناء علي الانفعال و إهمال صحيحي ابن بزيع، لان المتيقن من بقية النصوص الظاهرة في كفاية زوال التغير هو زواله بالنزح، و حملها

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 204

______________________________

علي محض مقدميته يحتاج إلي لطف قريحة، و لعله لذا قال في القواعد: «و لو زال تغيرها بغير النزح و الاتصال فالأقرب نزح الجميع و إن زال بعضه لو كان علي إشكال» فإن الظاهر ابتناؤه علي القول بالانفعال، لأنه ذكره في ضمن فروعه.

الثاني: بناء علي انفعال البئر بالملاقاة فهل يقوم الاتصال بالعاصم- كالكر أو الجاري- مقام النزح في التطهير لها، أو لا؟ صرح بالثاني في الجملة في القواعد، و هو المحكي عن جماعة، بل في الجواهر أنه نسب للأكثر. لكن الظاهر الأول، كما صرح به في المعتبر، لظهور بعض نصوص النزح في الانحصار به، كقوله في صحيح ابن بزيع المتقدم: «ما الذي يطهرها حتي يحل الوضوء منها؟».

و دعوي: أنه وارد لبيان الطريق المتعارف الميسور الذي تختص به البئر.

لا دليل عليها، بل هي مخالفة للظاهر. مضافا إلي أن عمدة أدلة التطهير بالأمور المذكورة هو الإجماع و صحيح ابن بزيع المشتمل علي التعليل بالمادة بالتقريب المتقدم في الكلام علي ذي المادة. و لا إجماع في المقام، و صحيح ابن بزيع لا بد من إهماله علي القول بالانفعال.

لكن في مرسل الكاهلي: «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1»، و إطلاقه شامل للبئر. إلا أنه لو كان حجة في نفسه و شاملا لتطهير الماء معارض لمفهوم الحصر في صحيح ابن بزيع المتقدم بالعموم من وجه، و بعد تساقطهما فالمرجع استصحاب النجاسة.

و دعوي: لزوم تقديمه لكونه أقوي دلالة من الحصر و يتعدي لغير المطر من الأمور العاصمة بعدم الفصل. غير ظاهرة.

و مما ذكرنا يظهر عدم قيام غير النزح مقامه في رفع الكراهة بناء علي الاعتصام.

نعم، لو فرض خروج الماء عن كونه ماء بئر بالاتصال بالجاري أو غيره و الخروج عن البئر فلا يبعد اتفاقهم علي كونه بحكم الجاري الذي يطهر بعضه

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 205

______________________________

بعضا، كما أشار إليه في الجواهر، فهو كسائر المياه المتنجسة، و منها ما يخرج بالنزح لو اتصل بالكر أو نحوه، و إنما النزاع فيما يبقي في البئر و يصدق عليه أنه ماؤها، فان للبئر أحكاما خاصة، و لا طريق لإثبات ذلك فيها. فتأمل جيدا.

الثالث: الظاهر عدم الإشكال بينهم في عدم انفعال البئر بمجرد القرب من البالوعة التي فيها القذر، بل في الرياض و عن الدلائل: أنه بلا خلاف، و في الجواهر: أن عليه الإجماع محصلا و منقولا، و تقدم عن المنتهي عند الكلام في صحيحة الفضلاء دعوي الإجماع عليه من القائلين بانفعال البئر بالملاقاة، فضلا عن غيرهم.

و لعل ما عن الذخيرة من أنه المشهور في قبال ما عن بعضهم من البناء علي النجاسة مع ظن وصول الماء، في قبال ما صرحوا به من اعتبار العلم بالوصول، إذ في مفتاح الكرامة لم يجد مخالفا إلا من يقول بذلك. و عليه فلا يكون خلافا فيما نحن فيه من الطهارة في فرض عدم الوصول.

و يقتضيه- بعد ذلك- نصوص الطهارة مع الملاقاة لعين النجاسة، فإنها تقتضي الطهارة مع مقاربة النجاسة المستلزمة لاحتمال وصول رطوبتها بالأولوية العرفية.

مضافا إلي خبر محمد بن القاسم المتقدم في ذيل الكلام في نصوص الطهارة بالملاقاة، الذي لا يبعد صحة سنده، كما جزم به بعض مشايخنا. إذ ليس في سنده من يستشكل فيه إلا محمد بن القاسم المذكور، لأنه مشترك بين جماعة ليس بعضهم موثقا، و عباد بن سليمان الذي لم ينص أحد علي توثيقه.

لكن الظاهر أن الأول هو ابن الفضيل ابن يسار النهدي الثقة، بقرينة رواية سعد بن سعد عنه الذي يميز به، لأنه ممن يختص به، كما عن جامع الرواة.

كما أنه لا يبعد وثاقة الثاني، لأنه من رجال كامل الزيارة. مضافا إلي ما عن الوحيد قدّس سرّه من أنه روي عنه محمد بن أحمد بن يحيي و لم يستثن روايته القميون، و يروي عنه الأجلة مثل محمد بن الحسين بن أبي الخطاب و الصفار و أحمد بن

ص: 206

______________________________

محمد بن عيسي و غيرهم.

هذا، مع ظهور اعتماد القائلين بعدم انفعال البئر بمقاربة البالوعة علي هذا الخبر، لانحصار دليلهم به في قبال بعض النصوص الظاهرة في النجاسة، و منها صحيح الفضلاء المتقدم.

و لا يهم مع ذلك تحديد مقدار البعد المستحب، حيث اختلفت فيه كلمات الأصحاب تبعا لاختلاف الروايات المحمول علي اختلاف مراتب الفضل أو الصور، بما لا مجال لاطالة الكلام فيه في هذه العجالة.

هذا، و أما لو تغيرت البئر بمقاربة البالوعة من دون وصول النجاسة فظاهر المحقق قدّس سرّه في المعتبر المفروغية عن نجاستها، حيث تعرض لحكم الشك في استناده للبالوعة و قال: «و الأحوط التطهير، لأن سبب النجاسة قد حصل، فلا يحال علي غيره. لكن هذا ظاهر لا قاطع، و الطهارة في الأصل متيقنة، فلا تزول بالظن» و هو الظاهر مما عن المنتهي و في جامع المقاصد و الجواهر و غيرها.

و يقتضيه ما تقدم في خبر محمد بن القاسم. و إن كان قد يستشكل فيه بأنه لم يتضمن الحكم بالنجاسة، بل بالكراهة.

إذ لا بد من حمل الكراهة علي النجاسة بقرينة النصوص الأخري الآمرة بالتباعد الظاهرة في كراهة الاستعمال بدونه، فيخرج به عما تقدم في غير البئر من عدم الانفعال بالتغير بمجاورة النجاسة، كما أشرنا إليه هناك. فتأمل.

نعم، لا بد من استناد التغير للبالوعة، لانصراف الخبر المتقدم إليه، كما لا بد من العلم به، و لا يكفي الظن، فضلا عن الشك، لما تقدم من المعتبر.

الرابع: حيث تضمن صحيح ابن بزيع تعليل اعتصام البئر بالمادة فلا بد من الاقتصار فيه علي صورة بقاء المادة و اتصالها، فلو فرض انقطاعها حكم بالانفعال.

و به يخرج عن إطلاق بقية نصوص اعتصام البئر، لأقوائية التعليل بلا إشكال. بل الظاهر أن ذلك إجماعي لا يحتاج إلي استدلال.

نعم، يقتصر في ذلك علي ما إذا كان دون الكر، عملا بعموم الكر غير

ص: 207

______________________________

المعارض بالتعليل، إذ ليس مفاد التعليل إلا الانفعال في الجملة، لأن مفهوم السالبة الكلية موجبة جزئية. و هو ظاهر.

الخامس: يظهر من كلماتهم نحو اضطراب في تعريف البئر و تحديدها في مقابل العيون و الثمد و نحوهما، فإن البئر و إن كانت من المفاهيم المعروفة- كما في القاموس- إلا أن معروفيتها باعتبار مصاديقها، لا بنحو يسهل تحديد مفهومها بتعريف و نحوه.

نعم، لا ريب في كونها في قبال الجاري، إلا أن هذا يكون في الثمد بالمعني الآتي، كما يكون في العيون، إذ لا ريب في عدم توقف صدق العين علي الجريان، بل قد تقف عنه، لضعف نبعها و حصر الماء بحوض و نحوه، فتحديد البئر عنهما ببعض القيود مشكل جدا، و إن كان لا يبعد أخذ نحو من العمق في مفهومها، كما قد يناسبه بعض الاستعمالات للمادة، حيث تدل علي نحو من الخفاء و الاستتار قال في القاموس: «و بأر. الشي ء خبأه أو ادخره، و الخير قدّمه أو عمله مستورا».

إلا أن هذا- مع عدم وضوحه- من المشكك الذي يصعب تحديده أيضا، و المتيسر في المقام هو الرجوع للعرف في التطبيق، لأنه يكشف عن تحديد المفهوم في الجملة.

نعم، قد يدعي عموم حكمها لكل ماء نابع راكد، كما يأتي عن الوحيد قدّس سرّه نسبته للفقهاء. لكنه غير ظاهر الوجه بعد قصور عمومات البئر عنه.

و دعوي: عدم خصوصية الإطلاق العرفي، و أن المدار علي الركود في مقابل الجريان، الذي هو عاصم للماء في الجملة بلا إشكال.

مصادرة، و لا سيما مع اختصاص البئر بأحكام تعبدية غير عرفية. و ليس مرجع ذلك إلي دوران أحكام البئر مدار الصدق العرفي، بحيث لو فرض تبدل المفهوم العرفي تبعه الحكم، لوضوح أن الإطلاق العرفي محض طريق لاستكشاف مراد الشارع، من دون أن يكون له دخل في الموضوع، كما هو الحال في سائر موارد الرجوع للعرف.

ص: 208

و ماء العيون (1)،

______________________________

و منه يظهر أنه لو فرض كون الإطلاق العرفي في بعض الموارد حادثا لم ينفع في إحراز الحكم إلا بضميمة أصالة عدم النقل. فتأمل. و الأمر سهل، بناء علي ما عرفت من اعتصام البئر كسائر أفراد ذي المادة.

و مما تقدم يظهر عدم شمول أحكام البئر للماء الجاري في بطن الأرض من منابعه المتصلة بطرق بينها و قنوات كالأنهر، إذ لا ريب في صدق الجاري عليها و خروجها عن المتيقن من مدلول النصوص، لعدم معهودية هذا النحو في العصور السابقة، بل المنصرف من الأمر في النصوص بنزح البئر إخراج الماء الملاقي للنجاسة أو المتغير بها من البئر، لا إخراج غيره مع خروجه هو بالجريان، بل نسبة التغير للبئر في بعض النصوص ظاهر في مكث الماء فيها، كما أن فرض نزح الكل في كثير منها ظاهر في خروج محل الكلام عنها، و فرض تعذر نزح البئر في بعضها إنما هو لغلبتها و غزارتها- كما فهمه الفقهاء- لا لجريان الماء إليها من غيرها.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم شمول أحكام البئر لذلك بعد أدني تأمل في حال الآبار في العصور السابقة و في النصوص.

و مجرد إطلاق البئر علي ذلك في أعراف بعض البلاد التي يشيع فيها هذا النوع كالنجف الأشرف لا يكفي في تسرية الحكم، لما تقدم من عدم موضوعية الإطلاق العرفي.

فما عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه من احتمال إجراء الأحكام فيما يطلق عليه البئر عرفا مطلقا من غير تقييد بنبع و عدم جري، غريب جدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم و هو ولي التوفيق.

(1) مفرد العين، و هي ينبوع الماء، كما في القاموس.

و لا إشكال، بل لا خلاف في اعتصامه مع جريان الماء، لدخوله في الجاري

ص: 209

______________________________

الذي لا إشكال في اعتصامه في الجملة.

و أما مع عدمه، لضعف النبع و حصر الماء بحوض و نحوه فقد يقال بدخوله في الجاري أيضا، كما في المسالك و ظاهر الرياض و عن الروض و الذخيرة و الدلائل، و عن الروضة: «الجاري هو النابع من الأرض مطلقا غير البئر علي المشهور».

لكن إن أريد به دخوله فيه لغة أو عرفا، بحيث تكون أدلة الجاري شاملة له، فهو خلاف الظاهر، كما صرح به غير واحد، بل السيلان مأخوذ في الجاري لغة قطعا و عرفا علي الظاهر.

و إن أريد به دخوله فيه في مصطلح الفقهاء (رضوان اللّٰه عليهم) بقرينة تقسيمهم الماء إلي الجاري و المحقون و البئر، فحيث خرج عن البئر و المحقون تعين دخوله في الجاري، فيكون عندهم بحكمه و إن لم تشمله أدلته.

فليس هو بأولي من إدخاله عندهم في البئر، كما عن الوحيد قدّس سرّه، حيث قال: «ان النابع الراكد عند الفقهاء في حكم البئر»، و يناسبه ما في المعتبر في وجه عدم تطهير القليل المتنجس بالنبع من تحته، من أن النابع ينجس بملاقاة النجاسة.

بل مقتضي ما عن المقنعة و التهذيب من انفعال القليل من الغدير النابع و تطهيره بالنزح، و عدم انفعال الكثير منه، خروج النابع الواقف عن الأقسام الثلاثة، إذ المحقون مع القلة لا يطهر بالنزح، و البئر عندهم تنفعل مطلقا و لو مع الكثرة، و عند المتأخرين لا تنفعل مطلقا، و الجاري لا ينفعل مطلقا عند المشهور.

و بالجملة: لا مجال لاستفادة عموم الجاري في الأدلة أو الفتاوي للنابع الراكد.

نعم، صرح غير واحد باعتصامه. و العمدة فيه عموم عاصمية المادة، المستفاد من عموم التعليل في صحيح ابن بزيع، كما تقدم.

ص: 210

و الثمد (1)، و غيرها مما كان له مادة.

______________________________

(1) اختلفت كلمات اللغويين في تعريف الثمد، فعرفه غير واحد بأنه الماء القليل الذي لا مادة له، كما في جمهرة اللغة، و عن محكي المصباح و شمس العلوم. و جعله أول المعاني في لسان العرب و القاموس، و به عرف الثماد في مجمع البحرين.

و يناسبه ما عن الخليل من أنه الماء القليل يبقي في الأرض الجلد، و ما عن ابن الأعرابي من أنه القلت يجتمع فيه ماء السماء فيشرب به الناس شهرين في الصيف، فإن الأرض الجلد هي الأرض الشديدة، و القلت النقرة في الجبل و نحوه من الأرض الصلبة تمسك الماء.

فكأن الثمد علي هذا هو الماء المجتمع في الحفر الطبيعية في الأراضي الصلبة من السيول و نحوها مما لا مادة له، فيخرج عما نحن فيه.

نعم، عن الأصمعي: «هو ماء المطر يبقي محقونا تحت رمل، فإذا كشف عنه أدته الأرض». و لعله إليه يرجع ما قيل- كما في لسان العرب و القاموس- من أنه الذي يظهر في الشتاء و يذهب في الصيف. و ظاهر ذلك أن له مادة، إلا أن مادته بالرشح الحاصل من الرمل، لا بالنبع الحاصل من شقوق الأرض الصلبة. و يشابهه في ذلك ماء النزيز، و ما يخرج عند الحفر قرب شطوط الأنهار و نحوها. و كأن هذا هو مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و الاعتصام فيه مبني علي عموم المادة للرشح- كما هو الظاهر- عملا بمقتضي الإطلاق الارتكازي الوارد في التعليل. و لا سيما بقرينة المورد، لأن مادة البئر قد تكون بالرشح، بل في الجواهر أنه قيل إن ذلك هو الغالب فيها. و كأن من أخذ النبع في تعريفها أراد منه ما يعم ذلك.

هذا، و لو فرض الشك في شمول عموم المادة لمثل ذلك فالظاهر أن المرجع هو استصحاب الطهارة المقتضي للاعتصام، لا عموم طهورية الماء، لما

ص: 211

______________________________

أشرنا إليه غير مرة من عدم ثبوت العموم المذكور، و لا عموم انفعال القليل، لما أشرنا إليه عند الكلام في البئر من اختصاصه بغير ذي المادة، و أنه راجع إلي عدم اعتصام القليل في نفسه في مقابل الكر الذي يعصم بعضه بعضا، فلا ينافي اعتصامه بأمر خارج عنه كالمادة، كما هو المحتمل في المقام.

نعم، لو كانت المادة ضعيفة جدا بحيث يحتاج تجمع الماء منها إلي زمان طويل لم تصلح عرفا للعاصمية و خرجت عن عموم المادة بمقتضي ظهور كون التعليل بها ارتكازيا، فلا بد من البناء علي انفعال الماء لما يظهر من نصوص الكر و المادة من أن الماء لا يعتصم بنفسه، بل لا بد له من عاصم. فتأمل جيدا.

ثمَّ إن الشهيد قدّس سرّه اعتبر في محكي الدروس دوام النبع في اعتصام الجاري، و عن محكي الموجز لابن فهد موافقته. و عن المدارك أن دوام النبع لا يزيد علي اعتبار أصل النبع.

و ربما حمل مراد الشهيد قدّس سرّه.

تارة: علي الاحتراز عن العيون التي لا يتصل نبعها لضعف الاستعداد فيه، فتنبع آنا و تقف آنا، نظير الدفق.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 212

و اخري: علي الاحتراز عن انقطاع النبع بسد و نحوه.

و ثالثة: علي الاحتراز عما إذا انقطع الاتصال بمحل النبع.

و رابعة: علي الاحتراز عن العيون التي يضعف نبعها، فيقف ببلوغ الماء حدا معينا، و لا يتجدد النبع إلا إذا أخذ منها فيرجع إلي الحد.

و خامسة: علي الاحتراز عن العيون التي تنبع في وقت دون آخر، كالعيون التي تنبع في الشتاء و تقف في الصيف. إلي غير ذلك.

أما الأول فهو الذي احتمله الكركي فيما حكي عنه. و اللازم البناء فيه علي عدم الاعتصام في آن النبع فضلا عن غيره، لأن المدار في الاعتصام علي المادة لا علي النبع و النبع المذكور لا يتصل غالبا بالمادة، بل كل دفعة منه لا تتصل بما وراءها.

ص: 212

و لا بد في المادة من أن تبلغ الكر (1).

______________________________

نعم، لو أحرز الاتصال بسبب طول زمان النبع أو غيره اتجه الاعتصام حال النبع إذا كانت المادة بقدر الكر أو كان المجموع كرا، كما سيأتي.

و منه يظهر الوجه في عدم الاعتصام في الثاني و الثالث حين الانقطاع. و إن كان من البعيد حمل كلام الشهيد عليهما، لوضوح حكمهما.

و أما الرابع فهو يشمل القسم الثاني من العيون الذي سبق الكلام فيه، و من ثمَّ احتمل في مفتاح الكرامة حمل كلامه عليه، كما يشمل الثمد.

لكن لا وجه لعدم الاعتصام فيه، لما أشرنا إليه من عدم أخذ النبع في أدلة الاعتصام، بل ليس المأخوذ فيها إلا المادة الصادقة في المقام، و لا سيما مع ان مادة البئر التي هي مورد التعليل كثيرا ما تكون من هذا القبيل.

و أما الخامس فعن الكركي ان أكثر المتأخرين عن الشهيد قدّس سرّه ممن لا تحصيل له فهموا هذا المعني من كلامه، و أنه لا شاهد له من الأخبار، و لا يساعد عليه الاعتبار، و أنه تخصيص لعموم الدليل بمجرد التشهي و الشهيد منزه عن مثله.

و ما ذكره قدّس سرّه متين جدا.

هذا، و قد اعتبر السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي دوام المادة. و كأنه أراد الاحتراز عن خصوص الثمد و نحوه، حيث قال: «يعتبر في المادة الدوام، فلو اجتمع الماء من المطر أو غيره تحت الأرض، و يترشح إذا حفرت لا يلحقه حكم الجاري».

مع أنه صرح بعدم اعتبار استمرار النبع من المادة، بل يكفي الاتصال بها و إن لم تخرج، كما صرح بأن العيون التي تنبع في الشتاء و تنقطع في الصيف تكون عاصمة حال نبعها. و أقره علي جميع ذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه في حاشيته.

و يظهر الاشكال فيه مما تقدم.

(1) كما صرح به في القواعد و جامع المقاصد و المسالك في مادة الحمام،

ص: 213

______________________________

و نسبه في مفتاح الكرامة إلي المشهور، و في المسالك و عن الروض و مجمع الفوائد و الدلائل و الذخيرة أنه مذهب الأكثر، و عن المدارك أنه مذهب أكثر المتأخرين.

و عن الشهيد الثاني في فوائد القواعد و الروض و صاحب الكفاية الاكتفاء بكرية المجموع من المادة و ما اتصل بها، و عن بعضهم نقل الإجماع عليه.

و عن الحدائق عدم اعتبار ذلك أيضا، و إليه مال في الجواهر، بل استقرب عدم الفرق في ذلك بين الدفع و الرفع، فكما تكون المادة عاصمة للماء مطلقا تكون مطهرة له بعد نجاسته مطلقا.

و ظاهر المعتبر التفصيل بينهما، حيث قال: «و لا اعتبار بكثرة المادة و قلتها.

لكن لو تحقق نجاستها لم تطهر بالجريان». فتأمل.

و في مفتاح الكرامة عن أستاذه الشريف: «يشترط بلوغ المجموع كرا في عدم قبول النجاسة، و كون المادة كرا في التطهير إذا تنجس ما في الحياض» قال:

«و علي هذا يحمل كلام الأصحاب، لأنهم أطلقوا كرية المادة، فيحمل ذلك علي التطهير. و من اكتفي ببلوغ المجموع كرا يحمل علي الطهارة و عدم قبول النجاسة، و تصح دعوي الإجماع علي ذلك».

و كيف كان فالكلام.

تارة: في الدفع.

و اخري: في الرفع.

أما الأول: فقد يستدل لعدم اعتبار كرية المادة فيه بإطلاق أدلة عاصميتها.

لكن الأدلة المذكورة منحصرة- كما تقدم- بالتعليل في صحيحي ابن بزيع و بنصوص الحمام. أما التعليل فسيأتي الكلام فيه في المقام الثاني.

و أما نصوص الحمام فقد أشرنا آنفا إلي عدم تمامية الإطلاق فيها، لما هو الظاهر من أن عنوان الحمام ليس دخيلا في الحكم، و لذا لو فرض العلم بتغير حال الحمامات عما كانت عليه في عهد صدور الروايات لم يكن مجال للرجوع لتلك النصوص فيها، كما أنه لو فرض خروج الحمام عن كونه حماما بانهدام و نحوه لم

ص: 214

______________________________

يتبدل حكم مائه.

كما لا يظن بأحد توهم أن مقتضي إطلاق ما دل علي اعتصام ماء الحمام إذا كانت له مادة انفعال مائة إذا لم تكن له مادة و إن بلغت كرا، و اعتصامه مع المادة و إن كانت مثل الإبريق، أو أن مقتضي إطلاق ما دل علي أن ماء الحمام لا ينجسه شي ء اعتصام جميع ما يكون في الحمام و إن لم يكن في الحياض الصغيرة المتصلة بالحياض الكبيرة، بل في الأواني الصغيرة إلي غير ذلك مما يظهر للمتأمل، فليست خصوصية الحمام ارتكازا إلا كخصوصية الدار و الطريق و نحوهما لا يراد بها إلا الإشارة إلي الفرد المعهود، و هو ماء الحياض الصغيرة المتصلة بالحياض الكبيرة، و الذي يكون اعتصامه أو عدمه لجهة خاصة غير كونه ماء حمام.

و حينئذ لا مجال للتمسك بإطلاقها لإثبات عدم اعتبار الكرية في المادة فضلا عن عدم اعتبارها في المجموع، إلا إذا ثبت وجود هذا النحو من الحمامات في عهد صدور النصوص، و لا طريق لإثبات ذلك، بل من القريب جدا كون مادة الحمامات كثيرة جدا لا تنقص عن الكر مهما كثر الاستعمال عليها، كما هو المشاهد في عصورنا القريبة.

و ليس هذا من تقييد الإطلاق بالغلبة، ليمنع كبري و صغري، بل من سقوط الإطلاق عن الحجية بسبب كون عنوانه غير دخيل في الحكم الذي هو الشرط في حجية الإطلاق، لظهور اقتصار المتكلم عليه في كونه تمام الدخيل في الفرض، فمع عدم دخله يكون الدخيل في الغرض أمرا آخر متحققا في أفراد المطلق الخارجية لا بد في تعيينه من دليل آخر غير الإطلاق.

و مما ذكرنا يظهر حال ما في الجواهر من أن القول باشتراط الكرية ينافي ما هو كالصريح من الأخبار من أن لماء الحمام خصوصية علي غيره من المياه، و أن حملها علي بيان ما هو كائن في غير الحمام، فالمراد أن ماء الحمام كالجاري، لأن له مادة كثيرة و كل ما كان له مادة كثيرة فهو معتصم. بعيد جدا.

إذ فيه: أن خصوصية الحمام غير دخيلة في الحكم ارتكازا، بل لا يمكن

ص: 215

______________________________

البناء علي دخلها بعد ما عرفت.

إن قلت: هذا إنما يتم في النصوص المطلقة المتضمنة لاعتصام ماء الحمام، مثل ما دل علي أنه بمنزلة الجاري، و أنه كماء النهر يطهر بعضه بعضا «1»، بخلاف ما تضمن التقييد بالمادة، و هو خبر بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة» «2» المنجبر ضعف سنده- لجهالة بكر بن حبيب- بظهور عمل الأصحاب به، و لا سيما مع وقوع صفوان الذي هو من أصحاب الإجماع في طريقه، و رواية منصور بن حازم الذي هو من الأعيان غير مرة عن بكر المذكور. فتأمل.

فإن خصوصية الحمام و إن لم تكن دخيلة في الحكم ارتكازا، إلا أن خصوصية المادة مما لا مجال لإهمالها، و حينئذ مقتضي إطلاقها عدم اعتبار الكرية في المجموع، فضلا عن خصوص المادة.

قلت: لا مجال للبناء علي الإطلاق المذكور و الاكتفاء بمسمي المادة، كيف و لازمه اعتصام ما في الحياض الصغيرة بأخذ شي ء قليل منها و صبه عليها.

فلا بد إما من الالتزام بورود الخبر لبيان اعتصام ماء الحمام باتصاله بالمادة التي من شأنها أن تعصم بقية المياه، لا في مقام بيان المادة العاصمة لماء الحمام، فهو لبيان صغري اعتصام ماء الحمام بالمادة بعد الفراغ عن كبري عاصمية المادة للماء، لا لبيان كبري اعتصام ماء الحمام بالمادة، ليتمسك بإطلاقه.

أو الالتزام بأن المراد بالمادة هي المادة المعهودة في الحمامات، و هي الحياض الكبيرة التي تمد الحياض الصغيرة، كما فهمه الأصحاب، و حينئذ لا مجال للتمسك بإطلاقها، إلا أن يثبت كون عدم الكرية من حالات تلك المادة في عهد صدور الخبر، و لا طريق لإثباته، كما تقدم.

و من هنا يظهر أنه لا مجال للاستدلال بإطلاق نصوص الحمام علي كفاية

______________________________

(1) راجع النصوص المذكورة في باب 7 من أبواب الماء المطلق من الوسائل.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 216

______________________________

كرية المجموع من المادة و ما يتصل بها في الاعتصام.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من أن نصوص الحمام واردة لبيان أن مادة الحمام و إن كانت أعلي سطحا من حياضه، إلا أنها شرعا كالمادة المساوية له سطحا صالحة لتقويته، فهي واردة لبيان أن المادة المذكورة تصلح شرعا لتتميمه كرا و إن لم تصلح لذلك عرفا.

فلا قرينة في النصوص المذكورة عليه، بل كما يمكن أن تكون كذلك يمكن أن تكون واردة لبيان أن المادة عاصمة له في مقابل الكرية، و حينئذ قد يدعي أنه لا بد في عاصميتها لغيرها من قوتها و اعتصامها في نفسها، كما أشار إليه في جامع المقاصد بقوله: «اشتراط الكرية في المادة هو أصح القولين للأصحاب، لانفعال ما دون الكر بالملاقاة فلا يدفع النجاسة عن غيره». فالإنصاف أن نصوص الحمام غير صالحة للاستدلال في المقام.

و حينئذ يلزم الرجوع في ذلك إلي الأدلة الأخري.

و الظاهر أنه يبتني علي أنه هل لأدلة انفعال القليل عموم يشمل ذا المادة ليقتصر في الخروج عنه علي المتيقن، و هو الذي تبلغ مادته الكر، أو لا بل المرجع فيه الأصل المقتضي لعدم انفعاله مع بلوغ المجموع كرا؟ و قد تقدم في البئر أن الظاهر الثاني. و إن كان ربما يخرج عنه بما يأتي في المقام الثاني عند الكلام في مفاد التعليل في صحيح ابن بزيع.

هذا كله مع كون أحد المائين مادة للآخر عرفا، و أما لو كان المجموع ماء واحدا فاللازم البناء علي عاصمية بعضه لبعض مع بلوغ المجموع كرا، لعموم أدلة الكر، و يأتي الكلام في ضابط ذلك في المسألة الثامنة عشرة إن شاء اللّٰه تعالي.

ثمَّ انه لا ينبغي الإشكال في اعتبار كرية المجموع من المادة و ذيها، خلافا لما تقدم من الحدائق و الجواهر، إذ لا مجال لاحتمال تبدل حكم الماء القليل و اعتصامه بمجرد إجراء بعضه علي بعض و صيرورة بعضه مادة لبعض، بل المادة

ص: 217

______________________________

إما أن تكون بنفسها عاصمة فيلزم اعتصامها في نفسها ارتكازا، كما تقدم من جامع المقاصد، أو تكون عاصميتها باعتبارها محققة لكرية ذيها شرعا، فيعتبر كرية المجموع، كما تقدم من بعض مشايخنا.

بل ما دل علي انفعال القليل و عدم عاصمية بعضه لبعض يقتضي الانفعال في المقام، لصدق القليل علي المجموع، و إن كان منصرفا عن خصوص ذي المادة بناء علي ما سبق منا. فتأمل.

بل الظاهر مفروغيتهم عن عدم الاعتصام في ذلك، و أن احتمال ذلك في الحمام إنما هو من جهة إطلاق نصوصه، الذي عرفت الاشكال فيه.

و أما الثاني: - و هو الرفع- فلا مجال فيه للاستدلال علي عدم اعتبار الكرية في المادة بإطلاق نصوص الحمام، لما تقدم.

و لا سيما مع عدم وضوح ورودها في هذا المقام، إذ ليس ما يوهم الدلالة فيه إلا خبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت له: أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب و الصبي و اليهودي و النصراني و المجوسي. فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» «1».

لكن الظاهر أنه ليس المراد به تطهير بعضه لبعض بعد تنجسه- كما هو مقتضي مدلوله المطابقي- بل الكناية عن عاصمية بعضه لبعض، فيكون واردا في مقام الدفع، كما هو المناسب للسؤال، لظهور أن السؤال عن انفعال الماء بسبب اغتسال هؤلاء لا عن كيفية تطهيره بعد الفراغ عن انفعاله، و هو المناسب أيضا لتشبيهه بماء النهر.

نعم، لا يبعد شمول إطلاق خبر بكر بن حبيب المتقدم لمقام الرفع.

و أما التعليل في صحيحي ابن بزيع فاللازم حمله علي خصوص ما إذا بلغت المادة كرا، لأنه المناسب لكونه ارتكازيا، لما هو المرتكز من أن ما لا يعتصم في نفسه لا يصلح لتطهير غيره، بل يتنجس به.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 218

مسألة 6 يعتبر في عدم تنجس الجاري

مسألة 6: يعتبر في عدم تنجس الجاري (1)

______________________________

و لا سيما مع ما هو المعلوم من عدم مطهرية مسمي المادة و إن كانت قليلة جدا، إذ مع ذلك يصلح الوجه الارتكازي المذكور لتعيين المراد بالإطلاق، بنحو يصح الاتكال عليه في مقام البيان.

بل لعل ذلك صالح لبيان المراد من المادة الموجبة للاعتصام و المانعة من الانفعال، إذ من البعيد جدا أن يراد من إطلاق المادة هناك أمر آخر من دون قرينة، و يكتفي بذلك في مقام البيان، بل تقدم في أوائل الكلام في عاصمية المادة تقريب رجوع التعليل المذكور في الصحيحين للحكم بالاعتصام و مقام الدفع، دون تطهير ماء البئر بعد ارتفاع تغيره في مقام الرفع، بل هو تابع للحكم الأول و متفرع عليه بنحو يستغني عن التعليل.

و مقتضي ذلك دوران الاعتصام مدار المادة المذكورة في التعليل وجودا و عدما، و لا بد من حمل المادة المذكورة فيه علي خصوص ما تبلغ الكر، بقرينة تفريع مقام الرفع عليه، لما أشرنا إليه قريبا من أن ما لا يعتصم في نفسه لا يصلح لتطهير غيره ارتكازا. و بذلك يتعين الخروج عن الأصل المتقدم في المقام الأول، المقتضي للاكتفاء بكرية المجموع.

(1) لا ريب أن الجاري لغة متقوم بالجريان، لا بالمادة، فلا يشمل الراكد الذي له مادة، و قد تقدم عند الكلام في ماء العيون أنه لا مجال لدعوي شموله له عرفا أو اصطلاحا، و إن كان مثله في الاعتصام، كما أنه يشمل الجاري لا عن مادة.

إلا أن الظاهر المفروغية عن قصور نصوص المقام و فتاوي الأصحاب عنه في الجملة، ففي جامع المقاصد: «المراد به النابع، لأن الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد يعتبر فيه الكرية- اتفاقا ممن عدا ابن أبي عقيل [1]- بخلاف النابع».

______________________________

[1] الظاهر أن المراد به الإشارة إلي خلاف ابن أبي عقيل في اعتبار الكرية في الراكد، لما تقدم منه من عدم انفعال الماء القليل، لا أنه مخالف في أخذ النبع في الجاري. (منه عفي عنه).

ص: 219

______________________________

و لعل منشأ ذلك ما ارتكز في أذهان المتشرعة من أن الجريان بنفسه ليس عاصما للماء، و لا موضوعية له في الأحكام، و لذا لا ريب في عدم ترتبها علي ما يجري في الأرض بإراقة الإناء و نحوها، بل اعتصام الجاري إنما هو باعتبار مادته، فان استحكام الانصراف المذكور أوجب انصراف الجاري عندهم لما له مادة، و حيث كان المعهود من ذلك الأنهار و نحوها مما يكون جريانه مستندا للنبع أخذوا النبع فيه، كما تقدم من جامع المقاصد.

لكن الإنصاف أن المعهود من الجاري لا يختص بما يكون عن نبع، بل قد يستند إلي مثل ذوبان الثلوج، كبعض الأنهار، كما قد يستند إلي الدوالي و النواعير و نحوها مما يكون وروده متقطعا بنحو التوالي المستلزم للجريان، فالمناسب لوجه الانصراف جعل المعيار في الجاري مطلق الاعتصام مع الجريان، سواء استند إلي كثرة الماء- كالأنهار المستندة لذوبان الثلج- أم للمادة التي هي من سنخ النبع أو الرشح، أو التي هي عبارة عن الماء الراكد المتدافع، كماء الأنابيب المتعارفة في زماننا.

و بالجملة: مقتضي الجمود علي لفظ الجاري الاكتفاء بفعلية الجريان، و الارتكاز المتقدم لا يقتضي إلا التقييد بالاعتصام.

اللهم إلا أن يقال: لو تمَّ هذا في إطلاق الجاري في عرف المتشرعة فلا مجال له في إطلاقه في النصوص و فتاوي الأصحاب الواردة في مقام بيان اعتصام الجاري، لامتناع أخذ خصوصية الحكم في موضوعه، و حيث كان حمله علي إطلاقه متعذرا، للقطع بعدم عاصمية الجريان بنفسه- و لو مع القلة و عدم النبع- كان عنوان الجاري غير خال عن الاجمال، و لزم الاقتصار فيه علي المتيقن المعروف في عصر صدور النصوص، و الظاهر عدم اختصاصه بما يكون عن نبع، بل يشمل مثل الأنهار الكبيرة المستندة لذوبان الثلوج من الجبال، لصدق الجاري عليها قطعا.

و التزام المجاز فيها لمشابهتها للشطوط النابعة صعب جدا، و إن أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه مستدلّا بعدم اطراده في كل ما يتلبس بالجريان و لو كان قليلا.

ص: 220

______________________________

إذ فيه: أن المشابهة كما تكون مع الكثرة تكون مع القلة، لأن الجاري عن نبع قد يكون قليلا أيضا، مع ظهور عدم صحة الاستعمال و لو مجازا مع القلة بدون النبع، فعدم صحة الاستعمال مع القلة و صحته مع الكثرة شاهد بالفرق بينهما، لا بمجازية الاستعمال مع الكثرة.

و دعوي: أن إطلاق الجاري علي الأنهار المذكورة لتخيل نبعها، و أن المعيار هو النبع، كما ذكره في جامع المقاصد.

ليست بأولي من دعوي: أن ذكر الجريان من حيث ملازمته عرفا لكثرة الماء بنفسه أو بمادته، بحيث يكون قاهرا غير محدود عرفا.

و أشكل من ذلك ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن الاستعداد للجريان مقوم لمفهوم الجاري، و ما لا يكون له نبع فاقد لذلك الاستعداد.

إذ فيه: أن ظاهر اسم الفاعل ارادة فعلية الحدث لا بقيد الاستعداد، و ان كان قد يستعمل بنحو الملكة، فيتمحض في الاستعداد، و هو لو تمَّ اقتضي كفاية النبع و لو مع عدم فعلية الجريان لمانع- كما تقدم من بعضهم- و قد منع قدّس سرّه منه.

علي أن اختصاص الاستعداد بالنبع لا وجه له، بل قد يكون بالكثرة المقتضية للتدافع، و بكثرة المادة غير العاصمة كالثلج. فالإنصاف أن منع صدق الجاري علي مياه الأنهار الكبيرة غير المستندة للنبع في غاية الاشكال.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا في توجيه العموم من حمل الجاري علي ما يكون له جريان بنحو الدوام أو الغلبة، لأنه لا ماء إلا و له جريان سابقا أو فعلا، فتخصيص بعض أنواعه بوصف الجريان لا بد أن يكون بلحاظ استمرار جريانه أو غلبته، و منه الأنهار المذكورة و نحوها.

ففيه: - مع عدم اشتراك جميع المياه في عروض وصف الجريان و لو سابقا، كماء البئر و الثمد- أن ظاهر إطلاق الجاري لحاظ فعلية الجريان لا ما يعم سبقه ليشترك فيه جميع المياه و يتعين حمله علي الاستمرار أو الغلبة نظير الملكة.

مع أن لازم ذلك عدم صدق الجاري علي ما يكون فعلي الجريان عن نبع

ص: 221

______________________________

ينقطع كثيرا و لو لسد محل النبع، و صدقه علي ما توقف جريانه لعارض طارئ، و لا يظن من أحد الالتزام بالأول، كما اعترف هو بعدم صحة الثاني.

فالعمدة ما ذكرنا من أن عنوان الجاري في نصوص الاعتصام لا يخلو عن إجمال، للقطع بعدم ارادة المعني اللغوي علي إطلاقه، و عدم وضوح القيد الذي أخذ فيه، و من القريب الاعتماد علي بعض القرائن في الاختصاص ببعض الأفراد المعهودة التي يصعب تحديدها.

بل ذلك قد يوجب إجماله في غيرها من النصوص، كصحيح محمد بن مسلم الآتي الوارد في تطهير الثوب، لصعوبة التفكيك في إطلاقات الجاري في كلام الشارع الأقدس.

فاللازم الاقتصار في الأدلة المتضمنة لعنوان الجاري علي المتيقن و إلحاق غيره به لا يكون إلا لفهم عدم الخصوصية، أو لتنقيح المناط، أو لدليل خارج، كعموم المادة و نحوه. فلاحظ.

هذا كله في مفهوم الجاري، و أما حكمه فاعلم أنه لا إشكال بينهم في اعتصام الجاري، و في المعتبر أنه مذهب فقهائنا أجمع، و عن المنتهي أنه بإجماع أهل العلم، و عن شرح الموجز دعوي الإجماع عليه، و عن الغنية نفي الخلاف فيه.

و الأدلة به متظافرة، كما سيأتي.

هذا، و ظاهر بعضهم و صريح آخرين عدم اعتبار الكرية فيه، و عن الحاشية الميسية و الروض و الدلائل و الذخيرة أنه المشهور، بل عن الذكري نفي الخلاف فيه ممن سلف علي العلامة، و في جامع المقاصد و عن مجمع الفوائد أن العلامة قد تفرد باعتبار الكرية و خالف فيه مذهب الأصحاب، و عن الغنية و جمل القاضي و محكي حواشي التحرير للكركي نفي الخلاف فيه صريحا، و هو كالصريح من المعتبر، و الخلاف، و الظاهر مما عن مصابيح السيد الطباطبائي قدّس سرّه. و في الجواهر:

«و يمكن للمتأمل المتروي في كلمات الأصحاب تحصيل الإجماع علي عدم اشتراط الكرية».

ص: 222

______________________________

و مع هذا فقد صرح العلامة قدّس سرّه في القواعد باعتبار الكرية، و هو المحكي عن سائر كتبه عدا ظاهر الإرشاد. و عن ظاهر جمل السيد، و في المسالك أنه الأصح، و في الروضة و عن الروض الميل إليه، و عن التنقيح أنه الأولي، و في الروضة نسبته إلي جماعة، و عن الروض نسبته إلي جماعة من المتأخرين.

و لا يخفي أن النزاع في الكرية إنما هو في النابع، و قد يلحق به غيره مما يجري عن مادة- بناء علي دخوله في الجاري- و أما ما لا مادة له فلا يظن من أحد الإشكال في اعتبار الكرية فيه، لما أشرنا إليه آنفا من عدم عاصمية الجريان.

إذا عرفت هذا، فقد يستدل للعلامة قدّس سرّه بما أشار إليه في محكي التنقيح من عموم نصوص الكر الظاهرة في انفعال القليل مطلقا و إن كان جاريا.

و فيه: - مع ما سبق في البئر من الإشكال في شمول العموم المذكور لذي المادة الذي هو محل الكلام هنا- أنه لا بد من رفع اليد عن العموم المذكور بما دل علي اعتصام ذي المادة، و عمدته التعليل في صحيحي ابن بزيع المتقدمين، كما تقدم في المسألة السابقة.

مضافا إلي إطلاق بعض النصوص- التي لا تصلح إلا لتأييد الحكم، لضعفها سندا- عن أمير المؤمنين و الرضا عليهما السّلام، المتضمنة علي اختلاف ألسنتها: أن الجاري لا ينجسه شي ء «1».

و احتمال عدم شمول الجاري للقليل النابع، لما تقدم من إجماله و لزوم الاقتصار فيه علي المتيقن. بعيد، لقرب معهودية ذلك سابقا. فلاحظ.

و ربما استدل بنصوص اخري مختصة بالجاري لا بأس بالكلام فيها تبعا لغير واحد.

منها: صحيح داود بن سرحان: «قلت لأبي عبد اللّٰه ع: ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري» «2»، حيث يدل علي اعتصام الجاري، بل

______________________________

(1) تراجع النصوص المذكورة في مستدرك الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 223

______________________________

علي معروفية الحكم المذكور، بحيث يتكل في بيان الاعتصام علي التشبيه بالجاري.

و قد استشكل فيه.

تارة: بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنه بناء علي اختصاص ماء الحمام بما إذا بلغت مادته و لو بضميمة ما في الحياض كرا تكون الصحيحة علي خلاف المطلوب أدل، لأن مقتضي التنزيل تساوي الشيئين في الحكم.

و اخري: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من إجمال الحكم الملحوظ في التنزيل، إذ يحتمل أن لا يكون هو الاعتصام.

و ثالثة: بما ذكره بعض مشايخنا من أن المشبه به هو الجاري الكثير، لأنه الموجود في أراضي العرب و الحجاز، و أن المنظور في التشبيه هو تنزيل كثرة ماء الحمام الجعلية الناشئة من اتصاله بالمادة منزلة كثرة الماء الجاري الحقيقية.

و يندفع الأول.

تارة: بأن ذلك إنما يقتضي اعتبار الكرية في مادة الجاري، أو في المجموع منها و من الخارج عنها- و لا بأس به- لا في خصوص الجاري الخارج كما هو مذهب العلامة قدّس سرّه و من تبعه.

نعم، لو كان المراد بماء الحمام مجموع ما في الحياض مع المادة فقد يتجه ما ذكره قدّس سرّه. إلا أنه خلاف الظاهر جدا، بل الظاهر ارادة خصوص ما في الحياض، لأنه الذي هو محل الابتلاء و يتوهم انفعاله دون المادة.

و منه يظهر أنه لا مجال لما ذكره قدّس سرّه من أنه بناء علي اعتبار الكرية في ماء الحمام فالمراد تنزيله منزلة الجاري في رفع القذارة المتوهمة بسبب تدافعه كالجاري، لا في عدم التنجس، و إلا فمن البعيد إرادة اعتصام الكر بهذه النصوص، لوضوحه.

فإن ذلك- مع كونه خلاف ظاهر النصوص جدا- إنما يحتاج إليه لو كان المعتبر كرية ما في الحياض، أما حيث كان المعتبر كرية المادة دون ما في الحياض

ص: 224

______________________________

فلا مانع من بيان اعتصام ما في الحياض بهذه النصوص دفعا لتوهم كون قلته مقتضية لانفعاله، و تنبيها علي عاصمية المادة له، كما هو ظاهر النصوص في أنفسها.

و اخري: بأن ارتكاز اعتصام الجاري و معروفيته بذلك عند المتشرعة بل العرف- بل هو الظاهر من مجموع النصوص- موجب لظهور الحديث في تنزيل ماء الحمام في خصوص الاعتصام منزلته، لا تنزيله منزلته في التفصيل بين الاعتصام و عدمه، فإن التفصيل المذكور ليس من الوضوح بحيث يتكل عليه في مقام البيان و يكتفي به في الجواب.

و لذا كان ما دل علي تقييد اعتصام ماء الحمام بالمادة أو بكرّيتها من سنخ المقيد الشارح لموضوع التنزيل في الحديث و هو ماء الحمام، و ليسا من سنخ المجمل و المفصل.

و منه يظهر اندفاع الثاني، إذ لا مجال لدعوي إجمال جهة التنزيل مع معروفية الجاري بالاعتصام و عدم ظهور حكم آخر صالح لحمل التنزيل عليه بحيث يكون مسوقا له دون الاعتصام، و لا سيما مع كثرة السؤال عن اعتصام ماء الحمام الموجب لانصراف السؤال و الجواب في الصحيح إليه، و لذا استدل قدّس سرّه به علي اعتصام ماء الحمام.

و دعوي: أن الاستدلال به علي اعتصام ماء الحمام بعد المفروغية عن اعتصام الجاري لا يصحح الاستدلال به في المقام لإثبات اعتصامه.

مدفوعة: بأن الاستدلال به في المقام ليس لإثبات أصل اعتصامه، بل لإثبات عمومه لحال القلة بعد الفراغ عن ثبوته في الجملة، فإنه ليس موردا للإشكال. فلاحظ.

و يشكل الثالث: - مع عدم وضوح انحصار الجاري في أرض العرب بالكثير، و عدم الموجب للانصراف إلي خصوص ما في أرض العرب، خصوصا في كلام الصادق عليه السّلام مع مثل داود الذي هو مولي كوفي- بأن ظاهر الصحيح السؤال

ص: 225

______________________________

و الجواب عن حكم ماء الحمام من حيث الاعتصام و عدمه، و ما ذكره إنما يناسب بيان علة الاعتصام بعد المفروغية عنه.

و مثله ما يقال من أن المقصود بالتشبيه ليس هو بيان الاعتصام بل تنزيل جريان المادة علي الحياض منزلة جريان الجاري في عدم إخلاله بالوحدة و إن لم يكن معتصما لقلته.

فالعمدة في وهن الاستدلال بالصحيح أنه ليس واردا لبيان اعتصام الجاري، لينعقد له ظهور في الإطلاق صالح للاستدلال علي عموم اعتصامه، بل لبيان اعتصام الحمام بعد الفراغ عن اعتصام الجاري فلا ينافي اختصاص الاعتصام بالجاري الكثير، لاختصاص المفروغية به، فهو نظير ما ورد من أن أكل الطين حرام كالميتة و الدم «1»، حيث لا إطلاق له في حرمة كل ميتة و دم و إن كانا مما لا نفس له، مثلا.

و دعوي: أن ذلك يستلزم إلغاء خصوصية الجاري في التنزيل، لوضوح أن كل ماء كثير معتصم و إن كان راكدا.

مدفوعة: بأنه يكفي في الخصوصية المصححة لذكره في التنزيل غلبة كريته و اعتصامه. و لا سيما مع كون اعتصامه ارتكازيا، لا تعبديا كالكر الراكد، فهو أظهر أفراد المعتصم.

و منها: خبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت: أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب، و الصبي، و اليهودي، و النصراني، و المجوسي. فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» «2».

فإن المراد فيه بالتطهير الاعتصام الذي هو حفظ الطهارة، لا إحداثها بعد ارتفاعها- كما تقدم- فيدل علي اعتصام ماء النهر الشامل بإطلاقه لما إذا كان قليلا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 58 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 11 و باب: 59 من الأبواب المذكورة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 226

______________________________

و يظهر الجواب عنه مما تقدم في صحيح ابن سرحان. و لا سيما مع ظهوره في اعتصام النهر بعضه ببعض، لا بالمادة الخارجة عنه، فيناسب كثرته- كما نبه لذلك غير واحد- و إن كان هو لا يناسب حال ماء الحمام. إلا أن يراد منه ما يعم المادة.

علي أن عموم النهر للقليل غير ظاهر، كيف و عن المصباح: انه الماء الجاري المتسع، و في مفردات الراغب: أنه مجري الماء الفائض، و في الجمهرة: أن أصل النهر السعة و الفسحة، و في كلام بعضهم أنه فوق الساقية.

و منها: صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله في المركن مرتين، فإن غسلته في ماء جار فمرة واحدة» «1»، فإنه بناء علي أنه يشترط في التطهير بالماء غير المعتصم وروده علي النجاسة- كما هو مذهب العلامة قدّس سرّه- يكون الصحيح دليلا علي اعتصام الجاري، لظهور أن الغسل به إنما يكون بوضع الثوب فيه، لا بوروده علي الثوب، لعدم تعارف ذلك.

و فيه: أن الصحيح لما لم يكن واردا لبيان اعتصام الجاري، بل لبيان كفاية المرة فيه، أمكن أن يكون جواز ورود الثوب عليه مشروطا ببلوغه الكر، فإن ذلك ليس تقييدا فيه، بل خروج عن المتعارف في كيفية التطهير في قليل من أفراده لأمر خارج عن جهة الإطلاق.

و دعوي: أن المناسب حينئذ التنبيه علي ذلك للغفلة عنه.

مدفوعة: بأن عدم التنبيه إنما يدل علي الاعتصام لو كان الغالب هو قلة الجاري، لانصراف الذهن إليه بسبب ذلك، فيكون عدم التنبيه ظاهرا في إقرار مورد الانصراف، أما حيث لم تكن القلة بهذا النحو لم يكن لعدم التنبيه ظهور في ذلك، و لزم الرجوع إلي مقتضي الأدلة الأخري.

و منه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الهمداني قدّس سرّه من أنه حتي علي القول بعدم اعتبار ورود الماء في التطهير لو كان ملاقاة الثوب للماء الجاري القليل سببا

______________________________

(1) الوسائل ج: باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 227

______________________________

لتنجسه لكان علي الامام عليه السّلام التنبيه علي ذلك في الصحيح و لو لم يكن مقصودا بالسؤال.

وجه الاندفاع: أن عدم التنبيه مع عدم غلبة القلة لا ظهور له في عدم الانفعال مع عدم كونه مقصودا بالسؤال و لا موردا للإطلاق.

نعم، لو تمَّ ملازمة الاكتفاء بالمرة في البول لاعتصام الماء كان مقتضي الإطلاق المذكور اعتصام الجاري مطلقا و إن كان قليلا.

اللهم إلا أن يقال: الملازمة المذكورة لو تمت فالدليل عليها منحصر بهذا الصحيح و نحوه، لدعوي فهم عدم الخصوصية للجاري، و أن المناط علي اعتصامه، و ذلك موقوف علي المفروغية عن اعتصام الجاري، فلا بد من ثبوته في مرتبة سابقة، و لا يكفي الصحيح و نحوه في الدلالة عليه. فتأمل جيدا.

و منها: النصوص النافية للبأس عن البول في الماء الجاري، كصحيح الفضيل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري، و كره أن يبول في الماء الراكد» «1» و غيره، فقد استدل بها في الوسائل تبعا لما في الخلاف و عن التهذيب.

و فيه: أن نفي الكراهة في الماء الجاري كثبوتها في الراكد لا ينافي الانفعال مع القلة. إلا أن يكون مرادهم الاستدلال علي اعتصام الجاري في الجملة من جهة أن الاهتمام بطهارة الجاري يمنع من البول فيه لو كان ينفعل به، فعدم التنبيه ظاهر في المفروغية عن عدم انفعاله.

نعم، قد يستدل بموثق سماعة: «سألته عن الجاري يبال فيه؟ قال: لا بأس به» «2»، بدعوي ظهوره في السؤال عن حكم الماء الذي يبال فيه، لا عن حكم البول فيه.

اللهم إلا أن يقال: كما يمكن أن يكون قوله: «يبال فيه» حالا من الماء

______________________________

(1) الوسائل ج: باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) الوسائل ج: باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 228

اتصاله بالمادة (1)، فلو كانت المادة من فوق تترشح و تتقاطر فإن كان دون الكر ينجس (2).

نعم، إذا لاقي محل الرشح للنجاسة لا ينجس (3).

مسألة 7 الراكد المتصل بالجاري كالجاري

مسألة 7: الراكد المتصل بالجاري كالجاري (4)،

______________________________

المسؤول عنه، فيكون المراد به السؤال عن حكمه في فرض البول فيه، كذلك يمكن أن يكون بدلا من الماء لكونه هو الجهة المسؤول عنها.

بل لعل الثاني أظهر بعد النظر في الأخبار الواردة في حكم نفس البول في الماء، لصلوحها لتفسيره.

بل يشكل الأول: بأن المفروغية عن اعتصام الكثير الجاري، و شيوع استعماله بعد البول فيه تقتضي صرف السؤال إلي خصوص القليل منه، و هو مما يأباه الكلام جدا، بعد غلبة الكثرة فيه.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أن العمدة في المقام عموم عاصمية المادة المستفاد من التعليل في صحيحي ابن بزيع.

(1) بلا إشكال ظاهر، لاختصاص عاصمية المادة بذلك، لمناسبته لكون التعليل ارتكازيا. بل لو فرض التمسك في المقام بنصوص الجاري لزم اعتبار ذلك أيضا، فإنه بعد فرض اعتبار المادة فيه لا بد من اعتبار الاتصال بها لعين الوجه المقتضي لاعتبارها. فتأمل.

(2) و أما إذا كان بقدر الكر فلا ينجس لعموم نصوص الكر، علي ما يأتي في المسألة الثامنة عشرة إن شاء اللّٰه تعالي.

(3) لاتصاله بالمادة العاصمة. إلا أن تكون المادة ضعيفة بحيث لا تكون متصلة به عرفا، بل كان شبه النضح لا يتجمع إلا بطول المدة. و الظاهر خروجه عن مفروض المتن.

(4) كما صرح به في القواعد، و ظاهر شروحها وضوح الحكم. و يقتضيه

ص: 229

فالحوض المتصل بالنهر بساقية يلحقه حكمه، و كذا أطراف النهر، و ان كان ماؤها واقفا (1).

مسألة 8 إذا تغير بعض الجاري دون بعضه الآخر فالطرف المتصل بالمادة لا ينجس بالملاقاة

مسألة 8: إذا تغير بعض الجاري دون بعضه الآخر فالطرف المتصل بالمادة لا ينجس بالملاقاة و إن كان قليلا (2).

______________________________

عموم عاصمية المادة، لأن المادة مادة له كما هي مادة للجاري.

و كذا لو فرض عدم كون الجاري ذا مادة- بناء علي عدم أخذها فيه- إما لما هو الظاهر من اتحاده مع الجاري عرفا، بحيث يكونان ماء واحدا و إن لم يكن بعضه جاريا، فيكفي في اعتصامه كرية المجموع من الجاري و الواقف المتصل به، فضلا عن كرية الجاري وحده.

أو لكون الجاري عاصما له كالمادة، لأن المستفاد من التعليل بالمادة بعد كونه ارتكازيا الاكتفاء في اعتصام الماء بما يقتضي الاعتصام، و إن كان لا يستمد منه فعلا، و لذا كانت المادة عاصمة للبئر و إن لم تجر عليها فعلا، لصعود مائها، كما تقدم نظيره في ماء العيون، عند الكلام فيما ذكره الشهيد قدّس سرّه من اعتبار دوام النبع.

هذا، و لو فرض كون الجاري من سنخ المادة ففي اعتبار كريته وحده أو الاكتفاء بكرية المجموع ما تقدم عند الكلام في ذي المادة.

(1) لا ريب في دخول ذلك في إطلاق الجاري تبعا، بل في المتيقن منه، لكثرة تحققه فيه و شيوع الابتلاء به و الغفلة عن اختلاف حكمهما، بنحو يتعذر حمل النصوص و الفتاوي علي خصوص ما يجري منه بالفعل.

و منه يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعض مشايخنا من عدم جريان أحكام الجاري عليه- لو فرض اختصاصه ببعض الأحكام- و إن كان معتصما من جهة المادة.

نعم، قد يتجه ذلك في مثل الحوض المنفصل عن الجاري عرفا، لخروجه عن المتيقن الذي ذكرناه.

(2) بل و إن انقطع عما وراء التغير لاستيعاب المتغير لتمام قطر الماء.

ص: 230

و الطرف الآخر حكمه حكم الراكد، إن تغير تمام قطر ذلك البعض (1) تنجس (2)،

______________________________

لعموم عاصمية المادة للماء و إن كان قليلا، فلا ينجس في المقام بملاقاة المتغير النجس.

بل علي القول باعتبار كرية الجاري في اعتصامه قد يقال في المقام بعدم انفعال ما قبل المتغير المتصل بالمادة بالتغير، لأنه متدافع إليه.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن العلو الموجب للجريان لا يمنع من سراية النجاسة إلي العالي.

مبني علي ما تقدم منه في غير ذي المادة من اعتبار قوة الدفع في عدم الانفعال. و قد تقدم الاشكال فيه و الاكتفاء بقوة الجريان المعتد به عرفا، فلو فرض تحققه في المقام لم يبعد البناء علي الطهارة و لو للأصل.

نعم، كثيرا ما يستوجب الجريان اختلاط المتغير بغيره من غير تدافع بين الأجزاء، و في مثله يتعين الانفعال.

كما أنه لو فرض تنجس الأرض الملاقية للمتغير تعين تنجس غير المتغير بالمرور عليها و ملاقاتها بلا إشكال. إلا أن يخص ذلك بالمقدار الذي يصدق غسلها و تطهيرها به، دون ما بعده مما يمر عليها بعد التطهير.

و مما ذكرنا يظهر الحال في الجاري لا عن مادة بناء علي شمول الجاري له، فان انفعال ما بعد المتغير المتدافع إلي جهته موقوف علي قلته و ضعف جريانه جدا. فلاحظ.

(1) بحيث لا يتصل ما بعده بالمادة إلا بواسطته.

(2) يعني: إن كان قليلا، لأن المتغير النجس لا يكون واسطة في اعتصام الماء بالمادة، بحيث يصدق أن له مادة، لقصور الاتصال بالمادة المعتبر ارتكازا في عاصميتها- كما تقدم- عن مثله.

ص: 231

و إلا (1) فالمتنجس هو المقدار المتغير فقط، لاتصال ما عداه بالمادة (2).

______________________________

و أما ما ذكره بعض مشايخنا في وجه عدم صدق أن له مادة بأنه لا يستمد من المادة.

ففيه: - مع ما عرفت من عدم اعتبار الاستمداد، بل مجرد الاتصال- أن المراد بالاستمداد هو استمداد المجموع لا كل جزء جزء، و من الواضح أن الجاري بمجموعة يستمد من المادة، و هو يقتضي طهارة جميعه الا المتغير الذي دل الدليل علي نجاسته و استثنائه.

فالعمدة ما ذكرنا من قصور الاتصال عن مثل ذلك، بقرينة كون التعليل بالمادة ارتكازيا.

بل لو فرض عدم استفادة عموم عاصمية المادة من التعليل، كان قصوره عن الاتصال المذكور متعينا بقرينة مناسبة الحكم للموضوع الارتكازية. و من الغريب ما في الجواهر من إمكان الاكتفاء بذلك في الدخول تحت الإطلاقات بعد جزمه أوّلا بعدمه.

نعم، لو فرض إجمال الأدلة و الشك في ذلك لم يبعد الرجوع لأصالة الطهارة أو استصحابها، كما ذكر، و لا مجال للرجوع لعموم انفعال القليل، لما تقدم غير مرة من قرب انصرافه إلي بيان عدم اعتصام الماء في نفسه، فلا ينافي اعتصامه بغيره كالمادة التي فرض احتمال عاصميتها في المقام، فالمرجع استصحاب الطهارة، لا العموم.

(1) يعني: و إن لم يتغير تمام ما في القطر، بل بقي منه ما يصلح لوصل ما قبل المتغير بما بعده.

(2) الموجب لاعتصامه و إن كان قليلا، كما تقدم.

هذا، و لو لم يكن للجاري مادة فالكلام فيه يظهر مما ذكرناه هنا و ما تقدم في

ص: 232

مسألة 9 إذا شك في أن للجاري مادة أم لا و كان قليلا ينجس بالملاقاة

مسألة 9: إذا شك في أن للجاري مادة أم لا، و كان قليلا، ينجس بالملاقاة (1).

______________________________

الفرع الخامس من الفروع التي استدركناها في الماء الذي لا مادة له.

(1) كما صرح به السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي و تابعه عليه جملة من الشراح و المحشين.

و كأن محل كلامهم لا يشمل ما لو شك في انقطاع المادة بعد العلم بوجودها. و إلا فالمتعين البناء علي الاعتصام،- كما صرح به سيدنا المصنف قدّس سرّه- لأنها من الحالات الزائدة علي ذات الماء التي لا يكون الشك فيها مستلزما للشك في الموضوع، بخلاف الكرية، فإن الشك فيها إنما يكون للشك أو العلم بنقص الماء و لا يحرز معه الموضوع المعتبر في الاستصحاب، كما تقدم في الفرع التاسع من الفروع التي استدركناها في الماء الذي لا مادة له. فراجع.

و منه يظهر عدم الاشكال فيما ذكروه لو كان الشك في ثبوت المادة للماء راجعا إلي الشك في حدوثها له بعد العلم بعدمها سابقا، فان استصحاب عدمها حاكم بانفعاله، كما صرح به سيدنا المصنف قدّس سرّه أيضا.

و إنما الإشكال فيما لو لم يعلم بحالته السابقة أو كان موردا لتعاقب الحالتين مع الجهل بالتاريخ.

و قد يوجه البناء علي الانفعال حينئذ.

تارة: بأنه مقتضي عموم انفعال الماء القليل.

و اخري: بقاعدة المقتضي، لإحراز مقتضي الانفعال و هو الملاقاة للنجاسة، و الشك في وجود المانع و هو المادة.

و ثالثة: بأن تعليق الطهارة و نحوها من الأحكام الترخيصية علي عنوان وجودي- كالمادة- يقتضي البناء علي عدمها عند عدم إحراز العنوان المذكور.

ص: 233

______________________________

و رابعة: بأصالة عدم المادة الراجع إلي استصحاب العدم الأزلي.

لكن الأول من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص الذي لا مجال له علي التحقيق. مضافا إلي ما تقدم في البئر و غيرها من أن العموم المذكور وارد لبيان عدم اعتصام الماء في نفسه، و أنه لا يشمل ماله مادة، فلا عموم يقتضي انفعال ذي المادة، ليرجع إليه عند الشك فيها.

كما أنه تقدم في مشكوك الكرية أنه لا مجال للرجوع للثاني و الثالث.

فالعمدة هو الرابع، لما تقدم من أن التحقيق جريان استصحاب العدم الأزلي. بل هو هنا أبعد عن الاشكال منه هناك، إذ لا ريب في أن المادة أمر زائد علي الماء غير منتزع من مقام الذات، و إنما هي من لواحق الوجود، فيصح سلبها عنه بلحاظ ما قبله أزلا، بخلاف الكرية، حيث تقدم الإشكال في جريان الاستصحاب المذكور فيها بأنها منتزعة من مقام الذات، فلا يصح سلبها عنه حتي أزلا، علي ما تقدم الكلام فيه.

لكن هذا مختص بما إذا لم تعلم الحالة السابقة، أما مع توارد الحالتين، فلا مجال لاستصحاب عدم المادة الأزلي، للعلم بانتقاض العدم المذكور، بل يتعين معه البناء علي مقتضي الأصل الحكمي في الشك المذكور في الأحكام الخمسة التي تقدم الكلام فيها في مبحث الشك في الكرية.

و قد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن الشك في المادة يكون.

تارة: بعد إحرازها.

و اخري: بعد إحراز عدمها.

و ثالثة: مع تعاقب الحالتين.

و رابعة: مع الجهل بالحالة السابقة، و أن البناء علي عدم المادة مختص بالصورة الثانية، لاستصحاب العدم المحمولي، و الرابعة لاستصحاب العدم الأزلي.

أما في الصورة الأولي فيتعين البناء علي وجود المادة.

كما أنه في الصورة الثالثة لا يحرز كل منها، و يرجع للأصل في الأحكام.

ص: 234

مسألة 10 ماء المطر بحكم ذي المادة لا ينجس بملاقاة النجاسة في حال نزوله

مسألة 10: ماء المطر بحكم ذي المادة لا ينجس بملاقاة النجاسة في حال نزوله (1).

______________________________

(1) كما صرح به في الشرائع و المعتبر و القواعد و غيرها، و هو في الجملة مما لا إشكال بل لا خلاف فيه نصا و فتوي.

ففي صحيح هشام بن سالم: «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن السطح يبال عليه، فتصيبه السماء، فيكف، فيصيب الثوب فقال: لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه» «1»، و صحيح هشام بن الحكم عنه عليه السّلام: «في ميزابين سالا، أحدهما بول و الآخر ماء المطر، فاختلطا فأصاب ثوب رجل لم يضره ذلك» «2»، و صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي عليه السّلام: «سألته عن البيت يبال علي ظهره و يغتسل من الجنابة، ثمَّ يصيبه المطر أ يؤخذ من مائه، فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: إذا جري فلا بأس به. قال: و سأله عن الرجل يمر في ماء المطر قد صب فيه خمر فأصاب ثوبه، هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه و لا رجله، و يصلي فيه و لا بأس [به خ ل]» «3»، و نحوه خبره، و زاد فيه: «و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت، فيصيبه المطر، فيكف فيصيب الثياب أ يصلي [و يصلي خ ل] فيها قبل أن تغسل؟

قال: إذا جري من ماء المطر فلا بأس» «4»، و خبره الآخر: «سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب أ يصلي فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جري به [فيه خ ل] المطر فلا بأس» «5»، و غيرها.

هذا، و عن المبسوط، و التهذيب، و الوسيلة، و الجامع، و الموجز اعتبار

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

ص: 235

______________________________

الجريان من ميزاب.

لكن ما في التهذيب لا يدل عليه، حيث إنه بعد أن ذكر صحيح هشام بن الحكم المتقدم و غيره قال: «الوجه في هذين الخبرين هو أن ماء المطر إذا جري من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري لا ينجسه شي ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته، يدل علي ذلك ما رواه علي بن جعفر.» «1» ثمَّ ذكر صحيح ابن جعفر المتقدم.

و من الظاهر أن التقييد بالجريان من الميزاب كما يمكن أن يكون لاعتباره في الاعتصام كذلك يمكن أن يكون لذكره في الخبرين.

و كذا ما حكي عن المبسوط، حيث قال: «و مياه المرازيب الجارية من المطر حكمها حكم الجاري» «2»، فإنه غير ظاهر في التقييد، بل لعل ذكر الجاري من الميزاب لدفع توهم اختصاص الطهارة بالمطر في حال نزوله من السماء و أنه لا يعتصم حين وصوله إلي الأرض و جريه عليها، لعدم الكرية و لا المادة، كما هو الظاهر أيضا مما عن الموجز، حيث قال: «و كذا ماء الغيث نازلا و لو من ميزاب».

و مثله ما في الوسيلة، حيث أنه بعد أن ذكر الماء الجاري، قال: «و ما يكون في حكم الجاري هو ماء الحمام ما دامت له مادة من المجري، فإذا انقطعت المادة ارتفع عنه هذا الحكم. و حكم الماء الجاري من الشعب [المشعب خ ل] [3] من ماء المطر كذلك» «4»، فكأنه شبه المطر بالمادة، و الماء الجاري منه بالماء الذي له مادة في الاعتصام.

و بالجملة: نسبة القول المذكور إلي من عرفت في غاية الإشكال، و لا سيما مع تصريح الشيخ في النهاية بطهارة طين المطر مع عدم توقفه علي الجريان من

______________________________

[3] قال في القاموس: «الشعب. بالكسر الطريق في الجبل و مسيل الماء في بطن أرض أو ما انفرج بين الجبلين»، و قال: «و المشعب الطريق، و كمنبر المثقب».

______________________________

(1) التهذيب: 1- 411.

(2) المبسوط: 1- 6.

(4) الوسيلة: 72.

ص: 236

______________________________

الميزاب، بل و لا علي مطلق الجريان.

و أشكل منه الاستدلال له بصحيح هشام بن الحكم المتقدم، لعدم ظهوره في التقييد، بل ظاهر ذكر الميزاب فيه التمهيد لفرض الاختلاط، الذي هو مثار احتمال الانفعال، للتنبيه علي دفعه و اعتصام الماء. بل قد يشعر بأن الاعتصام لخصوصية كون الماء ماء مطر، و أن عدم انفعاله مع السيلان لذلك لا لدخله في الاعتصام، فإنه مما لا دخل له بحسب الارتكازات العرفية البدوية.

نعم، لا يبلغ ذلك مرتبة الظهور الصالح للاستدلال.

هذا، و ربما نسب لغير واحد ممن تقدم اعتبار مطلق الجريان في اعتصام ماء المطر، و لا ظهور لكلماتهم المتقدمة في ذلك.

نعم، في كشف اللثام: «و الظاهر أنه لا بد من اعتباره» و عن المدارك و الكفاية نفي البعد عنه.

و قد يستدل له.

تارة: بعموم انفعال القليل بعد قصور النصوص المتقدمة عن شمول غير صورة الجريان لتضمنها السيلان و الوكف الذي قيل إنه ملازم للجريان غالبا، و لا إطلاق له يشمل صورة عدمه.

و اخري: بصحيح ابن جعفر و خبرية التي تقدمت آنفا، لأن مقتضي المفهوم فيها ثبوت البأس مع عدم الجريان، فيخرج بها عن عموم النصوص الأخري- لو تمَّ.

و يندفع الأول: بأن الوكف إما أن يكون هو التقطير- كما في القاموس، و ذكره في لسان العرب، و لعله الظاهر- و هو لا يلازم الجريان، بل قد يكون لفساد السطح و عدم تماسكه، كما يناسبه ما في جمهرة اللغة و غيرها من أن الوكف الفساد و الضعف. أو السيلان الذي هو غير الجريان ظاهرا، لصدقه مع ضعف الجري جدا.

علي أن صحيح هشام بن سالم و إن تضمن الوكف إلا أن التعليل فيه بأن ما أصابه من الماء أكثر منه ظاهر في أن الوجه في الطهارة ليس هو الوكف أو الجريان،

ص: 237

______________________________

بل كثرة ماء المطر علي البول الذي أصاب السطح، و لا يبعد أن يكون ذلك كناية عن قاهريته له و عدم تغيره به أو بأثره.

مع أن مقتضي إطلاق ما في ذيل صحيح ابن جعفر المتقدم من طهارة ماء المطر الذي صب فيه الخمر عدم اعتبار الجريان.

و دعوي: أنه ربما يكون المراد به عدم نجاسة الخمر، كما تضمنته كثير من النصوص، و إن كان اللازم الخروج عنها تقديما لأدلة النجاسة، فلا يكون دالا علي اعتصام المطر. و مجرد البناء علي نجاسة الخمر تقديما لنصوصها لا يوجب ظهوره عرفا في اعتصام ماء المطر.

مدفوعة: بأن ظاهر حال السؤال المفروغية عن نجاسة الخمر، و أن منشأ السؤال خصوصية المطر، إذ لا وجه لتخصيصه بالذكر لو لا ذلك.

علي أنه لو فرض الاجمال فثبوت نجاسة الخمر قرينة عرفا علي صرف الكلام إلي ذلك، و إنما لا يصلح للقرينية لو كان الحمل علي ذلك مخالفا للظاهر، حيث إن ارتكاب خلاف الظاهر فيه ليس أولي من حمله علي ظاهره مع حمله علي التقية و نحوها مما تحمل عليه النصوص الأخري الدالة علي طهارة الخمر، نظير ما تقدم منا في صحيح محمد بن مسلم الوارد في الحبل من شعر الخنزير المستدل به علي عدم انفعال الماء القليل بالمتنجس. فراجع.

هذا، مضافا إلي تأيد ذلك ببعض النصوص، كمرسل محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن عليه السّلام: «في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام، إلا أن يعلم أنه قد نجسه شي ء بعد المطر» «1» فإن إطلاقه شامل لما إذا لم يجر ماء المطر، و مقتضي الحصر فيه أنه لا يضر في طهارة الطين تنجسه قبل المطر، فيدل علي طهارته بالمطر و طهارة ماء المطر المختلط به.

و مثله مرسل الكاهلي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت: يسيل عليّ من ماء المطر أري فيه التغير و أري فيه آثار القذر، فتقطر القطرات عليّ و ينتضح عليّ منه، و البيت

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

ص: 238

______________________________

يتوضأ علي سطحه فيكف علي ثيابنا. قال: ما بذا بأس لا تغسله، كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1»، فإن الظاهر سوق التعليل لبيان طهارة الأثر المصاحب لماء المطر، لدفع توهم بقائه علي النجاسة مع المفروغية عن طهارة نفس ماء المطر و عدم تنجسه، و لذا صح الاكتفاء في الجواب بذلك مع أن السؤال عن حكم نفس الماء الواقع عليه بمجموعه.

و دعوي: أن المفروض سيلان ماء المطر الذي هو نحو من الجريان، فلا تدل علي عدم الاعتصام بدونه.

مدفوعة: بأن الاقتصار في التعليل علي بيان عدم نجاسة الأثر ظاهر في المفروغية عن عدم نجاسة الماء بمجرد إصابته للقذر، و إلا كان ارتفاع نجاسته بالجريان بعد حدوثها بالملاقاة أولي بالتنبيه و التعليل، و لذا لا يظن من أحد الإشكال في ظهور الرواية بمقتضي التعليل في عدم البأس بإصابة الماء في السطح قبل سيلانه.

علي أن السؤال و إن تضمن السيلان، إلا أنه قد تضمن أيضا القطرات و النّضح، بل ظاهره تفسير السيلان بما يعمهما، و من الظاهر مباينتهما للجريان و عدم ملازمتهما له. فتأمل.

و مثله في ذلك خبر أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الكنيف يكون خارجا، فتمطر السماء، فتقطر علي القطرة. قال: ليس به بأس» «2» فإن إطلاقه من حيثية الجريان و عدمه ظاهر.

و هذه النصوص و إن كانت ضعيفة السند، إلا أنه قد يهون الأمر فيها بعد إرسال الأول من محمد بن إسماعيل بن بزيع الثقة الجليل، و إرسال الثاني من الكاهلي الذي ذكر النجاشي أنه كان وجيها عند الكاظم عليه السّلام و وصي به علي بن يقطين فقال له: اضمن لي الكاهلي و عياله أضمن لك الجنة. انتهي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 8.

ص: 239

______________________________

و وقوع عمر بن الوليد المجهول الذي هو سبب ضعف الثالث بين أبي بصير و جعفر بن بشير الذي ذكر في الفهرست أنه ثقة جليل القدر، و ذكر النجاشي أنه من زهاد أصحابنا و عبادهم و نساكهم، ثقة له مسجد بالكوفة، و أنا و كثير من أصحابنا إذا وردنا الكوفة نصلي فيه مع المساجد التي يرغب في الصلاة فيها، و كان ابن نوح يقول: كان يلقب فتحة العلم، روي عن الثقات و رووا عنه. انتهي.

فان ذلك كله مما يوجب قوة هذه النصوص بمجموعها بنحو تصلح للاستدلال علي الحكم، فضلا عن تأييد الصحيحين المتقدمين فيه.

هذا مضافا إلي أن خصوصية الجريان و السيلان و نحوهما ملغية عرفا، كما تلغي في سائر الموارد، لعدم دخلها ارتكازا في الاعتصام.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في صلوح ما ذكرنا لتخصيص عموم الانفعال، و الخروج عنه.

و أما ما ذكره في الجواهر من قصور العموم المذكور رأسا عن شمول المطر فلم يتضح وجهه، بل لا ريب في أن المطر كغيره من الماء المتقاطر لا تقتضي القواعد اعتصامه، و لا مجال للبناء عليه لو لا الأدلة الخاصة.

اللهم إلا أن يقال: عموم انفعال القليل منحصر بالأدلة الخاصة، و نصوص الكر الدالة بمقتضي الحصر علي انفعال ما دونه.

أما الاولي فلا ريب في انصرافها عن المطر، بل قصورها عنه، لاختصاصها بالإناء و الركوة و النور و نحوها من الظروف التي يستقر الماء فيها.

و دعوي: أن مقتضي إطلاق عاصمية المطر عدم انفعال الماء الموجود في هذه الأواني عند نزول المطر عليه، و هو مناف لإطلاق هذه النصوص.

مدفوعة: بظهور هذه النصوص، و لو بضميمة نصوص المادة و نحوها في انفعال الماء و عدم اعتصامه في نفسه، و لا تنافي اعتصامه بأمر خارج عنه، كالمادة و المطر.

و أما الثانية فهي و إن كانت شاملة للمطر، لوضوح أنه عبارة عن قطرات

ص: 240

______________________________

متفرقة لا يبلغ شي ء منها الكر، إلا أن وضوح اعتصام المطر في الجملة و لو مع الجريان قرينة علي اختصاص تلك النصوص بغيره من الماء الراكد المستقر في الأرض، لأن ظهورها في حصر الاعتصام بالكريه أقوي من ظهورها في شمول ماء المطر، نظير ما تقدم في البئر من تقريب قصور عمومات الانفعال عن ذي المادة.

فراجع و تأمل جيدا.

و كيف كان، فلا ريب في عدم صحة الاستدلال علي اعتبار الجريان بعموم انفعال القليل، إما لقصوره عن شمول المطر، أو لصلوح النصوص المتقدمة لتخصيصه.

و أما الثاني فيشكل: بأن الخبرين كما يحتملان تقييد المطر بالجريان يحتملان تقييد الجاري بكونه مطرا، بل لعل الثاني أظهر، خصوصا في الثاني، لظهوره في تأكيد اعتبار ما احتمل السائل دخله في الاعتصام، و ظاهر حال السائل أن فرض الجريان في كلامه تمهيد لفرض الإصابة، لا لاحتمال دخله في الاعتصام، و أن ما يحتمل دخله فيه هو فرض المطر.

فالعمدة الصحيح، لتضمنه اعتبار الجريان في المطر المفروض في السؤال.

و قد حاول غير واحد الجواب عنه بوجوه.

الأول: ما عن المنتهي من حمل الجريان علي نزول المطر و تقاطره، لا جريانه في الأرض الذي هو محل الكلام.

و فيه- مع مخالفته للظاهر جدا- أن المراد به إن كان هو تحقق التقاطر في مقابل عدمه، فهو ملازم لفرض المطر فلا معني لاعتباره، و حمله حينئذ علي التعليل لا الاشتراط كما احتمله في الجواهر بعيد جدا.

و إن كان هو استمراره حين أخذ الماء في مقابل انقطاعه، فلا مجال لاعتباره، إذ مع تغير الماء بالنجاسة لا ينفع الجريان، و مع عدمه يكون الماء طاهرا، لعدم تنجسه بناء علي عموم اعتصام المطر حين نزوله، كما أشار إلي ذلك في كشف اللثام.

ص: 241

______________________________

الثاني: أنه مختص بمورده، و هو السطح الذي يبال فيه، لظهور السؤال في كونه معدا لقضاء الحاجة المستلزم لقوة أثر البول فيه، بل وجود عين العذرة و غيرها من النجاسات فيه، بنحو يستلزم تغير الماء مع عدم جريانه.

و فيه: أن التعبير عن السطح بأنه يبال فيه إنما يدل علي تعرض السطح للبول، لا كونه معدا لقضاء الحاجة علي نحو يكثر البول فيه، فضلا عن غيره من النجاسات، و لذا عبّر بذلك في صحيح هشام بن سالم أيضا.

علي أن المناسب لذلك تقييد المطر بالكثرة لا بالجريان، لإمكان تغير الجاري في أول أمره، بل هو الغالب، لحمله للقذر و غسله له.

و أما احتمال خصوصية السطح المفروض لا من جهة التغير فهي ملغية عرفا، و لا سيما مع تضمن صحيح هشام لذلك أيضا.

الثالث: أنه مناف للنصوص الأخري، كصحيح هشام بن سالم الظاهر في أن المدار علي غلبة الماء علي النجاسة، لا الجريان.

و فيه: أن اللازم تقديم الصحيح علي أدلة المقام، لأنه أخص من صحيح هشام، فضلا عن غيره من النصوص لأن الجريان و فرض تجمع الماء بنحو يؤخذ منه للوضوء ملازم لأكثرية الماء من القذر، و لا عكس.

الرابع: أن لازمه عدم اعتصام المطر الواقع علي الأرض الرملية، و في البحر، و هو مما يقطع بفساده.

و أما حملها علي الجريان التقديري، لكثرة المطر و إن لم يجر بالفعل- كما عن المحقق الأردبيلي و الحدائق- فهو مخالف للظاهر، و ليس هو بأولي من تأويلها أو رد علمها إلي أهلها.

و فيه: أنه لا يتضح وجه النقض بذلك لوضوح أن اعتصام المطر ليس عرفيا، بل تعبّدي، فلا وجه لاستبشاع تقييده بالجريان.

نعم، ذلك لا ينافي مطهريته مع عدم الجريان، فيلتزم في الأرض الرملية التي يفرض عدم جريان المطر فيها، بأنها تطهر بالمطر النازل في أعماقها، و إن تنجس

ص: 242

______________________________

بها، كماء الغسالة القليل، فإذا اجتمع الماء بعد ذلك علي ظاهرها فهو و إن لم يعتصم من جهة المطرية، إلا أنه يعتصم بالكريه بعد عدم ملاقاته للماء المتنجس، لفرض نزوله في أعماق الأرض، و عدم اتصاله به إلا برطوبة غير مسرية. إلا أن يفرض صلابة الأرض و عدم غوص الماء فيها أو اشتمالها علي مثل العذرة مما لا يغوص في الرمل، فيتعين البناء علي الانفعال، كما يلتزم بذلك في غير المطر من الماء القليل لو فرض تواليه علي الأرض.

و ليس ذلك محذورا يصح لأجله طرح النص الصحيح الذي لم يتضح هجره عند الأصحاب.

و مما ذكرنا يظهر حال ما تقدم عن الأردبيلي و الحدائق، فإنه إن رجع إلي لزوم حمل الصحيح علي الجريان التقديري لأجل القرينة المذكورة فهي لا تنهض بذلك، كما ذكرنا و ذكره المستشكل.

و إن رجع إلي ظهوره في نفسه فيما يعم الجريان التقديري، فهو مردود عليهما. و لا سيما مع كون المفروض فيه كثرة الماء بحيث يمكن أخذ شي ء منه للوضوء، و هو ملازم للجريان التقديري، فاعتبار الجريان مع ذلك كالصريح في إرادة الفعلي و عدم كفاية التقديري.

و منه يظهر الاشكال فيما يظهر من شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن الحمل علي الجريان التقديري مقتضي الجمع بين الصحيح المذكور و صحيح هشام بن سالم، لأن غلبة الماء علي النجاسة إنما تستلزم الجريان التقديري دون الفعلي.

فإنه لا مجال للجمع بذلك بعد ما ذكرنا، بل اللازم تقديم الصحيح المذكور الذي هو كالصريح في الجريان الفعلي، لأنه أخص، كما سبق.

و بالجملة: الوجوه المذكورة في دفع الاستدلال بالصحيح لا تنهض بالجواب عنه، و كأن ذكرهم لها لمفروغيتهم عن عدم الالتزام بظاهره- كما قد يظهر من بعضهم- فهي من سنخ التأويل الذي هو أولي من الطرح.

إلا أنه لم يتضح الوجه في ذلك، بعد عدم وضوح هجر الأصحاب للصحيح

ص: 243

______________________________

المذكور.

فالعمدة في الجواب عن الصحيح ما أشار إليه في الجواهر من أنه لا ظهور له في انفعال الماء مع عدم جريانه، بل مجرد ثبوت البأس في الوضوء به، و لا مانع من خصوصية في الوضوء تقتضي رجحان نقاء مائه بنحو لا يستعمل فيه ماء المطر الملاقي للنجاسة و الغاسل لها و إن كان طاهرا في نفسه إلا بعد جريانه، لما يستلزمه الجريان عادة من ذهاب الماء الذي انغسل به القذر أو قلته بالإضافة إلي الماء النازل من المطر بنحو يضعف أثره و تذهب النفرة عنه، فهو نظير ما في صحيح إسماعيل بن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «1».

بل تعبير السائل بالوضوء للصلاة كالمشعر بفرض أهمية الوضوء و خصوصيته من بين سائر الاستعمالات، فلا مجال لتعميم الحكم لغير الوضوء من الاستعمالات، فضلا عن حمله علي الانفعال و الخروج به عن إطلاق أو عموم النصوص الكثيرة الظاهرة في طهارة ماء المطر و عدم انفعاله.

غايته أنه لو تمت المفروغية عن جواز الوضوء بالماء لو فرضت طهارته فظهور هذه النصوص في طهارة ماء المطر يكون قرينة عرفية علي حمل البأس فيه علي الكراهة، كما يحمل عليه في كثير من موارد النهي عن الوضوء بالمياه المكروهة أو غيره من الاستعمالات.

بل البأس في نفسه أعم من الكراهة. و حمله علي الحرمة أو النجاسة أو نحوهما مما يقتضي الإلزام إنما يكون بقرائن خاصة، كمفروغية الأصحاب عن إرادتها أو نحو ذلك مما لا مجال له في المقام. لما عرفت من عدم ظهور قدماء الأصحاب في العمل بالصحيح بعد تفسيره بالحرمة و النجاسة.

و أما المتأخرون ممن فهموا منه ذلك و حاولوا توجيهه أو أعرضوا عنه فلا

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

ص: 244

______________________________

يكشف فهمهم عن المراد به، لقرب أن يكون ذكره في جملة أدلة الاعتصام هو الذي أوجب غفلتهم عن ذلك، و لا سيما مع ما عرفت من الجواهر من التنبّه لما ذكرنا.

و بالجملة: لا مجال للخروج عن نصوص اعتصام المطر بالصحيح المذكور.

و لا سيما بملاحظة أن اعتبار الجريان راجع إلي طهارته به بعد انفعاله بالنجاسة، أو كشفه عن عدم انفعاله من أول الأمر، و كلاهما من الأمور الغريبة البعيدة عن المرتكزات المتشرعية علي طهارة المطر و اعتصامه، فيحتاج في مثله إلي التنبيه و البيانات الكثيرة الواضحة بنحو يمنع من ارتكاز عموم اعتصام المطر، و لا يكتفي بمثل هذا الصحيح الذي لم يتضح التنبه لمضمونه إلا من آحاد المتأخرين.

فالإنصاف أن التأمل في ذلك و نحوه شاهد بعموم اعتصام المطر تبعا للارتكازات المتشرعية. بل قد يلزم لأجله تأويل الصحيح و عدم العمل بظاهره لو فرض ظهوره في نفسه في التقييد، فضلا عما لو كان قاصرا، كما ذكرنا.

هذا، و لا يبعد ظهور الصحيح في كون السؤال عن الماء الموجود في السطح بعد المطر، و أن المراد بالجريان هو جريان الماء من السطح إلي الأرض المستلزم لكون الباقي في السطح هو الماء النازل بعد الانغسال، بحيث لا يبقي معه شي ء من الغسالة أو يبقي شي ء لا يعتد به و لا يوجب النفرة من الماء المجتمع.

و أما احتمال حمل الجريان علي مجرد انتقال الماء و لو مع تجمعه بتمامه في مكان آخر، فيؤخذ منه بعد تجمعه في ذلك المكان و إن كان ماء الغسالة بتمامه فيه، و لا تكون فائدة الجريان إلّا كثرة الماء و غلبته علي الغسالة، فقد يبعد بلحاظ كون المنصرف من الصحيح هو السؤال عن الأخذ من ماء السطح، و لا يكون جريانه غالبا إلا بنزول بعض مائه إلي الأرض من الميزاب و نحوه.

اللهم إلا أن يراد به الأخذ من الماء النازل من السطح لا الماء الباقي فيه.

فتأمل.

و عليه يبتني ما يظهر منهم من اعتبار جريان نفس الماء في اعتصامه، لا أن المعتبر جريان بعض الماء في اعتصام باقيه. بل صريح كشف اللثام الاكتفاء بمجرد انتقال أجزاء الماء في أجزاء الأرض و إن كان قليلا. إلا أن الظاهر منه أن اعتبار ذلك

ص: 245

أما لو وقع علي شي ء- كورق الشجر أو ظهر الخيمة أو نحوهما- ثمَّ وقع علي النجس تنجس (1).

______________________________

ليس من جهة الصحيح.

و هو كما تري لا موجب له بعد انصراف الصحيح عن مثله، لعدم صدق الجريان عليه عرفا.

و دعوي: لزوم اعتباره بمقتضي التعليل في صحيح هشام بن سالم لملازمة أكثرية الماء من البول لجريانه.

كما تري، إذ قد تمنع رخاوة الأرض من جريانه و ان كان كثيرا.

و الأمر في تحقيق معني الجريان سهل بعد ما عرفت من حمل الصحيح علي الكراهة و عدم دليل معتدّ به غيره. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

(1) كما صرح به السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي، و تبعه عليه جمع من محشيها.

و ربما يكون هو المراد مما عن مصابيح السيد الطباطبائي قدّس سرّه فإنه بعد أن ذكر أن انقطاع التقاطر رافع لاعتصام الماء قال: «و يحصل الانقطاع في القطرات النازلة بملاقاتها لجسم و لو قبل الاستقرار علي الأرض، فلو لاقت في الجو شيئا ثمَّ سقطت علي نجس تنجست بالملاقاة ما لم تتقوّ باتصالها بالنازل بعدها».

خلافا لما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه و بعض من تأخر عنه من الاعتصام في الفرض.

و ما في المتن مبني علي ما يأتي من عدم صدق المطر أو ماء المطر إلا علي الماء المتقاطر من السماء، و أن الماء بعد نزوله منها يخرج عن كونه ماء مطر، و اعتصامه حين التقاطر للنصوص الخاصة الدالة علي عاصمية المطر، و كونه كالمادة لما يجري علي الأرض، و لا مجال لذلك في المقام، لفرض التقاطر و عدم اتصال الماء النازل علي الأرض بالماء الذي علي ورق الشجر.

ص: 246

مسألة 11 إذا اجتمع ماء المطر في مكان و كان قليلا فإن كان يتقاطر عليه المطر فهو معتصم كالكر

مسألة 11: إذا اجتمع ماء المطر في مكان و كان قليلا، فإن كان يتقاطر عليه المطر فهو معتصم كالكر (1)، و إن انقطع عنه التقاطر كان بحكم القليل (2).

______________________________

و ما ذكره بعض مشايخنا من صدق المطر عليه حقيقة لا يناسب المبني المذكور، الذي يظهر منه الاعتراف به.

نعم، قد يتم ذلك فيما إذا كان نزوله علي الأرض استمرارا لحركة نزوله من السماء، بأن يكون عابرا علي الورق من دون توقف فيه أصلا.

و لعل ذلك خارج عن مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره، و يختص مرادهم بما إذا كان نزوله إلي الأرض بحركة اخري.

أما لو قيل بصدق المطر علي الجميع و أن عدم اعتصام ما يجري بعد انقطاع التقاطر للإجماع أو نحوه فالمتعين البناء علي الاعتصام، عملا بعموم نصوص المطر بعد عدم وضوح تخصيصها فيه.

و منه يظهر الحال لو جرت القطرة و سالت من محل وقوعها في منحدر، فإنه بناء علي الأول يتجه البناء علي انفعالها ما لم يتقاطر المطر علي موضعها، بحيث يكون مادة للجاري، و علي الثاني يتعين البناء علي الاعتصام. فلاحظ.

(1) فكما لا ينفعل بحدوث الملاقاة حين نزوله علي النجاسة لا ينفعل باستمرارها بعد نزوله، و لا بالملاقاة الحادثة بعده، سواء كان واردا علي النجاسة أم كانت واردة عليه، كما هو مقتضي صحيح هشام بن الحكم في الميزابين، و صحيح علي بن جعفر فيما يصب فيه الخمر، و إطلاق بعض النصوص الأخري. فلا وجه لما حكاه في الرياض عن بعض المتأخرين من التردد في اعتصامه مع ورود النجاسة عليه.

(2) كما صرح به غير واحد و يظهر منهم أنه من المسلمات، بل صرح في الرياض بالإجماع عليه، و صرح في كشف اللثام بالاتفاق علي أن ماء المطر بعد

ص: 247

______________________________

انقطاع التقاطر كالواقف، و عن الذخيرة: الظاهر أنه لا خلاف فيه.

و كأنه لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه لا يراد بماء المطر الماء الذي أصله المطر، إذ لا ريب في كون كثير من مياه الغدران و الطرق و الأواني و نحوها أصلها المطر، مع وضوح عدم جريان أحكام المطر فيها، و لذا لا يتوهم التعارض بين أدلة انفعالها و أدلة المطر بالعموم من وجه، بل المراد من ماء المطر الماء النازل من السماء الذي تكون إضافته للمطر بيانية، كما يراد بماء النهر و ماء البئر الذي هو فعلا فيهما، لا ما يكون أصله منهما و إن اخرج عنهما، لما هو المناسب من دخل الخصوصية المذكورة في الاعتصام.

غاية الأمر أن ما تقدم و يأتي من اعتصام الماء المستقر في الأرض بتقاطر المطر عليه يقتضي كون المطر عاصما كالمادة.

نعم، قد يشكل ذلك بأن ظاهر كثير من النصوص و كلمات الأصحاب إرادة ما يعم الماء المستقر في الأرض من ماء المطر، لأنه الذي يسيل من الميزاب، أو علي الإنسان، و يجري في المكان الذي فيه العذرة، و يمر به الإنسان و قد صب فيه خمر و غير ذلك مما تضمنته النصوص و كلماتهم.

و مقتضي الإطلاق الأحوالي بل العموم المستفاد من ترك الاستفصال من بعضها- خصوصا صحيح ابن جعفر الوارد في ماء المطر الذي يصب فيه الخمر- هو اعتصام ماء المطر بعد انقطاع التقاطر، فلا بد في الخروج عنه من دليل مخصص، من إجماع أو نحوه.

اللهم إلا أن يقال: لما كان ظاهر المطر خصوص الماء النازل حال نزوله، فالاستعمال في الموارد المذكورة كما يمكن أن يبتني علي كون إضافة الماء للمطر بلحاظ أن أصله منه ليعم الماء بعد انقطاع التقاطر، كذلك يمكن أن يبتني علي التوسع في إطلاق ماء المطر علي الماء النازل منه المتصل به المستمد منه، بلحاظ كون المطر النازل مادة عاصمة له، لا لكونه معتصما بنفسه، و حيث لا قرينة علي الأول، فالمتيقن هو الثاني.

ص: 248

______________________________

بل هو المناسب لإهمال النصوص للتنبيه علي التقييد بالتقاطر مع مفروغية الأصحاب عن عدم اعتصام ما انقطع عنه التقاطر من دون تعرض إلي وجه التقييد، إذ لو كان عموم النصوص شاملا له لكان التعرض في النصوص للتقييد و في كلمات الأصحاب لوجهه متعينا، و الاعتماد علي الإجماع مع فرض العموم بعيد جدا.

هذا، و أما ما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن اتصال الجاري بالمطر يوجب الوحدة العرفية بحيث يكون إطلاق المطر عليه كإطلاقه علي النازل حال نزوله بمعني واحد. فهو غير ظاهر الوجه، لعدم الجامع بينهما ارتكازا، إلا أن يرجع إلي ما ذكرناه من التوسع.

علي أنه لو فرض كون إطلاق ماء المطر بلحاظ كون أصله منه بنحو يشمل حال ما بعد التقاطر، إلا أن ظهور المفروغية عن عدم اعتصام الماء بعد الانقطاع حتي في عصر صدور الروايات مانع من انعقاد الظهور في العموم، بل يلزم الاقتصار فيه علي المتيقن.

و لا مجال لتوهم لزوم الأخذ بالعموم و عدم الخروج عنه إلا في مورد القطع بالتخصيص.

لأنه موقوف علي احتمال انعقاد ظهور الكلام حين صدوره في العموم للغفلة عن التخصيص، و لا مجال له في مثل المقام مما يعلم بعدم فهمه بسبب المفروغية المذكورة. فتأمل.

و كيف كان، فلا مجال لإثبات العموم لحال انقطاع التقاطر، و غاية ما يستفاد من النصوص هو اعتصام ماء المطر في الجملة بعد نزوله في الأرض، و هو أعم من ذلك، لإمكان ابتنائه علي عاصمية النازل عليه له كالمادة- كما يظهر من غير واحد- لا لاعتصامه بنفسه، لأن أصله المطر. فالرجوع إلي عموم انفعال القليل متعين.

ثمَّ إن المعروف في كلماتهم اعتبار التقاطر علي الماء في اعتصامه. و الظاهر الاكتفاء بالتقاطر علي بعضه المتصل به، كما يناسبه تشبيههم المطر بالجاري.

و يقتضيه- بعد ظهور تسالمهم علي ذلك- إطلاق بعض النصوص، كصحيح

ص: 249

______________________________

علي بن جعفر في ماء المطر الذي يصب فيه خمر، و صحيح هشام بن الحكم في الميزابين، حيث قد يكون الميزاب مستور الظاهر فلا يقع ما يتقاطر من المطر عليه.

بل لما لم يكن التقاطر مصرحا به في النصوص، و ليس اعتباره إلا لكونه المتيقن في نسبة الماء للمطر بسبب استمداده منه فالمرتكز عدم الفرق في الجهة المذكورة بين استيعاب سطوح الماء بالتقاطر و عدمه، إذ السطح الذي لا يشمله التقاطر كقعر الماء المستور بالسطح الذي يقع عليه التقاطر يتقوي بما يقع عليه التقاطر بسبب الاتصال.

هذا، و قد قرّب في الجواهر الاكتفاء بتقاطر المطر علي غير الماء إذا كان الماء معرضا لوقوع المطر عليه، بأن لم يكن في مكان يصدق عليه اسم الانقطاع عن المطر عرفا- كما لو وضع في خابية و ترك في بيت، حيث لا يجري عليه حكم المطر ضرورة.

بدعوي: أن ماء المطر معتصم في نفسه كالجاري، لا أن اعتصامه بالتقاطر عليه، لينقطع بانقطاع التقاطر عنه، لظهور النصوص في أن اعتصام الماء الجاري من الميزاب و الذي يمر به الإنسان في الطريق و نحوه مما تضمنته النصوص، لأنه ماء مطر، لا لأنه متصل بالمطر. مضافا إلي استصحاب حكم الجاري عليه.

و يظهر الإشكال فيه مما تقدم من عدم القرينة علي أن إطلاق ماء المطر بلحاظ كون أصله منه، بل المتيقن كون الإضافة بيانية، و أن إطلاق ماء المطر علي المتصل به توسع بلحاظ استمداده منه، فلا عموم له يشمل حال عدم الاتصال، و هذا هو المنشأ في الضرورة التي اعترف بها علي أن عدم تعرض الماء للتقاطر رافع لاعتصامه، فضلا عما لو انقطع التقاطر من السماء رأسا، كما تقدم.

علي أن ما ذكره من جعل المعيار علي صدق الانقطاع عرفا إن أريد به صدق انقطاع التقاطر عن الماء عرفا فمن الظاهر صدقه حتي مع تعرضه للتقاطر، لوضوح عدم صدق تقاطر المطر علي الماء حينئذ إلا بنحو من التوسع و المجاز الذي لو صحّ لصحّ مع انقطاع التقاطر من السماء كلية مع كونها في معرض التقاطر

ص: 250

______________________________

لشدة الغيوم و قرب فترة الانقطاع.

و إن أريد به صدق انقطاع التقاطر من السماء كلية فمن الظاهر عدم صدقه حتي مع عدم تعرض الماء للتقاطر لوضعه في خابية و نحوها. فالفرق بين الوجهين غير ظاهر.

هذا، و أما استصحاب حكم الجاري، الراجع إلي استصحاب الاعتصام، فهو- مع أنه تعليقي، و ليس في البين إلا استصحاب الطهارة- محكوم لعموم انفعال القليل.

تنبيه: لا إشكال ظاهرا في أن ماء المطر كسائر المياه ينجس مع التغير، كما صرح به في الشرائع، و ظاهر الجواهر المفروغية عنه.

و يقتضيه تشبيههم المطر بالجاري، و عموم معاقد الإجماعات المدعاة علي نجاسة الماء مع التغير، التي تقدم نقلها عند الكلام في ذي المادة. مضافا إلي إطلاق بعض نصوص المتغير، كصحيح حريز المتقدم عند الكلام في ذي المادة.

و النسبة بينه و بين نصوص اعتصام المطر و إن كانت هي العموم من وجه، إلا أن الظاهر بعد التأمل في مجموع الأدلة تقديم أدلة التغير، لأن المستفاد منها قصور الجهات المانعة من الانفعال و العاصمة من النجاسة عن صورة التغير، و عدم قابلية الماء معه للطهارة، كما قد يشهد به صحيحا ابن بزيع «1» الواردان في البئر، حيث أهمل فيهما تعليل انفعالهما مع التغير و اقتصر علي تعليل الاعتصام، فلو لا المفروغية عن قصور مقتضي الاعتصام عن حال التغير لكان محتاجا للتعليل أيضا.

و عليه يكون المقام من موارد تقديم أقوي المقتضيين، لا تقديم أقوي الدليلين، ليتوقف علي ملاحظة النسبة و نحوها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 251

مسألة 12 الماء النجس إذا وقع عليه ماء المطر طهر

مسألة 12: الماء النجس إذا وقع عليه ماء المطر طهر (1)،

______________________________

و لعل هذا هو منشأ التسالم الذي عرفته من الأصحاب علي الحكم.

هذا، مضافا إلي قرب كون المراد من التعليل في صحيح هشام بن سالم المتقدم بأن ما أصابه من الماء أكثر منه، الكناية عن عدم تغير الماء بأثر البول، كما تقدم، و إلا فأكثرية الماء لا دخل لها في الحكم قطعا. فتأمل.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في الحكم بعد ما عرفت من تسالم الأصحاب عليه و مفروغيتهم عنه.

و منه يظهر لزوم تنزيل صحيح هشام بن الحكم علي ما هو الغالب من عدم تغير الماء من البول، لما هو الغالب من كون ماء المطر النازل من الميزاب أضعاف البول النازل منه.

كما أن التغير و القذر في مرسل الكاهلي منزّلان علي التغير بغير عين النجاسة، و علي القذر المتنجس، لا النجس، ليناسب ما تقدم في تقريب الاستدلال بالمرسل و توجيه التعليل فيه. و لا أقل من لزوم تنزيلهما علي ذلك لما ذكرناه هنا. فلاحظ.

(1) كما صرح به في جامع المقاصد و الروضة و كشف اللثام و الجواهر، بل ظاهر الأول كونه من المسلمات، و صريح الثاني و عن محكي المفاتيح الإجماع عليه.

و استدل عليه في الجواهر بمرسل الكاهلي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «. قلت:

يسيل عليّ من ماء المطر أري فيه التغير و أري فيه آثار القذر فتقطر القطرات علي و ينتضح علي منه و البيت يتوضأ علي سطحه فيكف علي ثيابنا. قال: ما بذا بأس، لا تغسله، كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1». قال: «و القول بعدم صدق رؤية ماء المطر له إلا باستيعابه تماما المتعذر ذلك بالنسبة للتقاطر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 252

______________________________

مما لا ينبغي أن يصغي إليه».

لكنه غير ظاهر، لوضوح أنه لا يكتفي في طهارة غير الماء من المتنجسات بالتقاطر علي بعض أجزائه، بل لا بد من استيعابه، فلا وجه للاكتفاء بذلك في الماء.

و إن شئت قلت: المنصرف من المرسل التطهير باستيلاء الماء المطهر علي المتنجس، الذي لا يتحقق في الماء و غيره من السوائل المتنجسة، و أما تطهير الماء بالإيصال بالعاصم فهو غير مبني علي ذلك، بل علي غلبة حكم الطاهر علي حكم النجس، و لا ينهض بذلك المرسل و نحوه مما ورد في التطهير بالماء.

و أما الاستدلال به بلحاظ ما عن بعض نسخه، حيث ادعي أن الصحيح:

«يسيل علي الماء المطر».

فيشكل بعدم ظهوره حينئذ في مطهرية المطر للماء الذي يسيل عليه، إذ لم يفرض فيه نجاسته قبل سيلان المطر عليه، بل لعله كان طاهرا، و منشأ السؤال هو ماء المطر نفسه الذي فرض فيه التغير و حمله لأثر القذر، حيث يحتمل نجاسته و تنجيسه للماء الذي يسيل عليه.

و دعوي: أن التغير و القذر حينئذ مفروض في الماء الذي يسيل عليه المطر، لا في ماء المطر نفسه. بعيدة عن ظاهر الرواية جدا.

هذا، مضافا إلي ضعف سند الحديث و عدم وضوح انجباره بعمل الأصحاب، لاحتمال اعتمادهم علي غيره، و غاية ما تقدم منا قرب الاستدلال به بلحاظ اعتضاده بغيره مما يشاركه في الضعف، لا الاستدلال به استقلالا، فتأمل جيدا.

و قد استدل بعض مشايخنا علي الحكم بصحيح هشام بن الحكم «1»، بتقريب: ان اختلاط البول بالمطر إنما يكون تدريجيا يستلزم تغير بعض ماء المطر و تنجسه بالبول، ثمَّ يذهب التغير تدريجيا بتكاثر المطر، فلو لا مطهرية المطر للماء المتنجس بالتغير لزم بقاء المتغير منه علي نجاسته كما أشار

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 253

و كذا ظرفه (1)، كالإناء و الكوز و نحوهما.

______________________________

إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و الظاهر أن ما ذكراه لا يخلو عن وجه، و هو لا ينافي ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من لزوم حمل الصحيح علي استهلاك البول، إذ استهلاك البول لا يستلزم استهلاك الماء المتنجس به.

هذا، و ربما يستدل بعموم التعليل بالمادة في صحيحي ابن بزيع الواردين في البئر، لظهوره في أن المادة لما كانت مانعة من حدوث النجاسة فهي رافعة لها بعد حدوثها، و مقتضي ظهور كون التعليل ارتكازيا التعدي من المادة إلي كل عاصم، كالكرية و المطر و نحوها، كما أشرنا إليه عند الكلام في عاصمية المادة.

نعم، الاستدلال بذلك موقوف علي ثبوت عاصمية المطر لكل ماء و إن لم يكن متجمعا منه، و ليس تسالم الأصحاب علي ذلك بأظهر من تسالمهم علي تطهير المطر للماء المتنجس، الذي لا يحتاج معه للاستدلال المذكور.

و هو العمدة في المقام، و لا سيما مع شيوع الابتلاء بذلك، خصوصا مع كثرة تقطع المطر، فلا يتجمع ماؤه إلا في دفعات، و كثيرا ما يتخلل بينها ملاقاة الماء للنجاسة، فلو لا طهارة المتنجس منه بنزول المطر عليه لأشكل الأمر كثيرا و لم يخف الحكم في ذلك، فتسالمهم مع ذلك علي إلحاق المطر بالجاري، و تسالم من عرفت علي تطهيره للماء المتنجس، و تصريح بعضهم بالإجماع عليه، كاشف عن وضوح عاصمية المطر مطلقا لمائه و غيره دفعا و رفعا. فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) الكلام. تارة: في طهارة الإناء و نحوه مما يحتاج إلي تعدد بمجرد إصابة المطر.

و اخري: في طهارته بتقاطر المطر علي الماء الذي فيه و نحوه مما يتصل به،

ص: 254

______________________________

كما لو فرض كون الإناء المتنجس فيه ماء و تقاطر المطر علي الماء.

أما الأول فالوجه فيه بناء علي ثبوت عموم الاكتفاء بالمرة في مطلق الماء المعتصم ظاهر. و أما مع عدم ثبوت العموم المذكور، فقد يستدل علي ذلك ببعض النصوص الخاصة.

الأول: مرسل الكاهلي، لظهوره في خصوصية المطر، بنحو لو قدم عليه إطلاق دليل التعدد لزم إلغاء خصوصيته.

و منه يظهر أنه لا مجال لما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن دليل التعدد أيضا ظاهر في خصوصية مورده.

لاندفاعه: بأن تقديم المرسل عليه لا يوجب إلغاء خصوصيته، لأعماله في غير المطر من أقسام الماء.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا في توجيه تقديم المرسل من أن دلالته بالعموم، و هي أقوي من إطلاق دليل التعدد.

فقد يشكل: - بعد تسليم أقوائية العموم من الإطلاق مطلقا، أو في خصوص المقام- بأن العموم فيه بلحاظ أفراد المتنجس، لا بلحاظ كيفية التطهير، بل هي ليست مستفادة إلا من إطلاق الرؤية أيضا، لا من العموم، و إنما يتجه ذلك لو قيل:

كلما رأي المطر شيئا طهره. اللهم إلا أن يقال: الرؤية لما أخذت صفة للشي ء المتنجس كان العموم واردا عليها بتبعه.

نعم، لو قيل: كل شي ء يطهر برؤية المطر اتجه ذلك، لورود الرؤية في بيان سبب التطهير، لا في بيان المتنجس الذي هو موضوع العموم. فلاحظ.

لكن هذا كله مبني علي حجية المرسل في نفسه، و قد تقدم الكلام فيه.

الثاني: صحيح هشام بن سالم، حيث استدل به بعض مشايخنا، بتقريب أن الوكوف هو التقاطر من سقف أو إناء أو نحوهما، و وكوف السطح يكون غالبا بعد انقطاع المطر، لرسوب الماء فيه، فلو بقي السطح مع ذلك علي نجاسته لزم نجاسة الماء بعد الانقطاع، لملاقاته للسطح المتنجس، فالحكم بطهارته معللا بأن ما أصابه

ص: 255

______________________________

من الماء أكثر، ظاهر في خصوصية ماء المطر و في مطهريته بمجرد قاهريته بلا حاجة إلي عصر أو تعدد.

و فيه. أولا: أن وكوف السطح بعد انقطاع المطر لا يستلزم اتصال الماء المتقاطر بالأرض المتنجسة بالنحو المعتبر في سريان النجاسة، لإمكان انفصالهما بالسطح بنحو لا يكون بينهما إلا رطوبة أو نحوها مما لا يقتضي الانفعال. و مع الشك فالمرجع استصحاب طهارة الماء الثابتة له حين انقطاع التقاطر.

نعم، لو فرض العلم بكون المتقاطر هو الماء المتخلف في ظاهر السطح لزم انفعاله لو كان السطح نجسا.

لكن شمول الإطلاق لذلك لا يخلو عن إشكال، لما هو الظاهر من عدم شيوع الصورة المذكورة و غلبة احتياج التقاطر مع ذلك إلي أمد طويل لا يناسب التعقيب بالفاء الذي تضمنه الصحيح. و حملها علي مجرد التفريع محتاج إلي قرينة. فتأمل.

و ثانيا: أن حمل التعليل علي ما ذكره راجع إلي كونه تعليلا لطهارة السطح بإصابة المطر له، و من الظاهر أن التعليل المذكور إنما يحتاج إليه في خصوص صورة انقطاع المطر، و حمل السؤال علي خصوص ذلك بعيد، إذ الظاهر عموم السؤال لحال التقاطر، المناسب لحمل التعليل علي بيان عدم التغير- كما سبق- لأنه الذي يحتاج اليه حتي مع التقاطر، و لا سيما مع كون التعليل حينئذ ارتكازيا، بخلافه علي المعني الذي ذكره.

نعم، مقتضي شمول إطلاقه حينئذ لحال انقطاع التقاطر طهارة السطح بالتقريب المتقدم منه- لو تمَّ. لكنه ليس مقتضي عموم التعليل، لينفع في غير السطح الذي يبال فيه مما يحتاج إلي التعدد.

و ثالثا: أن ما ذكره من عموم التعليل لو تمَّ فليس هو مما يأبي عن التخصيص، ليتعين رفع اليد به عن عمومات التعدد، بل يتعين بعد تعارضها معه

ص: 256

______________________________

التساقط و الرجوع إلي استصحاب النجاسة.

بل التعليل المذكور إن أريد منه مطلق الماء من دون خصوصية المطر فهو أعم من أدلة التعدد مطلقا، فيلزم تخصيصه بها، و إن أريد منه خصوص المطر فليس ارتكازيا ليتعدي منه عن مورده، بل يتعين الاقتصار علي مورده و هو السطح المتنجس بالبول.

و من الظاهر أن الدليل في المورد المذكور ليس مختصا به، بل يدل عليه أيضا صحيح علي بن جعفر «1» المتضمن لجواز الأخذ من ماء السطح الذي يبال فيه الشامل للأخذ منه بعد انقطاع التقاطر عنه، و مرسل ابن بزيع الظاهر في طهارة طين المطر إذا علم بتنجيس البول له قبل المطر.

بل الظاهر أنه لا إشكال فيه الجملة، لأنه المتيقن من السيرة علي طهارة الأرض بوقوع المطر عليها، و إنما الإشكال في مثل الأواني مما يحتاج إلي التعدد، فلا بد فيه إما من فهم عدم الخصوصية للأرض التي يصيبها البول مؤيدا بمرسل الكاهلي، أو البناء علي كفاية المرة في مطلق المعتصم الذي يأتي الكلام فيه في مبحث المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

و أما الثاني- و هو الاكتفاء بالمرة في الماء المعتصم بالمطر، الذي هو محل الكلام هنا- فالوجه فيه منحصر بالعموم المذكور، و إلا فمن الظاهر قصور النصوص المتقدمة عنه، لاختصاصها بماء المطر، و لا تشمل الماء المعتصم به، و التعدي منه إليه كالتعدي منه إلي مطلق المعتصم.

و دعوي: صدق رؤية ماء المطر بالإضافة إلي المتنجس باتصاله بالماء الذي يتقاطر عليه المطر. ممنوعة جدا.

هذا كله في التعدد، و أما التعفير المعتبر في التطهير من الولوغ، فقد استشكل في سقوطه السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي، و تابعه علي ذلك جماعة من محشيها و شراحها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 257

مسألة 13 يعتبر في جريان حكم ماء المطر أن يصدق عرفا أن النازل من السماء ماء مطر

مسألة 13: يعتبر في جريان حكم ماء المطر أن يصدق عرفا أن النازل من السماء ماء مطر (1)،

______________________________

و قد استدل عليه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن مرسل الكاهلي ليس أقوي مما دل علي اعتبار التعفير، لقرب دعوي ظهوره في تميز ماء المطر عن سائر أفراد الماء، فلا يعتبر في مطهريته ما يعتبر في مطهرية غيره، لا جعله مطهرا لما لا يطهره غيره كالتراب.

و يشكل: بأن ظاهر المرسل خصوصية المطر عن غيره من أفراد الماء بأنه يطهر الشي ء بمجرد إصابته المستلزم لعدم الحاجة للتعفير كغيره مما يعتبر في مطهريتها، و ليس لدليل التعفير خصوصية عن غيره من أدلة الشروط الأخري.

و رجوع اعتبار التعفير إلي مطهرية التراب لا دخل له بما نحن فيه. بل هو إنما ينفع لو كان لسان دليل المطر تنزيل رؤيته منزلة الغسل المطهر بالماء، لقصوره حينئذ عن الدلالة علي قيامه مقام غيره من التراب و نحوه، و من الظاهر عدم ظهور المرسل في ذلك، بل فيما ذكرنا. و كذا الحال في صحيح هشام بن سالم لو فرض الاستدلال به بالوجه المتقدم.

نعم، لو كان الدليل علي سقوط التعدد عموم عدم اعتباره في كل ماء معتصم اتجه لزوم التعفير، عملا بعموم دليله، لعدم المعارض له.

و أما العصر فيأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة عشرة إن شاء اللّٰه تعالي.

(1) كما صرح به غير واحد، لدعوي عدم صدق المطر إلا بأن يكون للنازل نحو كثرة معتد بها.

لكنه غير ظاهر، إذ لا إشكال في عدم صحة سلب المطر عن القطرات النازلة و إن قلّت، و ليس عدم صدقه عليها إلا لانصرافه عنها لعدم الاعتداد بها عرفا الموجب للتسامح بتنزيلها منزلة العدم، لا لخروجها عنه حقيقة.

و حينئذ يتعين النظر في ترتب أحكامه المتقدمة عليه و عدمه، فنقول.

ص: 258

______________________________

بناء علي عموم اعتصام المطر يتجه البناء علي اعتصام القطرات النازلة، بمعني عدم انفعالها بمماستها للمحل النجس، فلا يكون النضح منها نجسا لانفصاله عنها بمجرد مماستها للمحل قبل استقرارها عليه الرافع لحكم المطر عنها.

و حينئذ فإن وقعت علي عين النجاسة تعين نجاستها بعد استقرارها، لارتفاع حكم المطر عنها، و المفروض عدم اعتصامها بالتقاطر بعدها.

و إن وقعت علي المتنجس طهر بها بناء علي الاكتفاء في المطر بمجرد وصول الماء للمحل النجس و لو مع عدم الدلك و الجريان و نحوهما، كما يأتي الكلام فيه في المسألة الآتية.

نعم، ذلك يختص بالموضع الذي يلاقي القطرة بمجرد سقوطها، لا ما يلاقيها بعد استقرارها بسبب تفشيها أو سيلانها، الرافع لحكم المطر عنها.

بل قد يسري الانفعال لتمامها لو فرض كون التفشي في حال بقائها ماء ينفعل بعضه ببعض، لا من سنخ الرطوبة التي لا تسري النجاسة معها.

و هذا بخلاف ما إذا تتابع التقاطر، فان اللازم البناء علي عدم الانفعال حتي مع التفشي و إن لم يتصل الماء بعضه ببعض، لغلبة التفشي في المطر بنحو لا مجال لحمل الأدلة علي غير صورته.

هذا في غير الماء من المتنجسات، و أما الماء فيتضح الكلام فيه مما يأتي.

لكن هذا كله مبني علي ثبوت عموم اعتصام المطر بنحو يشمل مثل ذلك، و إثباته مشكل، لاختصاص النصوص السابقة بغيره، كالماء الذي يكف، أو الذي يصب فيه الخمر و نحوهما مما يقصر عن محل الكلام، و ورود بعضها في مقام البيان من جهات أخر بعد الفراغ عن الاعتصام، مثل مرسل الكاهلي، بناء علي ما تقدم في توجيه التعليل فيه.

و حينئذ يتعين الاقتصار في الخروج عن عموم الانفعال بخصوص ماله نحو من الكثرة المعتد بها، كما ذكره في المتن أخذا بالمتيقن من الأدلة. إلا أن يناقش في

ص: 259

و إن كان الواقع علي النجس قطرات منه (1). و أما إذا كان مجموع ما نزل من السماء قطرات قليلة فلا يجري عليه هذا الحكم.

______________________________

العموم المذكور بما تقدم عند الكلام في اعتبار الجريان. فتأمل.

(1) و إن لم يتحقق الدلك و الجريان و نحوهما بناء علي عدم اعتبار ذلك في مطهرية المطر، علي ما يأتي الكلام فيه. هذا كله في غير الماء المتنجس.

و أما الماء فقد يدعي الاكتفاء بذلك في تطهيره، بل عن الشهيد الثاني قدّس سرّه في روض الجنان: «كان بعض من عاصرناه من السادة الفضلاء يكتفي في تطهير الماء النجس بوقوع قطرة واحدة عليه. و ليس ببعيد، و إن كان العمل علي خلافه».

فإن أراد به الاكتفاء بالقطرة الواحدة في صدق المطر المعتصم و العاصم كان راجعا إلي ما سبق منا.

و إن أراد به الاكتفاء بها في تطهير الماء مع فرض كثرة النازل من السماء كان مما نحن فيه.

و كيف كان، فذلك هو الذي أصر عليه في الجواهر، و وافقه فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه أخذا بإطلاق دليل عاصمية المطر و مطهريته بعد فرض صدقه علي المقدار النازل من السماء، و دخوله في الأدلة أو في المتيقن منها، علي ما سبق الكلام فيه.

و عن المعالم الحكم بغلطه، لأن الاعتصام مبني علي تقوي النجس بالملاقاة للكثير و ما بحكمه، و لا مجال لذلك هنا، إذ أقصاه تطهير القطرة لما تلاقيه، ثمَّ يجري عليها حكم الانقطاع بعد ذلك، فتنجس بالماء، و المفروض عدم استمرار التقاطر العاصم لها، و هذا بخلاف الجاري الذي يعتصم بعضه ببعض، و لا ينجس بالملاقاة.

و فيه: أن القطرة- بناء علي اعتصامها و عاصميتها لما يتصل بها قبل استقرارها الرافع لحكم المطر عنها- تطهر الكل دفعة من دون حاجة إلي ترتب

ص: 260

______________________________

زماني- كما في الجواهر- بل و لا ذاتي- كما عن الذخيرة- لأن تطهير الماء المتنجس مبني علي اتحاده بالعاصم، و هو حاصل بالإضافة إلي جميع الأجزاء دفعة واحدة.

قال في الجواهر: «علي أنه يجري مثل الاشكال المذكور أيضا فيما لو تواتر القطرات علي الماء النجس، لحصول الانقطاع بالنسبة إلي كل قطرة لاقت ذلك الماء، فتنجس به حينئذ، و هو واضح الفساد عند القائلين بكونه كالجاري حال تقاطره».

و منه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من اعتبار إصابة ماء المطر لتمام السطح الظاهر من الحوض أو معظمه علي وجه يكون ماء المطر موجودا عرفا علي سطحه، لأنه يوجب طهارة السطح الظاهر بمقتضي كونه ماء مطر، و طهارة ما تحته من ماء الحوض الأصلي، لأن له مادة، لأن المراد بالمادة مطلق الماء العاصم، و منه ماء المطر، و أما مجرد وقوع قطرة أو قطرات فلا يكفي، لاستهلاكها في ماء الحوض عرفا.

إذ فيه: أن استهلاك القطرة أو القطرات إنما يكون بعد استقرارها في الحوض، لا بمجرد اتصالها به، و حينئذ ان التزم بانفعالها بملاقاة الحوض قبل الاستهلاك كان خروجا عن عموم اعتصام المطر. و إن التزم ببقائها علي الاعتصام كانت مادة للحوض- لو تمَّ ما ذكره مع عدم الاستهلاك- فتطهره، إذ عليه يكون المراد بالمادة هو الماء المعتصم لا العاصم، و إلا استحال الحكم بعاصميتها، لرجوعه إلي أخذ الحكم في موضوعه، كما لا طريق لإحراز عاصمية المطر مع عدم الاستهلاك، ليحرز كونه مادة للحوض.

علي أن ماء المطر حين تقاطره لا يتميز عن الماء الواقع عليه، بل يختلط به و ينفصل بعضه عن بعض، فلا يكون التقاطر تقاطرا علي الماء المتجمع من المطر كي يعتصم به.

و لذا لو فرض كون ما في الحوض ماء مضافا متنجسا لا يتصور طهارة سطحه

ص: 261

______________________________

بالتقاطر، لعدم تمحضه في ماء المطر، بحيث لو كان عليه شي ء طافيا كالخشب يطهر به.

و حينئذ لو فرض بقاء ماء الحوض علي نجاسته قبل صيرورة المطر مادة له لزم انفعاله به مهما كثر، لأن تكثره تدريجي نظير ما تقدم من الجواهر في رد ما سبق عن المعالم، فلو لا البناء علي طهارة الماء بالتقاطر عليه لم تنفع الكثرة في طهارته.

مع أن صدق المادة علي الماء المجتمع من المطر المتصل بالماء النجس غير ظاهر، لاختصاصها عرفا بما يكون مباينا للماء مما يمده و يجري عليه و لو شأنا بنحو يكون له نحو من الاستمرار، لا ما يتحد معه عرفا، و لذا لا يكون اعتصام الكر بعضه ببعض من باب المادة.

فالعمدة في وجه عدم الاكتفاء بالقطرات القليلة فضلا عن القطرة الواحدة عدم وضوح العموم المعتد به لعاصمية المطر بنحو يشمل ذلك.

فإن ما يستدل به علي ذلك، إن كان صحيح هشام بن الحكم الوارد في الميزابين بالتقريب المتقدم فهو مختص بالمطر الكثير الذي يسيل من الميزاب.

و إن كان هو مرسل الكاهلي فقد عرفت الإشكال فيه سندا و دلالة.

و إن كان هو عموم التعليل بالمادة في صحيح ابن بزيع الوارد في البئر، فهو و إن كان يعم كل ماء عاصم، إلا أن عموم عاصمية المطر لمثل الفرض غير ظاهر، و المتيقن منه ما إذا كان التقاطر بنحو معتد به.

و إن كان هو دعوي صدق المادة، لأنها كل ماء معتصم، فقد عرفت الإشكال فيه.

نعم، لو تمَّ ما قيل من الإجماع علي اتحاد الماء الواحد في الحكم اتجه البناء علي طهارة المتنجس بالقطرة الواحدة من المطر. لكنه- و إن كان قريبا- غير ظاهر بنحو يخرج به عن استصحاب النجاسة.

فليس في المقام إلا ما سبق من التسالم علي طهارة الماء المتنجس بالتقاطر عليه المعتضد بصحيح هشام بن الحكم، و المتيقن منه ما إذا كان التقاطر بنحو معتد

ص: 262

مسألة 14 الثوب و الفراش النجس إذا تقاطر عليه المطر و نفذ في جميعه طهر الجميع

مسألة 14: الثوب و الفراش النجس إذا تقاطر عليه المطر و نفذ (1) في جميعه طهر الجميع، و لا يحتاج إلي العصر (2) أو التعدد (3)، و إذا وصل إلي بعضه دون بعض طهر ما وصل إليه دون غيره. هذا إذا لم يكن فيه عين النجاسة، و إلا فلا يطهر (4) إلا إذا تقاطر عليه بعد زوال عينها (5).

______________________________

به عرفا. فالاقتصار عليه متعين. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

(1) إذا كان النفوذ قبل انقطاع التقاطر، و إلا لم ينفع لانقطاع حكم المطر.

بل لا يبعد اعتبار كون النفوذ مستندا عرفا للتقاطر، لقوة التقاطر و نفوذ الماء بصورة عمودية أو ما يشبهها، فلو كان بحركة أخري جانبية لا دخل لها بالتقاطر لم يبعد خروجه عن حكم المطر إلا مع اعتصام الماء النافذ بالتقاطر عليه أو علي ما يتصل به. فلاحظ.

(2) إما لعموم مرسل الكاهلي، أو لعموم التعليل في صحيح هشام بن سالم، أو لعموم عدم الاحتياج لذلك في التطهير بالماء المعتصم، و منه ماء المطر.

و الكلام في الأولين يظهر مما تقدم في المسألة الثانية عشرة، و في الثالث يأتي في مبحث المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

(3) يعني: فيما إذا كانت النجاسة مما يعتبر فيه التعدد. و تقدم الوجه في عدم اعتباره في المسألة الثانية عشرة.

(4) لاعتبار زوالها في التطهير مطلقا، كما هو ظاهر، و يأتي في مبحث المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 263

(5) بل يكفي زوال عينها بالتقاطر، بناء علي الاكتفاء بذلك في مطلق الغسل المطهر، علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة من فصل المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

ص: 263

مسألة 15 الأرض النجسة تطهر بوصول المطر إليها

مسألة 15: الأرض النجسة تطهر بوصول المطر إليها (1) بشرط أن يكون من السماء و لو بإعانة الريح (2).

و أما لو وصل إليها بعد الوقوع علي محل آخر (3)، كما لو ترشح بعد الوقوع علي مكان فوصل مكانا نجسا لا يطهر (4).

نعم، لو جري علي وجه الأرض فوصل إلي مكان مسقف (5) طهر (6).

______________________________

(1) كما يقتضيه صحيح ابن جعفر المتضمن لجواز الأخذ من ماء السطح الذي يبال عليه الشامل للأخذ منه بعد انقطاع التقاطر، و مرسل ابن بزيع الظاهر في طهارة طين المطر إذا علم بتنجيس البول له قبل المطر، و غيرهما مما تقدم الكلام فيه في المسألة الثانية عشرة، و تقدم فيها أنه المتيقن من السيرة علي طهارة الأرض بوقوع المطر عليها، فلا بد أن يكون الكلام في اعتبار التعدد و غيره في غير الأرض.

(2) لعدم منافاته لصدق المطر الذي هو عبارة عن الماء النازل من السماء حال نزوله.

(3) تقدم في المسألة العاشرة أن المعتبر في اعتصام المطر نزوله علي الموضع النجس بحركة نزوله من السماء، لا بحركة أخري، فإن كانت الملاقاة للمحل الآخر موجبة لتعدد الحركة كانت مانعة من الاعتصام.

(4) يعني: بالنحو الذي يكتفي به في المطر، بل يكون كسائر أفراد الماء القليل في اعتبار الشروط الخاصة في التطهير به.

(5) يعني: مع بقاء التقاطر علي المحل الذي يكون منه الجريان.

(6) يعني: و لا ينقطع عنه حكم المطر بذلك، لاعتصامه بالماء المعتصم بالتقاطر، كما تقدم التعرض له في المسألة الحادية عشرة.

ص: 264

مسألة 16 إذا تقاطر علي عين النجس فترشح منها علي شي ء آخر لم ينجس

مسألة 16: إذا تقاطر علي عين النجس فترشح منها علي شي ء آخر لم ينجس ما دام متصلا بماء السماء بتوالي تقاطره عليه (1).

مسألة 17 مقدار الكر وزنا بحقة الاسلامبول و هي مائتان و ثمانون مثقالا صيرفيا

مسألة 17: مقدار الكر وزنا (2) بحقة الاسلامبول- و هي مائتان و ثمانون مثقالا صيرفيا-

______________________________

(1) لاعتصامه بذلك، كما تقدم.

و يشهد به خصوص خبري ابن جعفر الواردين في المطر يصيب الكنيف و المكان الذي فيه العذرة «1». بل صحيح هشام بن الحكم الوارد في الميزابين اللذين أحدهما بول و الآخر ماء مطر «2»، لعدم خصوصية البول ارتكازا.

و استهلاكه لا يصلح للفرق، لأنه متأخر عن الملاقاة زمانا. فلاحظ.

(2) المشهور المعروف بين الأصحاب أن الكر ألف و مائتا رطل، بل هو المنسوب إلي الأصحاب فيما عن التنقيح، و في المعتبر و عن كشف الرموز و المهذب البارع و المقتصر أن عليه عمل الأصحاب، و عن كشف الرموز نسبته إلي فتواهم أيضا، و عن ظاهر المنتهي و صريح غيره عدم الخلاف فيه، و في الانتصار و الجواهر و عن الناصريات و الغنية و المفاتيح و ظاهر المدارك دعوي الإجماع عليه، و عن الصدوق أنه من دين الإمامية.

ثمَّ إن المصرح به في كلمات غير واحد أن الرطل مردد بين العراقي و المدني، و أن الأول ثلثا الثاني، كما أن المصرح به في الاستبصار و الوسائل و كشف اللثام و الرياض و الجواهر و عن محكي الحدائق نسبته إلي الأصحاب: أن الرطل المكي ضعف العراقي.

و الظاهر عدم الإشكال في أن نصوص المقام مرددة بين هذه الاصطلاحات، و لا مجال لحملها علي غيرها، كالرطل المصري الذي هو ألف

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 3 و 5.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 265

______________________________

درهم، و غيره مما تعرض له بعض اللغويين و ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللّٰه تعالي.

و سيتضح الوجه في ذلك بعونه تعالي.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه ذهب الشيخان و الفاضلان في الشرائع و القواعد و الشهيدان في اللمعتين إلي أن الرطل المعتبر هو العراقي، و هو المحكي عن القاضي و عماد الدين بن حمزة و جمع من المتأخرين، و نسب إلي المشهور تارة، و إلي الأكثر أخري.

و عن الصدوقين و المرتضي أنه الرطل المدني، بل عن الصدوق أنه من دين الإمامية، و في الانتصار دعوي الإجماع عليه و أنه الذي دلت عليه الآثار المعروفة المروية.

و الظاهر الأول. و ينبغي قبل الاستدلال عليه التعرض لنصوص المقام التي يستفاد منها التحديد بالأرطال، و هي مرسل بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: الكر من الماء [الذي لا ينجسه شي ء] ألف و مائتا رطل» «1» و صحيح محمد بن مسلم عنه عليه السّلام: «و الكر ستمائة رطل» «2» و نحوه مرفوع عبد اللّٰه ابن المغيرة عنه عليه السّلام «3».

و يمكن الاستدلال بهذه النصوص من وجوه.

الأول: حمل مرسل بن أبي عمير علي العراقي، اقتصارا في الخروج عن استصحاب طهارة الماء علي المتيقن، و هو خصوص ما لم يبلغ المقدار المذكور.

بناء علي ما تقدم عند الكلام في الملاقاة المقارنة للكرية من عدم ثبوت عموم يقتضي الانفعال غير نصوص الكر المفروض إجمالها، لاختصاص النصوص الأخري بما دون الكر كالركوة و الإناء و نحوهما.

نعم، استدل بعض مشايخنا علي العموم المذكور بموثق عمار بن موسي

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 266

______________________________

عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كل شي ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن تري في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا توضأ منه و لا تشرب». و زاد الشيخ: «و سئل عن ماء شربت منه الدجاجة. قال: إن كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه و لم يشرب، و إن لم يعلم.» «1»، و صحيح شهاب بن عبد ربه عنه عليه السّلام: «جئت تسألني عن الجنب يسهو فيغمر [فيغمس خ ل] يده في الماء قبل أن يغسلها. قلت: نعم.

قال: إذا لم يكن أصاب يده شي ء فلا بأس.) «2»، فإن مقتضي إطلاق المنطوق في الأول و المفهوم في الثاني انفعال الماء و لو كان كثيرا إذا كان في منقار الطائر دم، أو أصاب اليد شي ء، و كذا حال غيرهما من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة.

و فيه: أن الظاهر ورود الخبرين في مقام بيان طهارة الطائر و بدن الجنب بعد الفراغ عن قابلية الماء للانفعال، و ليسا واردين لبيان قابلية الماء للانفعال، ليكون لهما إطلاق يشمل كثرته، و كذا الحال في بقية النصوص الواردة في الأسآر، و في الشك في الملاقاة و غيرهما مما يتضح بالنظر فيها، فإنها واردة لبيان أحكام أخري غير قابلية الماء للانفعال، فلا يتم إطلاقها من هذه الجهة.

علي أنه لو فرض تمامية عموم الانفعال بمثل ذلك فهو معارض بما يستفاد منه عموم الاعتصام، كموثق سماعة: «سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء. قال:

يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «3». و بعد تساقطهما يكون المرجع استصحاب الطهارة. فراجع كلامه، ليتضح عدم توجه التخلص الذي ذكره علي ما ذكرنا.

و كيف كان، فالظاهر أنه لا مخرج عن استصحاب الطهارة مع الشك في تحديد الكر، كما تقدم في ذيل الكلام في الشك في الكرية في الفرع التاسع من

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الأسآر حديث: 2، 3.

(2) الوسائل باب: 45 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 267

______________________________

الفروع التي استدركناها فيما ليس له مادة.

نعم، الوجه المذكور لا ينهض بإثبات كرية الماء بنحو تترتب عليه أحكامها المخالفة للأصل، و إنما ينهض بإثبات اعتصامه و ما يترتب علي الاعتصام من الأحكام، علي ما تقدم توضيحه في الفرع التاسع المذكور.

و أما دعوي: أن إطلاق الرطل علي العراقي هو الأشيع، فيكون هو الظاهر عند عدم القرينة، كما يناسبه ما في رواية الكلبي النسابة عن الصادق عليه السّلام الواردة في النبيذ، حيث قال: «فقلت له: و كم كان يسع الشن ماء؟ فقال: ما بين الأربعين إلي الثمانين إلي ما فوق ذلك. فقلت: بأي الأرطال. قال: أرطال مكيال العراق» «1» فان مقتضي اكتفاء الامام عليه السّلام بإطلاق الرطل في إرادة العراقي منه كونه هو المنصرف منه بلا قرينة. مؤيدا بما يأتي من الجوهري من أن الرطل مائة و ثمانية و عشرون درهما و أربعة أسباع الدرهم، حيث يقارب ما ذكروه في مقدار الرطل العراقي.

فهي ممنوعة، لأن رواية الكلبي- مع عدم خلوها عن ضعف السند- لا تدل علي ظهور الرطل مع عدم القرينة في العراقي، لإمكان احتفافها بقرينة حالية تقتضي ذلك، و أصالة عدم القرينة لا مجال لها مع تشخيص المراد.

و ما ذكره الجوهري معارض بما عن ابن الأعرابي و الحربي من أن الرطل اثنتا عشرة أوقية بأواقي العرب، و الأوقية أربعون درهما، و ما عن أبي منصور، حيث قال بعد أن تعرض لحديث مهر السنة: «و كانت الأوقية قديما عبارة عن أربعين درهما، و هي في غير الحديث نصف سدس الرطل، و هو جزء من اثني عشر جزءا.

و تختلف باختلاف، اصطلاح البلاد».

بل ظاهر ما حكي عن الجوهري أنه يريد اصطلاح عصره. فراجع ما ذكره في لسان العرب في مادة: «وقي».

علي أن الاعتماد علي اللغويين في مثل هذه التحديدات التي كثر الكلام

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

ص: 268

______________________________

فيها لا يخلو عن إشكال.

و بالجملة: لا طريق لإحراز ظهور إطلاق الرطل في خصوص العراقي، بنحو يحمل عليه المرسل مع قطع النظر عن القرائن الخارجية.

الثاني: ما أشار إليه في الاستبصار من أنه مقتضي الجمع بين المرسل و الصحيح، إذ لا مجال للجمع بينهما بحمل الصحيح علي الوجوب و المرسل علي الاستحباب، لإباء لسان التحديد فيهما عن ذلك جدا، بل المتعين عرفا بعد الاطلاع علي اختلاف إطلاقات الرطل الجمع بينهما بحمل المرسل علي العراقي، و الصحيح علي المكي، فيكون كل منهما مفسرا للآخر و رافعا لإجماله، و ذلك أولي عرفا من طرح أحدهما أو كليهما.

و أما تقريب ذلك بأن ابن أبي عمير و مشايخه من أهل العراق، و محمد بن مسلم ثقفي من أهل الطائف القريب من مكة.

فلا ينهض للتأييد فضلا عن الاستدلال، لعدم وضوح ترجيح عرف السامع علي عرف المتكلم، و عدم المثبت لاختصاص مشايخ ابن أبي عمير بالكوفيين، كما أن محمد بن مسلم من أهل الكوفة، كما يظهر من ترجمته.

علي أن كون أصل كل من المعاني مأخوذا من بلد لا يستلزم اختصاص شيوعه فيه عند الإطلاق في عصر صدور النصوص بذلك البلد، لإمكان انتشار الاصطلاح في سائر البلدان حينئذ، كما هو الحال في الحقة الاسلامبولية المشهورة في بلادنا مثلا.

فالعمدة في استفادة المطلوب من الصحيح و المرسل صلوح كل منهما عرفا لتفسير الآخر و رفع إجماله.

و دعوي: سقوط الصحيح عن الحجية، لإعراض الأصحاب عنه، فعن التهذيب: «لم يعمل علي هذه الرواية أحد من الأصحاب». بل الظاهر منهم العمل بالمرسل لا غير، كما سيأتي.

مدفوعة: بعدم ظهور إعراضهم عن الصحيح بالنحو المسقط له عن الحجية،

ص: 269

______________________________

لاحتمال كونه ناشئا من خفاء وجه الجمع بينه و بين المرسل، أو من اكتفائهم عنه به.

فالمتيقن منهم العمل بالمرسل، لا هجر الصحيح بنحو يكشف عن خلل فيه مانع من العمل به و الاعتماد عليه في تفسير المرسل. كما أن مقتضي ما ذكره الشيخ في الاستبصار من جعل الصحيح قرينة علي تفسير المرسل كون مراده من عدم عمل الأصحاب به عدم عملهم به بالنحو المنافي للمرسل، لا هجره مطلقا، لعدم صلوحه بنظرهم للاستدلال.

ثمَّ إن هذا الوجه و ما قبله مبنيان علي ما هو الظاهر من حجية المرسل المذكور، و عدم وهنه بالإرسال. و يقتضيه.

أولا: ظهور تسالم الأصحاب علي العمل به، كما صرح به في المعتبر و عن التنقيح. و يشهد به اتفاقهم علي التحديد بالعدد الذي تضمنه، و إن اختلفوا بين من أطلق الرطل، و من حدده بالعراقي و من حدده بالمدني، مع إهمالهم التحديد بالستمائة الذي تضمنه صحيح محمد بن مسلم، فإن ذلك كاف في جبر الصحيح المذكور لو كان ضعيفا في نفسه.

بل يكفي في الجبر عمل جماعة معتد بهم يوجب الوثوق بصدق الخبر، فضلا عن مثل هذا العمل الذي يظهر التسالم عليه.

و ثانيا: ما صرح به الشيخ و النجاشي و المحقق في المعتبر و غيرهم من عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير قال الشيخ في العدة: «و إذا كان أحد الراويين مسندا و الآخر مرسلا نظر في حال المرسل، فان كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره علي خبره. و لأجل ذلك سوت [ميزت خ. ل] بين ما يرويه محمد بن أبي عمير، و صفوان بن يحيي، و أحمد بن محمد بن أبي نصر و غيرهم من الثقات، الذين عرفوا بأنهم لا يروون و لا يرسلون إلا عمن يوثق به، و بين ما أسنده غيرهم. و لذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم.»

و عنه أنه قال فيها أيضا: «أجمعت الطائفة علي أن محمد بن أبي عمير و يونس بن

ص: 270

______________________________

عبد الرحمن و صفوان بن يحيي و أضرابهم لا يروون و لا يرسلون إلا عن ثقة».

و قال النجاشي في ترجمة ابن أبي عمير: «و قيل: إن أخته دفنت كتبه في حالة استتاره و كونه في الحبس أربع سنين فهلكت الكتب. و قيل: تركها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت، فحدّث من حفظه و مما كان سلف له في أيدي الناس. فلهذا أصحابنا يسكون إلي مراسيله». و قريب من ذلك ما عن غيرهما.

فإن تمييز الأصحاب لهؤلاء في عملهم بمراسيلهم شاهد باطلاعهم علي خصوصية في رواياتهم تقتضي الاعتماد عليها من دون اهتمام بتحقيق حال رجالها، و مثل هذا كاف في الوثوق المعتبر في حجية الرواية.

إن قلت: لازم ذلك البناء علي تصحيح رجال ابن أبي عمير و أضرابه و مشايخهم، بنحو تكون جميع رواياتهم صحاحا أو موثقة، لكشف روايتهم عنهم عن وثاقتهم، مع عدم بناء الأصحاب علي ذلك، كما قيل، فلا بد من حمل كلامهم علي وثاقة من يروون عنه في خصوص الخبر الذي رواه و لو لقرائن خارجية حدسية تكفي في اعتماد الراوي علي الرواية و وثوقه بها.

و هذا لا يختص بابن أبي عمير و أضرابه، بل يجري في أكثر الرواة، لما هو المعلوم من حالهم من أن نقلهم للرواية ليس لمجرد الحفظ و التدوين، نظير نقل الحوادث التاريخية، بل للعمل، فما لم تكن الرواية مورد الوثوق لا يروونها، و لذا تجنبوا الرواية عن كثير ممن اطلعوا علي ضعفه، كما يظهر بملاحظة كتب الرجال.

و حينئذ لا مجال للاعتماد علي التوثيق المذكور، إذ لا بد من استناده إلي الحس أو الحدس القريب منه.

علي أنه لو فرض ظهور رواية هؤلاء عن شخص في توثيقه عن حس أو حدس قريب منه، بنحو يكون حجة في نفسه فحيث ثبت طعن الأصحاب في غير واحد ممن يروون عنه- كيونس بن ظبيان و غيره- امتنع الاعتماد علي مراسيلهم، لاحتمال كون الواسطة ممن تعارض فيه الجرح و التعديل.

ص: 271

______________________________

قلت: تسالم الأصحاب المدعي علي العمل بروايات هؤلاء و مراسيلهم و تمييزهم لهم عن غيرهم كاشف عن اطلاعهم علي وثاقة من يروون عنه بطريق الحس أو الحدس القريب منه بالنحو المصحح للعمل، و ليس المراد من ذلك وثاقة من يروون عنه مطلقا، ليكون توثيقا له في سائر رواياته و ينافي الجرح المدعي، لعدم توقف العمل بالرواية علي ذلك، بل يكفي وثاقته حين تحمل الرواية عنه، و هو لا يقتضي صحة سائر رواياته، كما لا ينافي جرحهم له، إذ ليس المراد بالجرح إلا صدور ما ينافي الاعتماد علي رواياته في الجملة المقتضي للتوقف في رواياته مع جهل وقت تحملها عنه، لا في تمام ما يرويه، كما لعله ظاهر.

و بعبارة أخري: الأمر المتفق عليه بين الشيخ و النجاشي و المحقق في المعتبر و غيرهم اعتماد الأصحاب علي مراسيل ابن أبي عمير، و المناسب لذلك حمل التعليل الذي ذكره الشيخ قدّس سرّه من أنه لا يروي إلا عن ثقة علي الثقة حين تحمل الرواية عنه، لا مطلقا، و لم يثبت ما يقتضي الخروج عن ذلك، فالبناء عليه متعين.

علي أن ذلك إنما يوجب الإشكال في التعليل، لا في الإجماع المدعي من الشيخ و النجاشي و غيرهما علي العمل بمراسيل ابن أبي عمير، فإن العمل المذكور ليس من الأمور الحدسية التي يحتمل الاشتباه فيها علي مثل هؤلاء الناقلين له، كما أنه لا يحتمل خطأ الأصحاب في عملهم بالمراسيل المذكورة، و يكفي في الاعتماد عليها الإجماع المذكور و إن لم يتم التعليل.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال فيما في مسألة سنن الوضوء من المعتبر فإنه بعد أن طعن في سند مرسلة لابن أبي عمير قال: «و لو قال قائل مراسيل بن أبي عمير يعمل بها الأصحاب، منعنا ذلك، لأن في رجاله من طعن الأصحاب فيه، و إذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم».

فإنه إن أراد منع عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير، فهو مخالف لما صرح به هو و أعاظم الأصحاب. مع أن عملهم برواياته لا ينافي طعنهم

ص: 272

______________________________

في بعض رجاله.

و إن أراد أن التوثيق معارض بالجرح- كما هو ظاهر ذيل كلامه- اتجه الجواب عنه بما سبق.

بقي في المقام أمور.

الأول: أن مقتضي تعليل الشيخ قدّس سرّه عدم اختصاص الحجية بمراسيل ابن أبي عمير، بل تعم مسانيده، فلا ينظر في حال رجال السند بعده.

و الاعتماد علي ما ذكره قدّس سرّه قريب جدا، لظهوره في نقل أمر حسي شائع، و ليس هو كنقل الإجماع علي الفتوي الذي ثبت تسامحهم فيه و ابتناء بعضه علي مقدمات حدسية بعيدة. بل مقتضي ذلك البناء علي وثاقة من ثبت روايته عنه ما لم يثبت طعنه و جرحه. فتأمل.

الثاني: تقدم من الشيخ قدّس سرّه تعميم الأمر المذكور ليونس بن عبد الرحمن و صفوان بن يحيي و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، و هو المحكي عن الشهيد في الذكري، فاللازم البناء علي ذلك، و لا وجه لقصر ذلك علي ابن أبي عمير، كما عن الفقهاء.

الثالث: ربما يدعي أن مراد الشيخ قدّس سرّه من قوله: «و غيرهم من الثقات» و قوله:

«و أضرابهم» الإشارة للجماعة الذين ادعي الكشي إجماع الأصحاب علي تصحيح ما يصح عنهم. لكنه ليس من الظهور بنحو يصلح للحجية بنفسه، أو لتفسير مراد الكشي من الإجماع المذكور، فاللازم الاقتصار علي خصوص الجماعة الذين سماهم الشيخ قدّس سرّه.

كما أنه لا مجال لدعوي: ظهور كلام الكشي بنفسه في ذلك، لوضوح أن ما صح عنهم هو ما حدّثوا به من حديث الواسطة لهم، لا حديث الامام عليه السّلام مع من بعدهم من رجال السند، بل ظاهر عطفه قدّس سرّه التصديق علي التصحيح كونه تفسيريا، حيث قال: «أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم.».

ص: 273

______________________________

بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد الالتفات إلي اختصاص التعبير بالتصحيح بالطبقتين الأخيرتين مع ظهور كلامه في أنهما من سنخ الطبقة الاولي، بل دونها، و لم يذكر في الطبقة الأولي إلا التصديق: قال: «اجتمعت العصابة علي تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر و أصحاب أبي عبد اللّٰه عليهما السّلام، و انقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة.» «1»، ثمَّ قال بعد ذلك: «أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم لما يقولون و أقروا لهم بالفقه من دون أولئك الستة الذين عددناهم و سميناهم ستة نفر جميل بن دراج. و هم أحداث أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السّلام» «2» ثمَّ قال بعد ذلك: «أجمع أصحابنا علي تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم و أقروا لهم بالفقه و العلم، و هم ستة نفر آخر دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، منهم يونس بن عبد الرحمن.» «3».

و دعوي: أن حمل كلامه علي ذلك لا يناسب تخصيصهم، لعدم الريب في وثاقه غيرهم.

مدفوعة: بأن كلامه لم يقتصر علي التوثيق، بل اشتمل علي الفقه و العلم، مع إقرار الكل لهم بذلك و انقيادهم لهم فيه، و ذلك لا يتهيأ إلا للأوحدي، و يحق لمثل الكشي الرجالي الناقد أن يهتم بذلك و يؤكد عليه.

نعم، لو ثبت أن نقل هؤلاء الجماعة للرواية و لو بواسطة مبني علي التعهد بصدورها كان مقتضي تصديق الأصحاب لهم قبولهم لها و تصحيحها.

لكن ذلك و إن كان قريبا جدا، بل هو المعلوم به إجمالا في كثير من رواياتهم، بل أكثرها، إلا أنه لا حجة عليه عموما، ليرجع إليه مع الشك، فلا يصلح إلا للتأييد.

______________________________

(1) رجال الكشي ص: 206.

(2) رجال الكشي ص: 322.

(3) رجال الكشي ص: 466.

ص: 274

______________________________

كما أنه بالتأمل في حق هؤلاء، و أمثالهم يتضح كون روايتهم عن شخص من جملة المؤيدات لوثاقته و إن لم تكن دليلا عليها. فلاحظ.

الوجه الثالث للاستدلال بنصوص المقام علي المختار: أنه مقتضي صحيح ابن مسلم، بحمله علي المكي، للإجماع علي عدم الاكتفاء بستمائة مدني أو عراقي، كما أشار إليه في الاستبصار.

و يقتضيه أيضا ما في صحيح ابن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن جرة ماء فيه ألف رطل وقع فيه أوقية بول، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال: لا يصلح» «1»، إذ لا بد من حمله علي العراقي و حمل صحيح محمد بن مسلم علي المكي، جمعا، نظير ما تقدم في الوجه الثاني. بل لو تمَّ ما ذكره بعض مشايخنا من عموم انفعال الماء كان اللازم حمل صحيح ابن مسلم علي المكي اقتصارا في تخصيص العموم المذكور علي المتيقن.

لكن تقدم الإشكال في العموم المذكور. و العمدة ما عرفت، مؤيدا بما تضمن تقدير الكر بالحب، و ما تضمن اعتصام الماء الذي يكون قدر قلتين، أو أكثر من راوية «2» فإن تنزيلها علي المطلوب أقرب من تنزيلها علي القول الآخر.

و مما ذكرنا يظهر ضعف القول باعتبار المدني، و إن ادعي المرتضي و الصدوق قدّس سرّهما في الانتصار و الناصريات و المجالس عليه الإجماع، كما تقدم عنهما.

و كأن الإجماع علي عدد الأرطال قد اشتبه عليهما بالإجماع علي تحديدها أيضا. بل لا يبعد كون مراد الانتصار ذلك، و إن أوهمت عبارته خلافه، فقد ادعي أن تحديد الكر بألف و مائتي رطل مدني محصل من الإجماع، و قد دلت عليه الآثار

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

(2) راجع في ذلك باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 8، 9. و باب: 10 من الأبواب المذكورة حديث: 7، 8.

ص: 275

______________________________

المعروفة المروية، مع وضوح أن الآثار المروية إنما تعرضت لإعداد الأرطال، لا لنوعها.

كما لا يبعد كون مراد الصدوق الإجماع علي اعتصام الكر لا تحديده، فقد قال في المجالس: «دين الإمامية هو الإقرار بتوحيد اللّٰه تعالي ذكره.» و ذكر جملة من أصول الدين و فروعه و أحكامه المشهورة إلي أن قال: «و الماء إذا كان قدر كر لم ينجسه شي ء. و الكر ألف و مائتا رطل بالمدني.» «1».

و كيف كان، فلا ينهض ذلك بإثبات القول المذكور. و مثله الاستدلال له.

تارة: بأن ذلك هو الظاهر من الرطل في مرسل ابن أبي عمير، بقرينة كون المتكلم مدنيا.

و اخري: بأنه مقتضي الاحتياط.

لاندفاع الأول: بعدم وضوح كون عرف المتكلم هو الأظهر في قبال عرف السامع. مضافا إلي بعض ما تقدم في الوجه الثاني من وجوه الاستدلال للقول المختار.

و الإشكال في الثاني: بأن الاحتياط- مع عدم اطراده- لا ينهض بالاستدلال.

بقي في المقام أمور يتوقف عليها تحديد الكر.

الأول: أن شيخنا الأستاذ قدّس سرّه استشكل في نصوص الأرطال، بعدم وضوح كون الرطل من الأوزان، بل لعله مكيال مجهول المقدار، لاختلاف اللغويين في ذلك. فبعضهم اقتصر علي جعله كيلا، مثل ما عن الليث من أن الرطل مقدار منّ، بضميمة ما عن أبي الحسن من أن المن من الأكيال. و بعضهم اقتصر علي الوزن، مثل ما تقدم عن ابن الأعرابي، و القاموس، من أنه اثنتا عشرة أوقية، بضميمة ما يظهر منهم التسالم عليه من أن الأوقية من الأوزان.

و بعضهم جمع بينهما، قال ابن دريد: «الرطل الذي يكال به و يوزن (بكسر الراء) معروف قال الشاعر:

______________________________

(1) المجالس ص 577 طبع النجف الأشرف.

ص: 276

… ______________________________

لها رطل تكيل الزيت فيه و فلاح يسوق لها حمارا

» و نحوه ما في الصحاح و عن المصباح. إلي غير ذلك من كلماتهم الموجبة لإجماله و تردده بين الأمرين.

كما أن النصوص في المقام لا تصلح لتعيين كونه وزنا، بل ظاهر غير واحد من النصوص كونه كيلا، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن الرجل يدفع إلي الطحان الطعام، فيقاطعه علي أن يعطي لكل عشرة أرطال اثني عشر دقيقا. قال: لا» «1» إذ لو كان الرطل وزنا لم يكن للطحان داع لأن يدفع اثني عشر رطلا دقيقا في قبال عشرة أرطال حنطة، فلا بد أن يكون كيلا، لأن الكيل من الدقيق أقل وزنا من كيل الحنطة، بسبب انحلاله و تماسكها.

و مثله صحيح عمر بن يزيد: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: تعطي الفطرة دقيقا مكان الحنطة؟ قال: لا بأس يكون أجر طحنه بقدر ما بين الحنطة و الدقيق» «2»، فإنه كالصريح في أن صاع الحنطة أكثر من صاع الدقيق، و لا يكون ذلك إلا في الكيل.

و كذا رواية الكلبي النسابة المتقدمة.

هذا، و لكن صحيح محمد بن مسلم روي عن محكي الفقيه: «لكل عشرة أمنان عشرة أمنان»، و من البعيد جدا تعدد الرواية. و صحيح عمر بن يزيد أجنبي عما نحن فيه و ليست الزكاة فيه إلا صاعا.

نعم، رواية الكلبي ظاهرة فيما ذكره قدّس سرّه. لكن لا يبعد في دفع ذلك أحد أمرين.

الأول: أن يكون الرطل بحسب أصل جعله كيلا، إلا أنه قد حدد بالوزن شرعا و عرفا بلحاظ بعض الأمور المكيلة، حتي اشتهر في الوزن، و هجر الكيل، كما قد يناسبه اختلاف وزنه حسب اختلاف البلاد، إذ قد يكون ناشئا من اختلاف أوزان الأمور المكيلة التي جعلت معيارا في ضبط وزنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الربا حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 5.

ص: 277

______________________________

الثاني: أن يكون وزنا لا غير، و إطلاقه علي الكيل بلحاظ ابتنائه علي الوزن الخاص في بعض الأمور التي يكثر احتياج الناس إلي وزنها و لا يتهيأ لهم الميزان، نظير كيل الجص و الحليب في عصرنا، و ربما يحمل عليه قول الشاعر المتقدم، و ما في صحيح محمد بن مسلم.

و لعل هذا هو الأقرب، فإن اللغويين مع تعرضهم لكونه كيلا لم يحددوه إلا بالوزن، و كذا النصوص، و كلمات الأصحاب لا إشارة فيها لتحديده بغير الوزن.

و كيف كان، فالظاهر إرادة الوزن في المقادير الشرعية، لاشتهارها مطلقا، أو في استعمالات الشارع. و لو لأجل تنزل الشارع عن خصوصية الكيل، و الاكتفاء بالوزن، لتيسر ضبطه، كما يناسبه إطلاق الرطل في كثير من النصوص و الاقتصار في نصوص اخري علي تحديده بالوزن، خصوصا مع اختلاف وزن الأمور المعتبر فيها الرطل كالأعيان الزكوية، فلو وجبت المحافظة علي الكيل لامتنع التحديد بالوزن في الأمور المذكورة.

علي أنه لو فرض إجمال الرطل في نفسه كفي في حمله في المقام علي الوزن تسالم الأصحاب عليه و أخذهم له طبقة عن طبقة متصلا بعصور المعصومين عليهم السّلام، حيث ينحصر الخلاف بينهم في حمله علي المدني أو العراقي المحددين بالوزن- كما يأتي- و لا أثر لاحتمال كونه كيلا في كلماتهم.

بل لا أقل من كون ذلك مقتضي، الجمع بين نصوص المقام، لما أشرنا إليه من لزوم حمل بعضها علي العراقي، و الآخر علي المكي اللذين حددا بالوزن.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة النصوص بمجموعها و كلمات الأصحاب في أن المدار علي الرطل المحدد بالوزن، إما لاختصاص إطلاق الرطل به، أو شيوعه فيه، أو لإرادته منه في خصوص المقام بالقرينة، أو لتنزل الشارع للتحديد بالوزن، لإمكان ضبطه، كما هو الحال في الصاع الذي لا إشكال في كونه

ص: 278

______________________________

في الأصل كيلا. فلاحظ.

الثاني: انه حيث ذكرنا أن المعتبر هو الرطل العراقي، و أنه من الأوزان، فاعلم أن المعروف أنه مائة و ثلاثون درهما، و لا ينقل الخلاف في ذلك إلا عن العلامة قدّس سرّه في موضع من التحرير و المنتهي، فجعل وزنه مائة و ثمانية و عشرين درهما و أربعة أسباع درهم مع موافقته للأصحاب في مبحث الكر من المنتهي، و زكاة الفطرة من التحرير، و في كتاب الزكاة من مفتاح الكرامة: «قد اعترف جماعة بعدم معرفة مستنده. و قال بعضهم: الظاهر أنه سهو من قلمه الشريف، و أنه تبع فيه بعض العامة، كما احتمله بعض أصحابنا» و قريب منه في الجواهر.

و كيف كان، فيدل علي المشهور ما تضمن من النصوص تقدير الرطل المدني بمائة و خمسة و تسعين درهما، بضميمة ما دل علي أن الرطل العراقي ثلثا الرطل المدني، كخبر جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني الذي لا يخلو عن اعتبار يلحقه بالحسان [1]: «كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام علي يد أبي: جعلت فداك إن أصحابنا اختلفوا في الصاع، بعضهم يقول الفطرة بصاع المدني، و بعضهم يقول:

بصاع العراقي. قال: فكتب إلي: الصاع ستة أرطال بالمدني، و تسعة أرطال بالعراقي.

قال: و أخبرني أنه يكون بالوزن ألفا و مائة و سبعين وزنة [درهما خ ل]» «2». و مكاتبة إبراهيم أبيه التي لا تخلو عن اعتبار أيضا [3]: «الفطرة عليك و علي الناس كلهم،

______________________________

[1] إذ ليس في سنده من لم يصرح بتوثيقه إلا جعفر المذكور، و تستفاد وثاقته مما حكي من رواية الصدوق بإسناده إليه مترحما و مترضيا عليه، و عدم استثناء القميين له من رجال نوادر الحكمة. و يؤيد ذلك كون أبيه من وكلاء الهادي عليه السّلام و قد اعتمد عليه في حمله كتابه إليه عليه السّلام: كما أنه يظهر من الخبر المتقدم كونه من رفقاء محمد بن أحمد بن يحيي في طريق الحج، حيث أنه حدثه به في الطريق المذكور، فإن مجموع ذلك كاف في وثاقته أو حسنه.

[3] فقد رواها الشيخ قدّس سرّه عن المفيد و ابن عبدون عن الحسين بن علي بن شيبان القزويني- الذي هو من مشايخ الإجازة- عن علي بن حاتم القزويني- الذي وثقه النجاشي- عن محمد بن عمر- الذي لا يبعد كونه ابن سعيد الزيات الثقة العين لتمييزه برواية علي بن حاتم عنه- عن الحسين بن الحسن الحسيني- الذي ترحم عليه الكليني، و قال الشيخ فيه: «فاضل» - فلاحظ.

______________________________

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 1.

ص: 279

______________________________

و من تعول ذكرا كان أو أنثي، صغيرا أو كبيرا، حرا أو عبدا، فطيما أو رضيعا، تدفعه وزنا ستة أرطال برطل المدينة، و الرطل مائة و خمسة و تسعون درهما، يكون الفطرة ألفا و مائة و سبعين درهما» «1». و خبر علي بن بلال: «كتبت إلي الرجل عليه السّلام أسأله عن الفطرة و كم تدفع؟ فكتب ستة أرطال من تمر بالمدني، و ذلك تسعة أرطال بالبغدادي» «2» و نحوه مرسل الحسن بن علي بن شعبة «3»، و في خبره عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون: «و الصاع تسعة أرطال، و هو أربعة أمداد، و المد رطلان و ربع بالرطل العراقي» «4» و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال:

كان رسول صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم يتوضأ بمد و يغتسل بصاع، و المد رطل و نصف، و الصاع ستة أرطال» «5» و زاد فيه في المعتبر: «بأرطال المدينة يكون تسعة أرطال بالعراقي» «6»، و عن الفقه الرضوي في تحديد الصاع، و هو: «تسعة أرطال بالعراقي» «7»، و عن كتاب الاستغاثة: «و قال أهل البيت عليهم السّلام: صاع رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم تسعة أرطال بالعراقي، و ستة أرطال بالمدني» «8»، فإن التأمل في ذلك و غيره من كلمات الأصحاب يوجب وضوح المطلوب و ظهور عدم المستند لما تقدم نقله عن العلامة قدّس سرّه.

نعم، قد يستأنس له بما في الصحاح: «و الرطل اثنتي عشرة أوقية، و الأوقية أستار و ثلثا أستار، و الأستار أربعة مثاقيل و نصف، و المثقال درهم و ثلاثة أسباع الدرهم» و تبعه في القاموس، فإن حاصل كسره يبلغ المقدار المذكور، و هما و إن لم يقيداه بالعراقي، إلا أن مقاربته لوزنه المذكور في كلمات الأصحاب يقرب

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب زكاة الغلات حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 5 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(6) ص: 268.

(7) مستدرك الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 1.

(8) مستدرك الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 2.

ص: 280

______________________________

إرادتهما له.

لكن من الظاهر عدم نهوض ذلك بالحجية في نفسه، فضلا عن الخروج به عما تقدم من النصوص المعتضدة بعمل الأصحاب. و لا سيما مع ما أشرنا إليه آنفا من ظهور بعض الكلمات المنقولة عن الجوهري في أنه في مقام تحديد مصطلح عصره، و لعله يريد الرطل المصري الذي حدده بذلك في لسان العرب.

الثالث: أنه حيث حدد الرطل بالدرهم فالظاهر أنه لا يراد به الدرهم المسكوك، لاختلاف ما يمكن معرفة وزنه من الدراهم القديمة اختلافا فاحشا، لا يمكن أن تكون معه موضوعا في التحديد، و هو المصرح به في كلام بعضهم، كالعلامة قدّس سرّه في القواعد، بل هو المقطوع به بعد ملاحظة ما ذكره المؤرخون و نحوهم، فلا بد أن يحمل التحديد به علي إرادة وزن خاص مصطلح عليه هو الأصل في وزن الدرهم، نظير ما اصطلح عليه في عصورنا من كون الأوقية ستة و تسعين درهما. فلا بد من ضبط الوزن المذكور.

و لم تتعرض النصوص لذلك عدا ما في خبر سليمان بن حفص المروزي عن الكاظم عليه السّلام: «و الدرهم ستة دوانيق، و الدانق وزن ستة حبات، و الحبة وزن حبتي الشعير من أوسط الحب لا من صغائره و لا من كبائره» «1».

لكنه مهجور عند الأصحاب، و لا يعرف القائل به، في مفتاح الكرامة: «و قد اشتمل علي مخالفات عديدة لما عليه الأصحاب» و قريب منه في الحدائق، و رماه في الجواهر بالشذوذ، و حكاه عن غير واحد، فلا بد من التعويل في تحديد الدرهم علي ما ذكره الأصحاب (رضي اللّٰه تعالي عنهم).

و قد ذكروا في تحديده طريقين.

الأول: أنه ستة دوانيق، و الدانق ثمان حبات من أوسط حب الشعير، كما في الشرائع و القواعد و غيرهما، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك»، و ادعي عليه الإجماع في كلام جماعة ذكرهم في مفتاح الكرامة و الجواهر، بنحو

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 281

______________________________

يظهر منهم التسالم عليه عندنا، بل عند العامة أيضا.

لكن الموجود في بعض كلمات العامة، بل المدعي عليه إجماعهم أنه خمسون و خمسا حبة شعير، لأن المثقال عندهم اثنتان و سبعون حبة، بل عن شذاذ منهم انه أكثر من ذلك.

و إجماع أصحابنا المدعي و إن كان مهما إلا أن المقام لا يرجع إلي تشخيص الحكم الشرعي الذي هو مختص بهم، بل إلي تحديد أمر خارجي، و وقوع الخطأ فيه غير عزيز، و لا سيما مع عدم وضوح التسالم فقد قال في مجمع البحرين. بعد أن ضبط المثقال بستين حبة شعير: «و منه يعرف ضبط الدرهم الشرعي، فإن المشهور ان كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم. و هو بحساب حب الشعير يكون عبارة عن اثنين و أربعين حبة شعير»، بل ذكر في الحدائق أنه بعد الاختبار به ظهر نقصه كثيرا عن الوزن الذي ذكره الأصحاب نقصانا فاحشا، و من ثمَّ استظهر كون حب الشعير سابقا أكبر منه لاحقا، و لعل ما ذكره مبني علي التحديد الثاني.

و كيف كان، فلا مجال مع ذلك للاعتماد علي الضبط المذكور، لوضوح اختلاف وزن الحب المتوسط بنحو يكون الفرق شاسعا في مثل الكر، بل الصاع، حيث يكثر عدد الحبات جدا، مع وضوح امتناع تحديد الشي ء الواحد بالأمور المختلفة، فلو كان التحديد مستفادا من النصوص أمكن دعوي كون المراد بها الاكتفاء بالمسمي، الراجع إلي التحديد بأصغر الحب المتوسط بنحو القضية الحقيقية، كما هو الحال في سائر العناوين المأخوذة في الأدلة الشرعية نظير ما يذكر في التحديد بالشبر.

أما حيث كان مستفادا من الأصحاب فلا مجال لحملها علي ذلك، لأنه يختص بالشارع الذي له جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية، و لا دليل علي كون تحديد الأصحاب بالعنوان مستفادا من الشارع، نظير تحديدهم الكر بالرطل، بل من القريب جدا أن يكون منشأ التحديد في كلماتهم بذلك ضبطه بلحاظ بعض

ص: 282

______________________________

أفراد الحب مع الغفلة أو التسامح في الاختلاف الذي أشرنا إليه، فمع الجهل بوزن ذلك الحب يمتنع قياس غيره عليه و الوزن به.

و قد أشار إلي بعض ما ذكرنا المجلسي في محكي رسالته في الأوزان. قال:

«كون الدرهم علي وزن ثمانية و أربعين شعيرة لم يرد في نص، و إنما هو عيار أخذه الأصحاب من بعض شعيرات بلادهم، و قد ذكرنا اختلاف الشعيرات بحد لا ينضبط التقدير بالنسبة إليه، فقدرنا بعض الشعيرات بالمثقال الصيرفي، فكان مائة و اثنتين شعيرة، و بعضها كان مائة و إحدي عشرة شعيرة و بعضها تسعين، و مع هذا الاختلاف الفاحش كيف يمكن بناء الحكم عليه.» و مما ذكرنا يظهر حال ما عن بعضهم من التحديد بحب الأرز و الخردل.

الثاني: أن الدرهم سبعة أعشار المثقال الشرعي، فيكون المثقال درهما و ثلاثة أسباع الدرهم، و كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فقد صرح بذلك المحقق في الشرائع و المختصر النافع و المعتبر، و العلامة في القواعد و عن جملة من كتبه، و الشهيد الثاني في الروضة و المسالك، و ظاهر حال غير واحد أنه من المسلمات، بل عن ظاهر الخلاف إجماع الأمة عليه، و قال المجلسي في محكي رسالته في الأوزان: «و هذه النسب مما لا شك فيها، و اتفقت عليها العامة و الخاصة» و هو المصرح به في كلمات بعض اللغويين و المؤرخين، و قد شهد به ذوو الاختصاص بالآثار، حيث ذكروا النسبة المذكورة بين الدرهم و الدينار، الذي هو المثقال، كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي. فلا ينبغي التوقف في ذلك.

و عليه يكون الرطل العراقي واحدا و تسعين مثقالا- كما صرح به في مفتاح الكرامة و الجواهر- و الكر مائة و تسعة آلاف مثقال و مائتي مثقال.

الرابع: المذكور في كلماتهم تحديد المثقال الشرعي بأنه ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي، ففي مجمع البحرين: «فالمثقال الشرعي يكون علي هذا الحساب عبارة عن الذهب الصنمي. و الذهب الصنمي عبارة عن ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي، عرف بذلك بالاعتبار الصحيح»، و ظاهر الجواهر المفروغية عن ذلك، بل عن

ص: 283

______________________________

المجلسي في رسالة الأوزان: «و هذه النسب مما لا شك فيها، و اتفقت عليها الخاصة و العامة».

و علي هذا جري غير واحد من المتأخرين، بل لا يعرف غيره بينهم، فقاسوه بالمثقال الشائع في النجف الأشرف، و جعلوه المعيار في جميع الأوزان الشرعية.

و حيث ذكرنا أن الرطل واحد و تسعون مثقالا شرعيا فهو ثمان و ستون مثقالا صيرفيا و ربع. كما أنه حيث كان الكر مائة و تسعة آلاف مثقال و مائتي مثقال شرعي فهو واحد و ثمانون ألف و تسعمائة مثقال صيرفي. و عليه جري الحساب في المتن.

لكن في ثبوت النسبة بين المثقالين بذلك إشكال، بعد عدم كونه حكما شرعيا، بل أمر خارجي مستند إلي التجارب، و الخطأ فيها غير عزيز.

فتأمل.

مع أن ضبط المثقال الصيرفي الذي وقع التحديد به غير متيسر لنا، إذ لا يبعد اختلاف المثاقيل الصيرفية- باختلاف الأزمنة و الأمكنة- حيث صرح غير واحد بعدم اختلاف المثقال في جاهلية و لا إسلام، فلا بد أن يكون حدوث المثقال الصيرفي متأخرا بعد تعدد دول المسلمين و انحلالها، الذي لا يناسب الاتفاق علي تحديد المثقال و لا ضبطه بنحو لا يعتوره الزيادة و النقصان بمرور الزمان.

بل عن الشبري [1] في رسالته في الأوزان أنه قال بعد التعرض للمثقال الشرعي: «و لم يزل الأمر علي ذلك حتي نبعت الدولة الشاهية و العثمانية، فوضعت الفارسية مثقالا جديدا زنته مثقال و ثلث من المثاقيل المتقدمة».

كما أن المحكي عن المحقق الثاني أنه قال: «و الظاهر أن المثقال المستعمل بين الناس درهم و نصف» و هو شاهد باختلاف المثقال الذي ذكره مع المثقال الذي ذكره المجلسي قدّس سرّه، إذ الثاني درهم و ستة أسباع الدرهم و ثلث سبعة.

______________________________

[1] السيد عدنان السيد موسي شبر.

ص: 284

______________________________

بل المشاهد فعلا في عصورنا اختلاف المثقال المستعمل في النجف الأشرف مع المثقال الشائع في كربلاء و بغداد، بل جميع مدن العراق- كما قيل- مع قرب المسافة و كثرة الاختلاط، فالأول أربعة و عشرون حبة، و الثاني يزيد حبتين بمقدار نصف السدس عنه، و الكيلو غرام مائتان و سبعة عشر مثقالا و عشر حبات من الأول، و مائتان و مثقالان من الثاني، حسبما ذكره لي بعض الصاغة في النجف الأشرف، و قد سألت بعض الصاغة عن المثقال الذي عندهم، فذكر أنه ينقص عن المثقال العربي، و أن مثقال بغداد هو الأقرب، و أن مسألة المثقال غير منظمة.

كما أنهم يعترفون بعدم الطريق لضبط المثقال الذي عندهم لو فرض الشك في بعض موازينه بسبب كثرة الاستعمال أو نحوه، حيث يتعارف ذلك بطول الزمان.

بل وقع ما يشهد باختلاف مثاقيل بعض الصاغة عن بعض في النجف الأشرف، فقد اشتري بعضهم سبيكة علي قدر معلوم، و لما باعها متفرقا علي حسب وزنه زاد عنده عدة مثاقيل، و لم يعلم أن ذلك ناشئ من نقص مثقاله أو زيادة مثقال من باعه. و مع هذا كيف يمكن الاعتماد في التحديد علي المثقال الصيرفي، فضلا عن خصوص مثقال النجف الأشرف؟

بل مقتضي ظاهر ما ذكره المجلسي عن والده، من أنه وزن الدينار القديم المضروب باسم الرضا عليه السّلام فكان ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي، اختلاف المثقال الصيرفي الذي عندنا عما عندهم بكثير، كما سيظهر. فلا بد من سلوك طريق آخر لضبط المثقال، الذي عليه يبتني وزن الدرهم و الدينار.

و لا طريق أقرب من الرجوع إلي ما بقي من الدراهم و الدنانير الأثرية المحفوظة في المتاحف أو عند بعض الهواة التي تيسر الاطلاع عليها أو علي موازينها المسجلة في الجداول المعدة لها، و عمدتها الدنانير، لقلة الاختلاف بينها بنحو يسهل معرفة الميزان التقريبي لها، بخلاف الدراهم، كما شهد به بعض أهل الاختصاص في الآثار و غيرهم ممن تيسر له الفحص.

ص: 285

______________________________

فإن من المتسالم عليه أن وزن الدينار المسكوك قديما مثقال شرعي و أنه لم يتغير عن ذلك، و أن النسبة بين الدرهم و الدينار هي النسبة بين الدرهم و المثقال، كما صرح به كثير من الفقهاء و المؤرخين و اللغويين و المختصين بالآثار القديمة من الخاصة و العامة.

فعن الوافي: «و المثقال قدر دينار، و الدينار لم يتغير في جاهلية و لا إسلام، و إن اختلفت الدراهم»، و في مجمع البحرين: «تكرر في الحديث ذكر الدينار بالكسر، و هو واحد الدنانير الذي هو مثقال من الذهب. و عن ابن الأثير: أن المثقال في العرف يطلق علي الدينار خاصة».

و عن المجلسي أنه اتفق علماء العامة و الخاصة علي عدم تغير الدينار عما كان عليه. و عن الحدائق: «لا خلاف بين الأصحاب أن الدنانير لم يتغير وزنها عما هي عليه الآن في جاهلية و لا إسلام، صرح بذلك جملة من علماء الطرفين. قال شيخنا العلامة أجزل اللّٰه إكرامه في النهاية: و الدنانير لم يختلف المثقال منها في جاهلية و لا إسلام. كذا نقل عن الرافعي في شرح الوجيز أنه قال: المثاقيل لم تختلف في جاهلية و لا إسلام. و الدينار مثقال شرعي، فهما متحدان وزنا، فلذا يعبر في أخبار الزكاة تارة بالدينار، و اخري بالمثقال».

و عن كاشف الغطاء في رسالة التحقيق و التنقير: «الدينار هو المثقال الشرعي، فالشرعي هو الذهب العتيق الصنمي الذي يسمي اليوم: أبو لعيبة، و هو درهم و ثلاثة أسباع الدرهم، يعبرون عنه بالدينار مرة، و بالمثقال الشرعي أخري».

و يشهد به أيضا ما أشار إليه من التعبير في النصوص و كلمات الأصحاب بالمثقال تارة، و بالدينار أخري، ففي الموثق عن علي بن عقبة و عدة من أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السّلام: «قالا: ليس فيما دون العشرين مثقالا من الذهب شي ء، فإذا كملت عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال إلي أربعة و عشرين، فإذا أكملت أربعة و عشرين ففيها ثلاثة أخماس دينار إلي ثمانية و عشرين، فعلي هذا

ص: 286

______________________________

الحساب كلما زاد أربعة» «1»، و قريب منه غيره من النصوص الواردة في الزكاة و الديات، و عبارات الفقهاء، كالشيخ في الخلاف و العلامة، قال في القواعد:

«للذهب نصابان عشرون مثقالا ففيه نصف دينار. و المثاقيل لم تختلف في جاهلية و لا إسلام. أما الدراهم فإنها مختلفة الأوزان، و استقر الأمر في الإسلام علي أن وزن الدرهم ستة دوانيق، كل عشرة منها سبعة مثاقيل من الذهب»، إلي غير ذلك مما يكشف عن تسالم المسلمين علي أن الدينار السائد كان مثقالا شرعيا، فلو فرض نقص بعض الدنانير عنه فهو ناشئ عن سرقة أو مسح بسبب كثرة الاستعمال أو نحو ذلك من دون أن يكون دينارا رسميا.

و الأمر الذي اتفق عليه ذوو الاختصاص بالآثار القديمة من المتأخرين المعاصرين من مسلمين و غيرهم- حسبما اطلعت عليه من كلامهم أو نقل لي عنهم- أن الوزن المفروض للدينار يقارب أربعة غرامات و ربعا، و أن الوزن المفروض للدرهم سبعة أعشار ذلك، علي النسبة الشرعية المتقدمة بينهما، و يناسبه ما اطلع عليه سيدي الوالد (دامت بركاته) في المتحف العراقي قبل مدة من دنانير عبد الملك بن مروان أو ما قاربها التي هي أوائل الدنانير الإسلامية، فكان وزن الدينار المضروب سنة ثلاث و ثمانين أربعة غرامات و مائتين و ستة و خمسين ملغرام، أي ما يزيد علي ربع الغرام بستة ملغرامات- و هي ستة أجزاء من ألف جزء من الغرام- و كان وزن الدينار المضروب سنة أربع و ثمانين أربعة غرامات و مائتين و واحدا و خمسين ملغرام، و وزن الدينار المضروب سنة ست و ثمانين- و هي سنة وفاة عبد الملك- أربعة غرامات و مائتين و ثلاثة و خمسين ملغرام.

و وزن دنانير اخري مضروبة بعد هذا التاريخ تقارب هذه المقادير تزيد عليها أو تنقص عنها ملغرامات قليلة يتعذر ضبطها في تلك العصور لقلة الامكانيات، فان أثقل دينار وصل إليه هو دينار المتوكل المضروب سنة مائتين و سبعة و ثلاثين، حيث كان وزنه أربعة غرامات و مائتين و سبعة و ثمانين ملغرام. كما أن أخف دينار

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب زكاة الذهب و الفضة حديث: 5.

ص: 287

______________________________

وصل إليه دينار المهدي المضروب سنة مائة و خمس و ستين، حيث كان وزنه أربعة غرامات و مائة و ثلاثين مليغرام، و هو شاذ لا مجال للتعويل عليه مقابل الكثرة الكاثرة، و ربما نقص وزنه بسبب كثرة الاستعمال.

كما أني قد رأيت في كثير من فهارس المسكوكات ما يناسب المقادير المذكورة في دنانير مضروبة من سنة سبع و سبعين إلي نهاية الدولة الأموية و كثير من الدنانير العباسية، و كذا بعض فهارس الصنجات الأثرية التي هي مقياس وزن الدينار، و كذا كثير من أوزان الدراهم و صنجاتها حيث يناسب نسبة الدرهم للدينار الشرعية. و عليها ابتني كلام الأثريين المتقدم.

و الذي ينبغي التنبيه إليه أن الكثرة الكاثرة من هذه الدنانير، خصوصا دنانير الأمويين التي هي أول الدنانير الإسلامية تتردد بين أربع غرامات و مائتين و عشرين ملغرام و أربعة غرامات و مائتين و خمسين ملغرام أي أنها تتردد بين الأربعة غرامات و ربع و ما دون ذلك بثلاثين ملغرام، و من الظاهر عدم أهمية هذا الفرق.

و من ثمَّ يصلح شاهدا لما ذكره الأثريون من التحديد.

و أما ما نقص عن ذلك فهو قليل نسبيا، و من البعيد جدا أن يكون ذلك هو وزن الدينار الرسمي، بل من القريب أن يكون النقص ناشئا من قرض بعض أجزاء الدينار أو مسحه بكثرة الاستعمال.

أما ما زاد علي ذلك فهو قليل جدا، و لا يزيد إلا ملغرامات قليلة، بل لم أجد عاجلا في دنانير الأمويين ما يبلغ أربعة غرامات و مائتين و ثمانين ملغراما إلا دينارا واحدا. و لذا يبعد كون ذلك هو الوزن الرسمي للدينار، و من القريب جدا كونه قد زيد فيه لتعذر الضبط بهذا المقدار.

نعم، بعض الفهارس قد تضمن أن وزن دينار الرضا عليه السّلام أربعة غرامات و أربع أعشار الغرام أي أربعمائة ملغرام، و هو زيادة معتد بها ربما يمكن ضبطها في ذلك الزمان. إلا أن الفهرست لا يبدو عليه الدقة. مع أن المقدار المذكور خارج عن متعارف الدنانير، و الدينار المذكور متأخر العهد لم يقصد منه التعامل، بل التشريف

ص: 288

______________________________

لصاحبه صلوات اللّٰه عليه و التبرك به، فلا يكون المعيار عليه.

و بالجملة: الفحص المتقدم من سيدي الوالد، و النظر في الفهارس المنشورة للدنانير و الدراهم و صنجاتها مؤيد، بل شاهد، لما صرح به المختصون من أن وزن الدينار الرسمي الذي هو المثقال الشرعي أربعة غرامات و ربع، و أن الدرهم سبعة أعشار هذا المقدار، فيكون المعيار علي ذلك، بل لا يبعد كونه أحوط، لأن متوسط الغالب ما دون ذلك بملغرامات قليلة.

مع أنه لا يبعد حجية قولهم بملاك كونهم من أهل الخبرة في مثل هذا الأمر الاجتهادي المحتاج إلي الفحص الطويل و المقارنات غير المتيسرة لنا. فلاحظ.

علي أن تحديد ذلك يسهل لنا طريق الاحتياط المجزي، إذ لا يرتاب الإنسان بعد النظر في جميع ذلك في أن الدينار لا يزيد علي أربعة غرامات و ثلاثمائة ملغرام الذي يكون فرقه في كل عشرين دينارا غراما واحدا، و لا يزيد في العشرين ألف دينار عن الكيلو الواحد، و الاحتياط بذلك سهل جدا.

و عليه فحيث كان الرطل واحدا و تسعين مثقالا فهو ثلاثمائة و ستة و ثمانين غراما و ثلاثة أرباع الغرام. و حيث كان الكر مائة و تسعة آلاف مثقال و مائتي مثقال فهو أربعمائة و أربعة و ستون ألف غرام و مائة غرام. أي أربعمائة و أربعة و ستون كيلو و مائة غرام.

و حيث سبق أن الكيلو مائتان و سبعة عشر مثقالا صيرفيا و عشر حبات، حسب وزن النجف الذي جري عليه في المتن، يكون الكر مائة ألف مثقال صيرفي و تسعمائة و ثمانية و تسعين و ربعا تقريبا، فيزيد عما ذكره في المتن بما دون الربع قليلا. و الاحتياط قد عرفت أمره و ضابطه.

هذا ما تيسر لنا في هذه العجالة، و الظاهر أنه واف بالمقصود، و إن كان مزيد الفحص و التتبع حسنا لمن تيسر له، و لا يشغله عما هو الأهم. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم، و منه نستمد العون و التوفيق و التسديد. إنه أرحم الراحمين، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 289

مائتان و اثنتان و تسعون حقة و نصف حقة (1). و بحسب وزنة النجف (2)- التي هي ثمانون حقة اسلامبول- ثلاث وزنات و نصف، و ثلاث حقق، و ثلاث أواق (3). و بالكيلو ثلاثمائة و خمسة و سبعون كيلو و ستمائة و أربع و عشرون غراما تقريبا (4).

______________________________

(1) لأن ذلك يبلغ واحدا و ثمانين ألف و تسعمائة مثقال صيرفي الذي عرفت منهم تحديد الكر به في أول الكلام في تحديد المثقال الشرعي.

هذا، و حيث تقدم منا أن الكر مائة ألف مثقال صيرفي و تسعمائة و ثمانية و تسعون و ربع فهو يكون ثلاثمائة و ستين حقة و نصفا و ثلاثة أرباع الأوقية و خمسة مثاقيل و نصفا التي هي أقل من ثلث الربع.

(2) المقسمة إلي أربع و عشرين حقة، كل حقة أربع أواق.

(3) لأن ثلاث وزنات و نصفا تساوي مائتين و ثمانين حقة اسلامبول، و ثلاث حقق تساوي عشر حقق اسلامبول، و ثلاث أواق تساوي حقتين و نصفا اسلامبول، فيكون المجموع مائتين و اثنتين و تسعين و نصف حقة اسلامبول، كما تقدم منه.

أما بناء علي ما ذكرنا في تقدير الكر حسب حقة إسلامبول فهو يكون أربع وزنات و نصفا و ثلاثة أرباع الأوقية و ثلث ربع الأوقية، الذي هو ثمانية دراهم باصطلاح النجف الأشرف.

(4) بناء علي ما تقدم من أن الكيلو مائتان و سبعة عشر مثقالا و عشر حبات يكون الكر علي مسلكه قدّس سرّه ثلاثمائة و ستة و سبعين كيلو و أربعمائة و سبعين غراما تقريبا. و لعل حسابه مبني علي فرض مثاقيل الكر أكثر مما فرضناه نحن حسبما رجعنا إلي بعض الصاغة المعتمدين.

و كيف كان، فقد عرفت لزوم ما زاد علي ذلك من الكيلوات كثيرا.

ص: 290

و مقداره في المساحة ما بلغ مكسرة سبعة و عشرون شبرا (1).

______________________________

(1) كما في الفقيه و عن المقنع و الهداية- علي بعض النسخ- و المختلف و الروض و مجمع البرهان و المصابيح، و قواه في الروضة، و عن النهاية الميل إليه، و عن السرائر و غيرها نسبته للقميين، و عن الذخيرة نسبته إلي الشيخ علي ما في بعض كتبه.

و لعله الظاهر منه في الاستبصار و التهذيب، حيث ذكر في الاستبصار في ضمن نصوص التحديد صحيحي إسماعيل بن جابر الآتيين و لم يتعرض لمخالفتهما لبقية نصوص الأشبار، بنحو يظهر منه العمل بجميع النصوص، حيث جمع بينها و بين خبر الأرطال بجعل كل من الأمرين طريقا لتحديد الكر. كما أنه في التهذيب بعد أن ذكر حديث الأرطال قال: «فأما الأخبار التي رويت مما يتضمن التحديد بثلاثة أشبار و الذراعين و ما أشبه ذلك فليس بينها و بين ما رويناه تناقض، لأنه لا يمتنع أن يكون ما قدره هذه الاقدار وزنه ألف و مائتا رطل. و أنا أورد طرفا من الأخبار التي تتضمن ذكر ذلك.» ثمَّ ذكر نصوص الأشبار مقدما للصحيحين المذكورين.

و كأنه يريد العمل بجميع النصوص بحمل الأكثر علي الفضل- كما هو ظاهر الوسائل ناسبا له إلي جماعة من علمائنا- أو مجرد بيان تحقق الكر به لا تحديده أو غير ذلك.

و ذهب جمع من الأصحاب إلي أنه ثلاثة و أربعون شبرا إلا ثمن شبر، و في الخلاف نسبته إلي جميع القميين و أصحاب الحديث، و عن المدارك أنه الأشهر، بل نسب في كلام جمع إلي المشهور، و عن الغنية الإجماع عليه. لكن في المعتبر:

«و لا تصغ إلي من يدعي الإجماع في محل الخلاف»، و عن البهائي: «لا تفاوت في الشهرة بين القولين».

و هذان القولان هما عمدة أقوال المسألة. و هناك أقوال أخري يظهر حالها

ص: 291

______________________________

عند الكلام في مفاد النصوص.

و يستدل للأول بصحيح إسماعيل بن جابر: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الماء الذي لا ينجسه شي ء فقال: كر. قلت: و ما الكر؟ قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار» «1».

و الكلام فيه في مقامين.

الأول: في السند. فقد ذكر غير واحد أنه وصف في كلام جماعة بالصحة، بل عن البهائي أنه يوصف بالصحة من زمان العلامة إلي زماننا.

لكن قد يستشكل في ذلك: - حسبما يستفاد من كلماتهم- بأن الشيخ قدّس سرّه و إن رواها عن عبد اللّٰه بن سنان الثقة بلا كلام، إلا أنه معارض بروايته لها في موضع من التهذيب عن محمد بن سنان، الذي اشتهر ضعفه، لبعد رواية كل منهما لها مع اتحاد من روي عن ابن سنان- و هو البرقي- و روي ابن سنان عنه، و هو إسماعيل بن جابر.

فلم يبق إلا رواية الكليني قدّس سرّه لها عن ابن سنان المردد بين الرجلين، بل الظاهر أنه محمد، لأنه قد ثبت رواية البرقي عنه كثيرا، و لم يثبت روايته عن عبد اللّٰه، بل استبعدها غير واحد، حتي جزم بعضهم بسهو الشيخ في ذكر عبد اللّٰه، لتأخر البرقي طبقة فلا يروي بلا واسطة عن عبد اللّٰه الذي هو من أصحاب الصادق عليه السّلام.

بل يبعد لأجل ذلك رواية عبد اللّٰه عن الصادق عليه السّلام بتوسط إسماعيل، بخلاف محمد، لتأخره عن أصحابه عليه السّلام طبقة.

و يندفع. أولا: بأن سهو الشيخ قدّس سرّه في ذكر عبد اللّٰه بعيد جدا، لتكرر ذلك منه في التهذيب «2» و الاستبصار «3»، و القريب جدا أن يكون السهو في ذكر محمد في

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(2) ج: 1 ص: 41.

(3) ج: 1 ص: 10.

ص: 292

______________________________

الموضع الآخر من التهذيب «1».

و يؤيد ذلك إطلاق ابن سنان في كلام الكليني قدّس سرّه، لما عن مشتركات الكاظمي من انصرافه إلي عبد اللّٰه، كما يناسبه كونه أقدم طبقة بنحو تستحكم الكنية له مع شهرته قبل معروفية محمد.

و لا سيما مع تعارف النسبة إلي الأب في العبادلة، كابن عباس و ابن الزبير، بنحو يقرب جدا اعتماد المتكلم علي ذلك في الإطلاق مع شهرة جميع أطراف الترديد، كما في المقام، لبعد غفلته عن أحدهما عند الإطلاق مع ذلك، كبعد تعمده الاجمال.

و أما ما تقدم في وجه استبعاد ذلك فهو ظاهر الوهن، إذ لا بعد في رواية البرقي الذي هو من أصحاب الكاظم عليه السّلام عن أصحاب الصادق عليه السّلام [2]، و لا سيما مثل عبد اللّٰه بن سنان الذي نص النجاشي علي أنه كان خازنا للرشيد، و قيل: انه روي عن الكاظم عليه السّلام- و إن لم يثبت- كما لا بعد في رواية أصحاب الصادق عليه السّلام بعضهم عن بعض، عنه عليه السّلام، بل هو كثير جدا.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يتم لو علم سهو الشيخ قدّس سرّه في أحد الأمرين، و هو خلاف الأصل، بل من القريب أن يكون قد تعمد في كلا الأمرين، لاختلاف ما وصل إليه باختلاف طرق الحديث التي عنده، فيكون المقام من تعارض الروايتين الموجب لتساقطهما.

و أما إطلاق ابن سنان فهو و إن كان ظاهرا بدوا في عبد اللّٰه، إلا أنه بعد ملاحظة تعدد روايات البرقي عن محمد- كما يظهر بمراجعة جامع الرواة- فمن القريب أن يكون ذلك قرينة علي إرادة البرقي له عند الإطلاق، لمعهوديته له.

و يؤيده كثرة روايات محمد عن إسماعيل. و ندرة روايات عبد اللّٰه عنه.

______________________________

[2] بل قد روي عن غير واحد منهم. فراجع تنقيح المقال في ترجمة عبد اللّٰه بن سنان.

______________________________

(1) ج: 1 ص: 37.

ص: 293

______________________________

نعم، لو ثبت كون الإطلاق من غير البرقي لم يصلح ذلك للتوقف عن مقتضي الإطلاق الأولي، لعدم كونه قرينة عامة يصح الاتكال عليها. فتأمل جيدا.

و ثانيا: بأنه لا ينبغي الاهتمام بسند مثل هذه الرواية بعد رواية الشيخ و الكليني لها و ظهور قبولهما لها، و اعتماد الصدوق عليها، حيث أفتي بمضمونها و بما يقارب لسانها.

و لا سيما مع تعدد أسانيد الكليني و الشيخ [1]، و اشتمال تلك الأسانيد علي الأعيان، الظاهر في معروفية الرواية عندهم و اشتهارها بينهم و قبولهم لها، إما لوثاقة راويها، أو لقرائن خاصة مصححة للعمل بها، فان ذلك كاف في الوثوق المعتبر في حجية الرواية.

و ثالثا: بأن الظاهر وثاقة محمد بن سنان [2]، بل هو من الأعيان، وفاقا

______________________________

[1] فقد رواها الكليني عن محمد بن يحيي عن أحمد بن محمد عن البرقي، و رواها الشيخ عن أحمد بن محمد عن البرقي بثلاثة طرق.

[2] اضطراب الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) في محمد بن سنان يلزمنا بتحقيق حاله، و عدم الاكتفاء بالإجمال، و إن كان خارجا عن وضع الكتاب. فنقول.

قد طعن فيه غير واحد من الأصحاب بطعون شديدة، فعن المفيد قدّس سرّه في موضع من رسالته التي هي في كمال شهر رمضان و نقصانه- بعد نقل رواية دالة علي أنه لا ينقص- قال: «و هذا حديث شاذ نادر غير معتمد عليه، في طريقه محمد بن سنان، و هو مطعون فيه لا تختلف العصابة في تهمته و ضعفه، و من كان هذا سبيله لا يعتمد عليه في الدين». و عنه أنه قال: في جواب من سأله عن روايات الاشباح: «ان الأخبار بذكر الاشباح يختلف ألفاظها و تتباين معانيها، و قد بنت الغلاة عليها أباطيل كثيرة، و صنفوا كتبا لغوا فيها، و أضافوا ما حوته الكتب إلي جماعة من شيوخ أهل الحق، و تخوضوا في الباطل بإضافتها إليهم، من جملتها كتاب سموه كتاب الاشباح و الأظلة نسبوه في تأليفه إلي محمد ابن سنان، و لسنا نعلم صحة ما ذكر في هذا الباب عنه، فان كان صحيحا فان ابن سنان قد طعن عليه، و هو متهم بالغلو، فان صدقوا في إضافة هذا الكتاب إليه فهو ضلال، لضلاله عن الحق، و إن كذبوا فقد تحملوا أوزار ذلك».

و قد عدّه الشيخ قدّس سرّه من أصحاب الرضا عليه السّلام و قال: «ضعيف» و قال في الفهرست: «قد طعن عليه و ضعف»، ثمَّ ذكر طريقه إلي رواياته و كتبه إلا ما كان فيها من تخليط أو غلو. و عن الاستبصار أنه قال في رد خبر في مبحث المهور: «فأول ما في هذا الخبر أنه لم يروه غير محمد بن سنان عن مفضل بن

ص: 294

______________________________

عمر، و محمد بن سنان مطعون عليه ضعيف جدا، و ما يختص بروايته و لا يشركه فيه غيره لا يعمل عليه»، و نحوه عن التهذيب في رد الخبر المذكور.

و قال الكشي: «قال حمدويه: كتبت أحاديث محمد بن سنان عن أيوب بن نوح، و قال: لا أستحل أن أروي أحاديث محمد بن سنان.» «1» إلي أن قال: «قال محمد بن مسعود: قال عبد اللّٰه بن حمدويه:

سمعت الفضل بن شاذان يقول: لا أستحل أن أروي أحاديث محمد بن سنان. و ذكر الفضل في بعض كتبه: أن من الكاذبين المشهورين ابن سنان، و ليس بعبد اللّٰه» «2» و في محكي كلام ابن داود: «و روي عنه أنه قال عند موته: لا ترووا عني مما حدثت شيئا، فإنما هي كتب اشتريتها في السوق. و الغالب علي حديثه الفساد».

و عن ابن الغضائري أنه قال: «ضعيف غال يضع لا يلتفت إليه». و ذكره النجاشي و نقل عن ابن عقدة أنه رجل ضعيف جدا لا يعول عليه و لا يلتفت إلي ما تفرد به. و روي عن الكشي عن ابن قتيبة عن ابن شاذان أنه قال: «لا أحل لكم أن ترووا أحاديث محمد بن سنان» ثمَّ روي عن صفوان أنه قال عن ابن سنان: «لقد همّ أن يطير غير مرة فقصصناه حتي ثبت معنا». ثمَّ قال النجاشي: «و هذا يدل علي اضطراب كان و زال» و قال أيضا في ترجمة مياح المدائني: «ضعيف جدا، له كتاب يعرف برسالة مياح، و طريقها أضعف منها، و هو محمد بن سنان».

لكن لا مجال للاعتماد علي شي ء مما تقدم، فان ما تقدم من المفيد لا يناسب ما ذكره في الإرشاد في بيان من روي النص علي الرضا عليه السّلام حيث قال: «و ممن روي النص علي الرضا عليه السّلام بالإمامة من أبيه عليه السّلام و الإشارة إليه منه عليه السّلام بذلك من خاصته و ثقاته و أهل الورع و العلم و الفقه من شيعته داود بن كثير. و محمد بن سنان».

كما أن ما تقدم من الشيخ قدّس سرّه لا يناسب ما ذكره في كتاب الغيبة في فصل السفراء حال الغيبة، حيث قال: «و قبل ذكر من كان سفيرا حال الغيبة نذكر طرفا من أخبار من كان يختص بكل إمام و يتولي له الأمر علي وجه من الإيجاز، و نذكر من كان ممدوحا منهم حسن الطريقة، و من كان مذموما سيّئ المذهب. فمن المحمودين حمران بن أعين. و منهم ما رواه أبو طالب القمي، قال: دخلت علي أبي جعفر الثاني في آخر عمره، فسمعته يقول: جزي اللّٰه صفوان بن يحيي و محمد بن سنان، و زكريا بن آدم و سعد بن سعد عني خيرا، فقد وفوا لي. و كان زكريا بن آدم ممن تولاهم. و أما محمد بن سنان فإنه روي عن علي بن الحسين بن داود قال: سمعت أبا جعفر الثاني عليه السّلام يذكر محمد بن سنان بخير،

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 332»

(2) «رجال الكشي ص: 427».

ص: 295

______________________________

و يقول: رضي اللّٰه عنه برضائي عنه، فما خالفني و ما خالف أبي قط»، فإن حكمه بمدحه و حسن طريقته لا يناسب كلماته السابقة في حقه، لظهوره في عدالته، بل جلالته- كما هو المناسب للخبرين الذين يظهر منه الاعتماد عليهما- لا مجرد حسن مذهبه في أصول الدين.

و لا سيما و قد ذكر في جملة المذمومين صالح بن محمد الهمداني الذي كان يتولي الوقف للجواد عليه السّلام بقم، و لم يذكر في وجه ذمه إلا أنه استحل الامام عليه السّلام من عشرة آلاف درهم، فأحله الإمام عليه السّلام و بعد خروجه أظهر عليه السّلام تذمره من ذلك و أن اللّٰه تعالي سوف يسأله عنها.

و أما ما تقدم عن حمدويه عن أيوب بن نوح فلا يخلو عن اضطراب، إذ عدم استحلاله الرواية عنه لا يناسب ما تضمنه كلامه من كتابة حمدويه عنه أحاديثه، و لا ما يأتي من الكشي من رواية ابن نوح عنه.

فالظاهر تصحيفه و أن الصحيح ما تضمنه كلامه الآخر الذي رواه الكشي أيضا قال: «ذكر حمدويه ابن نصير أن أيوب بن نوح دفع إليه دفترا فيه أحاديث محمد بن سنان، فقال لنا: إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا، فإني كتبت عن محمد بن سنان و لكن لا أروي لكم أنا عنه شيئا، فإنه قال له محمد قبل موته: كلما أحدثكم به لم يكن لي سماعا و لا رواية، إنما وجدته» «1» و من الظاهر أن هذا لا يقتضي طعنا في محمد بن سنان نفسه بنحو ينافي وثاقته، بل ظاهره الوثوق به في نفسه، كما أنه قد يدل علي كمال احتياط محمد بن سنان في الرواية.

نعم، قد يخدش ذلك في رواياته بأنها بالوجادة. و يأتي الكلام في ذلك. و لعل ما نقله ابن داود عن محمد بن سنان يشير إلي ذلك، حيث لم نعثر عليه في المصادر المعدة لمثله.

و كذا الحال فيما روي عن الفضل بن شاذان، فإن عبد اللّٰه بن حمدويه و إن نقل عنه ما سبق، إلا أن الكشي أيضا روي عن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري أنه قال: «قال أبو محمد الفضل بن شاذان:

ارووا [ردوا خ ل] أحاديث محمد بن سنان عني. و قال: لا أحب لكم أن ترووا أحاديث محمد بن سنان عني ما دمت حيا. و أذن في الرواية بعد موته». فإنه كالصريح في أن منعه من رواية أحاديث محمد بن سنان عنه لمحذور مختص بحال حياته لا ينافي وثاقته، و لذا أذن في روايتها بعد موته. بل لا يبعد ظهور ذلك في كون الفضل من الموثقين له.

و كأن ما نقله النجاشي عن الكشي عن ابن شاذان عبارة عن ذلك بعد إسقاط ذيله، و إلا فلم أجد غيره في كلام الكشي.

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 427»،

ص: 296

______________________________

و أما ما نقله الكشي عن الفضل من أنه من الكاذبين المشهورين فكأنه يشير به إلي ما ذكره في ترجمة أبي سمينة، قال: «و ذكر الفضل في بعض كتبه: من الكذابين المشهورين أبو الخطاب و يونس ابن ظبيان و يزيد الصائغ و محمد بن سنان، و أبو سمينة أشهرهم» «1» و هو مما يقطع بعدمه، فإن اشتهار روايات الرجل و رواية الأجلاء لها- كما يأتي- لا يناسب اشتهاره بالكذب، بحيث يكون نظيرا لأبي الخطاب.

بل لا يناسب ما تقدم و ما يأتي عن الفضل من روايته عنه. و ربما حمل علي شخص آخر غير الزاهري المبحوث عنه، لأن الاسم المذكور لا يختص به، كما يظهر بمراجعة كتب الرجال.

علي أن ابن داود- علي ما حكي عنه- نقل كلام الفضل خاليا عن ذكر محمد، قال في ترجمة أبي سمينة: «و ذكر الفضل بن شاذان في بعض كتبه أن الكذابين المشهورين أربعة: أبو الخطاب، و يونس بن ظبيان، و يزيد الصائغ، و أبو سمينة أشهرهم».

و أما ابن الغضائري فلا مجال للاعتماد علي تضعيفه و رميه بالغلو، لما هو المعروف من شدته في ذلك.

و مثله ابن عقدة فيما نقله عنه النجاشي في كلامه المتقدم، لأنه زيدي لم يتجل له من مقام الأئمة المتأخرين عليهم السّلام ما يناسب روايات ابن سنان الذي رماه الخاصة بالغلو لأجلها، فمن القريب جدا أن يكون تضعيفه له لأجل ذلك، لا لعثوره علي وضعه للحديث بنحو ينافي الوثوق به، ليصح الاعتماد علي شهادته أو اجتهاده.

فلم يبق إلا النجاشي الذي صرح بضعفة في ترجمة مياح و إن لم يصرح بها في ترجمة محمد نفسه، بل ظاهره التوقف فيه.

لكن من القريب جدا اعتماده في القدح فيه علي ما ذكره في ترجمته له مما تقدم عن ابن عقدة و الفضل مما عرفت وهنه، فلا وثوق بطعنه، خصوصا بلحاظ القرائن الآتية.

و عليه يكفي في توثيق الرجل ظهور حال ابن قولويه في توثيقه، لأنه من رجال كامل الزيارة، و قد أكثر فيه الرواية عنه.

مضافا إلي ظهور ذلك أيضا من الكشي، فإنه و إن ذكر الكلمات المتقدمة عن الفضل و أيوب بن نوح، و لكنه قال: «قد روي عنه الفضل و أبوه و يونس و محمد بن عيسي العبيدي و محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب و الحسن و الحسين ابنا سعيد الأهوازيان ابنا دندان و أيوب بن نوح و غيرهم من

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 428»

ص: 297

______________________________

العدول و الثقات من أهل العلم» «1» كما أنه ذكر الأخبار الكثيرة المادحة له، و لم يذكر شيئا من الأخبار الذامة في ترجمته، و إنما ذكر خبر أحمد بن محمد بن عيسي الآتي في ترجمة زكريا بن آدم. و لعله لما يأتي من عدم نهوضه بالطعن في محمد.

فإن التأمل في جميع ذلك قاض بظهور حال الكشي في توثيق الرجل و إجلاله، بل هو ظاهر ما تقدم عن الفضل و أيوب بن نوح، بل كلام الكشي مشعر أو ظاهر بأنّ رواية الأجلاء الذين ذكرهم عنه تكشف عن وثاقته عندهم.

و قد تحصل من جميع ما ذكرنا: عدم التعويل علي القدح المتقدم من الأصحاب في حق الرجل، إما لتنافي كلامي الشخص الواحد فيه- كما في الشيخين- أو لعدم الاعتداد بتضعيف الشخص- كما هو حال ابني الغضائري و عقدة- أو لعدم ظهور ما نقل عن الشخص في الجرح- كما عرفته عن الفضل ابن شاذان و أيوب بن نوح- أو لقرب ضعف مستند الجرح، كما أشرنا إليه في تعقيب ما ذكره النجاشي، فلا ينهض شي ء من ذلك لمعارضة التوثيق المشار إليه.

هذا، و لو فرض سقوطهما معا بالمعارضة لزم النظر في حال الرجل بغض النظر عما ذكروه.

و لا بد من النظر أولا فيما يساق لقدحه، حيث قد يقدح.

تارة: بالغلو، كما يشير إليه ما ذكره المفيد في كلامه المتقدم حول روايات الاشباح، و الشيخ في الفهرست و ابن الغضائري.

و اخري: بما تقدم عن أيوب بن نوح و ابن داود من أن رواياته بالوجادة، لا بالسماع أو الإجازة، فإنه و إن لم يدل علي كذبه، إلا أنه موهن لرواياته. بل تأخير أخباره بذلك إلي موته قد يدل علي تدليسه في السكوت عن ذلك حين روايته.

و ثالثة: بما رواه الكشي في ترجمة زكريا بن آدم عن أحمد بن محمد بن عيسي القمي قال: «بعث إلي أبو جعفر عليه السّلام غلامه و معه كتاب فأمرني أن أصير إليه و هو بالمدينة نازل في دار بزيع، فدخلت و سلمت عليه، فذكر في صفوان و محمد بن سنان و غيرهما مما قد سمعه غير واحد، فقلت في نفسي:

استعطفه علي زكريا بن آدم لعله أن يسلم مما قال في هؤلاء.».

و يندفع الأول: بما ذكرناه آنفا من عدم التعويل علي تضعيف ابن الغضائري، و تنافي كلام الشيخين علي أنهما لم يقطعا بنسبة الغلو إليه، بل ذكر المفيد أنه متهم به، و ذكر الشيخ اشتمال رواياته عليه، و هما أعم من غلوه.

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 428.».

ص: 298

______________________________

مضافا إلي أن تحديد الغلو في كلام القدماء لا يخلو عن غموض، كما تعرض له غير واحد. بل ما روي عن صفوان صريح في عدم غلوه.

و مثله ما في تنقيح المقال عن ابن طاوس بسنده إلي الحسين بن أحمد المالكي. قال: «قلت لأحمد بن مليك: أخبرني عما يقال في محمد بن سنان من أمر الغلو. قال: معاذ اللّٰه هو و اللّٰه علمني الطهور و حبس العيال و كان متقشفا متعبدا».

علي أن غلوة في عقيدته لا ينافي وثاقته في خبره الذي هو المهم في المقام.

كما يندفع الثاني: بأنه لا مانع من التعويل علي الرواية بالوجادة إذا تعهد الراوي بالمضمون، لوصوله إليه بطريق الحس أو الحدس الملحق بالحس، كما هو الأصل في الاخبار بالأمور الحسية، علي أنه لم يظهر من ابن سنان أن جميع رواياته بالوجادة، بل لعله أراد خصوص ما حدث به أيوب بن نوح، بل من البعيد من مثله عدم الرواية بالسماع مع كونه من أصحاب الأئمة عليهم السّلام.

بل لعله أراد قسما معينا مما حدث به أيوب لا تمامه، كيف و قد تقدم من الكشي أن أيوب بن نوح نفسه روي عن ابن سنان! و لزوم التدليس منه في تأخير الاخبار عن ذلك موقوف علي كونه يري حرمة الرواية بالوجادة، لعدم التعويل عليها، و هو غير ثابت، بل لعله كان يري جواز ذلك، و إنما أخبر به تورعا، أو لتبدل نظره.

مع أنه لا أثر للتدليس- لو تمَّ- لظهور حال الاعتراف في التوبة الموجبة لرجوع العدالة، فيستكشف من سكوته عن بقية أخباره صحتها. فلاحظ.

و أما الثالث: فيكفي في وهنه انضمام صفوان بن يحيي المعلوم الجلالة إلي محمد بن سنان، لكشف ذلك عن عدم صدور الذم لبيان الواقع، بل لمصالح أخر، كحفظهما أو التخلص من تبعة انتسابهما إليه أو نحو ذلك مما قد يناسب رفعة مقامهما.

فهو من مؤيدات الوثاقة، كبقية الروايات الدالة علي الطعن فيهما و الرجوع عنه منهم عليهم السّلام إلي المدح لهما.

و حيث ظهر و هن أدلة الجرح فالمتعين البناء علي وثاقة الرجل، بل رفعة مقامه، إذ لا ريب في أن له نحو اختصاص بالأئمة الثلاثة الكاظم و الرضا و الجواد (عليهم و علي آبائهم و أبنائهم أفضل الصلاة و السلام)، كما تقدم من الغيبة، بل الظاهر أنه من ذوي أسرارهم، نظير صفوان، كما يشهد به جمعهما في كثير من أخبار المدح و غيرها مما ذكره الكشي في ترجمة الرجل.

بل هو المناسب لنسبة الغلو له ممن عرفت، فإن ذلك يستلزم شدة عقيدة الرجل بالأئمة عليهم السّلام و إغراقه فيهم، و إظهار بعض كراماتهم الخفية التي يصعب تحملها علي بعض العقول، فيتسارعون إلي نسبة ناقلها للغلو و الكذب، كما قد يقارن ضعف ملكة الرجل وهمه بالغلو، كما يشير

ص: 299

______________________________

إليه ما نقله النجاشي عن صفوان في حقه، و نقله الكشي أيضا عنه بطريقين. بل قد يستلزم انتساب الغلاة إليه و تكثرهم به، كما أشار إليه المفيد في كلامه السابق، فتقوي الشبهة عليه.

هذا، و لا ريب في أن الاختصاص بهم عليهم السّلام ملازم للوثاقة و العدالة، بل الجلالة، و الخروج عنها يحتاج إلي انقلاب و سوء عاقبة، و الأصل عدمه.

مضافا إلي كثير من الروايات التي ذكرها الكشي المتضمنة لمدحه بمدائح جليلة، فإنها و إن لم تخل عن ضعف السند، إلا أنها صالحة لتأييد ما ذكرناه.

بل قد تصلح بمجموعها للاستدلال. خصوصا بعد ظهور غير واحد في قبولها في الجملة، لظهور اقتصار الكشي علي تلك النصوص و إكثاره منها في اعتماده عليها، و كذا الشيخ في كتاب الغيبة في كلامه المتقدم، و النجاشي في ذكره لما عن صفوان من نفي الغلو عنه.

مع أن الأصحاب قد أكثروا من الرواية عنه، فقد ذكر في تنقيح المقال في تمييزه سبعين رجلا، و فيهم من الأعاظم و الأجلاء و الأكابر العدد الكثير، و منهم أحمد بن محمد بن عيسي الذي أخرج البرقي عن قم لروايته عن الضعفاء و اعتماده المراسيل، و الحسن بن محبوب صاحب كتاب المشيخة، و محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، و الحسن و الحسين ابنا سعيد، و الفضل بن شاذان و غيرهم ممن يضيق المقام بذكرهم.

أضف إلي ذلك اشتهار رواياته و كثرتها في كتب الأصحاب علي اختلاف طبقاتهم و فتواهم بمضامين كثير منها، كما تعرض لذلك الأردبيلي و المجلسي و الوحيد و غيرهم. فإن التأمل في جميع ذلك يوجب الوثوق بالرجل و الركون إلي رواياته.

بل الإنصاف أن ذلك يوجب الخدش في طعون من تقدم، للاطمئنان معه بخطإ مستندها، بنحو لا تصلح لمعارضة التوثيق ممن عرفت، كما أشرنا إليه آنفا.

و كأن منشأ الطعن إظهاره لبعض أسرار الأئمة عليهم السّلام الثقيلة و كراماتهم الخفية المناسبة لاختصاصه بهم عليهم السّلام، فقد روي الكشي عنه أنه كان يقول: «من كان يريد المعضلات فإليّ، و من أراد الحلال و الحرام فعليه بالشيخ. يعني: صفوان بن يحيي» «1» و قد أوجب ذلك الطعن فيه، إما لضعف بعض العقول عن تحمل ذلك، أو تقية- كما يظهر مما تقدم عن الفضل بن شاذان من المنع عن الرواية عنه في حياته و الاذن فيها بعد موته- أو لإبطال تدبير الغلاة في تشبثهم به، دفعا للأفسد بالفاسد، أو لنحو ذلك مما أوجب اشتباه الأمر و خفاء الحال، و اضطرابهم في ذلك.

و من الظاهر أن شيئا من ذلك لا مجال لاحتماله في التوثيق المستفاد ممن عرفت، و كفي به مرجحا علي الجرح. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 428.»،

ص: 300

______________________________

لجماعة من المتأخرين، فإنه و إن طعن من بعض الأصحاب بطعون شديدة، إلا أنه لا مجال للتعويل عليها بسبب اضطراب كلماتهم، فلا تصلح لمعارضة ظهور توثيقه من غير واحد، أو لرفع اليد بها عن القرائن الدالة علي وثاقته. و عليه يتعين الاعتماد علي روايته، و عدّها صحيحة.

المقام الثاني: في الدلالة.

ففي المعتبر بعد أن نسب القول المذكور للصدوق و ذكر في دليله هذه الصحيحة قال: «فان كان معوله علي هذه فهي ناقصة عن اعتباره».

و كأنه يشير إلي عدم ذكر البعد الثالث فيها. لكن ذلك لا يختص بهذه الصحيحة، لاشتراك جميع روايات الباب معها في ذلك، ما يشهد بمألوفية الاقتصار علي بعدين. فلا بد إما من حملها علي ما ليس له إلا بعدان- و هو المدوّر- أو علي الاكتفاء بذكر بعدين عن ذكر البعد الثالث.

إذ لا مجال لاحتمال الإجمال أو النقص في جميع روايات الباب.

و حيث إن الأول يستلزم نقص الكر عن سبعة و عشرين شبرا، و لا قائل بذلك تعين الثاني.

بل هو الظاهر في نفسه من هذه الصحيحة، لمناسبته لارتكاز كون الماء كسائر الأجسام ذات الأبعاد الثلاثة، فيستحيل تحديده ببعدين إلا بقياس البعد الثالث عليهما، اتكالا علي مشابهته لهما، فإنها جهة مصححة للحذف ارتكازا.

و أما المدوّر فليس هو ذا بعدين فقط، بل له أبعاد ثلاثة ارتكازا، كالكروي، إلا أن عدم التمايز الخارجي بين بعدين منه يصحح بيانهما ببيان بعد واحد.

و هو موقوف علي تعين البعد الواحد المذكور لبيانهما- كما يأتي الكلام فيه في بعض روايات الباب- و لا مجال لذلك في هذا الصحيح، لعدم اشتماله علي ما يلزم بصرف أحد البعدين للعمق، ليتعين الآخر للطول و العرض، بل أطلق فيه ذكر بعدين يصلحان لبيان الطول و العرض، كما يصلحان لبيان العمق و أحد البعدين

ص: 301

______________________________

الآخرين، و ليست هناك جهة ارتكازية ترجح الثاني، فلا مجال للحمل عليه و ترك الوجه الأول المستند لجهة ارتكازية بيانية.

بل الإنصاف أنه لا ينبغي إطالة الكلام في إثبات الظهور فيما ذكرنا، لانصراف الذهن إليه من الكلام بطبعه و الغفلة عن فرض المدوّر، و إنما أطلنا الكلام في ذلك لتقريب منشأ الظهور المدعي.

و أما الإشكال فيه بمنافاته لرواية أبي بصير المتضمنة لثلاثة أشبار و نصف، فيتعين العمل بتلك، لاحتمال سقوط النصف من هذه، و لا يحتمل زيادته في تلك، لاحتياج الزيادة إلي مئونة.

ففيه: أن بعد احتمال النقص خصوصا مع التكرار يخرج ذلك عن الجمع العرفي بين الروايتين، فلا بد من الجمع بينهما بوجه آخر لعله يأتي الكلام فيه.

فلا ينبغي الإشكال في الاستدلال للقول المذكور بالصحيح المذكور، و لا سيما مع تأيده بالمرسل في المقنع قال: «روي أن الكر هو ما يكون ثلاثة أشبار طولا في ثلاثة أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا» «1»، فإنه و إن كان من القريب جدا أن يكون منقولا بالمعني من صحيح إسماعيل المتقدم، إلا أنه يكشف عما ذكرنا من ارتكاز حذف أحد الأبعاد في صحيح إسماعيل، بحيث يصح نسبة ذلك للرواية منه قدّس سرّه. فتأمل.

الثاني: صحيح إسماعيل بن جابر الآخر- الذي قيل: إنه أصح أخبار الباب-:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام الماء الذي لا ينجسه شي ء؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع و شبر وسعة [سعته خ ل]» «2».

فقد استدل به بعض مشايخنا للقول المذكور. و هو مبني علي أمور.

الأول: أن الذراع عبارة عن شبرين، كما هو المشاهد بالوجدان في كثير من

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 302

______________________________

الناس. لكن ذكر الفقيه الهمداني قدّس سرّه أنه أكثر من ذلك بمقدار يسير، كما أن القدمين أيضا كذلك. قال: «و هذا ظاهر بالعيان، فلا يحتاج إلي البرهان».

كما ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن الذي يظهر من أخبار المواقيت أن الذراع قدمان. و كأنه يشير إلي مثل صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن وقت الظهر. فقال: ذراع من زوال الشمس، و وقت العصر ذراعان [ذراع خ ل] من وقت الظهر، فذلك أربعة أقدام من زوال الشمس» «1». و يقتضيه الجمع بين نصوص الذراع و نصوص القدمين الواردة في المواقيت «2».

لكن زيادة الذراع عن الشبرين غير مطردة، بل لا مجال لدعوي الغلبة فيها، بنحو يكون الذراع البالغ شبرين شاذا ينصرف عنه الإطلاق في مقام التحديد، بل الظاهر عموم الإطلاق للذراع المذكور المقتضي للاجتزاء به، بل أشرنا عند الكلام في تحديد الدرهم بحب الشعير إلي أن الأقل هو الحد الواقعي، و ما زاد عليه خارج عن الحد، قد وقع التسامح فيه لصعوبة الضبط.

و أما نصوص المواقيت فهي غير واردة مورد التحديد الشرعي للذراع، ليخرج به عن حقيقته العرفية في جميع الموارد، بل لعلها واردة لتحديد ذراع الظل أو مبنية علي نحو من التسامح في التقدير بلحاظ بعض أفراد الذراع، أو نحو ذلك.

و لا سيما مع ظهور بعضها في أن الذراع شبران، و هو موثق يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن صلاة الظهر. فقال: إذا كان الفي ء ذراعا.

قلت: ذراعا من أي شي ء؟ قال: ذراعا من فيئك. قلت: فالعصر؟ قال: الشطر من ذلك. قلت: هذا شبر. قال: و ليس شبر كثيرا». «3»

و بالجملة: لا مجال للخروج عن معني الذراع العرفي، الذي لا إشكال في

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب المواقيت حديث: 3.

(2) راجع باب: 8 من أبواب المواقيت من الوسائل.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب المواقيت حديث: 18.

ص: 303

______________________________

شموله لما يكون بقدر شبرين، و الموجب للاكتفاء به في العمل بالإطلاق.

بل ذلك يقتضي الاكتفاء بما يكون دون الشبرين، لو فرض عدم شذوذه، كما هو غير بعيد.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من إجمال الذراع بسبب الاختلاف، فلا يصلح الحديث للاستدلال. فلا مجال له، فإن اختلاف الذراع كاختلاف الشبر موجب للاكتفاء بالأقل. كما ذكرنا.

الثاني: أنه لا بد من حمل الصحيح علي المدوّر. و قد قرب ذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن تساوي الخطوط في المدوّر من جميع النقاط، مع كونه عرفا له بعد واحد، يستوجبان حمل الكلام عليه، بخلاف غيره من المضلعات، حيث لا تستوي الخطوط فيها، بل هي بين الزوايا أطول منها بين الأضلاع.

و إلي ما ذكره أوّلا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا من أن المدوّر هو الذي يصح أن يقال: ان سعته ذراع و شبر مطلقا من جميع الجهات المفروضة، لا من خصوص بعضها.

و ظاهرهما أن الحمل علي المدوّر هو مقتضي إطلاق تقدير السعة الذي تضمنه الحديث، و الحمل علي غيره مبني علي التقييد فيه.

لكن لا ظهور للكلام في الإطلاق المشار إليه، لأن تقوم السطح ارتكازا ببعدين يوجب انصراف السعة إليهما، بحيث لا يكون الاقتصار عليهما تقييدا منافيا لظهور الكلام لو خلي و طبعه، بل هذه النكتة في الفرق بين المدوّر و غيره مغفول عنها بدوا، و يحتاج إلي التنبيه عليها.

و لذا لا يلتفت إلي ذلك حتي عند تحديد المدوّر، فإذا قيل: احفر بئرا سعتها متر، لا يستفاد عموم سعة المتر بلحاظ الجهات من إطلاق تحديد السعة به، بل من تعارف التدوير في البئر.

و لذا لو قيل: رأيت حفرة سعتها متر، لا يستفاد ذلك، بل قد ينطبق علي المربع، كما لعله يظهر بالتأمل في المرتكزات الاستعمالية.

ص: 304

______________________________

علي أنه لو فرض الإطلاق المذكور فهو معارض بما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ظهور بيان السعة في ثبوتها في تمام سطح الماء- كما في المربع- لا في خط منه- كما في المدوّر- و لذا لا إشكال في أن ظهور تحديد المربع بالمساحة لا يتناول الصليب، و إن كان واجدا للمساحة المذكورة في بعض خطوط جهتيه.

و كأن هذا هو مراد الفقيه الهمداني قدّس سرّه حيث ادعي أن نسبة السعة إلي الشكل علي الإطلاق تقتضي الحمل علي المربع.

و حيث كان الظهور المذكور من سنخ الظهور في الكل المقابل للتبعيض الذي هو مقتضي الوضع، فهو أقوي من الظهور المدعي في الإطلاق المقابل للتقييد، و يكون مانعا منه.

و أما ما عن شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن الدائرة التي يكون قطرها ثلاثة أشبار و نصفا مثلا أولي بمصداقية كون تمام السطح ثلاثة و نصفا في جميع الخطوط، بخلاف المربع فإنه لا يكون كذلك إلا في خطين.

فهو لا يخلو عن غموض، و كأنه يريد بخطوط الدائرة المتساوية في مساحتها هي الخطوط المتراكبة المارة بالمركز في تمام جهاتها المختلفة، لا الخطوط المتوازية المستوعبة لتمام السطح من جهة واحدة، و بخطي المربع جهتيه المتقاطعتين، فيرجع إلي ما تقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و من الظاهر أن مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه الخطوط المتوازية، لا المتراكبة.

و كيف كان فما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه متين جدا.

إلا أنه إنما يتم لو أخذت الجهة قيدا في السعة المفروضة للشكل، كما هو الحال في تحديد المربع أو المستطيل أو نحوهما.

و عليه يبتني الإطلاق المتقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه، فان فرض الإطلاق يبتني علي انحلال نسبة السعة للسطح إلي نسب متعددة بعدد الجهات المفروضة، و لذا تقدم أن ما ذكره صالح لإبطال الإطلاق المدعي.

ص: 305

______________________________

لكن من الظاهر أن الصحيح لم يتضمن فرض جهة خاصة في نسبة السعة للماء، كما أنه تقدم أنه لا إطلاق في النسبة المذكورة بلحاظ الجهات، بل لم يتضمن إلا نسبة السعة للماء بلحاظ سطحه من دون فرض جهة خاصة، و السعة المذكورة تنطبق علي المدوّر عرفا، و إن كان منشأ تحديد سعته مباينا لمنشإ تحديد سعة بقية الاشكال.

و من ثمَّ لا يكون تحديد مساحته بمساحة قطره مبنيا علي مزيد تكلف و لا مستهجنا، بخلاف تحديد سعة خشبة الصليب بمسافة أبعد خطوطها من دون تنبيه علي حالها، فإنه مستهجن جدا.

و بالجملة: ما ذكره قدّس سرّه إنما ينهض بدفع الإطلاق المدعي- كما ذكرنا- لا بإبطال عموم الكلام للمدور، أو اختصاصه به، كما هو مراده.

و مثله ما في الجواهر من أن الحمل علي المدوّر مبني علي ما لا يعرفه إلا الخواص من علماء الهيئة في استخراج مساحة الدائرة.

لاندفاعه بعدم سوق الحديث لبيان نتيجة ضرب الابعاد، و إلا كان المناسب بيانها رأسا، بل لبيان الشكل الذي يحصل به الكر و إن لم يعرف نتيجة أبعاده، و من الظاهر أن المدوّر ليس بعيدا عن أذهان العرف.

و نظير ذلك ما عن الوحيد قدّس سرّه في تأييد إرادة المدوّر من أن الكر بحسب أصله مكيال مدور لأهل العراق.

فإنه لو تمَّ ذلك فلا قرينة علي كون تحديده في الصحيح واردا لبيان مساحة بعدية بعد الفراغ عن شكله فإن السؤال ليس عن شكل كيلة الكر، بل عن مقدار الكر من الماء و تحديده بالمساحة، كيف و قد اعترف قدّس سرّه بحمل الصحيح السابق علي المكعب.

و الحاصل: أنه كما لا ينهض الإطلاق الذي أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه و صرح به بعض مشايخنا، و لا ما ذكره الوحيد قدّس سرّه بإثبات المدوّر، كذلك لا ينهض ما ذكره شيخنا الأعظم و صاحب الجواهر قدّس سرّهما بمنع ذلك.

ص: 306

______________________________

فالعمدة في تعيين أحد الأمرين أن الاقتصار علي بعد واحد في الحديث هل يكون قرينة علي الحمل علي المدوّر، لأنه يمتاز من بين الإشكال بأن له بعدا واحدا عرفا- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه ثانيا و ذكره غيره- أو علي المربع، لان ارتكاز تقوم السطح ببعدين يوجب انصراف الذهن إلي إرادة البعدين ببيان بعد واحد، نظير ما تقدم في الصحيح الأول؟

لا يبعد الثاني، و ذلك لأن امتياز المدوّر بذلك ليس لعدم تقوم شكله بالبعدين، بنحو يقتضي قصور الارتكاز المتقدم عنه، بل لأن عدم التمايز بين بعدية أوجب تسامح العرف في الاكتفاء بتحديده ببيان بعد واحد، و ابتناء الكلام علي التسامح المذكور إنما يحسن بنحو ينسبق الذهن له في فرض الالتفات إلي المدوّر، كما لو أريد تحديد سعة البئر مثلا المفروض فيها التدوير، و لا يحسن في مقام تحديد مطلق الشكل، بنحو ينسبق الذهن إلي خصوص المدوّر، لعدم الالتفات للتسامح المذكور إلا بعد الالتفات للمدور و الفراغ عن إرادته، و إلا فالسطح بطبيعته متقوم ارتكازا ببعدين، لا بد في تحديده من تحديدهما، فينسبق الذهن إلي إرادة بعدين ببيان بعد واحد من جهة التماثل بينهما، لأن تلك جهة ارتكازية يصح الاتكال عليها في مقام البيان، كما ذكرنا في الصحيح السابق.

و لعله لنظير ما ذكرنا كان المنسبق من تحديد الجسم بالمساحة حمله علي المكعب لا الكروي، فلو قيل متر من ماء لم يحمل إلا علي مقدار المتر المكعب، لا مقدار الكرة التي قطرها متر.

و يكفي فيما ذكرنا ظهور حال الأصحاب في فهم المكعب و عدم التنبه للمدور إلا من المجلسي و الوحيد في مقام توجيه الأخبار، حيث منع منه الأول، و قربه الثاني، و ظهر القول به بعد ذلك، فان فهم الأصحاب و إن لم يكن حجة، إلا أن جريهم علي ذلك بطبعهم شاهد بفهم ذلك من طبع الكلام للمناسبات الارتكازية التي أشرنا إليها و نحوها.

ص: 307

______________________________

نعم، لو فرض توقف ارتفاع التعارض بين النصوص علي حمل هذا الصحيح علي المدوّر لم يبعد ارتكابه و لو لكشف ذلك عن قرائن مقامية تقتضي انصراف الكلام له، لأنه لا يخلو عن وجه عرفي يقربه في مقام الجمع، و إن لم يكن ظاهرا من الكلام بنفسه بنحو يصح بناء الاستدلال عليه. فلاحظ.

الثالث: أنه بعد فرض ظهور الصحيح في إرادة المدوّر، الذي قطره ثلاثة أشبار و عمقه أربعة، فالمراد به ما يكون نتيجته سبعة و عشرين شبرا و إن لم يكن ذلك نتيجة تحقيقية للبعدين المذكورين، و توضيح ذلك: إن الأقرب للتحقيق أن يكون الكر نتيجة لذلك ثمانية و عشرين شبرا و سبعين حاصلة من ضرب نصف القطر في نصف المحيط ثمَّ ضربها في العمق- كما هو أحد الطرق في استخراج مساحة الدائرة- لأن المحيط ثلاثة أمثال القطر و سبع تقريبا، فإذا كان نصف القطر شبرا و نصفا كان نصف المحيط أربعة أشبار و خمسة أسباع الشبر، و ناتج ضرب أحدهما في الآخر سبعة أشبار و نصف سبع، و ناتج ضرب ذلك في العمق الذي هو أربعة أشبار ثمانية و عشرون شبرا و سبعان.

إلا أنه يتعين الاكتفاء بسبعة و عشرين، لأن بيان المساحة في النصوص من طريق الدائرة لا بد أن يبتني علي التقريب، لعدم ضبط النسبة بين المحيط و القطر لمهرة الفن، و حيث كان الأقرب لفهم العرف المبني علي التسامح كون المحيط ثلاثة أمثال القطر- كما جري عليه البناؤون و غيرهم- كان ناتج ضرب نصف القطر في نصف المحيط المذكور سبعة أشبار إلا ربعا، و ناتج ضرب ذلك في العمق المذكور سبعة و عشرون شبرا، و هو المطلوب.

و فيه. أولا: ما أشرنا إليه آنفا من سوق الحديث الشريف لبيان الشكل الذي يحصل به الكر، لا لبيان نتيجة ضرب الأبعاد، ليتعين ابتناؤه علي ما يجري عليه العرف في استخراج مساحة الدائرة، كيف و استخراج مساحة الدائرة لا يتيسر إلا للخواص من علماء الهيئة، فلا يمكن ابتناء الخطاب في الصحيح

ص: 308

______________________________

عليه، كما تقدم من الجواهر.

و ثانيا: أنه لم يتضح تسالم العرف علي استخراج مساحة الدائرة بالوجه المذكور بنحو يكون قرينة علي صرف الكلام إليه مع مخالفته للتحقيق بمقدار معتد به، و لا سيما مع ما هو المعروف من ابتناء التقدير الشرعي علي التحقيق لا التقريب.

و مجرد تسامح البنائين في عصورنا لو تمَّ لا يصلح شاهدا علي ذلك. و عدم ضبط نسبة المحيط للقطر علي نحو التحقيق لمهرة الفن، لا يقتضي التسامح بالقدر المذكور، إذ لا إشكال في زيادة المحيط علي ثلاثة أمثال القطر بمقدار معتد به هو أقرب إلي السبع منه إلي الثمن، و التقدير بالسبع لا يزيد علي المقدار التحقيقي لو أمكن ضبطه إلا بنسبة الواحد إلي الثمانمائة تقريبا، فكيف يمكن التسامح في تمام المقدار المذكور بالغاية و الاكتفاء بالثلاثة أمثال؟! و بالجملة: لا مجال لابتناء الاستدلال علي مثل هذا التسامح، بل اللازم البناء علي المقدار التحقيقي، فما يعلم بلوغه المقدار المذكور يبني علي اعتصامه، و ما يعلم بنقصه عنه يبني علي انفعاله، و ما يشك في بلوغه له يرجع فيه إلي مقتضي الأصل الذي هو الانفعال، بناء علي ما تقدم من الرجوع إلي أصالة عدم الكرية في الشبهة الموضوعية.

نعم، لو فرض توقف رفع التعارض بين الصحيح و دليل السبعة و العشرين علي حمل الصحيح علي التسامح المذكور لم يبعد البناء عليه، فيحمل علي أن ذكر بعدي العمق و القطر مبني علي التسامح، لصعوبة التدقيق فيهما بنحو يساوي حاصله السبعة و العشرين تحقيقا، لا لأن الزائد معتبر في حصول الكر، فان ذلك وجه عرفي في الجمع بين الدليلين، و إن لم يكن ظاهرا في نفسه من هذا الصحيح، بنحو يصح بناء الاستدلال به عليه. فلاحظ.

فالعمدة في دليل القول المذكور هو صحيح إسماعيل بن جابر الأول، الذي عرفت تمامية سنده و دلالته، كما عرفت إمكان تنزيل صحيحة الثاني

ص: 309

______________________________

عليه، بحمله علي المدوّر، مع التسامح في الزيادة التي تضمنها، جمعا بينهما.

و يأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّٰه تعالي.

و يؤيده ما تقدم من النصوص لتأييد حمل الرطل علي العراقي، فإنها تناسب التقدير بالأقل في المساحة أيضا، بل يؤيد بما دل علي حمل الرطل علي العراقي، كما لا يخفي.

و أما القول الثاني فقد استدل له ببعض النصوص.

منها: موثق أبي بصير أو صحيحه «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال: إذا كان الماء ثلاثة أشابر و نصف [و نصفا خ ل] في مثله ثلاثة أشبار و نصف في عمقه في الأرض فذلك الكر من الماء» «1».

و الكلام فيه. تارة: من جهة السند.

و اخري: من جهة الدلالة.

أما السند فقد استشكل فيه.

تارة: برواية الشيخ قدّس سرّه له في التهذيب «2» عن أحمد بن محمد بن يحيي، و هو مجهول، لأن المعروف بهذا الاسم هو أحمد بن محمد بن يحيي العطار- و هو مع الكلام في وثاقته- يبعد جدا إرادته في هذا السند، لأن الراوي فيه عن أحمد بن محمد هو محمد بن يحيي العطار أبوه. و مثله أحمد بن محمد بن يحيي الفارسي، لاتحادهما طبقة.

و الكليني قدّس سرّه و إن أطلق أحمد بن محمد، فينصرف إلي ابن عيسي الثقة، إلا أنه لا مجال للاعتماد عليه بعد معارضته بما ذكره الشيخ قدّس سرّه، لبعد تعدد السند جدا.

و اخري: باشتماله علي عثمان بن عيسي الذي قيل إنه من شيوخ الواقفة

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(2) التهذيب طبع النجف الأشرف ج: 1 ص: 42.

ص: 310

______________________________

و عمدها، و من المستعدين بمال الامام الرضا عليه السّلام.

و ثالثة: باشتماله علي أبي بصير المشترك بين الثقة و الضعيف.

و يندفع الأول: بأنه لا تعويل علي ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في التهذيب، لمعارضته بما ذكره في الاستبصار، حيث أطلق فيه أحمد بن محمد الموجب لانصرافه إلي ابن عيسي، فيسقط كلامه عن الحجية، و لا ينهض بمعارضة ما ذكره الكليني قدّس سرّه.

و ليس جعل ما في التهذيب قرينة علي تعيين ما في الاستبصار و صرفه عن مقتضي الإطلاق بأولي من جعل ما في الاستبصار قرينة علي سهوه في التهذيب، لعدم احتمال اعتماده علي ما في التهذيب في القرينية علي ما في الاستبصار، ليتعين عملا بأصالة عدم الخطأ، فلو كان مراده في الاستبصار ابن يحيي لكان إطلاقه فيه مبنيا علي الغفلة عن ذكر القيد له أو عن انصرافه إلي ابن عيسي، و هو كالغفلة في زيادة ابن يحيي في التهذيب.

و لا يقاس ذلك بالجمع بين الأخبار بحمل الظاهر فيها علي الأظهر، لعدم احتمال الغفلة في الأخبار، و العلم بها هنا إجمالا.

بل لا ينبغي التأمل في كون السهو هو زيادة ابن يحيي في التهذيب بعد ملاحظة عدم تعرض الرجاليين لمن هو بهذا الاسم في هذه الطبقة، و عدم اشتمال شي ء من الأسانيد علي ذلك.

و لا سيما بعد كون رواية الشيخ للحديث بسنده عن الكليني الذي لم يتعرض لهذه الزيادة، مع ما هو المعروف من ضبط الكافي فالتأمل في ذلك إن لم يوجب القطع بسهو الشيخ قدّس سرّه في التهذيب فلا أقل من كونه موجبا للوثوق بذلك، الموجب لقصوره عن الحجية ملاكا، بنحو لا ينهض بمعارضة ما في الاستبصار، فضلا عما ذكره الكليني قدّس سرّه:

و يندفع الثاني: بأنه لا إشكال في وثاقه عثمان بن عيسي بعد كونه من رجال كامل الزيارة، و تصريح الشيخ قدّس سرّه في العدة بعمل الأصحاب برواياته، لأنه متحرج

ص: 311

______________________________

في روايته موثوق به في أمانته، مؤيدا بما نقله الكشي عن بعضهم من أنه من أصحاب الإجماع، المشعر بالمفروغية عن وثاقته، و ببعض القرائن الأخر. بل لا يبعد رجوعه عن الوقف و توبته منه، كما نقله النجاشي عن بعضهم، و يناسبه عدهم له من أصحاب الرضا عليه السّلام، فهو بين الموثق و الصحيح.

و أما الثالث فيندفع: بأن أبا بصير مشترك بين ليث بن البختري، و يحيي بن أبي القاسم الضرير الأسدي، و عبد اللّٰه بن محمد الأسدي.

و لا إشكال في وثاقه الأولين.

و أما الأخير فهو- مع تصريح بعضهم بوثاقته- لا يظهر شهرته في الأصحاب و لا شهرة الكنية له بنحو يراد من إطلاقها.

و لا سيما مع كون الراوي عنه في سند هذا الحديث ابن مسكان الذي تكررت منه الرواية عن الأول، فيقرب إرادته منه عند الإطلاق، و ربما ادعي روايته عن الثاني أيضا، و هو غير مهم بعد وثاقته. و لا مجال لإطالة الكلام في ذلك في هذه العجالة.

هذا مضافا إلي أن ظهور قبول الأصحاب للرواية كاف في جبر سندها، خصوصا مثل هذا الوهن، لقرب اطلاعهم علي قرائن تناسب حمل أبي بصير علي الثقة.

و أما الدلالة فحاصل القول فيها: أن الاستدلال بالحديث للقول المذكور موقوف علي حمله علي المكعب، لأن المكعب الذي يكون طول كل ضلع من أضلاعه ثلاثة أشبار و نصفا هو الذي يكون مجموع مساحته ثلاثة و أربعين شبرا إلا ثمن شبر.

و العمدة في توجيه ذلك: أن قوله: «إذا كان الماء ثلاثة أشبار.» ظاهر في بيان أحد بعدي السطح، و ظاهر قوله: «في مثله ثلاثة أشبار.» بيان البعد الآخر للسطح، بجعل: «ثلاثة.» بدلا من: «مثله» و قوله عليه السّلام: «في عمقه.» ظاهر في ضرب بعدي السطح في العمق، و حيث لم يتعرض لتحديد العمق، و هو مما

ص: 312

______________________________

يتوقف عليه الإفادة لزم حمله علي مقدار البعدين المذكورين، و أن حذفه للاختصار و تجنب التكرار.

و منه يظهر أنه لا مجال لحمله علي المدوّر، لأنه موقوف علي بيان بعد واحد للسطح، نظير ما تقدم في صحيح إسماعيل، و المفروض التصريح ببعدية الملزم بحمله علي المربع.

و أما حمل قوله: «في مثله.» علي بيان بعد العمق، ليكون المبين في الصدر بعد واحد للسطح، و يلزم حمله علي المدوّر.

فهو بعيد جدا، لما فيه من التطويل في بيان بعد العمق، و لظهور «في» الثانية في كونها للضرب، كسابقتها، لا لبيان ظرفية العمق للثلاثة أشبار و نصف.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من ظهورها في الاتصال بما تقدمها، فجعلها منقطعة عما سبقها ربما لا ينطبق علي القواعد العربية. فهو غريب جدا.

علي أنه لا يلزم بالحمل علي المدوّر، لإمكان الاكتفاء في بيان بعدي السطح ببيان بعد واحد، اعتمادا علي القرينة الارتكازية المشار إليها في صحيحي إسماعيل بن جابر.

و من ثمَّ كان هذا أحد توجيهات الاستدلال بالحديث للقول المنسوب للمشهور. و إن كان الظاهر عدم الحاجة إليه بعد ما ذكرنا، بل لا ينبغي الحمل عليه بعد كونه خلاف الظاهر.

و مثله جعل الضمير في: «عمقه»، راجعا إلي المقدار و هو ثلاثة أشبار و نصف نظير ضمير: «مثله»، فيكون بيانا لبعد العمق.

أو جعل قوله: «في مثله» تحديدا للبعد الثاني للسطح، و جعل قوله: «ثلاثة أشبار.» الثانية تحديدا للعمق.

للإشكال في الأول: بأن الظاهر من الضمير هو الماء، لأن من شؤونه العمق فتكون الإضافة للاختصاص، لا المقدار، لتكون الإضافة بيانية.

و في الثاني: بأنه لا يناسب تركيب الكلام، لأن بيان البعد الآخر لا بد أن يبدأ

ص: 313

______________________________

بمثل «في» و التزام حذفه مستبشع، كالتزام أن قوله: «ثلاثة أشبار.» جملة اسمية اخري أريد بها بيان البعد المعتبر في العمق. مضافا إلي ما تقدم من ظهور «في» الثانية في كونها للضرب.

مع أن إجمال البعد الثاني بكلمة «مثله» لا يناسب تفصيل البعد الثالث.

و ما في الجواهر من الاستشهاد له بنسخة اطلع عليها مقروءة علي المجلسي الكبير تتضمن زيادة «في» بين «مثله» و «ثلاثة أشبار».

لا مجال للتعويل عليه في قبال النسخ المشهورة. و لا سيما مع أن تصدي المجلسي الكبير لتوجيه دلالة الرواية- كما حكاه عنه ولده في محكي مرآة العقول- شاهد بعدم تعويله علي النسخة المذكورة، بل عدم اطلاعه عليها.

فتأمل.

و بالجملة: لا حاجة- بعد ما ذكرنا- لاتعاب النفس في توجيه دلالة الرواية علي ارادة المكعب بعد كونه هو الظاهر منها بدوا من دون تكلف، كما يشهد به فهم المشهور له بحسب انصرافاتهم الأولية من طبيعة الكلام من دون عناية.

و لا مجال مع ذلك لحملها علي المدوّر الذي لم يلتفت إليه إلا المتأخرون، كما تقدم في صحيحي إسماعيل.

بل الإنصاف أن هذه قرينة قطعية علي ظهور النصوص في المكعب، لأن الأمر يدور بين ذلك و ظهورها في المدوّر مع غفلة المخاطبين عنه، أو التفاتهم إليه و غفلة المتأخرين عنهم من قدماء الأصحاب عنه.

و لا ريب في بطلان الثاني و أن أعلم الناس بالكلام من خوطب به.

كما لا ينبغي الإشكال في بطلان الثالث، إذ يمتنع عادة ذهول الطبقة المتأخرة عن المعني الواضح عند الطبقة السابقة الذين أخذوا الأحكام و الأخبار منهم، خصوصا في مثل هذا الحكم العملي، إذ لا أقل من تنبيههم إلي رده لو خالفوهم في فهمه، فتعين الأول المطلوب.

و منها: خبر الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: إذا كان الماء

ص: 314

______________________________

في الركي كرا لم ينجسه شي ء. قلت: و كم الكر؟ قال: ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها» «1».

و لا طعن في سنده إلا بالحسن بن صالح الذي عده غير واحد في البترية من الزيدية، و زاد الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار «2» و التهذيب «3» أنه متروك الحديث فيما يختص به.

و إن كان قد يهون ذلك في هذا الحديث بملاحظة كون الراوي له أحمد بن محمد بن عيسي عن الحسن بن محبوب عنه، و هما من أعيان الأصحاب، بل عدّ بعضهم الثاني من أصحاب الإجماع.

و لا سيما مع قرب أخذ الشيخ قدّس سرّه له من أصله الذي أشار إليه في الفهرست، حيث رواه عن أحمد بن محمد بن عيسي عن ابن محبوب أيضا، فإنه قد يظهر منه في مقدمة الفهرست الاعتماد علي الأصول التي أشار إليها فيه، حيث قال: «فإذا ذكرت كل واحد من المصنفين و أصحاب الأصول فلا بد أن أشير إلي ما فيه من التعديل و التجريح، و هل يعول علي روايته أو لا، و أبين عن اعتقاده، و هل هو مخالف للحق أو هو مخالف له، لأن كثيرا من مصنفي أصحابنا و أصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة و إن كانت كتبهم معتمدة»، و يؤيده التزامه برواية تلك الأصول و الكتب بطرقه إليها مع ظهور حاله في عدم روايته لما لا يعتمد عليه، كما يظهر مما تقدم منه في محمد بن سنان.

مضافا إلي ظهور حال الأصحاب في الاعتماد علي الحديث المذكور في تحديد الكر.

و ما تقدم من الشيخ قدّس سرّه في حق الرجل إنما هو بلحاظ ما تضمنه الحديث من دخل الكرية في اعتصام البئر، لا في تحديد الكر. علي أنه ذكره في مقام التخلص

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 8. و باب: 10 من الأبواب المذكورة حديث: 5.

(2) الاستبصار، طبع النجف الأشرف، ص: 33 ج: 1.

(3) التهذيب، طبع النجف الأشرف، ص: 408 ج: 1.

ص: 315

______________________________

من الرواية، بعد الفراغ عن عدم العمل بها و قد يتسامحون في ذلك. و إن كان في بلوغ الحديث بذلك حد الحجية إشكال. فلاحظ.

هذا، و أما الدلالة فلا ريب فيها بناء علي ما في المطبوع من الاستبصار من زيادة بعد الطول في صدره، حيث رواه هكذا: «قال: ثلاثة أشبار و نصف طولها في ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها» «1».

لكن لا مجال للتعويل علي ذلك بعد اختلاف نسخ الاستبصار [2] المسقط لها عن الحجية. بل لو فرض اتفاقها في هذه الزيادة كفي في وهنها رواية الكليني و الشيخ قدّس سرّهما للحديث في الكافي «3» و التهذيب «4» بنفس السند خاليا عنها، لتعارض روايتي الشيخ في الكتابين الموجب لتساقطهما و الرجوع إلي ما في الكافي، بل يكفي اختلاف الكليني و الشيخ قدّس سرّهما في عدم التعويل علي الزيادة المذكورة.

فتأمل.

و دعوي: ترجيح نقل الزيادة عند التعارض، لأنها أبعد عن السهو من النقيصة.

ممنوعة، لعدم وضوح بناء العقلاء علي الترجيح بالأبعدية المذكورة. مع عدم وضوح الأبعدية في مثل هذه الزيادة، التي يقرب السهو فيها بلحاظ سنخيتها مع الأصل، المناسب للانتقال إليها بمقتضي تداعي المعاني بل قد يبعد الزيادة المذكورة استبعاد الفصل بين بعدي الطول و العرض ببعد العمق في كلام الامام عليه السّلام، كما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه.

و علي هذا فقد يقرّب حمل الحديث علي المكعب بأن ذكر العرض فيها

______________________________

[2] فقد جعلت هذه الزيادة بين قوسين في الاستبصار المطبوع في النجف الأشرف ج: 1 ص: 33.

و قال المصحح في الهامش: «لم يرد ما بين القوسين في النسخة المخطوطة بيد والد الشيخ محمد بن المشهدي المصححة علي نسخة المصنف».

______________________________

(1) الاستبصار ج: 1 ص: 33 طبع النجف الأشرف.

(3) الكافي، ج: 2 ص: 3.

(4) التهذيب ج: 1 ص: 408 طبع النجف الأشرف.

ص: 316

______________________________

يغني عن ذكر الطول، لأنه إما مساو له أو أكثر، و الزيادة منتفية بالإجماع، كما في الجواهر.

و فيه: أن الطول حقيقة لا بد أن يزيد علي العرض، و استعماله فيها يساويه مبني علي التسامح، و ليس هو بأولي من صرف العرض عما يقابل الطول، و حمله علي السعة، نظير ما في قوله تعالي وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ «1» و قوله تعالي فَذُو دُعٰاءٍ عَرِيضٍ «2» فلا يستلزم فرض الطول.

و دعوي: حمله حينئذ علي المربع بالقرينة العامة المشار إليها في صحيح إسماعيل الثاني المتقدم.

مدفوعة: بأن ورود الحديث في الركي الذي هو البئر التي يغلب فيها التدوير- كما قيل- مانع من الحمل المذكور.

و دعوي: أن السؤال فيها عن تحديد مطلق الكر، لا عن كيفية صيرورة البئر كرا.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 317

مدفوعة بأن مقتضي تأنيث الضمير ورود الجواب لبيان كرية خصوص البئر، لا مطلق الماء، كما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه. و من ثمَّ حمل غير واحد الحديث علي المدوّر. لكن في بلوغ ذلك حدا يوجب ظهوره فيه إشكال، لعدم وضوح غلبة التدوير في البئر في عصر صدور الحديث، بنحو تصلح للقرينية.

و لا سيما مع مخالفة الحديث لما هو المعروف و ظاهر النصوص من عدم دخل الكرية في اعتصام البئر، حيث قد يتجه ما احتمله الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار من حمل الركي علي المصنع الذي ليس له مادة، و الذي لا يغلب فيه التدوير قطعا، فالجزم مع ذلك بظهور الحديث في المدوّر مشكل.

و أشكل منه ما حاوله بعض مشايخنا من تنزيله مع ذلك علي القول بالسبعة و العشرين، بدعوي: أن نتيجة البعدين المذكورين في المدوّر و إن كانت هي ثلاثة

______________________________

(1) آل عمران: 133.

(2) فصلت: 51.

ص: 317

______________________________

و ثلاثين شبرا و خمسة أثمان الشبر و نصف ثمن شبر، إلا أنه لما لم يقل أحد بذلك في تحديد الكر لزم حمله علي السبعة و العشرين، و أن الزيادة للاحتياط، بذكر ما هو كر قطعا، أو لأن البئر بسبب الاستقاء بالدلو فيها يكون وسطها أعمق من أطرافها، فالزيادة في عمق الوسط في مقابل النقص في عمق الأطراف. و مثلها في ذلك رواية أبي بصير المتقدمة لأن الماء في الصحاري لا يتمركز في الأرض المسطحة، بل في الأرض التي يكون وسطها أخفض من أطرافها.

لاندفاعه: بأن عدم القول بذلك ليس محذورا بعد معرفة المستند لجميع الأقوال، و عدم حصول إجماع تعبدي منهم علي نفي غيرها مع قطع النظر عن مفاد النصوص، خصوصا مع حدوث بعضها كالقول بالستة و ثلاثين شبرا. و الاحتياط ليس من وظيفة الإمام عليه السّلام. و زيادة عمق الوسط- مع عدم اطرادها- لا أهمية لها بعد ظهور الحديث في أن المعتبر بلوغ عمق المجموع ثلاثة و نصفا الملزم بملاحظة المعدل مع الاختلاف.

و لو سلم فحمل العمق المذكور في الحديث علي خصوص عمق الوسط مع فرض نقص عمق الأطراف عنه ليقارب السبعة و العشرين، ليس بأولي من حمله علي خصوص عمق الأطراف مع زيادة عمق الوسط عنه، ليقارب قول المشهور.

و بالجملة: يشكل الاستدلال بالحديث علي أحد الأقوال، لقرب إجماله و تردده بين المدوّر و المكعب، مع ضعف سنده.

هذا تمام الكلام فيما يهم من نصوص المقام.

و قد تحصل منه أمران.

الأول: أن العمدة في دليل القول بالسبعة و العشرين صحيح إسماعيل بن جابر الأول، المؤيد بما سبق، و الذي يمكن تنزيل صحيحة الثاني عليه بحمله علي المدوّر، فيقاربه. و العمدة في دليل ما نسب للمشهور حديث أبي بصير بحمله علي المكعب.

الثاني: أن صحيح إسماعيل بن جابر الثاني إن نزل علي المكعب كان دليلا

ص: 318

______________________________

للقول بالستة و الثلاثين شبرا، الذي نسب إلي المعتبر و المدارك.

و إن نزل علي المدوّر كان دليلا لاعتبار ثمانية و عشرين و سبعين و لم يعرف القول به من أحد.

كما أن حديثي أبي بصير و الحسن بن صالح إن نزلا علي المدوّر كانا دليلا للقول باعتبار ثلاثة و ثلاثين شبرا و خمسة أثمان الشبر و نصف ثمنه. و هو الذي قربه شيخنا الأستاذ قدّس سرّه. و إن حكي عنه التوقف عنه في مجلس المذاكرة، لما أشرنا إليه من الإشكال في خبر الحسن دلالة و سندا، مع إغفال الكلام في حديث أبي بصير.

و بقي في المقام قولان آخران.

الأول: ما عن الإسكافي من أنه نحو من مائة شبر، و لا يعرف مستنده، كما صرح به غير واحد.

الثاني: ما عن محكي القطب الراوندي من أنه ما بلغت أبعاده عشرة أشبار و نصفا. و مقتضي إطلاقه الاكتفاء بذلك و لو مع اختلاف الأبعاد، فيشمل ما لو كان طول الماء تسعة أشبار و عرضه شبرا و عمقه نصف شبر بل دونه.

و هو- مع مخالفته للإجماع، بل بعض النصوص الظاهرة في انفعال ما هو أكثر من ذلك، كصحيح ابن جعفر الظاهر في انفعال الحب الذي يسع ألف رطل- خال عن الشاهد، لظهور النصوص في اعتبار بلوغ كل بعد قدرا خاصا. غاية الأمر الاكتفاء بما إذا نقص بعضها عن ذلك الحد للانجبار بباقيها مع حفظ المساحة الحاصلة مع التساوي، لظهور كون الكرية من سنخ الكم، لا الكيف، و أن اعتبارها في الاعتصام من أجل كثرة الماء، كما هو ظاهر بعض النصوص، و هذا لا يقتضي الاكتفاء بنقص بعض الأبعاد مع عدم حفظ المساحة المذكورة، كما لا يخفي.

و لأجل ذلك لا يبعد حمل كلامه علي صورة تساوي الأبعاد، فيطابق فتوي المشهور و دليلهم.

ص: 319

______________________________

إذا عرفت هذا يقع الكلام في أمور تنفع في الاستدلال.

الأول: أنه و إن أشرنا قريبا إلي أنه لا مانع من إحداث قول جديد، لعدم ثبوت الإجماع المركب تعبدا، إلا أنه لا مجال لاحتمال زيادة الكر عما عليه المشهور، كما لا مجال لاحتمال نقصه عن السبعة و العشرين، فان كشف الإجماع عن ذلك قريب جدا، بعد كون الموضوع مما يترتب عليه العمل و يهتم بآثاره جدا، إذ يبعد مع ذلك خفاؤه علي جميع الطائفة و خطئهم فيه في مقام العمل و ترتيب الأثر، و إن أمكن خطأ المفتين لخفاء مدلول النصوص عليهم.

علي أنه يكفي في ذلك العلم الإجمالي بصدور بعض النصوص المتقدمة في مقام بيان المراد الجدي، لعدم الريب في أن الكر مما تصدي الشارع لشرحه بنحو يترتب عليه العمل.

كما أن احتمال ضياع ذلك و مباينته لمفاد النصوص الواصلة إلينا لو كان عقليا فهو غير عقلائي. و ذلك يقتضي عدم الخروج في طرفي القلة و الكثرة عن مفاد هذه النصوص و إن لم يتيسر تشخيص ما هو الحجة من بينها، لاتفاقها في تعيين الطرفين المذكورين. و ليس هذا من باب حجية الدليلين المتعارضين في نفي الثالث، الذي هو خلاف التحقيق. فإنه مختص بما إذا احتمل بوجه عقلائي مباينتهما معا للواقع، لا في مثل المقام مما هو في الحقيقة من موارد اشتباه الحجة باللاحجة.

بل لا يبعد الاكتفاء في مثل ذلك بالوثوق الإجمالي بصدور واحد من المتعارضين بالوجه المذكور، لرجوعه إلي العلم بحجية أحدهما إجمالا.

فلاحظ.

و عليه لو فرض تعذر الجمع بين النصوص، فان كان المرجع عموم انفعال الماء كان المتعين قول المشهور في الماء الذي لا ينفعل، و إن كان المرجع عموم الاعتصام أو الأصل المقتضي له- كما تقدم غير مرة- كان المتعين قول القميين في تعيين الماء الذي لا ينفعل و إن لم يثبت كونه كرا، نظير ما تقدم

ص: 320

______________________________

في أول الكلام في وزن الكر.

الثاني: أن نصوص المساحة المعتبرة بناء علي ما تقدم متعارضة في أنفسها، لظهور صحيح إسماعيل بن جابر في التحديد بسبعة و عشرين، و ظهور صحيحه الثاني في التحديد بما يقرب من ستة و ثلاثين، و ظهور صحيح أبي بصير في التحديد بما يقرب من ثلاثة و أربعين، مع وضوح امتناع تحديد الشي ء الواحد بأكثر من حد واحد، فلا بد من الجمع بينها.

و ربما يجمع بينها برفع اليد عن ظهور المشتمل علي الأكثر في التحديد، و حمله علي بيان تحقق الكر في الشكل المفروض فيها و إن كان أكثر منه.

و قد يؤيد بتضمنها التحديد بالشكل ذي الأبعاد الخاصة، الذي لا إشكال في عدم دخله في الكرية، لتقومها- كما تقدم- بالكم بأي شكل فرض.

لكن يندفع التأييد: بأنه إنما يقتضي حملها علي تطبيق الكر علي الشكل، لا تحديده به، و هو يقتضي مساواته له، لا زيادته عليه، فلا يبقي وجه لحمله علي زيادته عليه إلا رفع التعارض بين النصوص.

كما أن أصل الجمع و إن أمكن بين صحيحي إسماعيل، لاختلاف سنخ الأبعاد فيهما لأخذ الذراع في الثاني دون الأول، خصوصا مع قلة الفرق بينهما بناء علي تنزيل ثانيهما علي المدوّر جمعا بينهما، كما أشرنا إليه آنفا، إلا أنه يصعب في صحيح أبي بصير، لاتحاد سنخ أبعاده مع أبعاد صحيح إسماعيل الأول، و لا كلفة في إسقاط الانصاف فيه عن الأشبار، فإن من تيسر له تشخيص الثلاثة أشبار و نصفا في المكعب يتيسر له تشخيص الثلاثة وحدها، فلو لم يكن النصف دخيلا في المقصود فقد يكون ذكره لغوا مستهجنا.

بل ربما احتمل سقوط النصف من صحيح إسماعيل لأجل ذلك، كما تقدم و تقدم ضعفه.

و منه يظهر أنه لا مجال للجمع بينهما بحمل صحيح أبي بصير علي بيان علامة الكر، لا تحديده لينافي صحيح إسماعيل، فإن الانتقال إلي بيان العلامة مع

ص: 321

______________________________

تيسر التحديد بإسقاط الانصاف مما يأباه العرف.

و من ثمَّ كان الجمع بين صحيح إسماعيل الأول و صحيح أبي بصير صعبا جدا. لكنه لا يوجب التوقف عن العمل بصحيح إسماعيل الذي هو كالنص في الاكتفاء بسبعة و عشرين، إذ لا ريب في أن ظهوره أقوي من ظهور صحيح أبي بصير في عدم كفاية المقدار المذكور.

فلا بد من رفع اليد عنه في قباله، و حمله علي ما لا ينافيه، و إن كان بعيدا في نفسه، و لو بحمله علي ما تقدم، أو علي المدوّر بجعل البعد الثاني راجعا إلي العمق.

و إن كان الأقرب من ذلك حمله علي الاستحباب بصرف التحديد عن الكرية التي لا تقبل الشدة و الضعف و اختلاف الفضل إلي الاعتصام القابل لهما، بنحو يمكن فرض الاستحباب في بعض مراتبه، لأن الاعتصام هو المقصود من الكرية.

بل لعل الأقرب من ذلك حمله علي الاحتياط، لا بمعني الاحتياط في الشبهة الحكمية، لعدم كونه وظيفة الإمام عليه السّلام، بل الاحتياط في تحقيق البعد الذي يحصل به الكر، فان النصوص لم تتضمن بيان حد الكر مفهوما، و لذا لم تتعرض إلي نتيجة الأبعاد، بل للشكل الواجد لمقداره، لأنه الأيسر علي العامة في مقام العمل و التطبيق، و حيث كان تطبيق ذلك في الخارج وظيفة عامة المكلفين الذين يكثر منهم التسامح و عدم التدقيق في ضبط الأشبار كان إضافة الانصاف للأبعاد مقتضي الاحتياط في تحصيل الأشبار المعتبرة فيها، لضمان حصولها و عدم إخلال التسامح المتوقع منهم بها.

و هذا و إن كان قد يخالف الاحتياط في بعض الموارد، إلا أنها غير مهمة بالإضافة إلي موارد الاحتياط في الزيادة.

و لعله إلي ذلك يرجع ما ذكره في الوسائل و نسبه لجماعة من علمائنا من أن الأقل كاف و اعتبار الأكثر علي وجه الاستحباب أو الاحتياط.

ص: 322

______________________________

بل يمكن جعل الوجهين معا من وجوه الاستحباب الذي اشتهر حمل الزائد عليه في سائر الموارد، غايته أن الاستحباب في الأول واقعي، و في الثاني ظاهري لإحراز الواقع.

و لعل ما ذكرنا هو الوجه عدم اهتمام الشيخ قدّس سرّه بالجمع بين نصوص المساحة، بل اهتم بالجمع بينها و بين نصوص الوزن، كما اهتم بالجمع بين نصوص الوزن نفسها، لعدم مجي ء الوجه الأخير فيها.

و بالجملة: قوة ظهور صحيح إسماعيل في الاكتفاء بالسبعة و العشرين ملزمة بالعمل به و تنزيل غيره عليه بحمله علي بعض ما تقدم، و إن كان هو خلاف الظاهر منه في نفسه. فلاحظ.

الثالث: لا ريب في اختلاف الأشبار و استحالة كون كلها حدا للكر، لما أشرنا إليه من استحالة كون الأمور المختلفة حدا للشي ء الواحد.

و لا مجال لحمل التحديد بالشبر علي شبر خاص لا يقبل الزيادة و النقيصة، لعدم القرينة علي تعيينه، ليخرج بها عن الإطلاق.

كما لا مجال لحمل التحديد به علي كونه إضافيا، بنحو يكون الحد لكل شخص شبر نفسه، لأن الكر من الأمور الحقيقية ذات الأحكام الخاصة التي لا تختلف باختلاف الأشخاص، و ليس الشبر إلا من سنخ العرف له.

فلا بد من حمل إطلاق التحديد بالشبر علي المتوسط عرفا من الافراد المتعارفة، لانصراف التحديد عن الشاذ الخارج عن المعتاد، كانصرافه عن مثل شبر الطفل و إن كان متعارفا له.

كما أن مقام التحديد بما تختلف أفراده يناسب الحمل علي المتوسط منه، لأنه الذي ينسب إليه المقدار عرفا.

نعم، لا إشكال في عدم إرادة المتوسط دقة، لأنه و إن كان مناسبا لمقام التحديد، إلا أن تعذر الاطلاع عليه و تشخيصه، خصوصا لعامة الناس، مانع من حمل الخطاب عليه، فيتعين الاكتفاء بالمتوسط العرفي، الذي تختلف أفراده

ص: 323

______________________________

اختلافا يتسامح فيه العرف، فيرجع إلي الاكتفاء بأقلها و كون الزائد خارجا عن الحد و إن دخل في إطلاقه، لعدم تيسر تشخيصه بنحو يصحح التسامح في البيان بالنحو المذكور، لاشتماله علي الحد المعتبر.

هذا، و لا يبعد كون الشبر البالغ أربعة و عشرين سنتيمترا من المتوسط المذكور.

الرابع: الأظهر أن التحديد بالمساحة بناء علي السبعة و العشرين لا يطابق التحديد بالوزن، بناء علي ما تقدم في تحديد المثقال، فان الماء المقطر الذي يسع سبعة و عشرين شبرا بالشبر البالغ أربعة و عشرين سنتيمترا- الذي تقدم شمول دليل التحديد له- يزن ثلاثمائة و ثلاثة و سبعين كيلو و ربعا تقريبا، و قد تقدم أن الوزن المعتبر أربعمائة و أربعة و ستين كيلو و مائة غرام، و الماء المتعارف و إن كان أثقل من الماء المقطر، إلا أنه يشكل بلوغه الفرق المذكور.

نعم، لو فرض اختصاص التحديد بالشبر البالغ خمسة و عشرين سنتيمترا كان الوزن مقاربا للمساحة، لأن وزن الماء المقطر الذي يبلغ المساحة المذكورة أربعمائة و اثنين و عشرين كيلو تقريبا، و حيث كان الماء المتعارف أثقل من ذلك فلا يبعد وصوله إلي الوزن المذكور.

لكن الظاهر خروجه عن المتوسط أو كونه أكبر أفراده، الذي عرفت عدم اعتباره.

هذا، و لا مجال لجعل هذا شاهدا للقول المنسوب للمشهور في المساحة، لأن الماء المقطر الذي مساحته ذلك يبلغ وزنه خمسمائة و ثلاثة و تسعين كيلو تقريبا، و الماء المعتاد أكثر من ذلك.

نعم، لو فرض شمول التحديد للشبر البالغ اثنين و عشرين سنتيمترا كانت المساحة عندهم مقاربة للوزن، لأن وزن الماء المقطر ذي المساحة المذكورة يزيد قليلا علي أربعمائة و واحدا و أربعين كيلو، و هو أقل من الوزن المتقدم بقليل، لعله يكون هو الفرق بين الماء المقطر و المتعارف.

ص: 324

______________________________

لكن الظاهر أن الشبر المذكور دون المتوسط، فلا يكفي في المقام.

و كيف كان، فلا مجال لطرح دليل السبعة و العشرين لذلك، بل يتعين الجمع بين الوزن و المساحة بجعل كل منهما حدا بنفسه، و لا مانع من اختلاف الحدين إذا كانا من سنخين، إذ لا يراد بهما الحد المنطقي. خصوصا بناء علي ما ربما يظهر من بعض كلماتهم من خروج الشارع الأقدس في الكر عن المقدار العرفي، بجعل تقدير آخر له بلحاظ ترتب الحكم الخاص، إذ لا مانع من إناطة الحكم بأحد أمرين متباينين مفهوما، نظير الكفارة المخيرة، لتقومه بالاعتبار الذي لا حرج فيه.

و كذا بناء علي أن الكر بحسب الأصل كيل، و أن تحديده بالوزن لأجل ضبطه، فإن المناسب لذلك ملاحظة ما قد يطرأ علي الماء من المواد المختلطة به أو البرودة الموجبة لثقله، فيقدر بأثقل وزن يكون للماء الذي يبلغ الكيل المذكور، و إن كان قد يتسامح في بعض الأفراد اكتفاء بالوزن عن المساحة.

نعم، لو تمت زيادة الوزن في جميع المياه مهما كانت ثقيلة علي المساحة المذكورة تعين جعله علامة لا حدا، للغوية التحديد بالأكثر في ظرف التحديد بالأقل. أو حمله علي بعض ما حملت عليه نصوص المساحة المتضمنة للتحديد بالأكثر، و لا مجال لطرح الأدلة.

و الحاصل: أن التحديد بالوزن معرض لاختلاف كمية الماء من حيثية الاختلاط بالمواد الغريبة و شدة البرودة. كما أن التحديد بالمساحة معرض لاختلاف كميته من جهة اختلاف الأشبار، و حيث كان هذان الطريقان هما المتيسران في عصر صدور الروايات للتحديد و الضبط، فلا بد من غض الشارع الأقدس النظر عن هذه الجهات، كما لا بد لنا من العمل بظواهر الأدلة بعد الجمع بينها بما يرتفع به التنافي. فلاحظ و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و منه نستمد العون و التسديد و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 325

مسألة 18: لا فرق في اعتصام الكر بين تساوي سطوحه و اختلافها

مسألة 18: لا فرق في اعتصام الكر (1)

______________________________

(1) أطلق كثير من الأصحاب (رضوان اللّٰه تعالي عليهم) عاصمية الكرية للماء- تبعا للنصوص- من دون تعرض لهذه الجهات.

و لعل أول من تعرض لها العلامة قدّس سرّه و تبعه من تأخر عنه، و قد أطالوا في ذلك و اضطربت كلماتهم، بل ربما أوهمت ما ليس بمراد و هي ترجع إلي الكلام في ضابط الوحدة في الماء التي لا إشكال في اعتبارها في عاصمية الكرية له.

و ينبغي التعرض أولا لما لم يتعرض له في المتن، ثمَّ نتابعه فيما تعرض له، فنقول:

اعلم أنه مع تساوي سطوح الماء و عدم تدافعه فالظاهر أنه يكفي في وحدته المعتبرة في اعتصامه بالكريه الاتصال بين أجزائه بوجه عرفي كالأنبوب و الساقية الضعيفة، و لا يعتبر تقارب أضلاع سطوحه. و قد يستفاد ما ذكرنا مما عن التذكرة، حيث قال: «لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا إن اعتدل الماء.» إذ المرتكز أن ذكر الساقية لأجل الاتصال، لا لأجل كميته، ليدعي انصراف الساقية إلي الساقية العريضة، و إلا كان المناسب منه التنبيه إلي اعتبار الكمية بوجه أوضح.

و أوضح منه ما في جامع المقاصد، حيث قال: «و اشتراط الكرية في المادة إنما هو مع عدم استواء السطوح. أما مع استواء السطوح فيكفي بلوغ المجموع كرا كالغديرين إذا وصل بينهما بساقية»، لظهوره في كفاية الاتصال بين الماء بمقدار الاتصال المعتبر في عاصمية المادة، الذي يكفي فيه مثل الانبوب لدخوله في المتيقن من أدلتها، كنصوص الحمام و غيرها.

و كيف كان، فيقتضيه إطلاق نصوص الكر، لوحدة الماء حقيقة و عرفا بذلك.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من الإشكال في ذلك. و فيما لو كان الماء في أنبوب ضيق طويل يبلغ الكر، لمخالفته للارتكاز العرفي.

ص: 326

______________________________

فغير ظاهر، إذ لو كان راجعا إلي التشكيك في عموم نصوص الكر للإشكال في وحدة الماء.

ففيه: أنه لا يعتبر في الوحدة إلا اتصال أجزاء الماء، لا تشابه أضلاع سطحه، كما يظهر بملاحظة النظائر. و تعدد الماء عرفا إما أن يكون مبنيا علي التسامح في تنزيل الوصل المذكور منزلة العدم، نظير تسامحهم في إطلاق الكر علي ما ينقص عنه قليلا، لا علي نحو الحقيقة بما للتعدد عندهم من المعني، أو علي أخذ حد كل قسم مقوما له، نظير ما لو اتصل العذب بالمالح من دون اختلاط و قسم المجموع إلي القسمين، و لا ريب في عدم قادحية مثل هذا التعدد.

علي أنه لا يظن منه قدّس سرّه إنكار الاتحاد العرفي في ماء الانبوب الطويل.

و إن كان راجعا إلي دعوي انصراف عموم الكر عن مثل هذه الوحدة بسبب الارتكاز العرفي المدعي.

ففيه: أن المرتكز عرفا أن اعتصام الكر بلحاظ كثرته الموجبة لتقوّي بعضه ببعض و لا دخل لهيئته في ذلك، بل يكفي الاتصال الموجب لاتحاد حكم أجزاء الماء، فإذا فرض قصور الملاقاة عن تنجيس تمام الكر لم تؤثر فيها شيئا. بل الالتزام حينئذ بنجاسة الماء بتمامه صعب جدا، لاستلزامه تنجيس الملاقاة لتمام الكر، و قصر النجاسة علي خصوص موضع الملاقاة أصعب بعد فرض اتصال المائين.

و أضعف منه الاستدلال بظهور نصوص الكر في اجتماع الماء، كما هو مقتضي بيان أبعاد الكر الظاهرة في تقاربها أو تساويها.

لاندفاعه: بأن ذكر الشكل لمحض بيان مقدار الكر، لا لدخله في الاعتصام، كما تقدم في مناقشة قول الراوندي. علي أن بعض نصوص اعتصام الكر لم تتعرض لشكله، بل ظاهرها كون المعيار علي مقادره، كما أشار إليه في الجواهر.

إن قلت: هذا ينافي ما تقدم في حكم ذي المادة من أن المتيقن من

ص: 327

______________________________

دليل عاصمية المادة بلوغها كرا و عدم وضوح كفاية كرية المجموع من المادة و ذيها.

قلت: فرق بين المقامين، إذ المفروض هناك كون أحد المائين مادة للآخر و عاصما له، و المفروض هنا اتحاد المائين، بحيث يكون المجموع معتصما، بلا ترجيح لأحدهما في العاصمية، و لا بد في صدق المادة من جريان أحد المائين علي الآخر و إمداده له، و لا يكفي فيه مجرد الاتصال بينهما، المفروض في المقام، و إلا كان كل منهما مادة للآخر، لعدم المرجح، و مع فرض التدافع لا يكون انفعال ذي المادة مع عدم بلوغها كرا مستلزما لانفعالها، ليلزم من عدم الاعتصام انفعال الكر بالملاقاة، كما هو اللازم في المقام.

و بعبارة أخري: ليس الوجه في اعتبار كرية المادة و عدم الاكتفاء بكرية المجموع، إلا أنه المتيقن من دليل عاصميتها، و هو مختص بالمادة المتدافعة، لقصور دليل الكرية حينئذ- كما سيأتي- أما مع اتصال المائين من دون تدافع فيكفي عموم دليل الكرية، و لا يهم قصور دليل المادة لو فرض صدقها حينئذ.

و لعل ذلك هو الوجه فيما تقدم من جامع المقاصد من التفصيل في اعتبار كرية المادة بين تساوي السطوح و عدمه، و إلا فدليل المادة خال عن التفصيل المذكور.

هذا، و قد استدل سيدي الوالد (دامت بركاته) علي كفاية الاتصال الضعيف بعموم التعليل في المادة في صحيحي ابن بزيع «1» الواردين في البئر، لوضوح أن مادة البئر متفرقة في بطن الأرض و اتصالها إنما يكون بمسارب ضعيفة، و مقتضي عموم التعليل و ارتكازيته كفاية الكثرة مع التفرق بالنحو المذكور، بل مع كون الاتصال بمثل الماء المتفشي في الرمل، لما تقدم من عموم البئر لما كانت مادتها بالرشح. بضميمة ما تقدم في مبحث اعتبار اعتصام المادة من أن ما لا يعتصم في

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 328

بين تساوي سطوحه و اختلافها (1)،

______________________________

نفسه لا يعصم غيره.

و ما ذكره لا يخلو عن وجه. و لا أقل من منافاة ذلك للارتكاز المدعي تقييد النصوص به.

نعم، لو كان الاتصال ضعيفا و قليلا لا يعتد به عرفا، كمقدار الإبرة كان الانصراف عنه في نصوص الكر قريبا. و إن كان المتيقن من ذلك ما لو كان من سنخ الرطوبات التي لا يصدق معها الماء، و لا تكفي في سراية الانفعال و اتحاد حكم المائين. فلاحظ.

(1) لا يخفي أن اختلاف سطوح الماء.

تارة: يكون مع تدافع بعضه علي بعض.

و اخري: يكون مع جريانه بتمامه من دون أن يتميز بعضه عن بعض، كالنهر الجاري علي وجه الأرض.

و ثالثة: يكون مع ركوده، كما لو وضع الماء في مخزن متدرج.

و الصورتان الأوليان و إن أمكن تصورهما مع تساوي سطوح الماء، فيجري حكمهما أيضا، إلا أن غلبتهما مع اختلاف السطوح هو الذي أوجب ذكرهما هنا تنبيها علي أن كلامهم في اختلاف السطوح ناظر إليهما، أو إلي الثانية منهما. هذا و يأتي الكلام في الأوليين.

و أما الثالثة فالظاهر اعتصام الماء بعضه ببعض فيها. بل لا يبعد عدم الخلاف في ذلك، و أن ما ذكروه من الكلام في اعتبار السطوح مختص بالصورتين الأوليين، بل بالثانية منهما، كما سيأتي.

و كيف كان، فيقتضيه عموم نصوص اعتصام الكر. و التشكيك فيه في غير محله، كما يظهر مما تقدم في صورة ضعف الاتصال، بل الاتحاد هنا أظهر منه هناك، و التقوي و الاعتصام أقرب إلي الارتكاز.

ص: 329

و لا بين وقوف الماء و ركوده و جريانه (1).

______________________________

(1) فعن الشهيد قدّس سرّه أن الكرية تعصم الجاري لا عن مادة، و يستفاد أيضا مما صرح به غير واحد- و في الجواهر أنه لا إشكال فيه- من أنه إذا تغير بعض الجاري و كان التغير قاطعا لعمود الماء لم ينجس الطرف الذي لا يتصل بالمادة إذا كان كرا.

و أما ما ذكروه من الكلام في اعتبار تساوي السطوح فلا يبعد اختصاصه بصورة التدافع، كما يشهد له تمثيل بعضهم له بالغديرين الذين بينهما ساقية، بل في الجواهر: «ما اعتبر من تساوي السطوح في الراكد بالنسبة إلي عدم نجاسته بالملاقاة لا يعتبر هنا بالنسبة للجاري فلا ينجس بالملاقاة و إن اختلفت سطوحه علي ما هو الظاهر من كلام الأصحاب».

اللهم إلا أن يختص بالجاري عن مادة، الذي لا يكون الدليل علي اعتصامه نصوص الكر، بل نصوص الجاري، التي لا مجال لحملها علي خصوص صورة تقارب السطوح أو تساويها.

و من هنا فقد يدعي عموم ما ذكروه من الكلام في تساوي السطوح لمحا الكلام الذي هو الجاري لا عن مادة.

و كيف كان، فيقتضيه عموم نصوص الكر، و عدم دخل الركود ارتكازا في الاعتصام، و لذا يعتصم الجاري عن مادة، و التفكيك بين عاصمية الكرية و المادة بعيد. فتأمل.

بل لا ينبغي الإشكال فيما ذكرنا بعد ملاحظة أنه لولاه يلزم تنجس موضع الملاقاة من الأنهار العظيمة التي لا مادة لها بملاقاة النجاسة، بل تنجس تمام الماء لو فرض كون الجريان بالنحو الذي لا يمنع من سريان النجاسة، و قد تقدم الضابط له في المسألة الثامنة.

ص: 330

نعم، إذا كان الماء متدافعا لا تكفي كرية المجموع في اعتصامه (1)،

______________________________

(1) أما عدم كفايته في اعتصام المتدافع منه فهو الظاهر مما تقدم عن التذكرة من عدم اتحاد المائين في حق العالي، و عن الذكري: «و لو كان الملاقاة بعد الاتصال و لو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير» فإنه ظاهر في عدم تقوي العالي بالسافل الكثير فضلا عن القليل. و مثله ما عن الدروس: «لو اتصل الواقف بالجاري اتحاد مع مساواة سطحيهما أو كون الجاري أعلي، لا العكس. و يكفي في العلو فوران الجاري من تحت الواقف» و في جامع المقاصد في شرح ما ذكره العلامة من اعتصام القليل باتصاله بالجاري قال: «يشترط في هذا الحكم علو الجاري، أو مساواة السطوح، أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل، لانتفاء تقويته بدون ذلك».

و أما عدم كفايته في اعتصام المتدافع إليه فهو مقتضي ما تقدم من جامع المقاصد من اعتبار كرية المادة مع اختلاف السطوح. بل هو المتيقن من كل من اعتبر كرية المادة في اعتصام ذيها، علي ما سبق الكلام فيه عند الكلام في مقدار المادة العاصمة.

خلافا لظاهر ما تقدم عن التذكرة من اتحاد المائين في حق السافل، و كذا كل من اكتفي في عاصمية المادة بكرية المجموع.

بل ربما قيل بالاتحاد في حق العالي أيضا، كما نسبه سيدنا المصنف قدّس سرّه إلي صريح جماعة من المتأخرين، و في الجواهر: «و يظهر من الشهيد الثاني و بعض من تأخر عنه عدم اشتراط شي ء من استواء السطوح، فيتقوي السافل بالعالي و العالي بالسافل. و يؤيده إطلاق النص و الفتوي».

و كيف كان، فالعمدة في عدم التقوي من الجانبين تعدد الماء عرفا، فان الاتصال بين المائين بتدافع أحدهما علي الآخر لا يصحح دخولهما معا تحت أدلة

ص: 331

و لا كرية المتدافع إليه في اعتصام المتدافع منه (1).

______________________________

الكر عرفا و تطبيقها عليهما بتطبيق واحد، بل هما بنظر العرف ماءان أحدهما يمد الآخر، و لذا كان المرتكز عرفا تباين مفاد أدلة الكر مع أدلة المادة، و أن المادة عاصم آخر في قبال الكرية أو متمم لها.

و ليس هذا مبنيا علي التسامح في التطبيق و الغفلة عن الجهة الموجبة لاتحاد المائين، كي لا يعتد به مع الوحدة الحقيقية، كما تقدم في الاتصال الضعيف، بل هو مبني علي ملاحظة المناسبات الارتكازية في فهم العرف معيارا آخر في الوحدة غير الاتصال يخل به التدافع، فيتعين تنزيل أدلة الكر عليه، و مقتضاها انفعال المائين معا، لعدم بلوغ كل منهما الكر.

و أما التفصيل في الوحدة بين السافل و العالي- كما تقدم من التذكرة- فلا نتعقله، لأن الوحدة أمر إضافي لا يقوم بأحد طرفيه دون الآخر.

نعم، يمكن التفصيل بينهما في الحكم بلحاظ أدلة أخري غير أدلة الكر المبنية علي الوحدة.

إلا أن يدعي ثبوت الوحدة في الطرفين الموجب لشمول أدلته لهما لفظا مع دعوي خروج العالي للانصراف. لكن الوحدة ممنوعة، كما عرفت. و علي تقديرها فلا منشأ يعتد به للانصراف المذكور.

و أما أدلة المادة فهي لا تقتضي اعتصام المتدافع منه بالمتدافع إليه إذا كان كرا، فضلا عما إذا كان قليلا. لورودها في حال ذي المادة بعد الفراغ عن طهارة المادة نفسها.

فلا مخرج فيه عن عموم انفعال القليل و أما بالإضافة إلي المتدافع إليه فهي تقتضي اعتصامه بالمتدافع منه في الجملة، و المتيقن منه صورة كريته، علي ما تقدم عند الكلام في مقدار المادة. فراجع.

(1) لما عرفت من قصور نصوص المادة عن المتدافع منه، و مقتضي

ص: 332

نعم، تكفي كرية المتدافع منه في اعتصام المتدافع إليه (1).

مسألة 19 لا فرق بين ماء الحمام و غيره في الأحكام

مسألة 19: لا فرق بين ماء الحمام و غيره في الأحكام، فما في الحياض الصغيرة إذا كان متصلا بالمادة، و كانت وحدها كرا اعتصم (2)، و إن لم يكن متصلا بالمادة، أو لم تكن وحدها كرا لم يعتصم (3) و إن كان المجموع كرا.

______________________________

نصوص الكر انفعاله، لقلته.

(1) لما عرفت من عموم نصوص المادة الذي كان المتيقن منه كريتها.

(2) عملا بعموم المادة المستفاد من التعليل في صحيحي ابن بزيع «1» الواردين في البئر. و لأنه المتيقن من نصوص الحمام «2».

(3) فقد ادعي في الجواهر الإجماع و استظهر في كشف اللثام الاتفاق علي عدم اعتصام ماء الحمام مع عدم اتصاله بالمادة.

و العمدة فيه: قصور إطلاق نصوص الحمام عن شمول ما لا مادة له، بناء علي ما تقدم عند الكلام في مقدار المادة من عدم خصوصية الحمام في الحكم الذي تضمنته، بل ذكره لأجل كون الافراد الوجودة منه مشتملة علي ما يقتضي الاعتصام، حيث يلزم حينئذ الاقتصار علي المتيقن في الحمامات السابقة، و هو خصوص ذي المادة.

مضافا إلي خبر بكر بن حبيب المتقدم هناك، كما تقدم الكلام في وجه اعتبار كرية المادة، بنحو يظهر منه عدم خصوصية ماء الحمام.

و عليه لا وجه لما قد يظهر من بعضهم من عدم اعتبار الكرية في مادته

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

(2) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق.

ص: 333

مسألة 20 الماء الموجود في الأنابيب المتعارفة في زماننا بمنزلة المادة

مسألة 20: الماء الموجود في الأنابيب المتعارفة في زماننا بمنزلة المادة (1)، فإذا كان الماء الموضوع في إجانة و نحوها من الظروف نجسا و جري عليه ماء الأنبوب طهر (2)، بل يكون ذلك الماء أيضا معتصما (3) ما دام ماء الانبوب جاريا عليه، و يجري عليه حكم ماء الكر في التطهير به، فلا يحتاج إلي التعدد و لا إلي العصر (4).

و هكذا الحال في كل ماء نجس، فإنه إذا اتصل بالمادة طهر (5)،

______________________________

حتي لو قيل باعتبارها في غيره من أقسام المادة، لتوهم ظهور أدلته في خصوصيته. فراجع.

(1) بل هي من أفراد المادة حقيقة، فتدخل في عموم دليلها، بل هي من سنخ مادة الحمام، و إن لم تسانخ مادة البئر.

(2) بناء علي ما يأتي في كل ماء متنجس من الاكتفاء في تطهيره بالاتصال بالمادة.

(3) لعموم ما دل علي عاصمية المادة، و قد تقدم.

(4) بناء علي عموم عدم الاحتياج إليهما في التطهير بالماء المعتصم، علي ما أشرنا إليه في المسألة الرابعة عشرة، و يأتي في المسألة العاشرة من فصل المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

(5) كلام الأصحاب (رضي اللّٰه عنهم) في كيفية تطهير الماء المتنجس في غاية الاضطراب و الاختلاف، لاختلافهم في ذلك عموما و خصوصا.

بل عن بعض المتأخرين عدم تطهير الماء المتنجس إلا باستهلاكه و اضمحلاله في الماء الطاهر المعتصم، مستدلا بما تضمن من النصوص أن الماء

ص: 334

______________________________

يطهر و لا يطهر «1».

و هذا القول و إن كان مقتضي استصحاب النجاسة أيضا، إلا أن الظاهر مخالفته لما تسالم عليه الأصحاب و ادعي عليه الإجماع، و تقتضيه بعض النصوص الآتية من طهارة الماء المتنجس باتصاله بالماء المعتصم في الجملة، حيث لا مجال معه للأصل، و يلزم لأجله رفع اليد عن النصوص المشار إليها، لهجرها المسقط لها عن الحجية، و لذا لم أعثر عاجلا علي من تكلم فيها و اهتم بالجواب عنها.

و إن كان من القريب حملها علي إرادة التطهير باستيلاء المطهر علي المتنجس و إزالته لنجاسته و قذرة الذي هو المراد من تطهير الماء للمتنجسات المتكثفة، و الذي لا مجال له في تطهير الماء و لا غيره من السوائل، لعدم استيلاء المطهر عليها و إن امتزج بها، و إنما ذهبوا إلي طهارة الماء باتصاله بالماء المعتصم من باب السراية و غلبة حكم الطاهر علي حكمه لا لإزالة شي ء لقذرها و نجاسته ارتكازا، كما أشرنا إلي نظيره في المسألة الثانية عشرة.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في بطلان القول المذكور، و لزوم رفع اليد عما يوهمه، و يلزم النظر في بقية أقوال المسألة.

فاعلم أنّهم بعد الفراغ عن طهارة الماء المتنجس باتصاله بالمعتصم في الجملة اختلفوا.

تارة: من حيثية اعتبار الامتزاج و عدمه، فقد صرح باعتباره في محكي التذكرة و الذكري، و أنكره في جامع المقاصد و كشف اللثام و الروضة، و هو مقتضي ما في اللمعة من الاكتفاء بالملاقاة، و ما عن المنتهي و التحرير من الاكتفاء بالاتصال، بل ما في الخلاف من التعبير بالورود، و ما في المعتبر من التعبير بالإلقاء، لظهورهما

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 335

______________________________

في حصول الطهارة بمجرد ذلك قبل حصول الامتزاج، و إن كان لازما عادة بعده بزمان قصير.

اللهم إلا أن يستفاد اعتبارهما للامتزاج مما في الخلاف من تشبيه الماء المتنجس بالنجس في الطهارة بالوقوع في الكثير، و ما في المعتبر من توجيه طهارة المتنجس باستهلاكه. و لذا نسب شيخنا الأعظم قدّس سرّه القول بذلك إليهما. فتأمل.

و اخري: من حيثية اعتبار الدفعة في إلقاء الكر و عدمه، فقد صرح باعتبارها في الشرائع و القواعد و جامع المقاصد، و هو المحكي عن المنتهي و التذكرة و التحرير و الإرشاد و الدروس و غيرها، بل نسبه في جامع المقاصد إلي تصريح الأصحاب، و في المسالك إلي المشهور، و في الروضة إلي المشهور بين المتأخرين، مع تفسيرهما لها بالدفعة العرفية التي هي عبارة عن الإلقاء في زمان قصير. و أنكره في الروضة و هو المحكي عن الروض و المدارك.

و ظاهر ما عن الذكري أن المعتبر هو اتصال الكر بعضه ببعض حين إلقائه في مقابل ما لو ألقي متفرقا في دفعات قسما بعد قسم. و بذلك فسر الدفعة في كشف اللثام، ثمَّ قال: «و أما الدفعة بالمعني الذي اعتبره جمع من المتأخرين فلا دليل عليها».

و ثالثة: من حيثية اختصاص المطهر بإلقاء الكر أو التعدي منه إلي المادة النابعة أو الجارية، فقد صرح في الخلاف و القواعد بعدم كفاية النبع، و قربه في المعتبر.

و ربما يستفاد من كل من اقتصر علي ذكر الكر. و إن كان لا يبعد وروده في مقابل احتمال كفاية التتميم كرا في القليل أو لعدم تيسر المادة في الراكد. و عن المبسوط التصريح بالاكتفاء بالنبع من تحته و بجريان الكر عليه، و في جامع المقاصد: «يطهر بوصول الجاري و ماء المطر إليه، و كذا القول في المادة المشتملة علي الكر، لأنها لا تختص بالحمام.»، ثمَّ تعرض للنبع فقال: «فلو نبع ذو المادة من

ص: 336

______________________________

تحته مع قوة و فوران فلا شبهة في حصول الطهارة».

نعم، قد يستظهر منه اعتبار قوة النبع، بل صرح في كشف اللثام باعتبار علو النبع علي الماء المتنجس، لدعوي: أنه لا بد من تسلط المطهر. بل قد يستظهر ذلك في الكر من كل من عبر بالإلقاء الظاهر في الاستعلاء، بحيث لا يكفي الاتصال مع تساوي السطوح و لو مع الامتزاج، و إن أنكر بعضهم إرادتهم لذلك.

هذه جملة الأقوال في المقام، و الظاهر خلوها عن الدليل، لضعف الوجوه المذكورة في كلماتهم لها بما لا مجال لاطالة الكلام فيه بعد ظهور وهنه، خصوصا بعد ما نبهنا إليه آنفا من أن طهارة الماء باتصاله بالمعتصم ليس من باب استيلاء المطهر علي المتنجس، ليتخيل اعتبار قاهرية المطهر بعلوه، و استيلائه علي تمام أجزاء المتنجس بامتزاجه، بل من باب السراية و غلبة حكم الطاهر.

فالعمدة في وجه اعتبار كل ما يحتمل اعتباره هو استصحاب النجاسة، الذي يلزم الاقتصار في الخروج عنه علي المتيقن.

نعم، لو ثبت الإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد مع عدم التغير اتجه البناء علي عدم اعتبار أمر زائد علي الاتصال بالمعتصم.

لكنه لم يثبت بنحو معتد به مع الخلاف الذي أشرنا إليه في اعتبار الأمور المتقدمة، و غاية ما يمكن تحصيله هو الإجماع علي اتحاد حكم المائين في الجملة الذي يلزم معه الاقتصار علي المتيقن أيضا.

هذا، و قد يستدل علي عموم الاكتفاء بالاتصال بالمعتصم ببعض نصوص ماء الحمام، كخبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت له: أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب و الصبي و اليهودي و النصراني و المجوسي.

ص: 337

______________________________

فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» «1»، و موثق حنان: «سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إني أدخل الحمام في السحر و فيه الجنب و غير ذلك فأقوم فاغتسل فينتضح علي بعد ما أفرغ من مائهم. قال: أ ليس هو جار؟ قلت:

بلي. قال: لا بأس» «2» و خبر بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة» «3».

لظهور الأول في مطهرية بعض ماء الحمام- و هو المادة- لبعض بعد نجاسته من دون أخذ الامتزاج فيه.

كما أن الثاني لا بد أن يحمل علي كون الانتضاح من الماء الذي يغتسلون منه، كماء الحياض، لأنه الذي يتصور فيه الجريان، لا الذي يغتسلون به و يصيب أبدانهم، لعدم تعقل فرض الجريان فيه. كما أن نسبة الجريان له ليس لجريانه بنفسه، لعدم كون ماء الحمام من سنخ الجاري، بل لجريان المادة عليه. فيدل حينئذ علي طهارة الماء بجريان المادة عليه مطلقا و إن كان نجسا قبل الجريان. كما أن مقتضي إطلاقه عدم اعتبار الامتزاج.

و هو مقتضي إطلاق الثالث أيضا.

و حيث تقدم غير مرة إلغاء خصوصية الحمام أمكن الاستدلال بهذه النصوص في المقام.

لكن لا ظهور للأول في طهارة ماء الحمام بعد نجاسته و إن كان هو المدلول المطابقي له، بل في اعتصام بعضه ببعض، كما هو المناسب للسؤال، و للتشبيه بماء النهر، علي ما تقدم في تحقيق مقدار المادة.

مضافا إلي عدم وضوح إطلاقه بنحو ينفي اعتبار الامتزاج، فان الجمود عليه يقتضي عدم اعتبار الاتصال أيضا، و ليس اعتباره مستفادا من قرينة

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 338

______________________________

منفصلة، ليقتصر فيها علي المتيقن، بل هو من الوضوح بحد يمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق، و يكشف عن ابتنائه علي المفروغية عن اعتباره، لمعهوديته في الحمام، فينقلب مجملا، لاحتمال كون الامتزاج مفروغا عنه و معهودا كالاتصال.

فتأمل.

علي أن ضعف سند الخبر مانع من الاستدلال به.

كما أن الثاني- بعد تسليم أن حمله علي ما تقدم لتوجيه مفاده يبلغ مرتبة الظهور الحجة. و أن السؤال فيه من حيثية الانفعال، لفرض نجاسة أبدانهم، لا من حيثية كون الماء مستعملا في رفع الحدث الأكبر- يشكل إطلاقه من حيثية سبق نجاسة الماء، ليدل علي مطهرية المادة له، لظهوره في فرض استمرار الجريان، فيدل علي عاصميته للماء من أن ينفعل باغتسالهم منه لا غير، لا في اعتبار جريانه حين الانتضاح منه فقط، ليشمل ما لو حدث له الجريان بعد انفعاله باستعمالهم.

و لا أقل من كون ذلك هو المتيقن المانع من انعقاد الظهور في الإطلاق.

فلم يبق الا الثالث الذي هو لا يخلو عن ضعف في السند لجهالة بكر بن حبيب.

و لا مجال لدعوي انجباره بوقوع صفوان بن يحيي في طريقه، الذي هو من أصحاب الإجماع، كما يظهر مما تقدم في أول الكلام في وزن الكر.

و مثلها دعوي انجباره بعمل الأصحاب، لانحصار الدليل علي اعتبار المادة في الحمام به.

لما تقدم من ورود نصوص الحمام للإشارة إلي المياه المعهودة فيه التي لا يبعد اختصاصها بما له مادة، و لا إطلاق لها يشمل ما لا مادة له، ليحتاج في الخروج عنه إلي دليل، و يستكشف من بناء الأصحاب عليه اعتمادهم علي الخبر المذكور.

نعم، لا يبعد اتفاقهم علي أن اتصال ماء الحمام بالمادة و لو مع

ص: 339

______________________________

عدم الامتزاج، كما يعصمه عن النجاسة يطهره منها، إما لاعتمادهم علي خبر بكر بن حبيب المذكور، أو لاستفادته من مطلقات نصوص الحمام و إن حملت علي ما هو المعهود، لمعهوديتهم الابتلاء بالماء المتنجس قبل اتصاله بالمادة في الحمامات، و إنما الكلام في اختصاص ذلك بماء الحمام أو عمومه لغيره من المياه، و حيث عرفت عدم خصوصيته تعين الاكتفاء بذلك في كل ماء نجس.

لكنه لو تمَّ لا ينفع في المادة النابعة، و لا في غير جريان المادة من أقسام الاتصال بالمعتصم.

فلعل الأولي الاستدلال علي عموم كفاية الاتصال بالمعتصم بالتعليل في صحيحي ابن بزيع الواردين في البئر، كما نبه لذلك غير واحد، لظهورهما في رجوع التعليل للحكم بسعة ماء البئر، الذي يراد به ما يعم الدفع و الرفع، فيدل علي أن المادة كما تعصم ماء البئر عن النجاسة تطهره منها، و حيث يكفي في صدق المادة الاتصال من دون حاجة إلي الاستعلاء أو الامتزاج كان اللازم البناء علي عدم اعتبارهما، بل لا يعتبر فعلية المد، و يكفي كون المادة بنحو لو أخذ من الماء لأمدّته، لشيوع ذلك في البئر.

و بعموم التعليل يتعدي إلي جميع ما له مادة، و إن لم يكن بئرا.

كما أن مقتضي ظهور كون التعليل ارتكازيا التعدي لجميع أقسام الماء المعتصم، لعدم خصوصية المادة ارتكازا في ذلك.

و قد تقدم نظيره في الاستدلال علي مطهرية ماء المطر للماء المتنجس، كما تقدم تفصيل الكلام في مفاد التعليل عند الكلام في عاصمية المادة.

إن قلت: لما كان التعليل واردا لبيان مطهرية النزح، فهو لا يدل علي عدم اعتبار الامتزاج، لوضوح أن النزح بالدلو ملازم لتحريك الماء الباقي في البئر و امتزاجه مع الماء الخارج من المادة، بل ارتفاع التغير بالنزح إنما يكون بسبب امتزاج الماء المادة بالماء الباقي و حمله لوصفه فيخف الوصف تدريجا

ص: 340

______________________________

حتي ينعدم.

قلت: خصوصية المورد ملغية بسبب كون التعليل ارتكازيا، إذ لا دخل للامتزاج في التطهير ارتكازا، بل المعيار علي الاتصال بالمادة، و إلا فالامتزاج كثيرا ما يستلزم انقطاع الخارج منها عن المنبع بالماء المتنجس، فينفعل به لو لم يطهر قبل الامتزاج، و لا يناسب تطهيره له ارتكازا، فلو لم يكن نفس الاتصال بالمادة مطهرا و توقف علي الامتزاج كان ذلك حكما تعبديا لا ارتكازيا، فلا مجال لحمل التعليل عليه.

علي أن التعليل و إن كان مسوقا لمطهرية النزح، إلا أنه بلحاظ ما يترتب عليه من ارتفاع التغير، فما هو الشرط في الطهارة ليس إلا ارتفاع التغير، لمانعيته ارتكازا منها، و لذا لا ريب ظاهرا في أنه لو ارتفع التغير عن الماء بنفسه، أو بتكاثر ماء المادة عليه، أو بوضع بعض المواد الغريبة، من دون نزح، كانت المادة مطهرة له، فمع إلغاء خصوصية النزح لا معني للمحافظة علي لازمه، و هو الامتزاج.

مضافا إلي أن الامتزاج الذي هو محل الكلام ليس هو الامتزاج الرافع للتغير، إذ لا بد منه إجماعا، بل الامتزاج بعد ارتفاع التغير و قبول الماء للتطهير، و مقتضي التعليل طهارة البئر بمجرد ارتفاع التغير لأجل اتصاله بالمادة، بلا حاجة إلي خروج الماء منها و امتزاجه بالماء بعده.

و كأن ما تقدم من الإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد مع عدم التغير مبني علي ملاحظة الارتكاز المذكور، المستفاد إمضاؤه من التعليل و بعض نصوص الحمام.

و عليه يبتني الإجماع علي طهارة الماء بتقاطر المطر عليه و غير ذلك مما يظهر منهم المفروغية عنه.

بل التأمل في حال التفصيلات المتقدمة يوهنها جدا، إذ بعد أن لم

ص: 341

______________________________

تكن ارتكازية فلو كانت معتبرة لكان المناسب تنبيه النصوص عليها أو مفروغية الأصحاب عنها، لكثرة الابتلاء بالمسألة و أهميتها في مقام العمل جدا.

و قد عرفت إغفال النصوص لها، و اضطراب كلمات الأصحاب فيها، فلم يصرح بالمزج قبل العلامة، و إن كان قد يستفاد من مطاوي كلمات من تقدمه.

علي أنه لم يتضح المراد به، إذ هل يعتبر امتزاج تمام الطاهر و لو ببعض النجس، أو العكس، أو تمام كل منهما بالآخر؟

كما أنه لم يصرح بالدفعة قبل المحقق. و لعل مراد كثير ممن صرح بها ما يقابل الدفعات، كما تقدم من كشف اللثام.

و كذا الاستعلاء لم يصرح باعتباره إلا بعض المتأخرين، ككشف اللثام.

و عدم الاكتفاء بالمادة النابعة أو الجارية من بعضهم لعله لعدم وضوح عموم عاصميتها عندهم، لاختصاص الدليل عليها بنصوص الحمام، التي قد يظهر من بعضهم لزوم الاقتصار علي موردها، و التعليل الذي لم يعمل كثير منهم به في مورده، و هو البئر.

فإن التأمل في ذلك و غيره موهن للتفصيلات المذكورة و موجب لاستيضاح العموم الارتكازي المذكور.

و كأنها مبنية علي تخيل كون تطهير الماء كتطهير الأجسام المتكثفة مبنيا علي استيلاء المطهّر عليه و إزالته لأثره، و هو موهون جدا، لتعذره في الماء و نحوه من السوائل، و لذا لا يطهر الماء المضاف بغير الاستهلاك. فلاحظ.

نعم، لا بد في الاتصال المطهر من أن يكون بالنحو العاصم، فلا يكفي صب المتنجس علي الكر أو تدافعه بفوارة و نحوها، لعدم كون الطاهر مادة له و لا صالحا لعاصميته، فيقصر عنه التعليل، كما لعله ظاهر.

ص: 342

و يكون معتصما بها ما دام متصلا بها، إذا كانت وحدها كرا (1).

______________________________

(1) لا ينبغي التأمل في اعتبار كرية المادة في مطهريتها للماء المتنجس، و إن أمكن التأمل في اعتباره في عاصميتها، للفرق بينهما في مقتضي الأصل.

مضافا إلي ما تقدم عند الكلام في مقدار المادة العاصمة. فراجع. و تأمل جيدا.

و الحمد للّٰه رب العالمين، و هو حسبنا و نعم الوكيل (19 ربيع الأول 1395 ه).

ص: 343

ص: 344

الفصل الثالث: في الماء المستعمل

الفصل الثالث الماء القليل (1) المستعمل في رفع الحدث الأصغر (2) طاهر (3) و مطهر من الحدث (4)

______________________________

(1) و أما الكثير فهو أولي بجواز الاستعمال في موارد جواز استعمال القليل، و في مورد عدم جوازه يأتي الكلام فيه.

(2) و مثله ماء الوضوء التجديدي.

(3) إجماعا محصلا، و منقولا نصا و ظاهرا، و سنة عموما و خصوصا. كذا في الجواهر. و دعوي الإجماع عليه مستفيضة في كلامهم، و لم ينقل الخلاف فيه إلا عن بعض العامة.

و يقتضيه- مضافا إلي الأصل، و النصوص الآتية المتضمنة لجواز الوضوء به- خبر العيص بن القاسم المروي في الخلاف: «سألته عن رجل أصابته قطرة من طست فيه وضوء؟ فقال: إن كان الوضوء من بول أو قذر فليغسل ما أصابه، و إن كان وضوؤه للصلاة فلا يضره» «1».

و أما عموم طهارة الماء فقد تقدم في الفصل الأول المنع من ثبوته بلحاظ الطوارئ و الأحوال.

(4) هذا في الإجماع كسابقه. و يقتضيه- مضافا إلي عموم طهورية الماء الطاهر، الذي تقدم تنقيحه في الفصل الأول- غير واحد من النصوص، كخبر عبد اللّٰه

______________________________

(1) كتاب الطهارة من الخلاف المسألة: 135 ذكر صدره في الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 14.

ص: 345

و الخبث (1)، و المستعمل في رفع الحدث الأكبر طاهر (2)

______________________________

بن سنان الآتي، و خبر زرارة عن أحدهما عليهما السّلام: «قال: كان النبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم إذا توضأ أخذ ما يسقط من وضوئه، فيتوضؤون به» «1».

هذا، و قد قال المفيد في المقنعة بعد أن ذكر ذلك: «و الأفضل تحرّي المياه الطاهرة التي لم تستعمل في أداء فريضة و لا سنة، علي ما شرحناه»، و عن الذكري بعد أن نقل ذلك: «و لا فرق بين الرجل و المرأة، و النهي عن فضل وضوئها لم يثبت».

و لم يظهر وجه ما ذكراه، فلا مجال للبناء عليه إلا من باب التسامح في أدلة السنن، بناء علي ما هو الظاهر من عمومه لفتوي الفقيه.

و أما ما أشار إليه الشهيد من النهي عن فضل وضوء المرأة فلعل مراد القائل به الكراهة الظاهرية فيما إذا لم تكن مأمونة، حيث يشير إليه حينئذ صحيح ابن أبي يعفور: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: أ يتوضأ الرجل من فضل المرأة؟ قال: إذا كانت تعرف الوضوء. و لا تتوض من سؤر الحائض» «2»، و يأتي في الأسآر المكروهة تمام الكلام في ذلك.

(1) هذا في الإجماع و العموم كسابقه.

(2) إجماعا، كما في المعتبر و القواعد، و عن كشف الرموز و نهاية الأحكام و المختلف و الإيضاح و الذكري و الروض و غيرها، و في الجواهر: «إجماعا بقسميه، و سنة عموما و خصوصا». و كأن مراده من العموم عموم طهارة الماء، الذي عرفت المناقشة فيه.

و أما الخصوص، فلعل مراده به ما تضمن عدم البأس في القطرات التي تقع من ماء الغسل في الإناء- بناء علي صدق ماء الغسل عليها قبل إتمامه، علي ما يأتي الكلام

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسئار حديث: 3.

ص: 346

______________________________

فيه إن شاء اللّٰه تعالي- و موثق عمار الساباطي: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يغتسل من الجنابة و ثوبه قريب منه، فيصيب الثوب من الماء الذي يغتسل منه؟ قال:

نعم، لا بأس به» «1». بناء علي أن السؤال عن الماء الذي اغتسل به، لا الماء الذي يغتسل منه، إذ لا منشأ لتوهم نجاسته.

اللهم إلا أن يكون واردا لدفع توهم نجاسة فضل الغسل، حيث قد يظهر من بعض النصوص توهم نجاسته أو عدم جواز استعماله.

و كيف كان، فيكفي فيه الإجماع المدعي ممّن عرفت، الذي لا مجال لاحتمال خطئه في مثل هذه المسألة التي يكثر الابتلاء بها. مضافا إلي الأصل.

و منه يظهر ضعف ما قد يستظهر من ابن حمزة في كلامه الآتي من القول بالنجاسة. و من ثمَّ قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و هو غريب».

نعم، قد يستدلّ له بصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و سئل عن الماء تبول فيه الدواب، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب؟ قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «2»، و نحوه صحيحه الآخر «3»، بدعوي ظهورهما في نجاسته بمقتضي تقرير السائل.

و يندفع: بأن ظاهر السؤال بيان حال الماء و تعرضه للنجاسة، لا بيان خصوص النجاسات التي يتعرض لها، إذ لا فائدة في تكثير النجاسات، و لذا لا مجال لتوهم ظهوره في نجاسة بول الدواب.

فهو نظير صحيح صفوان الجمال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الحياض التي ما بين مكة إلي المدينة تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب و تشرب منها الحمير و يغتسل فيها الجنب، و يتوضأ منها؟ قال: و كم قدر الماء؟ قال: إلي نصف

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 347

و مطهر من الخبث (1). و الأحوط استحبابا عدم استعماله في رفع الحدث (2)،

______________________________

الساق و إلي الركبة. فقال: توضأ منه» «1».

علي أن ذكر اغتسال الجنب قد يكون بلحاظ غلبة تعرض جسده لنجاسة المني و نحوه، فإنه لم يرد للسؤال عن نجاسة ماء الغسل ليتمسك بإطلاقه الشامل لصورة طهارة بدن الجنب، بل غاية ما يقتضيه مفروغية السائل عن وجود المقتضي للتنجيس مع الاغتسال في الجملة بالنحو المصحح للسؤال عن انفعال الماء و تقبله للنجاسة، كما لعله يظهر بالتأمل.

فلا مجال للخروج به عما عرفت من الإجماع و الأصل.

(1) كما صرح به جماعة، و ظاهر آخرين فيما حكي عنهم، و ظاهر بعضهم أنه لا نزاع فيه، و عن المنتهي و الإيضاح و ظاهر التذكرة دعوي الإجماع عليه.

و العمدة فيه عموم مطهرية الماء المشار إليه آنفا.

لكن قال ابن حمزة في الوسيلة: «و أما الماء المستعمل فثلاثة أضرب:

مستعمل في الطهارة الصغري، و مستعمل في الطهارة الكبري. و مستعمل في إزالة النجاسة. فالأول يجوز استعماله ثانيا في رفع الحدث و في إزالة النجاسة، و الثاني و الثالث لا يجوز ذلك فيهما إلا بعد أن يبلغ كرا فصاعدا بالماء الطاهر». و ظاهره عدم إزالته للخبث، و ربما حكي عن غيره.

و وجهه غير ظاهر، إلا بناء علي نجاسته التي عرفت المنع منها.

(2) فقد منع منه في المقنعة و التهذيب و الخلاف و الفقيه و الوسيلة، كما حكي ذلك عن المبسوط و الصدوق الأول و ابن البراج و اليوسفي و الوحيد في حاشية المدارك، بل نسبه الشيخ في الخلاف إلي أكثر أصحابنا، و عن الوحيد في حاشية المدارك أنه المشهور بين قدماء الأصحاب، بل مطلقا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

ص: 348

______________________________

و ذهب العلامة إلي الجواز، و وافقه في جامع المقاصد و كشف اللثام، و هو المحكي عن المرتضي و سلار و بني زهرة و إدريس و سعيد و الشهيدين و غيرهم، و عن المدارك و الدلائل نسبته إلي أكثر المتأخرين، و عن الروض نسبته للمشهور، و تردد المحقق في الشرائع و ظاهر المعتبر.

و قد استدل له ببعض النصوص:

الأول: خبر عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل، فقال: الماء الذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضأ منه و أشباهه، و أما الذي يتوضأ الرجل به فيغتسل به وجهه و يده في شي ء نظيف فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضأ به» «1».

و الكلام فيه. تارة: من جهة السند.

و اخري: من جهة الدلالة.

أما السند فقد رواه الشيخ عن المفيد، عن ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّٰه، عن الحسن بن علي، عن أحمد بن هلال العبرتائي، عن الحسن بن محبوب، عن ابن سنان.

و قد استشكل فيه غير واحد بضعف أحمد بن هلال جدا، فقد ذكر الشيخ في الفهرست أنه كان غاليا متهما في دينه، و في التهذيب في باب الوصية لأهل الضلال: أنه مشهور باللعنة و الغلو و ما يختص بروايته لا نعمل عليه، و عدّه في كتاب الغيبة من السفراء المذمومين الذين ظهر التوقيع بلعنهم و البراءة منهم، و روي الكشي توقيعا مهولا في ذلك، و أشار إلي نظيره النجاشي، و عن سعد بن عبد اللّٰه: «ما سمعنا و لا رأينا بمتشيع رجع من تشيعه إلي النصب إلا أحمد بن هلال»، و قال الصدوق في إكمال الدين بعد نقل ذلك عنه: «و كانوا يقولون إن ما انفرد بروايته أحمد بن هلال فلا يجوز استعماله» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 13.

(2) إكمال الدين ص: 74 طبع النجف الأشرف.

ص: 349

______________________________

لكن الإنصاف أن هذا كله لا يصلح للتوقف في حديث الرجل بعد ظهور عدم كون الطعون في حديثه، بل في دينه بسبب توقفه في وكالة محمد بن عثمان- كما ذكره الشيخ قدّس سرّه في كتاب الغيبة- و كان ذلك في أواخر عمرة، مع كونه في أول الأمر من السفراء، و من الذين أكثر الأصحاب في السماع منهم و وثقوا بهم، حتي أكثروا المراجعة في أمره لما ورد التوقيع بلعنه، كما ذكره الكشي.

و يناسبه ما في الفهرست من أنه روي أكثر أصول أصحابنا، لظهوره في اشتهار حديثه بين الأصحاب، و لذا كان ظاهر النجاشي توثيقه و أن ذمه لا ينافي ذلك، حيث قال فيه: «صالح الرواية يعرف منها و ينكر. و قد روي فيه ذموم من سيدنا أبي محمد العسكري عليه السّلام»، و ليس المراد بإنكار حديثه عدم وثاقته، بل اشتمال حديثه علي المناكير التي يصعب علي العقول تحملها.

مضافا إلي كونه من رجال كامل الزيارة، و قد روي عنه جماعة من الأجلاء كعبد اللّٰه بن جعفر الحميري، و الحسن بن علي بن عبد اللّٰه بن المغيرة، و محمد ابن عيسي العبيدي، و محمد بن علي بن محبوب، و سعد بن عبد اللّٰه الذي هو من جملة الطاعنين عليه.

و ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في التهذيب من عدم قبول ما ينفرد بروايته، لا يبعد ابتناؤه علي التسامح في توجيه الطعن علي الرواية التي يراد العمل بغيرها مما هو أصح و أظهر [1]. كيف و قد عمل هو و غيره من أجلاء الأصحاب في المقام بروايته؟! كما أن ما حكاه الصدوق قدّس سرّه عنهم من عدم استعمال ما ينفرد بروايته لا يبعد اختصاصه بما يرويه بعد انقلابه، الذي حكاه عن سعد بن عبد اللّٰه، كما يناسبه تفريعه عليه.

______________________________

[1] كما قد يشهد به وهن الطعن المذكور جدا، لأن الرواية التي طعنها بذلك لم يروها أحمد بن هلال، و انما تضمنت مكاتبته للإمام الهادي عليه السّلام و جوابه عليه السّلام له، و الراوي لها شخص آخر. فراجع.

منه عفي عنه.

ص: 350

______________________________

و لا إشكال في ذلك، كما لا إشكال في عدم حضور أجلاء الأصحاب للرواية عنه بعد ذلك و بعد اشتهار لعنه و البراءة منه و التشنيع منهم عليهم السّلام عليه، بنحو لا يناسب معاشرتهم له، فضلا عن روايتهم عنه أو عملهم بالرواية.

و قد أشار إلي ذلك الشيخ في العدة، حيث قال في بيان موقف الأصحاب من الغلاة: «فإن عرف لهم حال استقامة و حال غلو عملوا بما رووه في حال الاستقامة و ترك ما رووه في حال خطئهم [خلطهم خ. ل]، و لأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال استقامته و تركوا ما رواه في حال تخليطه، و كذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي و ابن أبي عذافر».

هذا، و لو فرض روايتهم عنه بعد انقلابه قبل ظهور حاله أو بعده، فهل يمكن من أحد منهم العمل بالرواية، أو تدوينها و الاهتمام بحفظها و إفادتها بعد إظهارهم عليهم السّلام حاله بالوجه المذكور إلا بعد كمال التثبت و شدة الاحتياط في صدور الرواية.

و لعله لذا حكي عن ابن الغضائري علي تشدده أنه لم يتوقف فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة و محمد بن أبي عمير من نوادره، و قد سمع هذين الكتابين جل أصحاب الحديث.

و بالجملة: المستفاد من النجاشي و الشيخ في العدة و ابن قولويه توثيق الرجل، و يؤيده ما تقدم من القرائن، و الطعون المذكورة لا تنافي ذلك، بل غاية ما تقتضيه عدم قبول ما يرويه بعد انقلابه، و من المعلوم من حال الأصحاب في الروايات التي بأيديهم عنه أخذها منه في حال الاستقامة- كما يظهر من الشيخ في العدة- أو التثبت من صحتها بعد ظهور حاله لو فرض تحملهم لها بعد انقلابه و لو لعدم الاطلاع علي حاله بعد.

و منه يظهر حال مثل هذا الخبر الذي رواه الشيخ قدّس سرّه بالسند المتقدم المشتمل علي جماعة من الأعيان، و صرح بالفتوي بمضمونه مثل الشيخين و الصدوق و غيرهم، بل نسبه في الخلاف إلي أكثر أصحابنا، و لم ينقل الخلاف فيه من القدماء إلا

ص: 351

______________________________

من المرتضي الذي له في أخبار الآحاد مذهب مشهور، مع كون جماعة ممن رواه و عمل به ممن صرح بالطعن في الرجل المذكور و شدد في أمره.

حيث لا ينبغي الريب مع ذلك في تثبتهم في الخبر بأحد الوجهين المذكورين لتيسر القرائن لهم، و لو لأخذهم له من كتاب المشيخة و نحوه من الكتب المشهورة، لامتناع فتواهم بمضمونه بدون ذلك مع مخالفته لعموم الطهورية- الذي استدلوا به في نظير المقام- و مقاربته لكثير من العامة القائلين بعموم نجاسة الماء المستعمل أو عدم مطهريته.

و لذا لم تظهر المناقشة في سنده إلا من المتأخرين الذين توجهوا إلي هذه النواحي، فتشبثوا بضعف الرجل و لعنه و أغفلوا بقية الجهات. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم. و هو ولي التوفيق و التسديد.

هذا، و ربما يناقش في السند أيضا بأن الحسن بن علي الذي وقع بين سعد ابن عبد اللّٰه و ابن هلال مردد بين جماعة بعضهم مجهول كالحسن بن علي بن إبراهيم بن محمد الهمداني، لرواية سعد بن عبد اللّٰه عنه صريحا في جملة المسمين بهذا الاسم.

و أما ما في المعتبر و طهارة شيخنا الأعظم و عن التنقيح من أنه ابن فضال الموثق أو الصحيح، فبعيد جدا لا يناسب طبقات الرواة، لأن سعد بن عبد اللّٰه يروي عن ابن فضال بواسطتين، كما أنه لم تعهد رواية ابن فضال عن أحمد بن هلال.

و يندفع: بأن إرادة الهمداني بعيد جدا بعد إهماله في كتب الرجال و قلة رواية سعد بن عبد اللّٰه عنه بنحو لا يناسبه إرادته له عند الإطلاق، و لا سيما مع عدم ثبوت روايته عن ابن هلال، بل قد لا يناسب ذلك رواية جده إبراهيم عنه، بل الأقرب كونه أحد رجلين الحسن بن علي بن المغيرة الثقة، و الحسن بن علي الزيتوني المستفاد توثيقه من كونه من رجال كامل الزيارة مؤيدا برواية غير واحد من الأجلاء عنه، لرواية سعد بن عبد اللّٰه عنهما جميعا، و روايتهما معا عن ابن هلال.

ص: 352

______________________________

و لعل الثاني أقرب بلحاظ تكرر ذلك فيه، بل تكرر رواية سعد بن عبد اللّٰه عن ابن هلال بواسطته، و لا سيما مع كونه أشعريا كسعد بن عبد اللّٰه، المناسب لإرادته له عند إطلاقه.

علي أن عمل الأصحاب كاف في انجبار الحديث لو فرض ضعف سنده من هذه الجهة.

و أما الدلالة فلا إشكال في ظهور الحديث في مانعية غسل الجنابة من استعمال الماء.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا- و سبقه إليه في الجملة الفقيه الهمداني قدّس سرّه- و غيره- من ظهوره في خصوص صورة نجاسة بدن الجنب، كما هو الحال في غسل الثوب، بقرينة قوله عليه السّلام في ذيله: «و أما الذي يتوضأ به الرجل فيغسل به وجهه و يده في شي ء نظيف فلا بأس.»، لظهوره في أن المدار في جواز الاستعمال علي طهارة الماء لا غير.

فهو- مع مخالفته للإطلاق- خروج عن ظاهر العنوان في كلام الإمام عليه السّلام، خصوصا مع إضافة الاغتسال للجنابة لا للجنب.

و ما في الذيل إنما يدل علي اعتبار الطهارة في خصوص ماء الوضوء، لا علي كونها معيارا في مطلق الماء المستعمل.

و حمل غسل الثوب علي خصوص فرض نجاسته ليس لذلك، بل للمفروغية عن عدم مانعية مجرد الغسل، بل لحمله للخبث، الموجبة لانصرافه إلي الغسل المطهر و لو مع عدم الذيل، و لذا يتعدي منه إلي كل تطهير و لو مع عدم صدق الغسل، و إلا فالذيل لا يصلح للتقييد، لما ذكرنا.

و لا وجه لقياسه علي النصوص المفصلة في نجاسة الماء باغتسال الجنب فيه بين الكرية و عدمها، و هي صحاح محمد بن مسلم و صفوان المتقدمة، لأن الاغتسال فيها لم يقع في كلام الإمام عليه السّلام، بل في كلام السائل.

مضافا إلي ما تقدم من عدم الإطلاق فيها، بل عدم ظهورها في أصل

ص: 353

______________________________

تنجيس الاغتسال.

و مثله قياسه علي نصوص كيفية غسل الجنابة، حيث تضمنت غسل الفرج الكاشف عن فرض نجاسته لأجل الغلبة. فإنه- مع خلو بعضها عنه «1»، و قرب ظهور بعضها في فرض النجاسة للأمر فيها بالبول قبله «2»، و ظهور بعضها «3» في الاستحباب، و احتمال كثير منها له [4]- وارد للإرشاد إلي شرطية طهارة البدن في الغسل بسبب كثرة الابتلاء بنجاسته.

و أين هذا مما نحن فيه، حيث يراد جعل الكثرة المذكورة صارفة لظهور الكلام في مانعية الغسل إلي مانعية مقارنة المذكور.

علي أن غلبة نجاسة ماء الغسل المجتمع- الذي هو مورد الحديث- ممنوعة، لأن من يغتسل في محل يجتمع فيه الماء كالطست لا يطهر بدنه فيه، بل في محل آخر لصعوبة الغسل وسط الماء المتنجس، و إنما يطهر الجنب في محل الغسل إذا كان الماء كثيرا لا ينفعل، أو جاريا في الأرض، أو سائخا فيها غير مجتمع عليها، ليسهل تطهيرها بعده و يسهل الغسل عليها.

و مثله ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن التتبع في أخبار الماء الذي يغتسل به الجنب يشهد بأن النظر فيها إلي نجاسة الماء و طهارته، و أن الرخصة في التوضؤ منه أو المنع لبيانهما.

فإنه لو تمَّ أجنبي عن مطلوبه، إذ ليس مدعاه كون المنع من الوضوء بماء الغسل لبيان نجاسته، بل لبيان مانعيته في فرض نجاسته لا مطلقا، فالنجاسة مفروغ عنها لا مقصودة بالبيان، كما هو الحال في الأخبار التي أشار إليها.

هذا، و قد استشكل في الجواهر في الحديث بموافقته للعامة، و باشتمال

______________________________

[4] لعدم الملزم بحملها علي الوجوب لأجل التطهير، و لا سيما مع الأمر في بعضها بغسله بثلاث غرف، فراجع النصوص المذكورة في باب: 26 من أبواب الجنابة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 354

______________________________

صدره علي إطلاق جواز الوضوء بالماء المستعمل.

و يندفع الأول: بأن العامة بين من أطلق طهارة الماء المستعمل مع مطهريته أو بدونها، و من أطلق نجاسته، كما في الخلاف و لم ينقل عنهم التفصيل الذي تضمنه الحديث، مع أن موافقتهم لا تقدح في الحديث مع عدم وجود المعارض له، كما لا يخفي.

و يندفع الثاني: بأن الصدر إما أن يكون حديثا واحدا مع ما بعده بحيث يكونان كلاما واحدا، فيكون إجمالا متعقبا بالتفصيل، أو مجملا لا يرفع به اليد عما بعده التام الظهور، أو يكون حديثا آخر في مجلس آخر، فيكون مطلقا مفسرا أو مقيدا بما بعده، أو يكون من كلام غير الإمام عليه السّلام واردا مورد السؤال، و ما بعده جواب له.

و لعل أبعدها الأول، لعدم مناسبته لتكرار فعل القول. و المناسب للتفريع بالفاء الثالث، إلا أنه خلاف ظاهر الضمير المستتر في فعل القول الأول الثابت في النسخ المعروفة بل هو المناسب للثاني، كما يناسبه ما في المطبوع في النجف الأشرف من الاستبصار و التهذيب من عطف فعل القول الثاني بالواو لا بالفاء، و علي جميعها يتم الاستدلال.

و أما ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن المراد بالصدر بيان حكم الماء المستعمل في نفسه إبطالا لقول العامة، و أن قوله عليه السّلام بعده: «الماء الذي يغسل به الثوب أو.» لبيان أن ثبوت المانعية فيه إنما هو لأمر خارج، و هو ابتلاؤه بالنجاسة.

و قوله عليه السّلام في الذيل: «و أما الذي يتوضأ.» رجوع لما في الصدر، و مبين لما في إطلاقه من إجمال في ضمن مثال.

فهو تكلف يهون دونه طرح الحديث. علي أن نجاسة الماء المستعمل في تطهير الثوب ليس لأمر خارج، بل هو و من شؤون استعماله.

فالإنصاف أنه لا مجال للتأمل في ظهور الحديث الشريف في مانعية الغسل من الجنابة من الوضوء بالماء، كما فهمه الأصحاب منه.

ص: 355

______________________________

الثاني: صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن ماء الحمام؟

فقال: ادخله بإزار، و لا تغتسل من ماء آخر إلا أن يكون فيهم [فيه خ ل] جنب، أو يكثر أهله فلا يدري فيهم جنب أم لا» «1».

فقد يستدل به في المقام بدعوي: أن النهي عن الاغتسال بماء آخر ليس للتحريم و لا للكراهة، لعدم المنشأ لهما، بل للتخفيف عن السائل لدفع توهم الحظر من الاغتسال به، فاستثناء صورة وجود الجنب من ذلك يدل علي حرمة الاغتسال مع اغتسال الجنب الملازم عرفا للمانعية.

و قد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه بمعارضته بصحيحة الآخر: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الحمام يغتسل فيه الجنب و غيره اغتسل من مائه؟ قال: نعم، لا بأس أن يغتسل منه الجنب، لقد اغتسلت فيه ثمَّ جئت فغسلت رجلي و ما غسلتهما إلا مما لزق بهما من التراب» «2».

و يندفع: بأنه لا ظهور لهذا الصحيح في الاغتسال في نفس الماء، ليكون الماء مستعملا في رفع الجنابة، لأن المفروض فيه اغتسال الجنب منه، لا فيه، فالمنظور فيه عدم نجاسته بمساورة الناس له، فليحمل علي الحياض الصغار المتصلة بالمادة التي يتعارف الاغتسال منها، و يتخيل انفعالها لقلتها، نظير المرسل: «سأل عن الرجال يقومون علي الحوض في الحمام، لا أعرف اليهودي من النصراني، و لا الجنب من غير الجنب؟ قال: تغتسل منه، و لا تغتسل من ماء آخر، فإنه طهور» «3».

و هذا بخلاف الصحيح المستدل به، لظهوره في فرض الدخول في الماء الظاهر في اغتسال الجنب فيه، فيكون مما نحن فيه من دون معارض.

و أشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم حمله- كبعض نصوص

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

ص: 356

______________________________

الحمام الأخر- علي الاغتسال بغسالة الحمام [1]، التي يظهر تعارف الاغتسال فيها من كثير من النصوص «2»، و ورد النهي عنها معللا بأن فيها غسالة الجنب، و ولد الزنا، و الناصب، و غيرهم، فيلزم حملها علي الكراهة احتياطا في دفع احتمال النجاسة، دون الحرمة- و إن كان وجود النجاسة مقتضي الظاهر- لغير واحد من النصوص الظاهرة في طهارتها، كصحيح محمد بن مسلم الآخر المتقدم لبعد عدم ملاقاة رجليه عليه السّلام للغسالة، فعدم غسله لهما إلا من التراب ظاهر في طهارتهما و طهارة الغسالة الملاقية لهما تقديما للأصل علي الظاهر المذكور.

و لا مجال لتوهم كون المنع في الصحيح المستدل به من جهة كون الماء مستعملا في غسل الجنابة، لاستهلاك غسالة الجنب في بقية الغسالات فلا تصلح للمانعية.

لاندفاعه. أولا: بأن الأمر بالاغتسال بماء الحمام المستفاد من النهي عن الاغتسال بماء آخر يأبي عن الحمل علي الغسالة جدا مع استقذارها و تنفر الطباع منها، و عدم إطلاق ماء الحمام عليها، لعدم إعدادها للاغتسال منها، و إن كان قد يغتسل بها لبعض الأغراض- كما قد يستفاد من النصوص المشار إليها- و لذا أطلق عليها في تلك النصوص الغسالة تارة، و بئر الغسالة أخري، و لم يطلق عليها ماء الحمام، بل ظاهر خبر ابن أبي يعفور «3»، التباين و التقابل بينهما.

هذا، مضافا إلي ما هو المعلوم- و يستفاد من تلك النصوص- من عدم خلوها عن غسالة الجنب، و عدم تعارف الدخول فيها، بل يؤخذ من مائها و يغتسل به،

______________________________

[1] حمل كلامه علي ذلك هو المناسب لنظم كلامه و يشهد به ما في تقرير درسه «دروس في فقه الشيعة»، و أما ما في تقرير درسه الآخر «التنقيح» من تفسير الماء الآخر بالغسالة فهو لا يناسب نظم المطلب جدا و لا يصلح لدفع الاستدلال، و أبعد عن مدلول الرواية، بل لا ينبغي التأمل في عدم وفاء التقرير المذكور بالمقصود و اضطرابه في بيانه. فراجع و تأمل جيدا. منه عفي عنه.

______________________________

(2) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل.

(3) فروع الكافي ج 1 ص 14. و قد روي صدره و ذيله في الوسائل في باب: 3 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4، و باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 357

______________________________

فكيف يحمل عليها الصحيح المستدل به مع اشتماله علي فرض الدخول في ماء الحمام و خلوه عن الجنب؟! و مما ذكرنا يظهر عدم صحة الاستدلال علي جواز الاغتسال بها بصحيح محمد بن مسلم الآخر، إذ لا مجال لاحتمال اغتسال الإمام عليه السّلام من الغسالة المذكورة، بل عرفت كونه أجنبيا عن مورد الصحيح المستدل به.

و ثانيا: بأن تعليق الحكم في الصحيح علي الجنب ظاهر في كفايته في المانعية و لو مع عدم نجاسة بدنه و عدم وجود غيره من النجاسات، و هو لا ينافي النهي من الجهات الأخر التي تعرضت لها نصوص الغسالة.

و فرض الاستهلاك غير ظاهر مع كثر الجنب في الحمام الموجبة لكثرة غسالتهم.

و أما ما ذكره من أن الصحيح لم يتضمن إلا ذكر الجنب من دون أن يتضمن اغتساله، فيكشف عن كفاية تنظيفه لبدنه عن النجاسة.

فيندفع: بأنه بعد تعذر الحمل علي مانعية وجود الجنب بنفسه و لو مع عدم اغتساله و لا تطهير بدنه لا بد من جعله كناية عن أحد الأمرين، و لا ريب في كون الظاهر هو الاغتسال، لمناسبته للجنابة.

و ثالثا: بأنه لا مجال للاستدلال علي طهارة الغسالة بالصحيح المذكور، لعدم العلم بكيفية جريان الغسالة في الحمام، و لعلها تصل إلي البئر بمجاري خاصة لا يمر عليها من يخرج من الحمام، خصوصا مع حملها غالبا لكثير من الأوساخ الموجب لاستقذارها، و لكونها أولي بغسل الرجلين منها من التراب الذي تضمن الصحيح غسلهما منه، و لو فرض مرورها بأرض الحمام فلعله يمر بعدها غيرها من المياه الطاهرة المطهرة لها، فتكون موردا لتعاقب الحالتين مع الجهل بالتاريخ الذي يكون المرجع فيه أصل الطهارة.

و رابعا: بأنه لو كان الوجه في النهي عن الغسالة التنزيه عن احتمال النجاسة لم يكن وجه لاختصاصه بما إذا كان هناك جنب أو احتمل وجوده، فان غالب من يدخل

ص: 358

______________________________

الحمام يبتلي بالنجاسة، كما لا يخفي.

و بالجملة: ما ذكره مخالف لظاهر الصحيح جدا، غير تام في نفسه، و لا ناهض بالجواب عن الاستدلال المتقدم.

و كيف كان، فلا ريب في ظهور الصحيح في النهي عن الاغتسال بماء الحمام الذي اغتسل فيه الجنب.

نعم، ما تضمنه من فرض دخول ماء الحمام و فرض تعرضه لكثرة الداخلين فيه، موجب لظهوره في فرض كثرة الماء و عدم شموله للماء القليل، و حيث يأتي اختصاص المانعية لو تمت بالماء القليل تعين حمله علي الكراهة، بل لا يبعد عدم ظهوره في نفسه في المانعية، إذ هو لا يدل إلا علي كون اغتسال الجنب بالماء مصححا لتجنبه و الاغتسال من ماء آخر، و يكفي في ذلك الكراهة.

بل من البعيد جدا المانعية في مورد الصحيح و هو خزانة الحمام الكبيرة، و إلا كان المناسب منه عليه السّلام الردع عن الاغتسال فيها و لو مع عدم اغتسال الجنب فيها سابقا، لما يستلزمه من إفساد الماء الكثير من دون ملزم، بل قد يحرم للسرف، أو لعدم رضا صاحب الحمام به في مقابل اجرة الحمام القليلة، فإن ذلك كله مناسب الكراهة جدا، و لا سيما مع عموم الحكم فيه لصورة احتمال وجود الجنب مع وضوح كون مقتضي الأصل فيه العدم.

و دعوي: عدم تعارف الدخول في الخزانة الكبيرة سابقا- لو تمت- لا تنافي ما ذكرناه، لظهور الصحيح في تعارف قلة الداخلين فيها بنحو لا يحتمل أن فيهم جنب، و إلا فلو كان الدخول فيها شائعا- كما كان في عصورنا القريبة- لم يخل عن احتمال الجنب، بل العلم به، إلا أن ترجع إلي القطع بعدم الدخول سابقا فيها.

لكن، لا شاهد حينئذ عليها، بل ربما يستشعر من بعض النصوص خلافه.

فلاحظ.

ص: 359

______________________________

و مثلها دعوي: أن الأمر بالائتزار حفظا للعورة عن النظر المحرم، و هو لا يتم في الخزانة لسترها فيها بالماء.

لاندفاعها: بأن الماء قد لا يسترها لصفائه. مع أنه يظهر من كثير من النصوص كراهة الدخول في الماء بغير مئزر «1»، فليكن الصحيح منها.

و بالجملة: بعد أن كان ظاهر الصحيح إرادة الخزانة الكبيرة خرج عما نحن فيه و لزم حمله علي الكراهة إن أمكن، و إلا كان مجملا و سقط عن الاستدلال. و يأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّٰه تعالي.

هذا، و لو فرض حمله علي ما في الحياض، بتنزيل الدخول فيه علي الدخول في الحمام لا في الماء، اتجه ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه من معارضته بالصحيح الآخر، و ما تقدم منا من كونه أجنبيا عن محل الكلام، فلا بد أن يحمل علي الكراهة أو غيرها. فلاحظ.

الثالث: خبر حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأول عليه السّلام: «سألته أو سأله غيري عن الحمام؟ قال: ادخله بمئزر و غض بصرك، و لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم» «2»، بناء علي ما هو الظاهر من أن التعليل ليس بمجموع هذه الأمور، بل بكل منها- كما يناسبه قوله عليه السّلام: «و هو شرهم» و اختلاف نصوص الغسالة في عدد الأمور المعلل بها- فيتعدي منها إلي كل ما يغتسل به الجنب.

و فيه: - مع ضعف سنده، و اشتماله علي غسالة ولد الزنا الذي لا إشكال في عدم مانعية غسالته، بناء علي ما هو الظاهر من طهارته- أن الغسالة لما كانت مستقذرة، غير معدة لأن يغتسل بها في الحمام بحسب طبعه، فالاغتسال فيها لا بد أن يكون لبعض الدواعي الخاصة المشار إليها في بعض النصوص- كدفع العين- فمن القريب جدا ورود الخبر للردع عن ذلك و بيان مرجوحية

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب آداب الحمام.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 360

______________________________

الاغتسال، لا المانعية. فلاحظ.

الرابع: صحيح ابن مسكان: «حدثني صاحب لي ثقة أنه: سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل ينتهي إلي الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل و ليس معه إناء، و الماء في وهدة، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء، كيف يصنع؟ قال:

ينضح بكف بين يديه، و كفّا من خلفه، و كفّا عن يمينه، و كفّا عن شماله، ثمَّ يغتسل» «1».

فإن الظاهر اعتبار سنده، و لا مجال للإشكال فيه بالإرسال بعد توثيق ابن مسكان للمرسل عنه.

و احتمال كونه مطعونا من غيره بنحو يعارض توثيقه لا يعتد به، لأصالة عدم المعارض، و لأن ابن مسكان أخبر بمعاصره و صاحبه من علماء الرجال به، فلا يصلح جرحهم لمعارضة توثيقه، خصوصا مع قرب الجمع بينهما بحمل توثيقه علي خصوص حال صحبته له و تلقي الحديث عنه، فلا ينافي جرحهم الذي يراد به ثبوت الطعن في الرجل في بعض عمره، كما سبق عند الكلام في أصحاب الإجماع.

مضافا إلي قرب كون المرسل عنه محمد بن ميسر- المردد بين ابن عبد العزيز الثقة، و ابن عبد اللّٰه الذي لم ينص أحد علي جرح فيه ليعارض التوثيق المذكور- لرواية الحديث المذكور في محكي المعتبر و السرائر [2] عن كتاب البزنطي عن عبد الكريم عن محمد بن ميسر.

و لا سيما مع اشتمال ما في السرائر علي صدر له رواه الكليني عن عبد اللّٰه ابن مسكان، عن محمد بن ميسر، و رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن الكليني

______________________________

[2] حكاه في الوسائل عنهما، لكن الموجود في المطبوع من المعتبر: «محمد بن عيسي» و الظاهر أنه تصحيف و لو فرض فهو مردد بين ابن أبي منصور و الطلحي كلاهما لا معارض لتوثيق ابن مسكان فيه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 361

______________________________

بالسند المذكور، و قد تقدم في أدلة القول بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس.

و أما الدلالة، فتقريبها أن ظاهر السؤال المفروغية عن مانعية رجوع ماء الغسل في الماء من الاغتسال منه، و ظاهر الجواب تقرير ذلك بتعليم طريق للتخلص منه، و هو النضح في الجهات الأربع، سواء أريد به النضح علي البدن، أم علي الأرض- كما لعله الأظهر- لأن تندية البدن أو الأرض موجبة لتقبلهما للماء الواقع عليهما و عدم رفضهما له حتي يجري إلي الوهدة.

و ما عن السرائر من أنه إذا تندت الأرض كان نزول الماء أسرع. خلاف الظاهر، و إنما يتم فيما إذا كثر عليها الماء حتي تروت.

و مثله ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن التندية و إن منعت من عود الماء في بعض الفروض، إلا أن هذا لا يصحح إطلاق الجواب لو كان رجوعه إلي الماء موجبا لفساد الغسل، بل كان اللازم علي الإمام عليه السّلام الأمر بوضع حائل من تراب و نحوه إن أمكن، أو يأمره باقتصار غسله علي الادهان و عدم إكثار الماء علي وجه تجري غسالته في الوهدة بمقدار يصير ماؤها مستعملا.

لاندفاعه: بأن مقتضي تحير السائل تعذر وضع الحاجز، و إلا لم يحتج إلي تنبيه من الإمام عليه السّلام، لأنه أمر يلتفت إليه كل أحد بطبعه، و لعله لفرض الماء في وهدة و لزوم القرب منه لعدم الإناء الذي يغترف به.

كما أن مقتضي ارتكاز السائل تحفظه من الإكثار الموجب لجريان الماء، و ليس هو إلا في مقام التخلص من رجوع ما لا بد من رجوعه، و يكفي في ذلك النضح، إذ لا أقل معه من الشك بسبب تندي الأرض قبل الغسل المانع من الجزم برجوع الماء لو استوعبها، و المصحح للرجوع للأصل.

و منه يظهر وهن دعوي أن الحديث وارد للردع عما ارتكز في ذهن السائل من المحذور في رجوع الماء، كما صرح به في كلام غير واحد، و قد يظهر من الاستبصار. إذ لا طريق لإثبات ذلك، بل من البعيد جدا بيان الردع بالوجه المذكور

ص: 362

______________________________

و العدول عن التصريح به مع كونه أخصر و أفيد.

و قد يستشكل فيه أيضا: بأنه لا يختص بالغسل الرافع للحدث، بل يشمل الأغسال المستحبة، فيتعين حمله علي الاستحباب.

و يندفع: بأن عدم مانعية الأغسال المستحبة إنما هو لعدم الدليل عليها، فلو فرض عمومه لها كان اللازم البناء علي مانعيتها، إلا أن يفرض الإجماع علي عدم مانعيتها، فيتعين حمل الحديث علي الغسل المزيل فإنه أولي من حمله علي الاستحباب لو فرض ظهوره في المانعية، لأن الغسل المذكور هو أظهر أفراد الغسل، و هو المناسب لفرض التحير في الحديث، و لا سيما مع كون المذكور في محكي السرائر و المعتبر: «الجنب» بدل: «الرجل»، بل صرح بالجنب في صدر الحديث الذي رواه في الكافي و التهذيب و الاستبصار بنحو يوجب انصراف الرجل في الذيل إليه.

نعم، قد يتجه ما نبّه له الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن الظاهر من السؤال إنما هو المفروغية عن تجنب الرجوع، و لعله لكراهته، و ليس هو واردا مورد التشريع، ليكون ظاهرا في الإلزام و المانعية.

علي أنه قد ورد الأمر بالنضح للوضوء من الماء القليل في صحيح الكاهلي:

«سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إذا أتيت الماء و فيه قلة فانضح عن يمينك و عن يسارك و بين يديك و توضأ» «1»، مع وضوح عدم مانعية رجوع ماء الوضوء، بل لم يفرض الرجوع في الحديث، كما لم يفرض في صحيح ابن جعفر الآتي، فلا بد أن يكون الأمر بالنضح تعبدا أو دفعا لاحتمال نجاسة الأرض أو نحو ذلك مما يجري في المقام أيضا، و يقرب لأجله عدم كون الأمر بالنضح من جهة المانعية حذرا من الرجوع.

و لعله لذا كان ظاهر الوسائل استحباب النضح تعبدا للوضوء و الغسل معا مع خوف رجوع الماء. و ربما احتمل كون استحباب النضح من أحكام قلة الماء و لو مع

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 3.

ص: 363

______________________________

عدم الرجوع، كما يناسبه صحيحا الكاهلي و ابن جعفر.

و قد يستدل بما تضمن إناطة الوضوء من الماء الذي اغتسل فيه الجنب أو استعماله بكونه كرا، كصحاح صفوان و محمد بن مسلم المتقدمة في طهارة ماء الغسل.

لكن، مما تقدم يظهر عدم وروده لبيان مانعية الاغتسال، بل لشرح حال الماء.

كما أنه بقرينة تضمّنه إناطة اعتصامه بالكريه يدل علي النجاسة لا علي المانعية في فرض الطهارة.

كما ربما يستدل بنصوص أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها، لظهور قصور دلالتها.

فالعمدة في المقام خبر ابن سنان.

هذا، و ربما يستدل للجواز. تارة: بأن الطهور ما يتكرر منه الطهارة.

و اخري: بنصوص الحمام المتقدمة إلي بعضها الإشارة، المتضمنة لجواز الاغتسال من مائه مع اغتسال الجنب فيه.

و ثالثة: بما تضمن عدم البأس بانتضاح ماء الغسل في الإناء من النصوص الآتية إن شاء اللّٰه تعالي.

لكن تفسير الطهور بما سبق لا منشأ له إلا توهم أن الصيغة للمبالغة- و قد تقدم منعه- و أن المراد به ما يتطهر به كالسحور و الفطور. مع أن المبالغة إنما هي في طهارته، و المصحح لها كونه مطهرا، لا أنها في المطهرية، ليكون المصحح لها تكرر التطهير به، علي أنه يكفي في ذلك تكرار التطهير به في الجملة و لو مع مانعية بعض أقسام التطهير به من بعضها، و لذا لا ينافي طهوريته امتناع التطهير بما يزال به الخبث.

كما أن النصوص الاولي بين ما هو وارد في فرض اغتسال الجنب من الماء، فلا يدل علي حكم غسالته، بل علي عدم تنجس الماء بملاقاته- كصحيح محمد بن مسلم المتقدم- إما لبيان طهارة بدنه، كما هو مفاد كثير من النصوص، أو لبيان اعتصام الماء و عدم انفعاله بملاقاة النجاسة، كما هو مفاد نصوص أخر. و ما هو ظاهر في

ص: 364

______________________________

اعتصام الماء لكثرته أو اتصاله بالمادة.

نعم، أرسل في عوالي اللئالي عن ابن عباس قال: «اغتسل بعض أزواج النبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم في جفنة فأراد رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم أن يتوضأ منها، فقالت: يا رسول اللّٰه إني كنت جنبة، فقال صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم: الماء لا يجنب» «1»، لظهوره في الاغتسال في نفس الجفنة المستلزم لكون الماء مستعملا في غسل الجنابة، لا فضلة منه.

لكن، ضعف سنده مانع من الاستدلال به. مع أن بعد مضمونه في نفسه مقرب كون المراد به الاغتسال من الجفنة، كما تضمنه ما أسند عن ابن عباس عن ميمونة زوجة النبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم «2».

غايته أن ما في ذيل المرسل من قوله صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم: «الماء لا يجنب»، و ما في ذيل المسند من قوله صلّي اللّٰه عليه و آله: «ليس الماء جنابة»، قد يشعر بعدم حمل الماء حدث الجنابة بنحو يمنع من استعماله مطلقا. و لا يبلغ حد الظهور الحجة.

و أما النصوص الأخيرة فهي لا تنافي مانعية اغتسال الجنب من استعمال الماء، لاستهلاك القطرات في ماء الإناء، بنحو لا يصدق علي مائه أنه ماء مستعمل.

بل التعليل فيها بالحرج ظاهر في مانعيتها لو لا كثرة الابتلاء بها نوعا.

نعم، استدل غير واحد بصحيح علي بن جعفر عن أبي الحسن الأول عليه السّلام:

«سألته عن الرجل يصيب الماء في جارية أو مستنقع، أ يغتسل منه للجنابة [به من الجنابة. ص، فيه للجنابة. يب] أو يتوضأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره؟ و الماء لا يبلغ صاعا للجنابة و لا مدا للوضوء، و هو متفرق فكيف يصنع؟ و هو يتخوف أن يكون السباع قد شربت منه. فقال: إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفا من الماء بيد واحدة، فلينضحه خلفه و كفا أمامه و كفا عن يمينه و كفا عن شماله، فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات، ثمَّ مسح جلده بيده، فإن ذلك يجيزيه، و إن كان الوضوء غسل وجهه و مسح يده علي ذراعيه و رأسه و رجليه، و إن كان الماء متفرقا فقدر أن

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الأسآر حديث: 6.

ص: 365

______________________________

يجمعه و إلا اغتسل من هذا و من هذا. و إن [فان. يب. ص] كان في مكان واحد و هو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل و يرجع الماء فيه، فان ذلك يجزيه» «1».

للتصريح فيه بالإجزاء مع رجوع الماء.

و ظاهر الشيخ في الاستبصار و عن الصدوق حمله علي صورة الاضطرار، و كأنه لاشتماله علي فرض عدم الكفاية.

و استشكل فيه غير واحد: بأن المراد منه عدم الكفاية علي نحو الصب بالوجه المتعارف، و إلا ففرض رجوع الماء ملازم لكثرته بنحو يتحقق به مسمي الغسل.

لكن الصحيح لا يخلو عن اضطراب في المتن، لظهور السؤال في أن منشأ تحيّر السائل عدم بلوغ الماء الصاع أو المد، و تفرقه، و احتمال أن تكون السباع قد شربت منه، و خفاء الحال في هذه الأمور لا يناسب علي بن جعفر، كما لا يناسبه تطويل الجواب مع ما فيه من التكرار الذي يكاد يكون مستهجنا، و من الاكتفاء بالمسح في الغسل و الوضوء، الظاهر في المسح ببلة اليد الحاصلة من غسل الرأس في الغسل و غسل الوجه في الوضوء، لإبله جديدة يصدق معها مسمي الغسل، إذ هو لا يناسب المقابلة بين الغسل و المسح، و لا عطف الرأس و الرجلين علي اليدين في الوضوء.

علي أن تثليث غسل الرأس لا يناسب القلة المفروضة الملزمة بذلك، كما لا يناسبها نضح الأكف الأربعة الذي لا إشكال ظاهرا في عدم وجوبه.

كما أن التنبيه علي عدم قدح رجوع الماء إن كان المراد به الحث علي الصب المتعارف بالاستعانة بالماء الراجع، فهو- مع عدم مناسبته للتعبير بالإجزاء- بعيد في نفسه، إذ من البعيد جدا أن يكون للصب من الأهمية شرعا ما يقتضي المحافظة عليه في مثل هذا الحال، بل هو لا يناسب ما في الصدر من كيفية الاغتسال في فرض القلة.

و إن كان المراد به التنبيه علي عدم قدح رجوع الماء، فليس في السؤال ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 366

______________________________

يقتضي فرض الرجوع أو احتماله ليناسب بيان ذلك، و ليس هو كصحيح ابن مسكان المفروض فيه استلزام الاغتسال رجوع الماء.

علي أن الغسل مع فرض قلة الماء لا يناسب رجوع مقدار معتد به من الغسالة، بل غاية ما يرجع مقدار قليل قد يكون مستهلكا في الماء، كما احتمله بعض المعاصرين قدّس سرّه، فيكون مساوقا لما تضمن عدم قدح ما ينتضح من ماء الغسل في الإناء، و لا أقل من حمله علي ذلك بقرينة تلك النصوص، و تكون شاهد جمع بينه و بين خبر ابن سنان.

علي أن تكرار ذكر القلة في موضوع الحكم بجواز الرجوع موجب لقوة ظهوره في خصوصيتها فيه، ففرض عدم دخلها يزيد الصحيح اضطرابا.

و لعله لما ذكرنا و نحوه، لم يظهر من متقدمي الأصحاب الاهتمام بالصحيح في مقام العمل، فضلا عن معارضته لخبر عبد اللّٰه بن سنان، غايته أنه ذكره الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار شاهدا لاحتمال حمل صحيح ابن مسكان علي الاضطرار، و لا يبعد عدم قوله بذلك، و إنما ذكر لمجرد الجمع بين النصوص الذي هو همه في الكتاب المذكور.

بل في المعتبر لم يشر إلي الفقرة المذكورة من الحديث مع اهتمامه بمناقشة أدلة المانعية، و إنما ذكر صدره في الاستدلال علي ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في كيفية الاغتسال من الغدير أو القليب، و ذكر قصوره عن مطلوبه، ثمَّ قال: «و أما الرواية فمعناها أن يبل جسده للغسل لا غير، و إن كان منافيا للمذهب في مراعاة الترتيب في الاجتزاء بمسح البدن. و الرواية شاذة فلا نتشاغل بتفسيرها».

و مع هذا كله، يشكل صلوح الحديث في نفسه للاستدلال، فضلا عن رفع اليد به عن خبر عبد اللّٰه بن سنان.

ثمَّ إنه لو فرض نهوض الصحيح في نفسه للاستدلال علي جواز استعمال الماء المستعمل، فالظاهر لزوم الاقتصار علي مورده، و هو صورة الاختلاط في ماء الغسل الواحد، و الرجوع في غيرها إلي إطلاق خبر ابن سنان.

ص: 367

______________________________

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من إلغاء خصوصية مورده عرفا غير ظاهر بعد كون الحكم المذكور تعبديا، و لا سيما مع ما عرفت من اضطراب الصحيح و اشتماله علي أحكام شاذة.

و منه يظهر أنه لا مجال للجمع بينهما بحمل الخبر.

تارة: علي نجاسة بدن الجنب، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و اخري: علي الكراهة، كما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه.

و ثالثة: علي اغتسال غير المغتسل بالماء.

مضافا إلي الإشكال في الأول بقوة ظهور الخبر في خصوصية الغسل، لإضافته إلي الجنابة، لا إلي الجنب، و لقلة تلوث بدن الجنب بالنجاسة عند الغسل في مكان يجتمع فيه الماء الذي هو مورد الخبر، كما تقدم.

و في الثاني بأنه قد لا يناسب جعله في الخبر في سياق غسالة الثوب، الذي لا إشكال في مانعيته.

و أما الاستدلال له بخبر محمد بن علي بن جعفر، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام:

«قال- في حديث: من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومن إلا نفسه. فقلت لأبي الحسن عليه السّلام: إن أهل المدينة يقولون: إن فيه شفاء من العين. فقال: كذبوا، يغتسل فيه الجنب من الحرام و الزاني و الناصب الذي هو شرهما و كل من خلق اللّٰه، ثمَّ يكون فيه شفاء من العين!» «1».

فيدفعه ظهور ذيله في فرض كون الماء كثيرا معدا لاغتسال كل أحد فيه، نظير الخزانة الكبيرة في الحمامات في عهودنا القريبة، فلا ينفع فيما نحن فيه.

و أما الثالث، فيندفع بأنه: إن بني علي الاقتصار علي مورد الصحيح لزم ما ذكرنا، و إن بني علي التعدي عنه لزم عمومه لصورة تعدد المغتسل. فالمتعين ما ذكرنا.

و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم، و منه نستمد العون و التسديد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 368

______________________________

بقي في المقام أمران.

الأول: أن المصرح به في خبر ابن سنان مانعية غسل الجنابة من استعمال الماء في الوضوء، و المذكور في كلمات الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) مانعية الاستعمال في رفع الحدث الأكبر من مطهرية الماء من الحدث، و هو مبني علي إلغاء خصوصية الجنابة في المانع، و التعميم لكل حدث أكبر، و علي إلغاء خصوصية الوضوء في الممنوع و تعميمه للغسل.

و قد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي التعميم من الجهة الأولي بقوله عليه السّلام:

«و أشباهه» بدعوي ظهوره في كونه معطوفا علي الضمير المجرور في: «منه».

لكن، يبعدها أن العطف علي الضمير المجرور من دون إعادة الجار لا يخلو عن ضعف.

و مثلها دعوي عطفه علي «الماء» فيكون مرفوعا، للبعد بين العاطف و المعطوف.

مضافا فيهما إلي استبعاد التشبيه للماء المذكور، لاختلاف سنخ المانع فيه، لعدم الجامع بين رافعية الخبث و الجنابة، ليكون وجها للشبه، و إن كان الجامع ارتكازيا بين رفع الخبث و مطلق رفع الحدث.

و أبعد من ذلك تحليله إلي التشبيه في الجهتين، فيراد ما يشبه الماء الذي يغسل به الثوب من كل مزيل للخبث، و ما يشبه الماء الذي يغتسل به من الجنابة من كل مزيل للحدث الأكبر.

فالإنصاف أن الأنسب بتركيب الكلام جعله معطوفا علي المصدر المستفاد من قوله: «أن يتوضأ»، ليراد به التعميم من الجهة الثانية، لو لا ارتكاز أولوية الغسل من الوضوء المانعة من تشبيهه به، و الملزمة بالحمل علي الأول.

مضافا إلي فهم عدم الخصوصية لغسل الجنابة، بسبب ظهور الكلام في استيفاء أقسام الماء المستعمل، بقرينة التفصيل بين الوضوء و غيره، و حيث لا جهة ارتكازية تقتضي إلحاق بقية الأغسال الرافعة للحدث بالوضوء تعين

ص: 369

______________________________

إلحاقها بغسل الجنابة.

و أما التعميم من الجهة الثانية، فهو ظاهر بناء علي تمامية الاستدلال بصحيحي محمد بن مسلم و ابن مسكان، و أما بناء علي عدمها- كما تقدم- فلا وجه له إلا ارتكاز أولوية الطهارة الكبري في ذلك من الطهارة الصغري، بلحاظ أقوائية أثرها، كما يناسبه تعليل إجزاء الغسل عن الوضوء بقوله عليه السّلام: «و أي وضوء أطهر من الغسل؟!» «1» و نحوه.

و لعله لذا و نحوه كان ظاهر الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) المفروغية عن العموم المذكور من الجهتين، بنحو يكشف عن القرائن الارتكازية أو الخاصة، الموجبة لفهم عدم الخصوصية.

نعم، عبر في الفقيه بلسان خبر ابن سنان. و لعله للاهتمام بالفتوي بلسان الخبر، لا للجمود علي مورده. فلاحظ.

هذا، و مقتضي إطلاق خبر ابن سنان عموم المانعية للوضوء المشروع و إن لم يكن رافعا للحدث، و لا مبيحا للصلاة، حتي مثل وضوء الحائض، و مقتضي التعدي منه للغسل ذلك فيه أيضا.

و ما في الجواهر من استظهار عدم المانعية منها، بل نسبته لظاهر الأصحاب، و ان كلامهم مختص برفع الحدث. لا مجال له، و لا سيما مع اعترافه بعموم بعض الأدلة لها، بل لا يبعد لأجل ذلك تنزيل كلام من عبر برفع الحدث علي ذلك.

كما أن مقتضي ما تقدم كون المانع من طهورية الماء خصوص الغسل الرافع للحدث، دون المستحب، كغسل الجمعة، لخروجه عن المتيقن من المشابهة.

و من الجهة الارتكازية المقتضية للتعميم بفهم عدم الخصوصية و هو المدعي عليه الإجماع في الخلاف، و في الحدائق أنه نفي عنه الخلاف جملة من المتأخرين.

و مثله ما لا يرفع الحدث من الغسل الواجب لو قيل به.

نعم، لو نوي المحدث بالأكبر الغسل المستحب بناء علي صحته منه و رافعيته

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 370

______________________________

للحدث لم يبعد البناء علي مانعيته، لأن المناسبات الارتكازية تقتضي إرادة الغسل الرافع من حيثية كونه حاملا للقذر، لا الغسل المنوي به الرافعية، نظير غسالة الخبث.

و إن كان ذلك ربما لا يناسب الجمود علي المتيقن من الخبر.

و لعله لذا قال في الحدائق بعد ما تقدم: «و الظاهر أنه بناء منهم علي عدم رفعه الحدث، كما هو المشهور من عدم التداخل بين الأغسال المستحبة و الواجبة و عدم رفع المستحب للحدث، و إلا فإنه يأتي الكلام فيه أيضا، كما لا يخفي». فلاحظ.

و أولي من ذلك ما لو كان الغسل فاسدا لا أثر له في الطهارة شرعا، فإن مجرد قصد الغسل الصحيح لا يدخله في الغسل المشروع الذي هو منصرف النص.

نعم، لو فرض كون البطلان لعروض المبطل في الأثناء من حدث أو نحوه لم يبعد البناء علي المانعية فيه، لارتكاز حمل الماء للقذر حينئذ. فتأمل.

الثاني: قال في محكي الحدائق: «يظهر الاختصاص بالقليل من كلمات جمع»، و نفي الإشكال فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و في الجواهر: «الظاهر أن النزاع مخصوص في المستعمل إذا كان قليلا»، بل قال الفقيه الهمداني قدّس سرّه: «لا إشكال، بل لا خلاف، في أنه يرفع الحدث ثانيا لو كان كثيرا بالغا حد الكر أو جاريا و ما بحكمه، بل غير واحد نقل الإجماع عليه».

و قد استدل عليه. تارة: بما في المعتبر من أنه لو منع في الكثير لمنع حتي لو اغتسل في البحر.

و اخري: بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من اختصاص دليل المنع بما يغتسل به، لا فيه.

و يندفع الأول: بإمكان الفرق بالاستهلاك علي ما يأتي الكلام فيه في فروع المسألة إن شاء اللّٰه تعالي.

و يندفع الثاني: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن الباء للاستعانة، و هي تصدق في القليل و الكثير.

و لو بني علي انصرافها إلي ما يصب علي المحل لزم دخول الكثير إذا كان

ص: 371

______________________________

الاغتسال به بنحو الصب، و خروج القليل الذي يرتمس فيه الجنب، و لم يقل به أحد.

فالعمدة في وجه الاختصاص أنه لا إشكال في اختصاص مانعية الغسل من الخبث بما إذا لم يكن الماء معتصما، لعدم الريب في أن الغسل من الخبث لا يزيد علي ملاقاته التي لا توجب المنع مع الكثرة، و لنصوص جواز الاغتسال بماء الحمام التي لا ريب في عمومها لصورة تطهير مثل اليدين بماء الحياض الصغار، إلي غير ذلك مما يتضح معه اختصاص إطلاق الماء في خبر ابن سنان بغير المعتصم.

و دعوي: أن التقييد في غسالة الثوب لا ينافي الإطلاق في غسالة الجنب.

مدفوعة: باتحاد الموضوع في الخبر، حيث لم يكن موضوعه ماء الغسالة و ماء غسل الجنابة، بل الماء الواجد لأحد الوصفين، فوضوح الاختصاص في أحدهما مانع من الإطلاق في الثاني. فتأمل جيدا.

هذا كله مضافا إلي صحيح صفوان المتقدم عند الكلام في طهارة الماء المستعمل، المتضمن لجواز الوضوء من الماء الذي يغتسل فيه الجنب إذا كان كثيرا.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 372

و صحيح ابن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «1»، للإجماع ظاهرا علي عدم الفرق بين الضرورة و غيرها مع المانعية، الملزم بحمله علي الكراهة، بل هي الظاهرة منه بعد ظهوره في كون المنهي عنه ليس خصوص الماء المذكور في السؤال، بل مطلق ما يشبهه، و الظاهر منه إرادة الماء المكشوف المعرض لكل طارئ يوجب استقذاره، حيث لا إشكال في عدم حرمة استعمال الماء بمجرد ذلك.

مضافا إلي ما قد يستفاد من صحيحي محمد بن مسلم المتقدمين المتضمنين لعدم نجاسة الغدير الذي تبول فيه الدواب، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب إذا بلغ كرا، فإنهما و إن وردا لبيان الطهارة غير المستلزمة للطهورية من الحدث، إلا أن عدم التنبيه فيهما علي عدم المطهرية منه- مع كونها من أهم الأغراض المقصودة

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

ص: 372

إذا تمكن من ماء آخر، و إلا جمع بين الغسل أو الوضوء به و التيمم (1).

______________________________

للسائل- ظاهر في المفروغية عن المطهرية منه، و هو المناسب لسيرة المتشرعة في المقام، و تسالم الأصحاب عليه المبني علي ارتكاز أن أثر الاغتسال من سنخ الانفصال بالنجاسة لا يتم مع الاعتصام، بل هو أخف ارتكازا، فيكون أولي منه بالعدم معه.

و منه يظهر عدم الفرق بين الكر و غيره من أقسام الماء المعتصم.

مضافا إلي ما عرفت من قصور خبر ابن سنان عنه، و إلي ما ورد في ماء الحمام من أنه بمنزلة الجاري، فإن مقتضي عموم التنزيل فيه الشمول لما نحن فيه.

هذا، و ربما يستدل علي كراهة استعمال الماء الكثير الذي اغتسل فيه الجنب بصحيح ابن بزيع، و خبر محمد بن علي بن جعفر المتقدمين.

لكن، الصحيح ظاهر في الماء المكشوف المعرض لكل طارئ- كما تقدم- و كذا الخبر علي ما تقدم عند الكلام في وجه الجمع بين خبر ابن سنان و صحيح علي ابن جعفر.

فالعمدة فيها صحيح محمد بن مسلم بعد فرض ظهوره في الماء الكثير، و لا محذور ظاهرا من البناء عليها. و مجرد السيرة علي استعمال الماء المذكور لا ينافيها.

و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم. و منه نستمد العون و التوفيق.

(1) مما تقدم يظهر وجوب التيمم، و أن الأحوط استحبابا هو إضافة الغسل أو الوضوء من الماء المذكور.

و إن كان الاحتياط المذكور مما لا ينبغي تركه، خصوصا بملاحظة صحيح ابن جعفر الظاهر في دخل الضرورة في جواز الاستعمال، و إن عرفت اضطرابه في نفسه.

بقي في المقام فروع ينبغي التعرض لها، و إن اتجه إهمالها من سيدنا المصنف قدّس سرّه بعد اختياره عدم المانعية.

ص: 373

______________________________

الأول: المعيار في كون الماء مستعملا علي الاستعانة به في رفع الحدث و كونه آلة له، كما هو مفاد الباء في قوله عليه السّلام في الخبر: «يغتسل به الرجل من الجنابة»، إلا أن الظاهر توقف المانعية علي مباينة الغسل الممنوع للغسل المانع عرفا، بحيث يكون ماء الثاني غسالة من الأول، إما لتعدد المغتسل أو لتعدد الغسل، أو لتعدد أجزاء الغسل الواحد، لانفصال الماء، بحيث يصدق عليه غسالته، و يكون الغسل به غسلا آخر، أما مع وحدة الغسل عرفا بالماء الواحد و سعته بجريانه بنفسه أو بالاستعانة باليد فلا بأس به، لانصراف النص عنه بعد تعارفه، بل امتناع الغسل عادة بدونه.

بل لا ينبغي التأمل فيه بعد النظر في النصوص المتضمنة لتعليم كيفية الاغتسال «1».

و ليس ذلك لأخذ الانفصال في صدق الاستعمال، بل لانصراف دليل المانعية عن شمول مثل ذلك مما كان مبنيا علي وحدة الغسل و الاستعمال و لو مع سعته.

بل الظاهر عدم قدح الانفصال إذا كان بالنحو المتعارف في الغسل الواحد كتقاطر الماء من الرأس علي الجسد في حال استعماله، لما ذكرنا أيضا.

كما لا يقدح استعمال بلة البدن الباقية عليه بعد غسله، لعدم صدق الغسالة و لا المستعمل عليه عرفا، فينصرف عنها الخبر، كما هو الحال في غسالة الخبث.

و يشهد به أيضا نصوص اللّمعة، الظاهرة في الأخذ من بلة البدن الباقية بعد الغسل، و التي مقتضي إطلاق بعضها عدم الفرق بين نقل البلة بالمسح من دون انفصال أو معه، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث: «قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة. فقال: إذا شك و كانت به بلة و هو في صلاته مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلة.» «2».

و ليس المعيار فيما ذكرنا من وحدة الغسل علي المقدار الذي يقصد المغتسل

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة.

ص: 374

______________________________

غسله به، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه، بل لو قصد بصب الماء علي رأسه غسله، ثمَّ بدا له غسل غيره معه بإمرار يده صح.

كما أنه ليس المنشأ لذلك اعتبار إتمام الغسل في صدق الاستعمال فيه، ليكون لازمه جواز أخذ غير المغتسل من الغسالة قبل إتمامه، فضلا عن أخذ المغتسل نفسه لإتمامه.

لوضوح أن كل جزء من الغسل يترتب عليه ارتفاع الحدث، فيصدق علي الماء المستعمل فيه أنه مستعمل في غسل الجنابة مثلا، سواء قيل بطهارة كل عضو بغسله، أم بعدم طهارة شي ء من الأعضاء إلا بعد غسل الكل.

و مما ذكرنا يظهر الحال في الارتماس في الماء، فإنه إن كان للغسل الترتيبي صح في الجزء الأول و بطل فيما بعده، لصدق الماء المستعمل بالإضافة إليه، لتعدد الغسل عرفا، إلا أن يفرض استهلاك المستعمل لقلته بالإضافة للماء، علي ما يأتي في آخر الكلام في الفرع الثاني.

و إن كان للغسل الارتماسي صح، سواء نوي برمس أول جزء و استمر إلي آخره، أم برمس الجزء الأخير، أم بعد رمس تمام البدن بتحريكه- بناء علي جواز ذلك- لوحدة الغسل و الاستعمال عرفا، فلا يصدق الاستعمال من بعض أجزائه بالإضافة إلي البعض الآخر، بل هو نظير الغسل بإمرار الماء علي البدن.

و لعله إلي هذا يرجع ما في المقنعة، حيث قال بعد ذكر إجزاء الارتماس للجنب: «و لا ينبغي له أن يرتمس في الماء الراكد، فإنه إن كان قليلا أفسده»، لظهوره في أن الارتماس مفسد للماء و مانع من الاغتسال به بعده و بعد تحقق الغسل به، لا أن الشروع في الارتماس يمنع من الاغتسال بإتمامه.

نعم، قد يستفاد ذلك مما ذكره في التهذيب في تعليله، حيث قال: «فالوجه فيه: أن الجنب حكمه حكم النجس إلي أن يغتسل، فمتي لاقي الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد»، بل قد يظهر منه امتناع الغسل بالماء بمجرد إصابة الجنب له و إن لم ينو الاغتسال به.

ص: 375

______________________________

و هو غريب بعد قصور دليل المنع عنه، و شهادة غير واحد من النصوص «1» بنفي البأس عن إدخال الجنب يده في الإناء.

اللهم إلا أن يحمل علي ما ذكرنا بقرينة توجيهه لما في المقنعة، و استدلاله بصحيح ابن أبي يعفور و عنبسة «2» المتقدم في حكم البئر، و المتضمن لقوله عليه السّلام:

«و لا تقع في البئر، و لا تفسد علي القوم ماءهم».

هذا، و قد يتخيل أن لازم ما ذكرنا جواز ارتماس أكثر من شخص واحد دفعة.

و فيه: أن تعدد الغسل لتباين غسلهما موجب لصدق استعمال الماء من كل منهما بالإضافة إلي الآخر و مانعيته منه.

نعم، لازم ذلك عدم وقوع الغسل منهما معا، و عدم صدق المستعمل علي الماء، فيجوز استعماله لأحدهما أو لغيرهما. إلا أن يفرض سبق أحدهما حدوثا، فيصح غسله و يمنع من غسل الآخر و إن حصل قبل إكماله.

لكن، قد يتجه وقوع الغسل منهما مع عدم اختلاط الماء الذي يتحقق به غسل كل منهما بالآخر، كما يأتي في آخر الكلام في الفرع الآتي. فتأمل جيدا.

الثاني: لا ينبغي الإشكال في القطرات المنتضحة في الإناء من الغسل، للنصوص الكثيرة، كصحيح الفضيل: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن الجنب يغتسل، فينتضح من الأرض في الإناء؟ فقال: لا بأس. هذا مما قال اللّٰه تعالي مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «3»، و نحوه صحيحه الآخر «4»، و قريب منه صحيحا شهاب بن عبد ربه و عمر بن يزيد و موثق سماعة «5».

هذا، مضافا إلي استهلاك القطرات في ماء الإناء بنحو لا يصدق عليه عرفا الماء المستعمل أو المختلط به. و من ثمَّ لا يكون لازم إطلاق من منع من استعمال

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 45 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 22.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 6، 7، 4.

ص: 376

______________________________

الماء المستعمل المنع منه في المقام، خصوصا مثل الشيخ الذي تعرض للنصوص المذكورة في بعض المقامات و لم ينبه لتوجيهها.

فلا وجه لما عن العلامة و غيره من أن لازم إطلاق الشيخ قدّس سرّه المنع في المقام، كما نبّه له في مفتاح الكرامة.

و أما ما يظهر من غير واحد من عدم الاستهلاك مع اتحاد الجنس.

فغير ظاهر، إذ ليس المنشأ لارتفاع أحكام أحد الجسمين باستهلاكه في الآخر إلا أن تفرق أجزائه فيه و غلبته عليه يلحقه بالمنعدم عرفا، فلا تترتب أحكامه، لعدم الموضوع لها عرفا بنحو ينصرف عنه عموم أدلتها و يمتنع استصحابها، و هذا جار في المقام، لعدم وجود الماء المستعمل عرفا.

و دعوي: أن لازم استهلاك القليل في الكثير عرفا مع وحدة الجنس استهلاك الكل، لانحلاله إلي أجزاء كل منها قليل بالإضافة إلي الباقي.

مدفوعة: بأن المراد بالاستهلاك إنما هو انعدام المستهلك بحده و خصوصيته المميزة له عن غيره، فلا بد من فرض تميّزه بجنس، أو وصف، أو حكم، أو نحوها، و إلا فلا موضوع للاستهلاك، إذ لا يراد به استهلاك الشي ء بذاته، كيف، و لا ريب في زيادة الكثير بالقليل وجدانا بنحو تحفظ معه ذاته عرفا. فالماء المستعمل بما هو مستعمل منعدم في المقام عرفا، و إن لم ينعدم بما هو ماء معري عن خصوصية الاستعمال، كما هو الحال مع اختلاف الجنس أيضا، إذ لو فرض اجتماع كمية بول من قطرات مختلفة لأبوال حيوانات مختلفة، فإن كلا منها مستهلك في الباقي بحيثية خصوصية حيوانه، و إن كان باقيا بذاته من حيث هو بول، لعدم المرجح بينها في ذلك.

هذا، مع أن الأمر في المقام لا يحتاج إلي ذلك- كما نبّه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه- إذ ليس المدعي عدم مانعية الماء المستعمل، ليتوقف علي استهلاكه، بل عدم صحة نسبة الاغتسال إليه، و لو ضمنا مع الاغتسال بالماء المستهلك فيه.

و من الظاهر أن المرجع في النسبة المذكورة التي هي موضوع البطلان هو

ص: 377

______________________________

العرف، فمع عدم صدقها لا مجال للبناء عليه. فتأمل.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن تمسك الإمام عليه السّلام في الصحيح السابق و غيره بآية نفي الحرج ظاهر في وجود مقتضي المنع في القطرات كغيرها.

ففيه: أنه لا ظهور له في تعليل نفي البأس في نفس القطرات بعد امتزاجها، بل في تعليل نفي البأس في نفس الماء الذي تقع فيه، لبيان عدم كونها سببا في امتناع استعماله لسراية الأثر منها إليه، نظير سراية النجاسة من القطرات النجسة، فهو يدل علي وجود مقتضي السراية فيها. و من الظاهر أن السراية المذكورة لو حصلت فهي قبل الامتزاج و الاستهلاك.

و مما ذكرنا يظهر لزوم التعدي إلي جميع موارد الاستهلاك و لو بغير القطرات، بل لا يبعد كون ذلك هو المدار حتي في القطرات التي هي مورد النصوص المتقدمة، لانصراف إطلاقها إليه، و قصوره عما لو لم تستهلك القطرات، لكثرتها أو قلة ماء الإناء.

و لا أقل من كون المتيقن من النصوص ورودها لبيان نفي البأس عن استعمال الماء الذي تقع فيه القطرات، لا عن استعمال نفس القطرات، إذا صحت نسبة الاستعمال إليها للاعتداد بها، و لذا لا ريب في قصوره عما لو لم يكن في الإناء ماء أصلا.

هذا، و ربما يدعي قصور دليل المنع عن هذه الصورة، فلا يهم معه قصور النصوص المتقدمة في جواز استعمال الماء المذكور.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «بل يمكن التزام الجواز مع تساويهما في المقدار، حيث أن ظاهر دليل المنع كون الاغتسال به، و ظاهره انحصار الغسل به. إلا أن يقال:

إن المراد استعماله في الغسل و إن كان بضميمة غيره، فيختص الجواز بصورة الاضمحلال».

و المتعين ما ذكره أخيرا، لظهور خبر ابن سنان في عدم صلوح الماء المذكور لرفع الحدث و لو منضما لغيره، و لذا لا ريب في عدم جواز استعمال الخالص منه في

ص: 378

______________________________

بعض الوضوء، فلو صح الوضوء أو الغسل به مع امتزاجه بغيره لكان رافعا للحدث.

و ليس الماء المركب مباينا للمستعمل، كي لا يكون رفع الحدث به منافيا للخبر.

نعم، لو استفيد من الخبر عدم استقلال الماء المستعمل برفع الحدث لا غير اتجه جواز رفع الحدث بالماء المذكور، كما يتجه جواز إيقاع بعض الوضوء بالمستعمل وحده. و لكنه بعيد جدا في المقام و نحوه، كالمياه المكروهة.

و منه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من قصور الخبر عن المنع من استعمال الماء في الفرض، لعدم صدق المستعمل عليه.

علي أن ذلك لا يناسب استدلاله علي رافعية الماء المستعمل في غسل الجنابة للحدث بصحيح علي بن جعفر المتقدم، لوضوح تعذر حمله علي صورة استهلاك الباقي في الراجع.

نعم، لو فرض قلة الماء المستعمل الذي امتزج بالماء الذي يغتسل به، و تكثير صب الماء عند الغسل بنحو يعلم بتحقق غسل تمام البدن بالماء غير المستعمل، و إن غسل بالماء المستعمل أيضا اتجه صحة الغسل، إذ لا منشأ لقادحية مجرد المزج بالمستعمل في استعمال غيره، كما لا يقدح الغسل بالمستعمل في استعمال غيره.

فلاحظ.

كما أنه لو كان تركب الماء من المستعمل و غيره من دون امتزاج، أمكن استعمال القسم غير المستعمل منه، لخروجه عن دليل المنع، و عدم الدليل علي مانعية الاتصال بالمستعمل، لعدم الانفعال و السراية.

و مثله ما لو فرض وقوع الاستعمال في بعض الماء الواحد، كما لو كان هناك حوضان بينهما اتصال لا يقتضي الامتزاج، فاغتسل الجنب بأحدهما.

فإنه لا مانع من استعمال الآخر، لعدم صدق المستعمل عليه، بخلاف أجزاء الحوض الواحد، حيث يصح عرفا نسبة الاستعمال إلي تمام مائه، و إن كان الملاقي لبدن الجنب الذي تحقق الغسل به حقيقة قسما منه، لوضوح ابتناء نسبة الاستعمال للماء علي التوسع بلحاظ وحدته العرفية، لا علي الدقة بالإضافة إلي خصوص

ص: 379

______________________________

السطح الملاقي.

بل قد يقال: نسبة الاستعمال للماء و إن كانت مبنية علي التوسع، إلا أن مبني التوسع علي إلحاق قسم قليل مما يجاوز الملاقي لبدن الجنب بالملاقي بالنحو الذي تقتضيه طبيعة الغسل، و عدم الاقتصار علي خصوص السطح الملاقي، من دون أن يصح نسبة الغسل لتمام الماء مع كثرته و إن لم يبلغ كرا، بل ليس الغسل إلا ببعضه، فيكون حكم المجموع بعد الغسل حكم الممتزج بالمستعمل و غيره في جواز استعماله مع استهلاك المستعمل أو وقوع غسل تمام البدن بغيره لتكثير الماء حين الغسل.

و منه يتجه جواز اغتسال شخصين دفعة واحدة بالماء الواحد إذا لم يكن الغسل مبنيا علي امتزاج ماء كل منهما بماء الآخر حينه، كما أشرنا إليه في آخر الكلام في الفرع الأول. فتأمل جيدا.

الثالث: قال في مفتاح الكرامة: «و ليعلم أن مرادهم بالحدث الأكبر هنا ما عدا غسل الأموات، لنجاسة الماء القليل بملاقاة الميت. كذا قال في المهذب البارع.

و الفاضل العجلي لم يستثن و قال بطهارة الجميع. و رماه بالضعف أبو العباس».

و لا يخفي أن الحكم بطهارة بدن الميت بالغسل إن كان مبنيا علي مطهرية الغسل، فالوجه لنجاسة الغسالة من الخبث جار فيه.

و إن كان تعبديا مع كون الغسل متمحضا في رفع حدث الموت فالأمر أظهر، حيث يكون الماء ملاقيا لبدن الميت النجس من دون غسل به، و نجاسة الملاقي أظهر من نجاسة الغسالة.

اللهم إلا أن يلحق بالغسالة بلحاظ شمول بعض الأدلة المسوقة لطهارتها له، كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي.

الرابع: الظاهر قصور دليل المنع في طرف المانعية و الممنوعية عن استعمال الماء فيما هو من توابع الوضوء أو الغسل من المستحبات، كغسل اليدين و المضمضة و غيرهما، لخروجها عن الوضوء و الغسل، و إن فرض أن لها دخلا في

ص: 380

______________________________

بعض مراتب الطهارة الحاصلة بهما، و لا دليل علي تبعيتها لها في الحكم المذكور مع ذلك.

الخامس: لا بد في المانعية بالاغتسال من إحراز الحدث الأكبر بالوجدان أو الأمارة أو الأصل، و لا يكفي فيها الغسل احتياطا و إن كان الاحتياط لازما لمنجزية احتمال الحدث، كما في تعاقب الحدث و الطهارة مع الجهل بالتاريخ، و في الشبهة الحكمية مع التقصير في الفحص، لعدم إحراز موضوع المانعية في ذلك.

بل اللازم الرجوع في الماء المذكور للأصل الخاص به، ففي المثال الأول يتجه الرجوع لاستصحاب عدم الاغتسال به من الحدث، و في المثال الثاني يتعين الاحتياط في الماء بالجمع بين المحتملات، كما في الاغتسال الأول به، لاشتراكهما في الجهة الموجبة له، و هي التقصير في الفحص عن الحكم الشرعي.

السادس: الظاهر منهم التسالم علي أن اتصال المستعمل بالمعتصم بالنحو الذي يطهّر الماء من النجاسة رافع للمانعية عنه، كما يمنع من حدوثها فيه، علي ما تقدم.

و العمدة فيه- مع التسالم المذكور- ما أشرنا إليه آنفا من الأولوية الارتكازية، لأن المانعية- ارتكازا- ناشئة من نحو من القذر يحمله الماء بالاغتسال به أخف من النجاسة، فلا بد أن يرتفع بما ترتفع به، كما يندفع بما تندفع به.

و لو لم يتم ذلك لزم البناء علي بقاء المانعية لإطلاق دليلها، لاختصاص أدلة التطهير بالاتصال بالمعتصم بالنجاسة، فلا تنهض برفع اليد عنه، بل يتعين رفع اليد به عن عموم طهورية الماء.

هذا، و قد صرح في محكي المبسوط بأنه لو جمع الماء الذي يغتسل به حتي بلغ كرا ارتفعت عنه المانعية، و هو المحكي عن المنتهي و المقتصر.

خلافا لما في المعتبر و عن الدلائل و الذخيرة من بقاء المانعية، و تردد فيه في الخلاف، بل ربما يظهر منه الميل إلي ارتفاعها، و بناه في محكي الذكري علي الخلاف في مسألة الطهارة بالتتميم كرا.

ص: 381

و المستعمل في رفع الخبث نجس (1)،

______________________________

و لعله عليه يبتني ما تقدم من ابن حمزة في الوسيلة، حيث ذكر مانعية الاستعمال في الطهارة الكبري، ثمَّ قال: «إلا بعد أن يبلغ كرا فصاعدا بالماء الطاهر»، لأنه يعتبر في مطهرية التتميم أن يكون بالماء الطاهر.

و كيف كان، فالظاهر عدم ارتفاع المانعية عنه بتتميمه من الماء غير المستعمل، فضلا عن تتميمه بالماء المستعمل، عملا بإطلاق خبر ابن سنان المتقدم، لعدم المخرج عنه هنا من ارتكاز أو غيره بعد ما تقدم من عدم رافعية التتميم للنجاسة.

و مجرد مانعيته منها لا يقتضي رافعيته للمانعية في المقام.

و ما عن المنتهي من أن عدم زوال النجاسة لارتفاع قوة الطهارة، بخلاف ما نحن فيه- كما تري- لارتفاع قوة الطهورية في المقام أيضا.

علي أن مثل ذلك لا يصلح للخروج عن الإطلاق.

هذا تمام الكلام في فروع هذه المسألة، و يظهر حال بعض فروعها مما تقدم في مطاوي الاستدلال. و اللّٰه سبحانه ولي التوفيق.

(1) كما ذهب إليه المحقق قدّس سرّه في الشرائع و النافع و المعتبر، و العلامة في القواعد و عن جملة من كتبه، و الشهيدين في اللمعتين و ظاهر المسالك، و عن الدروس، و الألفية و شرحها، و المحقق الثاني في جامع المقاصد، و الفاضل الهندي في ظاهر كشف اللثام، و حكي أيضا عن الشيخ قدّس سرّه في موضع من الخلاف و موضعين من المبسوط، و مجمع الفوائد و التنقيح، و ظاهر المقنع و المجمع.

و في جامع المقاصد أنه الأشهر بين متأخري الأصحاب، و عن الروض أنه أشهر الأقوال.

و العمدة فيه عموم انفعال الماء القليل الذي تقدم في أوائل الفصل الثاني تنقيحه، و أن المستفاد من الأدلة هو انفعال الماء بكل نجاسة تنجس غيره، و أن سبب النجاسة هو الملاقاة بالوجه المقتضي للانفعال عرفا.

ص: 382

______________________________

بل ذكرنا أن العموم بالوجه المذكور ارتكازي مفروغ عنه عند الكل ظاهرا، كما يظهر من حال كثير ممّن خرج عنه في بعض الموارد، حيث لم يناقش في العموم المذكور، بل ادّعي الملزم بالخروج عنه، و منه المقام، فإن غير واحد من القائلين بالطهارة علي اختلافهم من حيثية الإطلاق و التفصيل اهتموا ببيان المخرج عن العموم المذكور.

و من الظاهر أن خصوصية الغسل بالماء لا دخل لها ارتكازا في عدم انفعاله.

بل التفكيك بين الغسل الذي يقصد به تليين المتنجس الحامل لعين النجاسة لتسهيل قلع النجاسة عنه من دون أن يكون دخيلا في تطهيره، و الغسل الدخيل في التطهير مما تأباه المرتكزات العرفية جدا.

بل المرتكز عرفا أن غسالة النجاسة الشرعية كغسالة القذارات العرفية تحمل القذر الرافعة له عن المغسول بنحو تستقذر بسببه، فلو لم يكن انفعال الماء بها أولي من انفعاله بالملاقاة فلا أقل من كونه من أفراده.

و يؤيد ما ذكرنا من ارتكازية العموم للغسالة خبر الأحول أو غيره المتضمن لعدم البأس بإصابة الثوب لماء الاستنجاء- كما نبّه له الفقيه الهمداني- حيث قال عليه السّلام:

«أو تدري لم صار لا بأس به؟ قال: قلت: لا و اللّٰه، فقال: إن الماء أكثر من القذر» «1»، فإن جهل السائل بعلة الحكم و اهتمام الإمام عليه السّلام ببيانها شاهد بعدم ارتكازية الحكم المذكور، بل حلف السائل ظاهر في استنكاره له، و لا وجه لهما إلا ارتكاز عموم الانفعال للغسالة.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في شمول العموم المذكور للمقام، و لا حاجة إلي إتعاب النفس في ذلك، كما لا ينبغي إنكاره و إن صدر من غير واحد من المتأخرين.

و قد تقدم في مبحث انفعال القليل ما ينفع في المقام. فراجع.

هذا، و قد يستدل علي النجاسة ببعض النصوص الخاصة.

منها: موثق سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: إذا أصاب الرجل جنابة فأراد

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 383

______________________________

الغسل فليفرغ علي كفيه، فليغسلهما دون المرفق، ثمَّ يدخل يده في إنائه ثمَّ يغسل فرجه، ثمَّ ليصب علي رأسه ثلاث مرات ملأ كفيه، ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه، ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله، فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع و ما وصفت لك فلا بأس» «1»، لظهوره في دخل الكيفية المذكورة في عدم البأس بالانتضاح من ماء الغسل في الإناء.

و بعد المفروغية عن عدم البأس بانتضاح ماء الغسل في نفسه لا بد أن يكون ثبوت البأس بمخالفة الكيفية المذكورة من جهة الإخلال بتطهير الفرج، لكون غسله في أثناء الغسل موجبا لاختلاط غسالته بالغسالة و انفعاله بها، الموجب لانفعال الماء بانتضاحه فيه.

و كما قد يشير إلي ذلك ما في صحيح عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

اغتسل في مغتسل يبال فيه و يغتسل من الجنابة، فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض.

فقال: لا بأس به» «2»، لظهور السؤال فيه في المفروغية عن تنجس المغتسل بالاغتسال من الجنابة كتنجسه بالبول فيه، حيث لا يبعد حمله علي ما يتعارف من تطهير الجنب مواضع المني في المغتسل.

و منها: خبر العيص بن القاسم المروي في الخلاف: «سألته عن رجل أصابه قطرة من طست فيه وضوء؟ فقال: إن كان الوضوء من بول أو قذر فليغسل ما أصابه، و إن كان وضوؤه للصلاة فلا يضره» «3»، و روي صدره في المعتبر و محكي المنتهي و الذكري.

لكن، قد يشكل الاستدلال به، لإرساله في الخلاف و غيره عن العيص خاليا عن ذكر السند.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 7.

(3) الخلاف كتاب الطهارة المسألة: 135، و روي صدره في الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 14.

ص: 384

______________________________

و إن كان من القريب جدا أخذ الشيخ قدّس سرّه له من كتابه الذي ذكر في الفهرست طريقه إليه، و هو حسن أو صحيح، و ذلك إن لم ينهض بكونه حجة ينهض بكونه مؤيدا.

و منها: موثق عمار الوارد في تطهير الإناء و الكوز، و فيه: «قال: يغسل ثلاث مرات يصب فيه الماء فيحرك فيه ثمَّ يفرغ منه، ثمَّ يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثمَّ يفرغ ذلك الماء، ثمَّ يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثمَّ يفرغ منه و قد طهر» «1»، فإن تفريغ الماء ظاهر في عدم الانتفاع به الظاهر في نجاسته، إذ لا يراد به التفريغ في محل ينتفع به، لإمكان الانتفاع به في الإناء المغسول نفسه، بل المراد به ما يساوق الإهراق الراجع إلي عدم الانتفاع بالماء، فيكون ظاهرا في نجاسته، خصوصا في الغسلة الأخيرة، لحصول التطهير، و عدم استقذار الماء بعد الغسلة الاولي.

بل هو صريح في عدم الاكتفاء في الغسلات الثلاث بالماء الواحد، فيدل علي عدم مطهرية ماء الغسلتين الأوليين من الخبث، فيؤيد القول بالانفعال جدا.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن إفراغه قد يكون لاعتبار انفصال ماء الغسالة في التطهير في جميع الغسلات.

فيدفعه: أنه لا مجال لاحتمال اعتبار انفصال الماء عن تمام الإناء في طهارة كل جزء منه، و غاية ما يمكن اعتباره هو توقف طهارة كل جزء علي انفصال الماء عنه، و ذلك يحصل بتحريك الماء في الإناء و نقله من جزء لآخر المفروض في الموثق.

و أشكل منه ما ذكره بعض مشايخنا من توقف صدق الغسل علي التفريغ، لوضوح كفاية التحريك المفروض في صدقه، و لا أثر للتفريغ إلا أن يتوقف عليه التحريك، كما لو فرض استيعاب الماء للإناء، و هو خلاف مفروض الرواية.

و منه: يظهر إمكان تعدد الغسلات مع وحدة الماء من دون تفريغ، بتكرار التحريك المستوعب لأجزاء الإناء فالأمر بالتفريغ يدل علي نجاسة الغسالة.

نعم، هو موقوف علي صلوح ماء الغسالة علي القول بطهارته لرفع الخبث.

______________________________

(1) الوسائل باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 385

______________________________

و منها: ما تضمن الأمر بإراقة الماء بإدخال الجنب يده النجسة في الإناء من النصوص المتقدمة في مبحث انفعال الماء بملاقاة المتنجس، لشمولها لما إذا لم تكن اليد حاملة لعين النجاسة، فتطهر بمجرد إدخال اليد في الإناء، و يكون ما في الإناء غسالة لها و إن لم يقصد به ذلك.

و احتمال كون الأمر بالإراقة بلحاظ عدم مطهريته مطلقا أو من الحدث، لا نجاسته.

خلاف الظاهر جدا، لظهوره في عدم صلوح الماء للانتفاع المعتد به، المناسب ارتكازا لاستقذاره شرعا و نجاسته، بنحو يكون لازما عرفيا له، و إن لم يكن لازما عقليا.

خصوصا مع أن سقوط المستعمل عن الطهورية مع طهارته في نفسه ليس أمرا واضحا، ليمكن اتكال المتكلم علي وضوحه في إرادته، بل هو تعبدي خفي لقلة الأدلة عليه.

نعم، الاستدلال المذكور موقوف علي عدم اعتبار الورود في التطهير، و هو غير بعيد، و تمام الكلام فيه في مبحث المطهرات.

و منها: بعض النصوص الظاهرة في خصوصية المعتصم في طهارة الغسالة، كموثق حنان: «سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إني أدخل الحمام في السحر و فيه الجنب و غير ذلك، فأقوم فاغتسل، فينتضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم. قال:

أ ليس هو جار؟ قلت: بلي. قال: لا بأس» «1»، لظهوره في أن منشأ عدم البأس اعتصام الماء بالجريان، لا عدم انفعال الماء بنفسه.

بل هو الظاهر من أكثر نصوص الحمام، لظهورها في خصوصيته.

و خبر علي بن جعفر عن أخيه موسي عليه السّلام: «و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت. فيصيبه المطر. فيكف فيصيب الثياب، أ يصلي فيها قبل أن تغسل؟ قال: إذا

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 8.

ص: 386

______________________________

جري من ماء المطر فلا بأس» «1».

فإن الذي يقع عليه الماء من الكنيف قد لا يكون فيه عين النجاسة، فيطهره الماء الجاري عليه، و يكون ماء غسالة، فلو كان ماء الغسالة طاهرا لزم إلغاء خصوصية المطر.

اللهم إلا أن يستشكل في الأول باحتمال كون منشأ السؤال احتمال نجاسة الماء بملاقاتهم له، لا لكونه غسالة لهم، لأنه لا يخلو عن إجمال في نفسه، كما يظهر مما تقدم في المسألة العشرين من الفصل السابق. و كذا الحال في بقية نصوص الحمام.

نعم، بناء علي عدم اعتبار الورود في التطهير لا يبعد ظهورها في نجاسة الغسالة، لصعوبة حملها حينئذ علي خصوص الملاقاة غير المطهرة.

و يشكل الثاني بضعف السند، و إن كان وجوده في كتاب علي بن جعفر و قرب الإسناد معا مؤيد قوي لصحته، فلا أقل من كونه مؤيدا.

و منها: نصوص النهي عن غسالة الحمام «2»، فإنها و إن كانت معارضة بما دل علي طهارة غسالته، إلا أنها عللت طهارتها بالاتصال بالمادة، فتدل علي نجاستها لو لا المادة، كذا ذكر بعض مشايخنا.

لكن، ليس في نصوص الغسالة ما يظهر منه التقييد بالمادة، و إنما ورد في نصوص ماء الحمام، و هو غير الغسالة، كما تقدم عند الكلام في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

بل تقدم منه هناك حمل نصوص الغسالة علي الكراهة، بلحاظ احتمال اشتمالها علي النجاسة جمعا بين النصوص، و إن كان الجمع المذكور غير ظاهر أيضا، كما تقدم.

و كيف كان، فيشكل في الاستدلال المذكور بأن التعليل في النصوص

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(2) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل.

ص: 387

______________________________

المذكورة بغسالة اليهودي، و النصراني، و الناصب، و ولد الزنا، مانع من الاستدلال بها للمقام، إذ بناء علي نجاستهم لا يكون الغسل مطهرا لهم، فتخرج غسالتهم عن محل الكلام، و بناء علي طهارتهم ينحصر الوجه في الخباثة المعنوية الموجبة للكراهة، و تكون أجنبية عما نحن فيه أيضا.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أن العمدة في المقام هو العموم المؤيد بالنصوص المتقدمة، بل بعضها صالح للاستدلال في نفسه، لظهوره في المفروغية عن الحكم المذكور، و إن لم يكن مسوقا لبيانه، فتكشف عن شمول العموم، إذ لا موجب للمفروغية لولاه.

و منه يظهر أن النجاسة مشروطة بنجاسة المغسول، فالغسالة الحاصلة بعد تطهيره من استمرار الصب أو تعدد الغسلات طاهرة، كغسالة ما هو طاهر في نفسه، لقصور العموم و النصوص الخاصة عنها، كما لا يخفي، و الظاهر أنه لا قائل بنجاستها، و إن نسب للفاضلين نجاسة الغسالة و لو مع ترامي الغسلات، لخطأ النسبة، كما أشار إليه غير واحد.

هذا، و قد ذهب في المدارك و الجواهر إلي طهارة الغسالة مطلقا، و حكي ذلك عن ظاهر الذكري و شرح الإرشاد. و في مفتاح الكرامة أنه نسب للبصروي و الكركي في بعض فوائده، بل فيه أنه نسب إلي جماعة من متقدمي الأصحاب، بل عن مجمع الفوائد نسبته إلي أكثر المتقدمين، و عن كشف الالتباس أن عليه فتوي شيوخ المذهب كالسيد و الشيخ و ابن أبي عقيل و ابني حمزة و إدريس.

لكن الظاهر أن منشأ نسبته لابن أبي عقيل و المرتضي و ابن إدريس ذهابهم إلي عدم انفعال الماء القليل مطلقا أو بوروده علي النجاسة من دون خصوصية للغسالة، و هو أجنبي عن محل الكلام.

كما لا يبعد أن يكون نسبته لابن حمزة و البصروي و كثير من المتقدمين لمساواتهم بينه و بين المستعمل في رفع الحدث الأكبر في عدم المطهرية، و هو

ص: 388

______________________________

أجنبي أيضا، بل قد يستظهر من بعضهم نجاسة المستعمل في رفع الحدث الأكبر بسبب مساواته بينه و بين الغسالة.

و كيف كان، فعمدة ما يظهر منهم في وجه ذلك المناقشة في العموم المذكور.

تارة: بإنكار الدليل عليه، لانحصاره بمفهوم نصوص الكر، و هو يقتضي تنجس القليل بالملاقاة في الجملة في مقابل الحكم بعدم تنجس الكر مطلقا في المنطوق، و لا ينفع في إثبات العموم.

و اخري: بمنافاته- لو تمَّ في نفسه- لعموم عدم مطهرية المتنجس، بل ما دل علي نجاسة القليل في نفسه، لأن معناها: لا يرفع حدثا و لا يزيل خبثا، كما في الجواهر.

و الالتزام بنجاسته بعد الانفصال- كما عن العلامة قدّس سرّه- لا يقتضيه عموم الانفعال، لظهوره في النجاسة بالملاقاة حينها، لا بعدها، و لا دليل عليها غيره.

و قد اهتم في الجواهر بتقريب الوجوه المرجحة للعموم الثاني- بما سوف نشير إلي المهم منه إن شاء اللّٰه تعالي- و ذكر أنه لا أقل من تساقطهما و الرجوع للأصل، المقتضي للطهارة.

و يندفع الأول: بما تقدم في مبحث انفعال القليل و في الاستدلال للنجاسة هنا من تمامية الدليل علي العموم المعتضد بالنصوص الخاصة.

و الثاني: بأن عموم عدم مطهرية المتنجس و إن كان ارتكازيا أيضا، إلا أن المرتكز هو اعتبار الطهارة في المطهر مع قطع النظر عن التطهير به، فلا ينافي تنجسه بالتطهير به، كما هو الحال في التنظيف من القذارات العرفية، بل هو الحال في سائر العناوين المأخوذة في الأسباب، فإذا قيل: لا يكسر الحجر إلا حجر أصلب منه، و لا يغسل الرمل إلا ماء أكثر منه، لم يعتبر إلا الصلابة و الكثرة مع قطع النظر عن الكسر و التطهير، فلا ينافي انحلال الكاسر بالكسر و قلة الماء بغسل الرمل به.

ص: 389

______________________________

و نظير ذلك تراب التطهير من الولوغ، و كذا حجر الاستنجاء المعتبر فيه الطهارة، و لا يضر نجاسته بنفس الاستنجاء به لو فرض سريان رطوبة المحل إليه قبل إكمال المسح به.

و ما في الجواهر من أن التطهير به إنما هو بمعني مطهرية زوال العين به، نظير زوالها في الحيوان، و ليس هو نظير التطهير بالماء.

مخالف لظاهر الأدلة، بل لا يناسب اعتبار طهارته، خصوصا مع عدم الرطوبة المسرية، بل لا يناسب لزوم المسح به و لو مع زوال العين عند بعضهم.

بل ما ذكرنا من حمل العموم المذكور علي لزوم الطهارة من غير جهة التطهير هو مقتضي ما تقدم من ارتكاز شمول عموم الانفعال للمقام، حيث يتعين الجمع بين العمومين بالوجه المذكور، و ليس هو من سنخ الجمع العرفي المخالف لظهور الدليل بدوا، لامتناع التنافي بين الارتكازين، غاية الأمر أنه قد يعبر عن الأمر الارتكازي بما يوهم العموم و المنافاة للارتكاز الآخر.

مضافا إلي أنه لو فرض التنافي بين العمومين فلا مجال لتقديم عموم اعتبار الطهارة في المطهر، للعلم بعدم حجيته في المقام، لخروجه عنه تخصصا أو تخصيصا، و ليس العام حجة في نفي التخصيص و تعيين التخصص عند الدوران بينهما، ليكون العموم بذلك معارضا لعموم انفعال القليل في المقام.

و منه يظهر أنه لا مجال للإشكال في عموم تنجيس المتنجس بأنه كما يقتضي تنجس الماء بالثوب المغسول به مثلا، يقتضي تنجس الثوب بالماء بعد فرض تنجسه، و حيث يعلم بقصوره في المقام عن أحد الأمرين فلا طريق لإثبات الأول به.

لاندفاعه: بأنه بعد عدم شمول العموم للثاني تخصيصا أو تخصصا يتعين حجيته في الأول بعد فرض شموله له.

ص: 390

______________________________

و قد ظهر بذلك أنه لا مجال لدعوي تساقط العمومين و الرجوع للأصل، فضلا عن دعوي ترجيح العموم الثاني.

نعم، ما ذكره في الجواهر من المرجحات قد يدعي صلوحه بنفسه للخروج عن عموم الانفعال لو تمَّ في نفسه، فالمناسب التعرض لما ذكره و نحوه مما قد يستدل به علي الطهارة، و هي أمور.

الأول: بعض النصوص التي قد يستفاد منها الطهارة تصريحا أو تلويحا، كعموم تعليل طهارة ماء الاستنجاء بأن الماء أكثر من القذر في الخبر المتقدم عند الكلام في تنقيح عموم الانفعال، المؤيد بجميع نصوص الاستنجاء، لعدم ظهورها في خصوصيته.

و موثق الأحول و صحيحه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت: له: استنجي ثمَّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب. فقال: لا بأس به» «1». لقرب حمله علي إرادة غسل المني مع الاستنجاء بقرينة ذكر الجنابة، لبعد احتمال دخل حدثها في حكم ماء الاستنجاء كي يحتاج لذكرها في السؤال.

و صحيح عمر بن يزيد «2» المتقدم في أخبار النجاسة المتضمن عدم البأس بما يقطر في الإناء من الأرض المتنجسة مع أنه غسالة لها.

و صحيح ابن مسلم الوارد في غسل الثوب في المركن مرتين «3»، فلو كان ماء الغسالة نجسا لنجّس الثوب بعد خروجه منه بالغمز و نحوه و اجتماعه معه في الإناء، بل لنجّس الإناء، فتنجّس الثوب بمباشرته و امتنع غسله به مرة أخري إلا بعد تطهيره، و ليس بناؤهم عليه، و ما ورد من الاكتفاء بصب الماء علي الثوب من بول الرضيع الذي لم يتغذ بالطعام «4» مع استلزامه نفوذ الغسالة في الثوب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 391

______________________________

و صحيح موسي بن القاسم، عن إبراهيم بن عبد الحميد: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الثوب يصيبه البول، فينفذ إلي الجانب الآخر، و عن الفرو و ما فيه من الحشو، قال: اغسل ما أصاب منه و مس الجانب الآخر، فإن أحببت مس شي ء منه فاغسله و إلا فانضحه بالماء» «1»، لظهوره في عدم البأس بنفوذ الغسالة في الحشو.

و ما تضمن تطهير النبي صلّي اللّٰه عليه و آله المسجد من بول الأعرابي بإلقاء ذنوب من الماء عليه «2»، المستلزم لغوص ماء الغسالة في باطن أرض المسجد الذي لا يجوز تنجيسه كظاهره.

لكن، الظاهر عدم صلوح النصوص المذكورة للتأييد المعتد به، فضلا عن الاستدلال. لظهور التعليل في أن المدار في عدم الانفعال علي كون الماء أكثر من القذر، و لا إشكال في عدم البناء علي ذلك، سواء أريد الجمود علي ظاهره أم تنزيله علي عدم تغير الماء، لفرض انفعال القليل و إن لم يتغير.

و تنزيله علي إرادة غلبة الماء للقذر لإزالته له، ليعم جميع أنواع الغسالة، بعيد عن ظاهره جدا، إذ لا يترتب ذلك علي الكثرة، بحيث يكون لازما ذهنيا لها، ليراد منها.

و بقية نصوص الاستنجاء و إن لم تظهر في اختصاص الطهارة به، إلا أنه لا مجال لإلغاء خصوصيته مع ما هو المعلوم من خصوصية الاستنجاء بنحو من التسهيل، كالاكتفاء فيه بالأحجار، لمناسبة ذلك لكثرة الابتلاء به و صعوبة التوقي عنه، بل أخذ عنوانه في الأسئلة قد يشعر بخصوصية المخرجة له عن القاعدة حتي يحتاج فيه للسؤال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل باب: 52 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 392

______________________________

و موثق الأحول- مع عدم وضوح بلوغه مرتبة الظهور الحجة- معارض بموثق سماعة المتقدم في أدلة النجاسة، كما نبّه له الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

علي أن غاية ما يدل عليه عموم حكم الاستنجاء لصورة غسل المني تبعا للبول، و لا ينفع في إثبات طهارة غسالة المني مطلقا، فضلا عن غسالة غيره، و الإجماع علي عدم الفصل في مثل ذلك غير ظاهر.

و صحيح عمر بن يزيد- مع عدم وضوح كونه فيما نحن فيه، لعدم وضوح مطهرية القطرة للموضع النجس، لتكون غسالة له- من القريب حمله علي الطهارة الظاهرية، لعدم العلم بإصابة القطرة للموضع النجس، كما تقدم في مبحث انفعال الماء القليل عند الكلام في الملاقاة غير المستقرة، بل تقدم في الاستدلال لنجاسة الغسالة أن السؤال فيه مشعر بالمفروغية عن نجاستها.

و صحيح ابن مسلم إنما يقتضي عدم تنجيس الغسالة و الإناء حين تطهيره بهما، و قد عرفت أن مثل ذلك لا ينافي نجاستها.

و العفو عن نجاسة المركن أو طهارته بالتبع غير عزيز، بل هو نظير طهارة يد الغاسل للميت، و آلات الخمر التي تنقلب خلا، و آلات النزح بناء علي نجاسة البئر، و غير ذلك مما لا ينافي الانفعال عندهم.

علي أن ذلك لا يختص بالغسالة، بل يجري في نفس الثوب، حيث يمس الإناء برطوبة.

و ما ورد من الاكتفاء بالصب في بول الصبي المذكور مختص بمورده المبني علي نحو من التخفيف، فلا يتعدي لغيره مما وجب فيه الغسل و العصر من أقسام البول، فضلا عن غيره.

و صحيح موسي بن القاسم- مع عدم خلوه عن الاضطراب- لا يختص الإشكال فيه بنفوذ الغسالة، بل يجري في نفوذ البول، فأما أن يحمل علي غسل تمام ما أصابه البول، المستلزم لخروج القسم المعتد به من الغسالة بالغمز و نحوه، أو علي غسل الظاهر وحده، للتخلص من محذور مسه مع بقاء الحشو علي نجاسته، كما لعله

ص: 393

______________________________

ظاهر الجواب.

و أما حديث تطهير النبي صلّي اللّٰه عليه و آله للمسجد بالذنوب فهو- مع ضعف سنده جدا بإرساله عن أبي هريرة في غوالي اللئالي، و معارضته بما روي من أمره صلّي اللّٰه عليه و آله بإخراج التراب الذي بال عليه الأعرابي و إلقاء الماء بعده «1» - لا يدل علي طهارة الغسالة، لإجمال الواقعة فيه، لإمكان صلابة المحل و تدافع الماء منه إلي خارج المسجد، كما قد يناسبه كثرة ماء الذنوب، أو كون إهراق الماء مقدمة لتطهيره بالشمس.

مع قرب ابتنائه علي العفو عن مثل هذه النجاسة الباطنة في المسجد، نظير ما ورد في غير واحد من النصوص «2» من جواز اتخاذ الحش مسجدا إذا ألقي عليه من التراب ما يواريه، بل في بعضها أن ذلك يطهره.

الثاني: عسر التحرز عنها في كثير من المقامات بالنسبة إلي جريانها إلي غير محل النجاسة، و مقدار التقاطر و مقدار المختلف و نحوها، و الرجوع للعرف لا أثر له في الأدلة الشرعية، بل عمل القائلين بالنجاسة مخالف لفتواهم، لعدم تحرزهم عما يتخلف و يتقاطر، و ربما كان أكثر مما انفصل، خصوصا في مواضع الشعر و نحوه.

هذا ما ذكره في الجواهر. و كأن مراده العسر النوعي، المستلزم للهرج و المرج، و الكاشف عن عدم جعل الحكم رأسا.

لكن لا يخفي أن منشأ لزوم العسر في كلامه هو ملاحظة اللوازم المذكورة و التدقيق فيها، و فرض عدم الرجوع فيها للعرف، لعدم الدليل علي مرجعيته.

و من الظاهر أن ذلك بنفسه دليل علي الاكتفاء بالمتعارف في تحديد هذه الأمور و حملها علي غسالة القذارات العرفية، إذ عدم لزوم الهرج و المرج خارجا كاشف عن سيرة المتشرعة علي الاكتفاء بالوجه المذكور في التحرز المطلوب.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 52 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام المساجد.

ص: 394

______________________________

و عليه يحمل فتوي القائلين بالنجاسة، فلا تخالف عملهم. و لا طريق مع ذلك لاستكشاف طهارة الغسالة مطلقا حتي في مورد تعارف الاجتناب عنها.

علي أن كثرة المتخلف بعد الصب لا أهمية لها مع انفصال المقدار المتعارف في أول الصب، لأن المتخلف إنما يكون من استمرار الصب بعد تمامية التطهير، و ليس هو ما يجري في أول الصب و يكون به التطهير لينجس. فتأمل.

هذا، و لو أريد الاستدلال بالحرج الشخصي، الذي هو موضوع قاعدة الرفع كان أشكل، إذ هو- مع عدم صلوحه لرفع النجاسة و نحوها من الأحكام الوضعية، بل لا يقتضي إلا جواز الارتكاب- غير لازم في المقام بالإضافة إلي ما هو محل الكلام، و لا سيما مع تعارف الاجتناب لغلبة الاستقذار.

نعم، قد يلزم من بعض المقارنات الناشئة من التدقيقات و الاحتياطات و الوساوس التي قد تستلزم الحرج في كثير من الموارد المقطوعة النجاسة.

الثالث: خلو الأخبار و كلمات القدماء عن التعرض لنجاسة الغسالة، مع عموم الابتلاء بها و بفروعها الدقيقة، كالقطرات و يد المباشر و نحوهما.

و فيه: ان هذا لا يكشف عن طهارتها، بل عن وضوح حكمها و الاستغناء عن التعرض لها بالخصوص اكتفاء بالأصل، أو العموم، أو السيرة، أو الارتكاز، أو نحوها.

و حيث صرحوا بعموم انفعال الماء القليل و دلت عليه النصوص كان السكوت المذكور في المقام شاهدا بالنجاسة لا بالطهارة، و لا سيما مع ما تقدم من دلالة بعض النصوص علي المفروغية عن ذلك، و استحكام ارتكاز نجاستها، قياسا علي غسالة القذرات العرفية، بل تعارف الاجتناب عنها لاستقذارها، فان بناءهم مع ذلك علي طهارتها و الاعتماد في بيانها علي الأصل بعيد جدا.

و ليست الوجوه التي ساقوها للطهارة من الوضوح و الارتكاز بحد يعتمد عليه في مقام البيان و يستغني بها عن التنبيه علي استثنائها من عموم الانفعال- كما يظهر بالتأمل فيها- و لذا احتاجوا إلي استثناء ماء الاستنجاء، بل ظاهر ذكرهم له

ص: 395

______________________________

خصوصية، نظير ما تقدم عند الكلام في نصوصه.

و أما الفروع المشار إليها- كالقطرات، و يد المباشر، و نحوهما- فإهمالها اعتمادا علي التعارف غير عزيز، كما هو الحال في جميع موارد الطهارة بالتبعية، كيد غاسل الميت، و آلات النزح، و انقلاب الخمر خلا، و غيرها.

فالإنصاف أن الوجه المذكور من أقوي أدلة النجاسة.

هذه عمدة المؤيدات أو الأدلة المذكورة في كلماتهم للقول بالطهارة، و ربما يظهر منهم التأييد بوجوه أخر ظاهرة الوهن لا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا، و في الخلاف، و عن المبسوط التفصيل في غسالة الثوب بين الغسلة الأولي، فتنجس، و الثانية، فلا تنجس.

و استدل في الخلاف لكل منهما بما يعم الغسلتين، بل صرح فيه- كما عن المبسوط أيضا- بطهارة غسالة الولوغ في جميع الغسلات، و عن السرائر النجاسة في الغسلة الاولي لا غير. و ربما نزل هذا التفصيل علي أحد تفصيلين قال بكل منهما جماعة.

الأول: اختصاص الطهارة بغير الغسلة المزيلة لعين النجاسة، أما فيها فالغسالة نجسة، بل ربما قيل بعدم الخلاف في نجاستها، و أن القائل بالطهارة إنما يقول بها في غيرها، و إن كان هو خلاف صريح الجواهر.

و كيف كان، فقد يوجّه بأنه لا بد من البناء علي نجاسة الماء حينئذ لملاقاة عين النجاسة و حمله لها.

و علي ذلك يحمل الإجماع المدعي في المنتهي و التحرير علي نجاسة الماء المستعمل في غسل الحيض و الجنابة إذا كان علي البدن نجاسة عينية.

و كذا خبر العيص المتقدم الظاهر في نجاسة الغسالة إذا كانت من بول أو قذر، إذ البول و القذر من الأعيان النجسة، و جفاف البول لا يخرجه عن ذلك و لا يوجب انعدامه، كما ذكره بعض مشايخنا.

و مثله نصوص غسالة الحمام، حيث كان المتيقن منها مجمع الغسالات التي

ص: 396

______________________________

يشتمل بعضها علي ما يزال به عين النجاسة، فيختلط به الباقي، و لا إطلاق لها يشمل الغسالة غير المشتملة علي عين النجاسة.

و الكل كما تري! إذ المراد بملاقاة الماء لعين النجاسة، إن كان هو الملاقاة حين الغسل، فلا فرق بينها و بين ملاقاة المتنجس غير الحامل لعين النجاسة حين غسله و تطهيره بعد فرض عموم التنجيس للمتنجس، و إن كان هو الملاقاة بعد انفصال الماء عن العين المغسولة و حمله لعين النجاسة بعد تطهيره للمتنجس بها و خروجه عن كونه غسالة، فلا مجال له مع استهلاك النجاسة في الماء، و إنما يتجه مع تميزها و عدم استهلاكها، و هو خارج عن محل الكلام، كما هو الحال في ماء الاستنجاء.

و منه يظهر حال الإجماع و الخبر المتقدمين، فإن حملهما علي خصوص صورة تميّز النجاسة بعيد جدا، بل ممتنع، فيتعين كون منشأ الانفعال فيهما الملاقاة حين الغسل قبل الاستهلاك، فيتعدي منهما للمتنجس الخالي عن عين النجاسة بعد فرض كونه منجسا كالنجس. فتأمل.

علي أن الظاهر من النجاسة العينية في معقد الإجماع ما يقابل الحدث القائم بالنفس [1]، فيعم صورة زوال عين النجاسة، و لذا جزم بالطهارة، مع عدم النجاسة العينية، مع أنه ممّن يري نجاسة الغسالة مطلقا.

كما أن الخبر ظاهر في إرادة التطهير من نجاسة البول و القذر، و لو مع زوال عينهما، لا خصوص الغسل منهما مع وجود عينهما، خصوصا بملاحظة مقابلته بوضوء الصلاة، لظهوره حينئذ في استيعاب الأقسام.

______________________________

[1] قال في المنتهي: 1- 23: «الثاني: متي كان علي جسد المجنب و المغتسل من حيض و شبهه نجاسة عينية، فالمستعمل إذا قل عن الكر نجس إجماعا، بل الحكم بالطهارة إنما يكون مع الخلو من النجاسة المعينة».

و قال في التحرير ص 6: «إذا كان علي جسد الجنب أو الحائض نجاسة عينية كان المستعمل نجسا إجماعا، أما لو خليا عنها فهو طاهر أيضا، و في التطهير به خلاف سبق».

ص: 397

______________________________

و نصوص غسالة الحمام قد عرفت أنها أجنبية عن محل الكلام.

علي أن بعض النصوص المتقدمة المستدل بها علي النجاسة يشمل غسالة المتنجس غير المشتمل علي عين النجاسة، بل هو صريح موثق عمار.

نعم، موثق سماعة مختص بوجود عين النجاسة، لأنه المتعارف في غسل الفرج من الجنابة، و لا أهمية له مع عموم غيره.

كما أن بعض ما استدل به للطهارة من عموم عدم تطهير المتنجس يشمل الغسلة المزيلة لعين النجاسة، بناء علي استناد التطهير لها، كما هو الظاهر، بل لا ينبغي الإشكال فيه في مثل غسل الثوب في المركن من البول.

بل النصوص الخاصة كالصريحة فيه و كذا غيرها من الوجوه.

و بالجملة: لا فرق بين وجود عين النجاسة و عدمه بالنظر إلي ما تقدم من أدلة الطهارة و أكثر أدلة النجاسة، فلا مجال للتفصيل المذكور، فضلا عن تنزيل كلام القائلين بالطهارة عليه.

نعم، بناء علي عدم انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس قد يتجه التفصيل المذكور، و إن كان هو منافيا لبعض النصوص المتقدمة، و لا سيما موثق عمار، إلا أن يناقش في الاستدلال بها بما تقدم الكلام فيه.

الثاني: طهارة خصوص ماء الغسلة المتعقبة بطهارة المحل. و إليه يرجع ما قيل من أن الغسالة كالمحل بعدها، كما ذهب إليه غير واحد من المعاصرين، و حكي عن السيد بحر العلوم قدّس سرّه و عن العلامة في النهاية احتماله، بل قد يستظهر مما عن المنتهي اختصاص النزاع بها، و أنه لا خلاف في نجاسة غيرها، و إن كان هو مما يأباه ظاهر كلام بعضهم و صريح كلام آخر، مثل ما تقدم من الشيخ قدّس سرّه من طهارة غسالة الولوغ في الغسلات الثلاث.

و كيف كان، فقد يستدل عليه:

تارة: بانصراف العموم عن مثل هذه الملاقاة المقتضية للطهارة، لعدم اجتماع

ص: 398

______________________________

النجاسة مع الملاقاة إلا رتبة.

و اخري: بلزوم الخروج فيها بعد فرض طهارة المتخلف، إذ انفعال تمام الماء حين الملاقاة مستلزم لكون طهارة المتخلف من دون مطهر، و انفعال بعضه- و هو خصوص ما ينفصل بعد ذلك- راجع إلي اختلاف حكم الماء الواحد، و كل منهما و إن كان ممكنا عقلا، إلا أنه بعيد عرفا، بنحو يصلح لأن يكون قرينة علي الخروج عن العموم المذكور.

و يندفع الأول: بكفاية الاجتماع الرتبي في مثل ذلك ارتكازا، و لا موجب معه لانصراف العموم. مع أن طهارة المحل بوقوفه علي استيلاء الماء عليه، و هو متأخر زمانا عن الملاقاة الموجبة للانفعال.

و يندفع الثاني: بأنه لا بعد في طهارة المتخلف بعد نجاسته تبعا لطهارة المحل، لبناء الشارع و العرف علي نظيره في الأثر الباقي بعد الاستنجاء بالأحجار، و في غسالة القذارات العرفية، بل الطهارة بالتبعية كثيرة جدا.

بل غفلة العرف عن المتخلف و تبعيته للمحل، مانعة من كون طهارته قرينة عرفية مخرجة عن العموم، فالبناء علي العموم متعين بعد الاعتراف بعدم استحالة ذلك عقلا.

و أما ما ذكره بعض المعاصرين قدّس سرّه من أنه إذا توقف شمول العام لمورد علي إعمال عناية زائدة علي مقتضي العام لم يكن العام حجة في ذلك المورد، لعدم تكفله بالعناية المذكورة، بخلاف الدليل الخاص، حيث يكشف عن العناية المذكورة دفعا لمحذور لغويته، و حيث كان شمول عموم الانفعال للمقام موقوفا علي طهارة المتخلف بعد نجاسته، فلا طريق لإثبات شموله له.

فهو مدفوع: بأن ذلك مختص بما إذا كانت العناية دخيلة في حجية العام في المورد، إما لتوقف تحقق عنوان العام عليها، أو لتوقف دفع المعارض عليها، أو نحو ذلك مما لا ينهض العام بإثباته، كما في مورد الأصل المثبت،

ص: 399

______________________________

فإن الأصل حيث كان عمليا كان شمول عمومه للمورد المذكور موقوفا علي التعبد بلازم مجراه بعناية زائدة، إذ بدونه لا يكون المورد محلا للعمل، ليدخل في عموم الأصل.

أما إذا لم تكن العناية دخيلة في ذلك، بل كانت لازمة لحكم العام، فحيث كان العام متكفلا لإثبات حكمه تعين البناء عليه، عملا بأصالة العموم، و إن لزمت العناية المذكورة، إما لتوقف ثبوت الحكم عليها، كما لو فرض دلالة الدليل علي أن من نكل بعبد عتق عليه، و فرض عدم عتق العبد علي شخص إلا بعد ملكه له، فإن اللازم العمل بعموم حكم التنكيل في حق من نكل بعبد غيره، و يلتزم بملكه له في رتبة سابقة علي عتقه عليه، و إن كان ذلك أمرا خارجا عن مقتضي العموم.

و إما لاستلزام الحكم للعناية المذكورة و تفرعها عليه، كما هو الحال في عموم دليل الإرث لإرث من ينعتق علي الوارث، مع أن إرثه مستلزم لانعتاقه، و هو أمر زائد علي مقتضي عموم الإرث.

و منه المقام، لأن طهارة المتخلف من دون مطهر متفرعة علي انفعال الغسالة حين الملاقاة قبل الانفصال، الذي هو مقتضي عموم انفعال القليل، و لا مجال لدعوي قصور العموم عن الغسالة لأجل ذلك.

علي أن ذلك لو تمَّ فهو إنما يقتضي عدم حجية العموم في المتخلف، فلا يحكم بانفعاله قبل انفصال الغسالة ثمَّ طهارته بالتبعية، لا عدم حجيته في المنفصل، بل يحكم بانفعاله حين الملاقاة و بقاء نجاسته بعد ذلك، لعدم كونه موردا للعناية المذكورة، إذ لزوم العناية إنما يمنع من حجية العموم في موردها لا غير.

هذا كله مضافا إلي بعض النصوص الخاصة المتقدمة الشاملة للغسلة المتعقبة بطهارة المحل، بل هو صريح موثق عمار المتقدم، المؤيدة بما تقدم من سكوت قدماء الأصحاب، فإن التفصيل بالوجه المذكور محتاج إلي عناية يغفل عنها، فعدم التنبيه عليه ظاهر في عدمه، و في الإرجاع إلي عموم الانفعال الارتكازي

ص: 400

______________________________

الشامل للمقام.

هذا تمام الكلام فيما هو المهم في المقام.

و قد تحصل منه: أن عمدة الأقوال في المقام أربعة:

النجاسة مطلقا، عملا بعموم انفعال القليل، المعتضد أو المؤيد بالنصوص الخاصة المتقدمة و غيرها.

و الطهارة مطلقا، لدعوي قصور العموم المذكور، أو معارضته بعموم عدم مطهرية النجس، المعتضد أو المؤيد بما تقدم من الوجوه.

و الطهارة فيما عدا الغسلة المزيلة لعين النجاسة، لدعوي أن الملاقاة لعين النجاسة موجبة لانفعال الماء مع قطع النظر عن كونه غسالة.

و الطهارة في خصوص الغسلة المتعقبة بطهارة المغسول، لدعوي قصور عموم الانفعال عنها، أو لزوم الخروج عنه فرارا من محذور اختلاف حكم الماء الواحد، أو طهارة المتخلف من دون مطهر.

و قد أشرنا إلي احتمال وجود قول خامس، و هو نجاسة الغسالة و لو مع ترامي الغسلات و طهارة المحل.

و ربما كانت هناك تفصيلات أخر، كالتفصيل بين الولوغ و الثوب، فتطهر في الأول في جميع الغسلات، و في الثاني في الغسلة الثانية، كما تقدم من الخلاف و عن المبسوط.

أو تطهر في الأول فيما عدا الغسلة الاولي، و في الثاني في جميع الغسلات، كما عن السرائر، إلي غير ذلك مما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما تقدم من أن المتعين هو القول الأول. فلاحظ.

و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمور.

الأول: أنه إذا كان الدليل علي النجاسة هو عموم الانفعال كان متفرعا علي القول بانفعال الماء القليل، فمع القول بعدم انفعاله مطلقا، أو بالمتنجس، أو مع ورود

ص: 401

______________________________

الماء علي النجاسة يتعين البناء علي ذلك في المقام.

و من ثمَّ اختار الفقيه الهمداني قدّس سرّه طهارة غسالة المتنجس، بل يتعين معه البناء علي اختصاص النجاسة بالغسلة المزيلة لعين النجاسة، كما تقدم.

و ربما يبني عليه التفصيل في نجاسة الغسالة بين ورود الماء علي المغسول و ورود المغسول علي الماء.

و إن كان من القريب رجوعه إلي اعتبار ورود الماء في مطهريته، فمع عدم وروده لا يكون مطهرا، فينجس، لعدم كونه غسالة، لا أنه غسالة نجسة. و الأمر غير مهم.

و أما إذا كان الدليل هو النصوص الخاصة الدالة علي نجاسة الغسالة، فلا بد من ملاحظة حالها من حيثية العموم و الخصوص، كما لا بد من ملاحظة نسبتها لدليل القول بعدم انفعال القليل، و لا مجال لإطالة الكلام فيه، لعدم ترتب الأثر عليه بعد ما عرفت من المختار.

و مما ذكرنا يظهر الوجه في اختصاص النجاسة بما إذا كان الغسل بالماء القليل، لقصور العموم عن الماء المعتصم، كالنصوص الخاصة، و لو فرض العموم فيها كفي عموم دليل الاعتصام في الخروج عنه، بل لا إشكال في ذلك.

الثاني: يلزم بناء علي ما تقدم من نجاسة الغسالة انفصالها عن المغسول، إما لتوقف التطهير عليه، أو لعدم إمكان الانتفاع بالمغسول بدونه بسبب نجاسة الغسالة، علي ما يأتي الكلام فيه في مبحث المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

و قد أشرنا إلي طهارة المتخلف بالوجه المتعارف، كما هو المعروف بينهم، كما في مفتاح الكرامة.

و تقتضيه إطلاقات أدلة التطهير المقامية، كما هو الحال في سائر موارد الطهارة بالتبعية.

بل هو مقتضي الملازمة العرفية بين طهارة المغسول و طهارة المتخلف فيه بعد كونه أمرا تابعا له و من شؤونه المغفول عنها، بل لا فائدة في طهارة المغسول مع

ص: 402

______________________________

نجاسة المتخلف.

و منه يظهر ضعف القول بنجاسته مع عدم العفو عنه، كما ذكره في مفتاح الكرامة احتمالا.

و أما نجاسته مع العفو عنه، فهي و إن ذكرت في مفتاح الكرامة احتمالا، إلا أن عدم الأثر المصحح لاعتبارها مانع من البناء عليها، بل الملازمة العرفية المتقدمة شاهدة بالطهارة. فلاحظ.

هذا، و الظاهر أن المعيار فيه علي انفصال الماء عن المحل المغسول لا عن تمام العضو، فلو تنجست الكف فصب الماء علي أعلاها و جري منه إلي أسفلها طهر الأعلي و ما يتخلف فيه و إن لم تنفصل الغسالة عن الأسفل، لصدق الغسل المطهر عليه فيتبعه المتخلف للوجه المتقدم، خلافا لما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن أعلي الكف و إن طهر بذلك إلا أن المتخلف فيه لا يطهر إلا بعد الانفصال من تمام الكف.

ثمَّ إن المتخلف لو انفصل بعد ذلك بقي علي طهارته و لو من جهة الاستصحاب، بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد النظر في السيرة، بل فيما تقدم في دليل الطهارة بالتبعية. و الظاهر طهوريته من الحدث و الخبث، لعموم طهورية الماء الطاهر.

و أما ما في الجواهر من أن القاعدة تقتضي تنجيسه، و البناء علي طهارته إنما هو لمكان الحرج و للأدلة الحاكمة بطهارة المغسول، و ذلك يقتضي الاقتصار علي ما تندفع به الضرورة، و هو الطهارة دون المطهرية.

فهو مدفوع: بأن الحرج و نحوه بعد أن كشف عن الطهارة ترتبت أحكامها و منها المطهرية، و إن لم يتوقف عليها دفع الحرج و نحوه.

و أما ما يقتضي عدم مطهرية الغسالة حتي بناء علي طهارتها- كما يأتي- فهو مختص بما ينفصل حين الغسل بوجه متعارف و يصدق عليه الماء المستعمل، و لا يعم المتخلف الذي هو من توابع المغسول و إن انفصل بعد ذلك.

ص: 403

______________________________

هذا، و ربما يدعي التسامح في النضح الحاصل حين الغسل بالوجه المتعارف، لكثرة الابتلاء به، و صعوبة التحرز عنه بنحو يغفل عنه العامة، فعدم التنبيه إلي نجاسته ظاهر في طهارته و العفو عنه.

لكن، في بلوغ ذلك حدا يصلح به للاستدلال و الخروج عن عموم الانفعال أو استصحابه إشكال، لإمكان الاعتماد في البيان علي العموم المذكور بعد كونه ارتكازيا، و عدم وضوح بلوغ صعوبة التحرز عنه حدا يعلم معه بعدم جعل الحكم المذكور.

نعم، لا ينبغي التأمل في ذلك بالإضافة إلي أجزاء المغسول لو انتضح من بعضها علي بعض، كانتضاح الماء من بعض الأصابع علي بعض عند تطهير اليد، أو انتضاح الماء من الرأس علي الصدر عند تطهير الجسد، لصعوبة التحرز عن ذلك و الغفلة عنه بالنحو الكاشف عن تعارف التسامح في ذلك، بحيث لو لم يكن في محله لاحتاج إلي الردع الظاهر، فعدمه يكشف عن كون التسامح المذكور في محله.

و مثله انفصال ماء الغسالة عن المغسول بما هو من توابعه، كمروره بالخاتم و السوار عند تطهير اليد.

هذا، و أما الكلام فيما يطهر بالتبعية كيد الغاسل، و الظرف الذي يغسل به، فهو موكول إلي الكلام في الطهارة بالتبعية من فصل المطهرات.

الثالث: بعد أن أشرنا إلي لزوم انفصال ماء الغسالة في طهارة المحل، فلو فرض جريانه إلي محل طاهر، فإن انفصل عنه بالوجه المتعارف باستمرار الجريان فلا إشكال، لتعارف ذلك في التطهير، بنحو يكشف عدم التنبيه عليه علي عدم انفعاله، و لعسر الاقتصار علي غسل المحل المتنجس بنحو يستلزم الهرج و المرج لو بني علي الانفعال.

و إن لم ينفصل عنه، بل جف عليه لقلته، فالظاهر أنه ينجسه بناء علي تنجيس المتنجس.

ص: 404

______________________________

نعم، لا بأس بمثل تفشي الماء من المحل المغسول من الثوب إلي ما يجاوره بالنحو المتعارف، و الذي لا يمكن التحرز عنه.

كما أنه لو جري ماء الغسالة إلي المحل الطاهر و تجمع فيه تعين تنجيسه له، كما لو طهّر الإنسان صدره فتجمع الماء في حجره، بل لا يبعد عدم كفاية انفصاله بعد ذلك في طهارة الجسم، لعدم تعارف مثل ذلك في التطهير حتي يستكشف العفو عنه تبعا، بل يتعين العمل فيه بالقاعدة المقتضية للنجاسة.

الرابع: اختلف القائلون بنجاسة الغسالة في أنه هل يعتبر في التطهير منها التعدد أو لا؟

فعن الشهيد في جميع كتبه و بعض من تأخر عنه أن حالها حال المغسول قبلها، فيلزم التعدد إن كانت من الغسلة الاولي، و إن كانت من الثانية نقصت واحدة، و هكذا.

و لا يبعد كون مرادهم ما يحتاج إلي التعدد من حيثية النجاسة، كالبول لا من حيثية المتنجس كالإناء. و عن المعالم الاجتزاء بالمرة مطلقا.

و الذي ينبغي أن يقال: يتعين الاكتفاء فيها بالمرة بناء علي ثبوت عموم، أو إطلاق يقتضي الاكتفاء بها في غير النجاسات المنصوص فيها التعدد، لخروجها عن النجاسات المذكورة و إن كانت غسالة منها، فالغسالة من البول ليست بولا، و تبعيتها له في أصل النجاسة لا يقتضي تبعيتها له في حكمها.

و مجرد حملها لأجزائه لا يلحقها به بعد فرض استهلاك الأجزاء المذكورة فيها، بل حتي مع فرض عدم الاستهلاك، لاختصاص دليل التعدد بإصابة البول مثلا، و لا يشمل الماء المختلط به، بل يتعين الرجوع فيه للإطلاق المفروض القاضي بالاكتفاء بالمرة.

و أما بناء علي عدم ثبوت ذلك- و أن اللازم في غير المنصوص فيه المرة هو التعدد لاستصحاب النجاسة- فاللازم البناء علي ذلك في الغسالة أيضا.

ص: 405

______________________________

و دعوي: أن المغسول الذي يجب فيه التعدد تضعف نجاسته بعد كل غسلة، و لذا يكفي فيه من العدد ما لا يكفي فيه قبل ذلك، فيكون حكم غسالته كذلك، لأن نجاستها مسببة عنه فلا يزيد حكمها عليه.

لا ترجع إلي محصل ظاهر، ليخرج به عن مقتضي الاستصحاب، لعدم القطع بتخفيف النجاسة بعد كل غسلة، بل يمكن زوالها دفعة بعد الأخيرة. مع عدم وضوح كون المعيار في التعدد علي شدة النجاسة، بل لعله أمر آخر تعبدي، فلا يخرج ذلك عن الأولوية الظنية.

و منه يظهر لزوم التعدد في غسالة ما ورد النص بعدم الحاجة فيه للتعدد، و إن لم يظهر منهم وجود قائل بذلك.

و لعله للأولوية المشار إليها، التي تقدم عدم الركون إليها، و لذا لم يتعدوا من الدم المعفو عنه في الصلاة إلي المتنجس به. فتأمل.

نعم، مقتضي إطلاق خبر العيص اللفظي أو المقامي، الاكتفاء بالمرة في الغسالة مطلقا و لو من الغسلة الأولي.

لكن الإشكال في سنده مانع من الاعتماد عليه.

و مما ذكرنا يظهر حال غير الغسالة مما يلاقي المحل النجس و يتنجس به.

فلاحظ.

الخامس: الظاهر أنه لو قيل بطهارة ماء الغسالة، فلا مجال لرفع الحدث و لا الخبث به، كما صرح به في الجواهر.

أما عدم رفع الحدث به فالظاهر أنه المعروف بينهم، بل في مفتاح الكرامة: أن القول برفع الحدث به نادر لم نعرف قائلا به. و في المعتبر و عن المنتهي دعوي الإجماع علي عدم رفعه به.

و يقتضيه خبر عبد اللّٰه بن سنان المتقدم في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

مضافا إلي ما دل علي عدم جواز الغسل و الوضوء بالماء الذي يدخل الرجل

ص: 406

حتي في الغسلة الثانية (1)،

______________________________

يده فيه و هي قذرة غير طاهرة، بناء علي عدم اعتبار ورود الماء علي المتنجس في مطهريته، كما تقدم في أدلة القول بالنجاسة، فإن النصوص المذكورة لو كانت قاصرة عن إثبات نجاسة الماء المذكور، فلا قصور في ظهورها في عدم صحة الوضوء و الغسل به.

و أما عدم رفع الخبث به، فقد يظهر من الجواهر الإجماع عليه، كعدم رفع الحدث، حيث قال: «قد يقال: إن القول برفع الخبث به دون الحدث خرق للإجماع المركب»، و يؤيده ما في محكي المبسوط، حيث قال: «و لا يجوز إزالة النجاسة إلا بما يرفع به الحدث».

لكن، قال في مفتاح الكرامة: «و أما بالنسبة إلي الخبث فغير مسلّم، بل الظاهر من كل من قال: إنه طاهر، أنه مزيل للخبث، كما يأتي في ماء الاستنجاء»، و هو مقتضي عموم مطهرية الماء الطاهر، و الخروج عنه في رفع الحدث لا يقتضي الخروج عنه في رفع الخبث.

و ما تقدم من المبسوط غير ظاهر، و لذا تقدم رفع الخبث بالمستعمل في رفع الحدث الأكبر و إن لم يرفع الحدث.

نعم، يلزم الخروج عن العموم المذكور في الخبث أيضا بما تقدم في موثق عمار، الوارد في غسل الإناء من لزوم غسله في كل غسلة بماء آخر غير ما غسل به في الغسلة السابقة.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من وروده علي النحو المتعارف من عدم جمع الغسالة ثمَّ استعمالها، خلاف ظاهر التقييد فيه، كما لا يخفي.

لكنه مختص بالغسلتين الأوليين، فإلحاق الغسلة الأخيرة بهما موقوف علي فهم عدم الخصوصية، أو علي الإجماع علي عدم الفصل.

و هو مشكل، بل لا مجال له بناء علي اختصاص الطهارة بالغسلة الأخيرة.

(1) خلافا لما تقدم من الخلاف، و عن المبسوط من التفصيل في غسالة

ص: 407

عدا ماء الاستنجاء، و سيأتي حكمه (1).

______________________________

الثوب بين الغسلة الاولي و الثانية، و تقدم احتمال رجوعه إلي أحد تفصيلين- التفصيل بين الغسلة المزيلة للعين و غيرها، و التفصيل بين الغسلة التي يتعقبها طهارة المحل و غيرها.

(1) في المسألة العاشرة من مبحث أحكام الخلوة.

ص: 408

الفصل الرابع: في الماء المشكوك

الفصل الرابع إذا علم إجمالا (1) بنجاسة أحد الإنائين و طهارة الآخر لم يجز

______________________________

(1) لما كان الكلام في العلم الإجمالي متفرعا علي الكلام في مقتضي الشك في النجاسة من حيث هو، كان المناسب الكلام في ذلك هنا، لعدم تعرض سيدنا المصنف قدّس سرّه له و لمناسبته للمقام.

فاعلم أن الأصل الطهارة في كل ما شك في نجاسته، سواء كانت الشبهة موضوعية أم حكمية، كما صرح به في الجملة في المعتبر و غيره، بل يظهر منهم المفروغية عنه، كما يشهد به سيرتهم في الفقه، حيث اهتموا بالكلام في طرق ثبوت النجاسة في الشبهة الموضوعية، و بالاستدلال عليها في الشبهة الحكمية.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي ارتكازيات المتشرعة في المقامين- ما رواه عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كل شي ء نظيف حتي تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك» «1».

و الظاهر تمامية سنده لرواية الشيخ له في التهذيب «2» بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيي، عن أحمد بن يحيي، عن أحمد بن الحسن بن فضال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار، و طريقه إلي محمد بن أحمد بن يحيي صحيح، و محمد نفسه من الأجلاء، و أحمد بن الحسن و من بعده ثقات، و إن كان بعضهم أو كلهم فطحية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) ج: 1 ص: 284 طبع النجف الأشرف.

ص: 409

______________________________

و أما أحمد بن يحيي، فالظاهر أنه الأودي الثقة دون غيره، لعدم تناسب الطبقة، و إن كان بعضهم ثقة أيضا.

و أما احتمال زيادته في السند بقرينة رواية بعض فقرات الحديث في الكافي و الاستبصار بسند خال عنه، بل يظهر من موضعين من التهذيب «1» رواية نفس الحديث خال عن الواسطة المذكورة، و لا سيما مع عدم معهودية توسطه بين محمد ابن أحمد و أحمد بن الحسن في غير هذا الموضع، و لعله لذا أسقطه في الوسائل، أو لاطلاعه علي نسخة من التهذيب خالية عنه.

فهو و إن كان قريبا جدا إلا أن في صلوحه لرفع اليد عن أصالة عدم الخطأ إشكال، و الظاهر أن ما في الوسائل من إسقاطه في هذا الموضع و غيره غفلة لا يبتني علي ما تقدم، لذكره له في باب كيفية تطهير الإناء «2». فتأمل.

و أشكل منه: تضعيف السند لذكر الحديث في كتاب جامع الأحاديث، مشتملا علي نسخة تتضمن إبدال أحمد بن يحيي بمحمد بن يحيي الذي يتعين حمله علي المعاذي، بقرينة رواية محمد بن أحمد بن يحيي عنه، حيث لا مجال لإثبات توثيقه بمجرد كونه من رجال كامل الزيارة بعد تصريح الشيخ قدّس سرّه في كتابه بتضعيفه مؤيدا باستثناء القميين له من رجال نوادر الحكمة.

لاندفاعه: بأنه لا مجال لرفع اليد عن النسخة المعروفة من التهذيب، التي جري عليها في الوسائل مع اتصال سنده برواية التهذيب، بمثل هذه النسخة المجهولة الأصل.

و بالجملة: ينبغي عد الحديث موثقا، كما صدر من سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره.

و لا ينبغي التوقف في سنده بعد ذلك، و بعد وضوح انجباره بعمل الأصحاب به في هذا الحكم و غيره من الأحكام التي انفرد بها، كتطهير الإناء، و التراوح في نزح البئر.

______________________________

(1) ص: 242، و ص: 248 طبع النجف الأشرف.

(2) الوسائل باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 410

______________________________

و ربما يستدل أيضا ببعض النصوص المتضمنة لعدم الاعتناء باحتمال المتنجس، أو التنبيه علي احتمال عدمه، مثل ما في خبر حفص أو موثقه: «ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم» «1»، و ما في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «يغسل ما استبان أنه أصابه، و ينضح ما يشك فيه.» «2»، و ما في صحيح ابن جعفر: «إن كان استبان من أثره شي ء فاغسله، و إلا فلا بأس» «3»، و ما في موثق عمار الوارد فيمن يجد في إنائه فأرة متسلخة: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه، ثمَّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه. و إن كان إنما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله، فلا يمس من ذلك الماء شيئا، و ليس عليه شي ء، لأنه لا يعلم متي سقطت فيه. ثمَّ قال: لعله أن يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها» «4».

و فيه: أنها ظاهرة في نفي احتمال طروء النجاسة المشكوكة، و هو مقتضي الاستصحاب، و لا إطلاق لها يقتضي نفي احتمال النجاسة في غير مورد الاستصحاب. و مجرد ظهورها في أن منشأ عدم الاعتناء هو الشك لا يكفي في التعميم بعد اختصاصها بالشك في التنجيس لا النجاسة.

نعم، يدل علي قاعدة الطهارة في خصوص الماء حديث حماد المروي بطرق متعددة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: الماء كله طاهر حتي تعلم أنه قذر» «5»، فإن ذيله ظاهر في قاعدة الطهارة الظاهرية.

لكن، تقدم في أدلة طهارة الماء ظهور صدره في عموم طهارة الماء بحسب أصله، فيختص ذيله بالشك في نجاسة الماء الطارئة، سواء كانت بنحو الشبهة الحكمية أم الموضوعية.

بخلاف موثق عمار، فإنه ظاهر في الطهارة الظاهرية بمجرد الشك، و لو مع

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 411

______________________________

احتمال النجاسة بحسب الأصل، و لا يختص باحتمال النجاسة الطارئة، كما يعم إطلاقه صورة الجهل بالحالة السابقة، و يعم الشبهة الحكمية و الموضوعية معا.

و من ثمَّ كان الدليل علي عموم القاعدة منحصرا به.

هذا، و قد يستشكل- كما يستفاد من كلام بعضهم- في إطلاقه من وجهين.

الأول: أن المتيقن منه إرادة الشك في طروء التنجيس و عروضه، و لا يحرز شموله للشك في نجاسته بالأصل، لأن ذلك هو المتيقن من الغاية فيه، و هي قوله عليه السّلام: «حتي تعلم أنه قذر»، لأن: «قذر» بتثليث الذال فعل، و بتثليثها و تسكينها أيضا اسم وصفي. قال في القاموس: «قذر كفرح و نصر و كرم فهو قذر بالفتح، و ككتف و رجل و جمل»، و قريب منه في لسان العرب. و علي الفعلية فهو ظاهر في التجدد، و يراد به التقذر بعد الطهارة، و لا يشمل احتمال قذارة الشي ء بالأصل.

و فيه. أولا: أن احتمال الفعلية بعيد جدا. بل المنساق بمقتضي المقابلة في الصدر للنظيف كونه وصفا مثله، نظير قوله عليه السّلام في موثق مسعدة بن صدقة: «كل شي ء هو لك حلال حتي تعلم أنه حرام بعينه فتدعه.» «1»، و لو كان فعلا لكان مبنيا علي نحو من العناية المحتاجة إلي تنبيه خاص من الرواة و المحدثين.

و ثانيا: أن الفعل في المقام ليس ظاهرا في التجدد، لأنه فعل القذارة لا التقذر، فيصح أن يقال: طهر المؤمن و قذر الكافر، و طهرت الشاة و قذر الكلب، و نحو ذلك مما يراد به ثبوت الطهارة و القذارة و لو من أول الأمر، لا تجددهما للموضوع بعد العدم.

و لا ملزم مع ذلك بحمله علي التجدد، و لا سيما مع إطلاق الشي ء، فإن الحمل علي التجدد موقوف علي تقييده بخصوص ما يكون طاهرا في نفسه، و لا مجال لإبقائه علي إطلاقه، لاستلزامه الحكم بطهارة ما يعلم بقذره بحسب الأصل، و حيث كان التقييد المذكور محتاجا إلي عناية بعد استحكام إطلاق الصدر،

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 412

______________________________

كان الحمل علي التجدد بعيدا في المقام لو فرض صلوح الفعل له في نفسه أو ظهوره فيه بدوا في الجملة.

اللهم إلا أن يقال: العدول من التعبير بالاسم مع كونه الأنسب بتركيب الكلام إلي التعبير بالفعل لا بد أن يكون لنكتة، و ليست هي إلا صلوح الفعل لبيان الحدوث و التجدد، فيلزم الحمل علي ذلك.

لكن، هذا مؤكد لما تقدم من أن ذكر الفعل محتاج إلي عناية خاصة تقتضي التنبيه، فإغفال ذلك معين للحمل علي الاسم الذي تقتضيه طبيعة الاستعمال.

و بالجملة: لا مجال للتشكيك في العموم من هذه الجهة، و لا سيما بعد كون العموم المذكور ارتكازيا، فإن المرتكز عرفا و شرعا أن القذارة علي خلاف الأصل و هي المحتاجة إلي إثبات، و أن الأصل هو الطهارة، فورود الحديث علي طبق الارتكاز المذكور قريب جدا، و هو المنسبق من إطلاقه، كما فهمه الأصحاب منه بدوا و بلا كلفة.

الثاني: أنه معارض بظهور بعض نصوص استصحاب الطهارة في عدم الاكتفاء بالشك في الحكم بها، و أنه لا بد معه من فرض الطهارة سابقا، كصحيح عبد اللّٰه بن سنان: «سأل أبي أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا حاضر: اني أعير للذمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ فاغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: صل فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتي تستيقن أنه نجّسه» «1»، و ما في صحيح زرارة من تعليل عدم الإعادة مع الصلاة بالثوب المظنون النجاسة بقوله: «لأنك كنت علي يقين من طهارتك، ثمَّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا» «2»، فإن اشتمالهما علي تعليل جواز الدخول في الصلاة و عدم وجوب إعادتها، بمجموع الأمرين من الشك و سبق الطهارة أو سبق اليقين بها، ظاهر في عدم كفاية

______________________________

(1) الوسائل باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 413

______________________________

الشك بنفسه في الحكمين المذكورين الذين هما من آثار إحراز الطهارة، فيدلان علي عدم إحراز الطهارة بمجرد الشك، و يعارضان موثق عمار.

و منه يظهر: أنه لا مجال للتخلص عن محذور المعارضة بأن أخذ اليقين السابق في الحكم الاستصحابي لا ينافي عدم أخذه في حكم قاعدة الطهارة، لاختلاف الحكمين سنخا.

لاندفاعه: بأن المعلل في الصحيحين ليس هو الحكم الاستصحابي، بل جواز الدخول في الصلاة و عدم إعادتها، و هما من آثار إحراز الطهارة، المشترك بين قاعدة الطهارة و استصحابها، فظهورهما في عدم إحراز الطهارة بمجرد الشك مناف لقاعدة الطهارة التي هي مفاد الموثق.

و فيه- مع اختصاص الصحيحين بالثوب، فيكفي في رفع التعارض بينهما و بين الموثق تخصيصه بهما- أن الاستصحاب لما كان أقوي إحرازا من قاعدة الطهارة، لابتنائه علي وجود مقتضي إحراز الشي ء، زائدا علي عدم إحراز ما ينافيه، الذي هو مفاد القاعدة، فالمتعين في الجمع بين الصحيحين و الموثق حمل التعليل فيهما باليقين السابق علي أن منشأه أقوائيته في الإحراز، لا توقف الإحراز عليه، لينافي الموثق، فهو نظير التعليل بالبينة في موردها، حيث لا ينافي الاستغناء عنها بالأصل من استصحاب و نحوه، و إنما علل بها لأنها أقوي إحرازا من الأصل.

هذا هو المهم من الكلام في أصل الطهارة، و بقيت بعض الجهات العامة المشتركة بينه و بين سائر الأصول، كنسبته مع الأدلة و الأصول الأخر، لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد استقصاء الكلام فيها في مباحث الأصول.

و أما الكلام في طرق ثبوت النجاسة، فهو موكول إلي المسألة الخامسة و العشرين من مبحث الطهارة من الخبث، حيث تعرض له سيدنا المصنف قدّس سرّه هناك.

و لعل اللّٰه سبحانه و تعالي يعيننا في بلوغ ذلك الموضع و الكلام فيه تبعا لما ذكره، إنه ولي التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 414

رفع الخبث بأحدهما و لا رفع الحدث (1).

______________________________

(1) بلا إشكال ظاهر، و استفاضت تصريحاتهم به، علي اختلاف عباراتهم، و ادعي عليه الإجماع في الخلاف و المعتبر و الجواهر، و عن الغنية و التذكرة و ظاهر السرائر و غيرها.

و العمدة فيه ما تقرر في الأصول من منجزية العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الذي يترتب عليه العمل، بنحو يمنع من المخالفة القطعية و يلزم بالموافقة القطعية، فلا تجري معه الأصول الترخيصية، لا في تمام الأطراف و لا في بعضها، و حيث كان رفع الحدث و الخبث بالماء نحوا من العمل المقتضي للسعة في مقام امتثال التكليف بما يتوقف علي الرفع كان العلم الإجمالي في المقام منجزا و مانعا منه و من جريان أصل الطهارة في كلا المائين.

هذا، و لا يفرّق في ذلك بين إمكان رفع الحدث و الخبث بكلا المائين علي تقدير طهارته و امتناع رفعه بأحدهما، كما لو كان مستعملا في رفع الحدث الأكبر، و امتناع رفع كل من الحدث و الخبث به- كالمستعمل في رفع الخبث بناء علي طهارته و عدم مطهريته حتي من الخبث.

فإنه لا مجال فيه لتوهم اختصاص التنجز بحرمة الشرب، للعلم بترتبه علي تقدير نجاسة كل من المائين، دون ارتفاع المطهرية من الخبث أو مطلقا، لعدم العلم بترتبه علي كل حال بعد احتمال نجاسة المستعمل الذي لا يترتب علي نجاسته إلا حرمة شربه.

لما ذكرناه في الأصول من عموم المنجزية لجميع الآثار العملية المترتبة علي الأطراف، و إن امتاز بعضها بأثر.

نعم، لو فرض عدم الأثر لنجاسة أحد المائين، أو عدم الابتلاء به تعيّن عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام، و جري أصل الطهارة في الآخر، علي ما يذكر مفصلا في الأصول.

ص: 415

______________________________

ثمَّ إن ما ذكرنا إنما يقتضي عدم الاكتفاء باستعمال أحد المائين في رفع الحدث أو الخبث، و لا يمنع من استعمالهما معا بنحو يحرز معه الصلاة بالطهارة، كما لو تطهّر من الخبث بأحدهما و صلّي، ثمَّ تطهّر بالآخر و صلّي، أو تطهّر من الحدث بأحدهما و صلّي، ثمَّ طهّر أعضاءه بالآخر و تطهر به من الحدث و صلّي بل مقتضي القاعدة جواز ذلك مع وجود ماء غيرهما و وجوبه مع الانحصار بهما.

لكن، قد يمنع عنه في الجملة، كما حكي عن غير واحد، بل ربما نسب إلي قول الأصحاب أو عملهم، و ظاهر المعتبر المنع عنه في صورتي الانحصار و عدمه.

و قد يوجه. تارة: بما في المعتبر من أنه ماء محكوم بالمنع عنه، فيجري استعماله مجري النجس، و في المدارك أن هذين المائين قد صار محكوما بنجاستهما شرعا عند الأصحاب.

و اخري: بعدم الجزم بالامتثال في كل من الطهورين و الصلاتين، فتتعذر العبادية فيهما معا و إن كان أحدهما واجدا للشرط.

و ثالثة: بأن حرمة استعمال الماء النجس في الطهارة يقتضي اجتنابهما معا خروجا عن العلم الإجمالي المذكور، فيبطل الوضوء أو الغسل بهما بكل منهما، لتعذر التقرب به، بل حرمة الصلاة بالنجس و الفاقدة للطهور تمنع من التقرب بكل من الصلاتين.

و الكل كما تري! إذ لا دليل علي المنع عنهما، و لا علي كونهما بحكم النجس حتي النص الآتي، و غاية ما ثبت لزوم الاحتياط فيهما، فلا وجه للمنع عما لا ينافي الاحتياط المذكور، خصوصا مع انحصار الماء بهما الملزم بذلك.

و الجزم بالنية غير معتبر في العبادة، و لا سيما مع تعذره، كما في فرض الانحصار، و التنزل للتيمم لا وجه له مع فرض وجدان الماء بسببهما.

و حرمة استعمال النجس في العبادة تشريعية لا ذاتية، كحرمة الصلاة بالنجس و الفاقدة للطهور، فلا حرمة في الإتيان بكل منهما احتياطا، لاحتمال مشروعيته في نفسه.

ص: 416

______________________________

علي أن ذلك لا يقتضي المنع مع انحصار الماء بهما، بل التخيير، للتزاحم بين الموافقتين القطعيتين، و تقديم جانب الحرمة غير ظاهر، و لا سيما في مثل الصلاة و الطهارة لها المعلومتي الأهمية.

إلا أن يكون موضوع التيمم مطلق تعذر الماء، و لو بلحاظ لزوم المحذور العقلي، فتكون حرمة المخالفة الاحتمالية للتحريم عقلا محققة لموضوع التيمم، و رافعة لموضوع وجوب الطهارة المائية و إن كانت مهمة في نفسها.

نعم، قد يستدل علي ذلك بموثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيهما هو، و حضرت الصلاة، و ليس يقدر علي ماء غيرهما؟ قال: يهريقهما جميعا و يتيمم» «1»، و نحوه موثق سماعة «2» المعمول بهما عند الأصحاب، كما في المعتبر، و المقبولان عندهم، كما عن محكي المنتهي.

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «لا إشكال في وجوب التيمم مع انحصار الماء في المشتبهين، لأجل النص و الإجماع المتقدمين».

لكن، الخروج بهما عن القاعدة المقتضية لجواز الجمع بينهما بالوجه المذكور و نحوه. لا يخلو عن إشكال، لقرب ورودهما للترخيص في التيمم، لدفع توهم عدم مشروعيته، بسبب القدرة علي الماء الطاهر واقعا تسهيلا علي المكلّف، لما في الجمع بالوجه المذكور من الحرج النوعي، و من الابتلاء بالنجاسة ظاهرا أو احتمالا علي ما يأتي الكلام فيه، و إلا فيصعب جدا البناء علي عدم مشروعية الطهارة بما هو الطاهر منهما بمجرد الاشتباه، بحيث لو توضأ بأحدهما برجاء كونه الطاهر لكان وضوءه باطلا واقعا و إن صادف الواقع، كما نبه لذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه.

فالمتيقن منهما عدم وجوب الجمع بالوجه المذكور، لا عدم مشروعيته.

و هو المتيقن من الإجماع أيضا، لما يظهر من الخلاف من أن الإجماع

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 417

______________________________

المذكور في قبال أقوال العامة، التي هي بين ملزم بالصلاة بعد كل من الوضوئين مع غسل الأعضاء بالثاني و عدمه، و ملزم بالتحري و اختيار مظنون الطهارة.

و لو فرض انعقاد الإجماع علي عدم جواز الجمع بالوجه المذكور أشكل الاعتماد عليه، بعد قرب استناده للنص أو الوجوه الأخر التي عرفت الكلام فيها.

هذا، و قد يظهر من شيخنا الأستاذ قدّس سرّه تنزيل الموثقين علي صورة تعذر الوجه المذكور، لقلة الماء، أو لزوم الحرج منه، و أنه مع عدمهما يجب الوجه المذكور مع انحصار الماء عملا بالقاعدة المذكورة، و سبقه لذلك في الجملة الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

لكنه خروج عن إطلاق النص الذي يلزم تخصيص القاعدة به، و تنزيله علي الحرج النوعي لا الشخصي.

غاية الأمر أنه يحمل علي الترخيص في التيمم دون الإلزام. و اللّٰه سبحانه و تعالي أعلم.

بقي في المقام أمور.

الأول: أن الوجه المذكور و إن أحرز معه الصلاة مع الطهارة إجمالا، إلا أن المكلف يبتلي معه باحتمال نجاسة أعضائه، لاحتمال كون النجس هو المستعمل ثانيا.

و قد وقع الكلام في مطابقة الاحتمال المذكور للأصل و عدمها.

و لا يخفي أنه بلحاظ حال ما بعد كل من الاستعمالين يكون المقام من تعاقب الحالتين المتضادتين مع الجهل بالتاريخ فيهما، و التحقيق فيه جريان الاستصحابين ذاتا و سقوطهما بالمعارضة.

و من هنا فقد يوجه بوجهين آخرين.

أولهما: أنه حين ملاقاة الماء الثاني للبدن قبل انفصاله و صدق عنوان الغسل المطهر يعلم بنجاسة البدن، و حيث كانت معلومة التاريخ أمكن استصحابها.

إن قلت: الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب طهارة البدن المجهولة

ص: 418

______________________________

التاريخ المعلومة الحصول، إما بعد استعمال الأول أو بعد الاستعمال الثاني الذي تقدم آنفا أنه يجري ذاتا، فإنه كما يعارض استصحاب النجاسة المجهولة التاريخ- علي ما تقدم- يعارض استصحاب النجاسة المعلومة التاريخ المدعي هنا، و لا وجه لفرض المعارضة أولا بين مجهولي التاريخ و تساقطهما، ثمَّ الرجوع لاستصحاب النجاسة المعلومة التاريخ وحده، بعد عدم تأخره رتبة عنهما.

قلت: استصحاب مجهول التاريخ في أحد الضدين إنما يجري ذاتا مع الجهل بتاريخ الضد الآخر، فيتساقطان بالمعارضة، و أما مع العلم بتاريخ الضد فلا يجري ذاتا، كي يصلح للمعارضة.

و ما سبق من فرض التعارض بين مجهولي التاريخ في المقام بعد فرض جريانهما ذاتا مبني علي إغفال النجاسة المعلومة التاريخ المشار إليها هنا.

و تمام الكلام في ذلك في الأصول.

ثانيهما: أنه في حال غسل الأعضاء بالماء الثاني حيث يكون الغسل تدريجيا يعلم المكلف بنجاسة بعض أعضائه إجمالا، فتستصحب.

و استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه: بأنه يتوقف علي كون المانعية من آثار الكلي، ليجري استصحابه، أما لو كانت من آثار الفرد كان من استصحاب الفرد المردد، الذي هو محل الإشكال.

و يندفع: بأن المانعية و إن كانت من آثار الفرد ظاهرا- كالتنجيس- إلا أن الظاهر اختصاص المانع من استصحاب الفرد المردد بما إذا كان بعض أطراف الترديد معلوما بالتفصيل، حيث يمتنع تنجيز الاستصحاب للحكم فيه، بخلاف المقام، حيث كانت جميع الأطراف مشكوكة قابلة لتنجيز الحكم الاستصحابي بالإضافة إليها، فإنه لا مانع من استصحاب المعلوم بالإجمال و تنجيزه علي ما هو عليه من الترديد المقتضي للاحتياط في تمام الأطراف. فالمقام نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة إحدي اليدين، ثمَّ غمسا معا في كرّ مردّد بين الماء

ص: 419

______________________________

المطلق و المضاف.

و منه يظهر: أنه لو فرض ملاقاة جسم واحد لكلا العضوين برطوبة لزم البناء علي نجاسته، لملاقاته لمستصحب النجاسة، و إن كان مرددا بين العضوين. كما أنه علي الوجه الأول يتعين البناء علي نجاسة الملاقي لأحد العضوين.

نعم، بناء علي معارضة الاستصحاب في معلوم التاريخ بالاستصحاب في مجهول التاريخ، يكون استصحاب النجاسة بالوجهين المذكورين معارضا باستصحاب الطهارة، للعلم بأن ما هو النجس من العضوين حين الشروع في التطهير قد طرأته الطهارة إما قبل الشروع فيه أو بعد الفراغ منه.

و من ثمَّ لم يتمسك بعض مشايخنا بالاستصحاب في المقام، و إنما ادعي تنجز احتمال النجاسة بمقتضي العلم الإجمالي، حيث يجب إحراز الفراغ عنه بتطهير تمام الأعضاء، و هو غير محرز بإكمال غسلها بالماء الثاني، لاحتمال نجاسته.

فتأمل جيدا.

و لازم ذلك عدم الحكم بنجاسة الملاقي لهما معا، فضلا عن الملاقي لأحدهما، لعدم إحراز نجاسة الملاقي لا وجدانا، و لا بالأصل، و وجوب الاحتياط فيهما من جهة العلم الإجمالي لا يستلزمه. لكن أشرنا إلي عدم تمامية المبني المذكور.

و مما ذكرنا ظهر عدم جواز سلوك الطريق المذكور لمن يعلم من نفسه الابتلاء بتكليف يعتبر في امتثاله طهارة الأعضاء، و لا يتيسر له تطهيرها حينه، لما في سلوك هذا الطريق من التعجيز عن امتثال التكليف المفروض، و هو قبيح موجب لاستحقاق العقاب.

كما ظهر بذلك أنه لا يجوز الاكتفاء بصلاة واحدة بعد الوضوء أو الغسل من الإنائين بالوجه المتقدم، لأن الطهارة الحدثية و إن أحرزت بذلك، إلا أن إحراز النجاسة بالأصل مانع من الاكتفاء بالصلاة المذكورة، خلافا لما قد يظهر من السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي.

ص: 420

______________________________

نعم، لو أقدم المكلف علي ذلك، و تعذر عليه تطهير بدنه صحت صلاته و ما بعد ذلك، و إن كان مفرطا في ترك الصلاة بين الاستعمالين، لسقوط مانعية النجاسة عند الاضطرار و إن كان بسوء الاختيار.

الثاني: الظاهر عدم وجوب إهراق الإنائين مع إرادة التيمم للانحصار بهما- فضلا عن صورة عدم الانحصار- كما في المعتبر، و القواعد، و جامع المقاصد، و المسالك، و عن السرائر و الذكري و غيرها، و عن الدلائل: أنه مذهب أكثر المتأخرين.

خلافا لما في الفقيه من وجوب الإهراق، و هو المحكي عن النهاية، و ظاهر الصدوق الأول. و قد يستدل عليه بالموثقين المتقدمين.

لكن، تقدم عدم ظهورهما في الوجوب، لقرب ورودهما لدفع توهم الحظر، حيث قد يتوهم كون الإهراق تعجيزا معاقبا عليه.

مضافا إلي قرب كون الأمر بالإراقة فيهما كناية عن عدم صلوح الماء للانتفاع المعتد به، و لذا ورد لبيان انفعال الماء في كثير من الموارد من دون أن يحمل فيها علي الوجوب.

و دعوي: أن الإراقة مقدمة لمشروعية التيمم، لتوقفها علي عدم الماء الطاهر المفروض العلم بوجوده في أحد الإنائين.

مدفوعة: بأن وجود الماء المذكور إن اقتضي وجوب الطهارة المائية و عدم مشروعية التيمم، لم يجز الإهراق، لأن فيه تعجيزا عن الواجب.

و أشكل من ذلك ما في المقنعة، و عن علم الهدي من وجوب الإهراق مع وجود الماء الآخر، لقصور النص و الوجه المذكور عنه.

و من ثمَّ لا يبعد حمل كلامهما علي الكناية عن عدم الانتفاع، كما تقدم في الموثقين.

كما لا يبعد حمل كلام غيرهما علي ذلك، أو علي المحافظة علي عبارة النص، كما هو ديدنهم.

ص: 421

______________________________

الثالث: الظاهر اختصاص الموثقين بالماء القليل، لقرب انصراف الإنائين عن الكر، و لا سيما بملاحظة ظهورهما في فرض انفعال أحدهما بوقوع القذر فيه، الذي لا يتأتي في الكر، بل لا يكون نجسا إلا بالتغيّر أو بتجمّعه من الماء النجس.

لكن لا بد من إلغاء خصوصية موردهما و تعميمهما للكر، بعد اشتراكه مع القليل في الجهات الارتكازية المناسبة للتوقف عن المائين من لزوم العسر النوعي و الابتلاء بالنجاسة الظاهرية، لجريان الوجه الثاني لاستصحاب النجاسة فيه، بل لا يبعد جريان الوجه الأول، فإن التطهير بالكر و إن لم يحتج إلي انفصال ماء الغسالة و التعدد علي قول، إلا أنه موقوف علي استيلاء الماء علي الموضع النجس، و الظاهر أنه متأخر عن الملاقاة المقتضية للنجاسة و لو بزمان قليل جدا، فيعلم بنجاسة الجسم في ذلك الزمان تفصيلا و يجري بلحاظه الاستصحاب. فتأمل.

و منه يظهر الوجه في إلغاء خصوصية الإناء و العدد، و نحوهما مما هو ملغي ارتكازا.

الرابع: إذا لم ينحصر الماء في المشتبهين، فحيث لا إشكال في وجوب الطهارة المائية، فالظاهر جواز الجمع بين المائين بالوجه المتقدم، عملا بالقاعدة حتي لو لم نقل بجواز ذلك مع الانحصار، لأجل الموثقين المتقدمين، لاختصاصهما بصورة الانحصار، و لا مجال لإلغاء خصوصية موردهما.

و دعوي: أولوية الصورة المذكورة في البطلان.

ممنوعة، إذ بعد كون ذلك علي خلاف القاعدة فمن الممكن كون تشريع التيمم في موردهما بنحو العزيمة، و يكون ذلك هو المانع من استعمالهما، و لا دليل علي مانعية الاشتباه من الامتثال بالوجه المذكور، مع الانحصار ليثبت مع عدمه بالأولوية. فلاحظ.

الخامس: لما كان الموثقان مختصين بالطهارة الحدثية، فاللازم في الطهارة الخبثية الرجوع للقاعدة المقتضية للاحتياط بالتطهير بكل منهما و الصلاة بعد كل تطهير، بعد ما أشرنا إليه غير مرة من عدم المحذور في

ص: 422

______________________________

الامتثال بالتكرار.

و محذور النجاسة الظاهرية المستصحبة بعد استعمال المائين بالإضافة إلي الصلوات اللاحقة لو فرض تعذر التطهير، غير مهم بعد استلزام تركهما للقطع بالنجاسة.

إلا أن يفرض توقف التطهير بالوجه المذكور علي إصابة مقدار معتدّ به من الموضع الطاهر، فيقع التزاحم بين وجوب إحراز الطهارة في الصلاة الحاضرة و وجوب تقليل النجاسة في الصلاة اللاحقة.

و كذا لو فرض عدم إحراز النجاسة قبل الاستعمالين، بل تنجز احتمالها بعلم إجمالي و نحوه، حيث يقع التزاحم حينئذ بين الموافقة القطعية في الصلاة الفعلية و الموافقة الاحتمالية في الصلوات اللاحقة، و اللازم حينئذ الترجيح بالأهمية أو التخيير، علي تفصيل و كلام يذكر في مباحث التزاحم.

كما أنه لو فرض لزوم العسر من الجمع بالوجه المذكور تعين الاقتصار علي الموافقة الاحتمالية، بناء علي ما هو التحقيق من تبعيض الاحتياط في مثل ذلك لا سقوطه رأسا.

السادس: ما تقدم من الكلام لا يختص بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من فرض العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين و طهارة الآخر، بل يكفي في ذلك احتمال طهارة الآخر إذا لم يكونا مستصحبي النجاسة، فإن أصالة الطهارة و استصحابها في غير متيقن النجاسة إجمالا يقتضي الاجتزاء به، فيكتفي بتحصيله بالجمع بينهما بالوجه المتقدم، بل قد يجب علي ما سبق.

السابع: لما كان الاجتناب عن الإنائين في المقام عقليا من جهة العلم الإجمالي تعين توقفه علي ما يعتبر في منجزية العلم الإجمالي من الابتلاء و ترتب الأثر العملي علي تمام الأطراف و غير ذلك، كما يجري فيه ما يجري فيه من عروض موانع التنجيز علي بعض الأطراف و الانحلال و غير ذلك مما فصل الكلام فيه في الأصول، و لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

ص: 423

و كذا لا يحكم بنجاسة الملاقي لأحدهما (1)،

______________________________

(1) بل يحكم بطهارته، كما هو ظاهر المدارك- حاكيا عن المحقق الثاني في حاشية الشرائع- القطع به، و عن الشهيد الثاني في روض الجنان الميل إليه، و مال إليه الوحيد في حاشيتها، و قوّاه في الجواهر ناسبا له للمشهور بين الأصحاب، و نسبه في الحدائق إلي تصريح جملة من المتأخرين و متأخريهم.

عملا منهم باستصحاب الطهارة في الملاقي، كما صرح به في المدارك.

بل لا يبعد جريان استصحاب الطهارة في الملاقي نفسه لإثبات طهارة الملاقي، فيغني عن استصحاب طهارة الملاقي، لأنه سببي بالإضافة إليه.

و عدم جريان الاستصحاب المذكور لإثبات جواز ارتكاب الملاقي نفسه من جهة العلم الإجمالي، لا ينافي جريانه لإثبات طهارة الملاقي، لتحقق موضوع الأصل فيه ذاتا، فيقتصر في عدم ترتب الأثر عليه علي مورد المانع، و هو العلم الإجمالي، الذي لا يصلح لتنجيز احتمال التكليف في الملاقي، كما سيأتي.

و التفكيك في الآثار غير عزيز، و لا سيما بناء علي ما هو المختار في وجه عدم العمل بالأصل الترخيصي في الأطراف، من أن العلم الإجمالي لا يقتضي خروج الطرف عن دليل الأصل تخصيصا، بل اجتماع الحيثيتين فيه و تزاحمهما المقتضي للعمل علي طبق الحيثية الاقتضائية، و هي حيثية التنجز المسببة عن العلم الإجمالي، إذ بناء علي ذلك لا مجال للمنع من العمل بحيثية الأصل في الملاقي بعد فرض عدم تحقق الحيثية المزاحمة فيه. فتأمل جيدا.

هذا، و عن العلامة قدّس سرّه في المنتهي وجوب الاجتناب عن الملاقي حتي يطهر، و وافقه في الحدائق. و استدل له العلامة في محكي المنتهي بأن المشتبه بحكم النجس.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 424

و فيه: أنه لا وجه للتنزيل المذكور، كما ذكره غير واحد. و وجوب الاجتناب عنه عقلا خروجا عن العلم الإجمالي لا يقتضيه.

ص: 424

______________________________

و مثله ما في الحدائق من أنه و إن لم يكن بحكم النجس من تمام الجهات- و لذا تصح الصلاة في الثوبين المشتبهين مع التكرار- إلا أنه بحكمه في حكم الملاقي، قال: «للمشتبه في هذه المسألة و أمثالها حالة متوسطة، فمن بعض الجهات- كالأكل و الشرب و الملاقاة برطوبة- حكمه حكم النجس، و من بعض الجهات- كالصلاة في الثوبين المشتبهين باعتبار تكرارها فيهما- له حالة ثالثة».

لاندفاعه: بعدم الوجه في التنزيل المذكور لو أريد منه الواقعي، و إن أريد منه الظاهري الراجع إلي لزوم الاجتناب احتياطا فلا وجه لتعميمه للملاقاة، بعد كون منشأ الاجتناب عن المشتبه هو تنجز احتمال التكليف المترتب علي نجاسته بسبب العلم الإجمالي، فإن ذلك يختص بالتكليف الفعلي المترتب علي النجس، دون مثل وجوب الاجتناب عن الملاقي، الذي هو تكليف تعليقي موقوف علي تحقق الملاقاة، فمع فرض عدم تحققها حين العلم الإجمالي لا مجال لتنجزه به، و بعد تحققها و إن احتمل فعلية التكليف المذكور، إلا أنه لا يتنجز بالعلم الإجمالي الحاصل حين الاشتباه، لخروجه عن أطرافه، فلا مانع من الرجوع فيه للأصل الترخيصي من استصحاب أو غيره.

و نحوه ما عن الأسترابادي في الفوائد المدنية في مشكوك الكرية من أن الملاقي بحكم الملاقي في الطهارة و النجاسة و التوقف.

لعدم الدليل علي عموم التبعية المذكورة، و مجرد ثبوتها في الطهارة لعدم المقتضي للنجاسة، و في النجاسة لدليل الانفعال، لا يقتضي ثبوتها في التوقف، و لا سيما إذا كان عقليا، كما في المقام.

إلا أن يشتركا في منشأ التوقف، كما لو شك في نجاسة الملاقي من باب الشبهة الحكمية قبل الفحص، و قد عرفت أن منشأ التوقف في المقام مختص بالملاقي، لأنه الطرف للعلم الإجمالي دون الملاقي.

إن قلت: الملاقي و إن خرج عن العلم الإجمالي في الملاقي و صاحبه، إلا أنه

ص: 425

إلا إذا كانت الحالة السابقة فيهما النجاسة (1).

______________________________

طرف لعلم إجمالي آخر، للعلم الإجمالي أيضا بنجاسة الملاقي و صاحب الملاقي، فيجب الاحتياط فيه.

قلت: لا مجال لمنجزية العلم الإجمالي المذكور إذا كانت الملاقاة بعد نجاسة أحد الطرفين، لمانعية العلم الإجمالي الأول من منجزيته بعد كونه أسبق منه معلوما.

إلا أن يفرض ابتلاء الملاقي بما يمنع من منجزية العلم الإجمالي الأول- كالخروج عن الابتلاء- فيتعين منجزية العلم المذكور، و وجوب الاجتناب عن الملاقي.

كما أنه لو كانت الملاقاة حين نجاسة أحد الطرفين، فالمتعين منجزية العلمين معا و وجوب الاجتناب عن الملاقي أيضا، لعدم المرجح لأحدهما و لا يبعد خروجه عن مفروض كلام الأصحاب.

نعم، لما كان اجتناب الملاقي في هاتين الصورتين من جهة العلم الإجمالي القائم به و بصاحب الملاقي، اعتبر فيه ما يعتبر في منجزية العلم الإجمالي من الابتلاء بتمام الأطراف و غيره مما يذكر في مباحث العلم الإجمالي. و تمام الكلام في هذه المسألة في الأصول، إذ لا مجال لاستقصائه هنا بعد تشعبه بسبب اختلاف المباني و كثرة الصور. و اللّٰه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد.

(1) أما لو لم يعلم بطهارة أحدهما، بل بنجاسة أحدهما لا غير، فظاهر لعموم دليل الاستصحاب. بلا إشكال.

و أما مع العلم بطهارة أحدهما فلأن العلم المذكور لا أثر له في مقام العمل بعد فرض اقترانه- بالعلم الإجمالي- بالنجاسة المقتضي للاحتياط بالاجتناب عنهما معا، فلا يصلح للمنع من جريان استصحاب النجاسة في الملاقي، بنحو يترتب عليه نجاسة ملاقية، بناء علي ما هو التحقيق من تحقق موضوع الأصول في أطراف العلم الإجمالي و شمول أدلتها له ذاتا.

ص: 426

و إذا اشتبه المطلق بالمضاف (1).

______________________________

نعم، لا مجال لجريان الاستصحاب فيهما معا بلحاظ ترتب الأثر فيهما أو في ملاقييهما، لو كان لكل منهما ملاق بعد ثبوت قيام العلم الإجمالي المنجز، إذ لو أريد بالاستصحاب محض لزوم الاجتناب، فهو يترتب عقلا بسبب العلم بحرمة أحدهما، فيلغو جعل الأصل بلحاظه، و إن أريد به إحراز النجاسة و التكليف فيهما معا، بحيث يكون اجتناب كل منهما بملاك الإطاعة لتكليفه المحرز بالاستصحاب، لا لمحض الاحتياط في التكليف الواحد المعلوم بالإجمال بحيث يكون ارتكابهما معا معصيتين، و اجتنابهما طاعتين، فهو مناف للعلم الإجمالي بإباحة أحدهما الراجع إلي عدم العقاب إلا علي واحد منهما.

و بالجملة: لا بد في جريان الأصل من ترتب أثر لا يترتب علي العلم الإجمالي، و لا ينافيه، علي ما فصّل الكلام فيه في الأصول بما لا مجال لاستقصائه هنا.

و مما ذكرنا يظهر جريان استصحاب النجاسة في الملاقي، و إثبات نجاسة الملاقي له، حتي لو لم يعلم ببقاء أحدهما علي النجاسة، لاحتمال تطهيرهما معا.

لكن، لا يجري الاستصحاب فيهما معا لإثبات نجاستهما أو نجاسة ملاقييهما لو كان لكل منهما ملاق، لما سبق من منافاتهما للعلم بالطهارة، بل يجري حينئذ استصحاب نجاسة أحدهما إجمالا لا غير، فيكونان كما لو علم إجمالا بنجاسة أحدهما. فلاحظ.

(1) حيث لم يتعرض سيدنا المصنف قدّس سرّه لحكم الشك في إطلاق الماء مع قطع النظر عن العلم الإجمالي، فالمناسب التعرض لذلك هنا قبل الكلام في مقتضي العلم الإجمالي.

فنقول: الكلام. تارة: مع العلم بالحالة السابقة من الإطلاق أو الإضافة.

و اخري: بدونه.

ص: 427

______________________________

أما في الأول: فالذي ذكره غير واحد الرجوع لاستصحاب الحالة السابقة عملا بإطلاق دليل الاستصحاب.

نعم، نبّه سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره، إلي اختصاص ذلك بما إذا كان الشك للشبهة الموضوعية، دون الشبهة المفهومية، لعدم جريان استصحاب المفهوم المردد علي التحقيق.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم جريانه مع تعدد الموضوع، بأن استند احتمال تبدل حال الماء إلي إضافة ما لا يستهلك فيه عرفا، فلا يصح نسبة الحال السابق من الإطلاق أو الإضافة للماء المشكوك، كي يتحد موضوع اليقين و الشك، و الكلام في جريان الاستصحاب لا بد أن يكون في فرض وحدة الموضوع.

و مع ذلك لا يخلو جريان الاستصحاب عن إشكال، لأن مفاده إثبات المائية للموجود الخارجي أو سلبها عنه بمفاد كان و ليس الناقصتين، الراجع إلي مفاد النسبة التركيبية، و هو موقوف علي أخذ ذلك في موضوع الأثر، بأن تؤخذ المائية بحسب الأدلة شرطا في موضوع الأحكام- من الطهورية و غيرها- زائدا علي ذاته، كالطهارة، بأن يكون الموضوع مركبا، قد أحرز بعضه بالوجدان و بعضه بالأصل، فالوضوء بشي ء محرز بالوجدان، و كون ذلك الشي ء ماء محرز بالأصل.

لكنه خلاف ظاهر الأدلة المذكورة جدا، لظهورها في أخذ عنوان الماء في موضوع الأحكام بما هو عنوان وجداني بسيط من دون أن ينحل إلي ذات و خصوصية، بينهما نحو نسبة حملية، لاختصاص ذلك بالعناوين الاشتقاقية و ما ألحق بها من العناوين التركيبية عرفا، كالزوج و العالم، دون العناوين الجامدة كالماء و الأرض و الحجر، مما لا يدرك العرف انحلاله، و إن كان منحلا حقيقة، لإمكان التبدل فيه مع حفظ الذات.

و أخذ الفقهاء قيد الإطلاق زائدا علي الماء إنما هو للتوضيح و التمييز بينه و بين المضاف في مقام التقسيم إليهما، لا لأخذه شرعا، بل هو وصف تأكيدي لا يزيد علي اعتبار المائية.

ص: 428

______________________________

و بالجملة: المائية المقوّمة للإطلاق المقابل للإضافة و إن لم تكن مقومة للذات حقيقة- كالمائية المقوّمة للعنصر التي تعم المضاف، بل مثل البول و الريق مما لا يطلق عليه الماء حتي مع الإضافة- بل هي أمر زائد عليها منفك عنها، إلا أن العرف يغفل عن التحليل المذكور، و يري الماء عنوانا بسيطا لا تركيب فيه، فأخذه في موضوع المطهرية شرعا ظاهر في الجري علي المفهوم العرفي و عدم لحاظ التحليل فيه، فيشكل استصحاب مائيته أو عدمها بمفاد كان و ليس الناقصتين، لعدم كونها بالوجه المذكور دخيلة في موضوع الأثر، ليكون إحرازها بالأصل بضميمة إحراز بقية الموضوع بالوجدان متمما لموضوع الأثر.

و بعبارة أخري: موضوع الحكم هو الوضوء بالماء مثلا، و هو غير محرز بنفسه، لا بالوجدان، و لا بالأصل، فلا بد في إحرازه من فرض تركّبه و انحلاله إلي أجزاء يحرز بعضها بالوجدان، و بعضها بالأصل، و ليس المحرز بالوجدان في المقام إلا الوضوء بما في الإناء المردد بين المطلق و المضاف، فإن فرض انحلال موضوع الحكم إلي الوضوء بشي ء هو ماء كان استصحاب المائية لما في الإناء محرزا لبقية أجزاء الحكم و متمما لموضوعه، و إلا كان إحراز موضوع الحكم به مبنيا علي الأصل المثبت، و حيث كان التحليل خلاف الظاهر امتنع الرجوع للأصل. و عليه يتعين الرجوع للأصول الأخر التي يأتي الكلام فيها إن شاء اللّٰه تعالي.

فتأمل جيدا.

و أما في الثاني: - و هو عدم العلم بالحالة السابقة- فربما يتمسك باستصحاب عدم كون المائع المردد ماء من باب استصحاب العدم الأزلي، غير المعارض باستصحاب عدم كونه مضافا، لعدم الأثر له في نفسه بعد عدم كون الإضافة مانعة شرعا من أحكام الماء المطلق من الطهورية و غيرها، بل عدم ترتبها معها لعدم الموضوع و هو الماء.

و دعوي: أن مائية الماء من شؤون ذاته غير المنفكة عنه حتي أزلا، لا من لواحق وجوده ليمكن نفيها عنه بلحاظ العدم الأزلي.

ص: 429

______________________________

مدفوعة: بأن ما هو من شؤون الذات هو المائية المقومة للعنصر، التي تعم المطلق و المضاف و غيرهما، لا المائية التي هي موضوع الأحكام المقابلة للإضافة و المصححة لإطلاق الماء، فإنها من لواحق الوجود الزائدة علي الذات، كالإضافة، و لذا يمكن تبادلهما علي الماء الواحد مع حفظ ذاته- كما أشرنا إليه آنفا- فيصح استصحاب عدمها أزلا.

لكن، الاستصحاب المذكور- مع عدم جريانه في الشبهة المفهومية، و لا مع تعاقب الحالتين- مبني علي فرض انحلال موضوع الأحكام و تركبه بنحو يطابق مفاد الاستصحاب، و قد عرفت الإشكال في ذلك.

هذا، و حيث لا أصل يحرز الإطلاق أو الإضافة بمجرد الشك، كما كان الأصل الطهارة مع الشك فيها، تعين مع عدم جريان الاستصحاب الرجوع للأصل الجاري في أحكام الماء المطلق، التي يمتاز بها عن المضاف.

و ليس له إلا أحكام ثلاثة.

الأول: المطهرية من الحدث و الخبث. و قد يدعي الرجوع فيها إلي استصحاب الطهورية أو عدمها مع العلم بسبق أحدهما في الماء المشكوك، سواء كان الشك في إطلاق الماء للشبهة الموضوعية أم المفهومية، لعدم إجمال المستصحب- و هو الطهورية- علي الثاني.

و دعوي: عدم إحراز الموضوع و هو الماء في الموردين.

مدفوعة: بأن موضوع الطهورية هو ذات الماء المحفوظة عرفا، و إن لم تحرز مائيته. و فرض تعدد الموضوع للاختلاط بما لا يستهلك خارج عن محل الكلام.

لكن يشكل الاستصحاب المذكور، بأن طهورية الماء منتزعة من ترتب الطهارة علي استعماله، كما هو الحال في سائر العناوين الاشتقاقية، حيث تكون متقومة بنحو نسبة منتزعة من المادة، و ليس الأمر الحقيقي التكويني أو الاعتباري إلا تلك المادة، فكما تكون قاتلية السيف منتزعة من ترتب القتل عليه، و عالمية الرجل منتزعة من ثبوت العلم له، كذلك طهورية الماء و الأرض منتزعة من ترتب الطهارة

ص: 430

______________________________

عليهما، فالاستصحاب إنما يجري في منشأ انتزاعها، و من الظاهر أن الحكم علي الماء بترتب الطهارة علي استعماله، عبارة عن حكم تعليقي لا مجال لاستصحابه علي التحقيق.

و دعوي: أن الطهورية أمر اعتباري متحقق بالفعل في الماء يترتب عليه حصول الطهارة شرعا، ترتب الحكم علي موضوعه، كما يترتب نفوذ التصرف من الولي علي ولايته، و نفوذ القضاء من القاضي علي قضاوته.

مدفوعة: بأن اتحاد الطهورية و الطهارة في المبدأ المصحح لصدقهما و عدم انفكاك أحدهما عن الآخر، لكونهما كالمتضايفين مانع من كون أحدهما حكما للآخر مستقلا عنه بالجعل، للغوية أحد الجعلين.

نعم، لو كان المراد بالطهورية الخاصية الموجودة في الماء التي اقتضت جعل الطهارة باستعماله، لم يكن استصحابها تعليقيا، و أمكن جعل الطهارة حكما لها.

لكن الخاصية المذكورة لو فرض وجودها، ليست أمرا اعتباريا مجعولا، و لا هي عين الطهورية، بل هي أمر تكويني في الماء، كالملاك لطهوريته و لترتب الطهارة عليه، نظير انصقال السيف الذي هو الشرط في قاتليته و ترتب القتل عليه.

و أضعف من ذلك دعوي: أن المجعول هو الطهورية لا غير و هي أمر فعلي في الماء، و أن الطهارة من شؤونها اللاحقة لها من دون حاجة إلي جعل شرعي آخر بينهما.

إذ لو أريد بذلك أن ترتب الطهارة علي الطهورية خارجي من دون حاجة إلي جعل و ترتب شرعي بينهما.

فيدفعه امتناع ترتب مثل الطهارة من الأمور الاعتبارية بدون توسط جعل و اعتبار.

مع أن استصحاب الطهورية لا ينهض بإحراز آثارها الخارجية غير الجعلية.

و إن أريد به أن الطهارة منتزعة من الطهورية من دون أن تكون مجعولة أصلا

ص: 431

______________________________

و لا موردا للأثر، و ليس الأثر إلا لاستعمال الطهور، عكس ما ذكرنا، فليست طهارة الثوب في الحقيقة إلا غسله بالطهور، و ذلك هو موضوع الآثار.

فيدفعه ما تقدم من أن العنوان الاشتقاقي هو المنتزع من المادة. مضافا إلي وضوح كون الطهارة مجعولة بنفسها، و هي مورد الآثار الشرعية بحسب الأدلة، بل الضرورة.

و بالجملة: ليس مفاد جعل الطهورية للماء أو الأرض إلا جعل الطهارة معلقة علي استعمالها، فيبتني استصحابها علي الاستصحاب التعليقي، الذي لا يجري علي التحقيق.

و علي هذا، فليس المرجع إلا استصحاب الحدث أو الخبث و عدم الطهارة، باستعمال الماء المذكور.

بل لا يبعد جريان استصحاب عدم الغسل بالماء الذي هو سبب الطهارة، فإن العلم بتحقق أصل الغسل لا ينافي الشك في تحقق الغسل بالماء، و بعد اليقين بعدمه سابقا يستصحب، و إن لم يحرز كون المستعمل ماء مطلقا أو مضافا.

نعم، لا يجري الأصل المذكور لو كان التردد في الماء من جهة الشبهة المفهومية، لكونه من استصحاب المفهوم المردد حينئذ، بل يختص جريانه بالشبهة الموضوعية.

و قد يدعي ابتناء جريان الأصل المذكور علي ما تقدم منا من بساطة الماء المأخوذ في موضوع الحكم، إذ لو كان مركبا و منحلا فمع فرض إحراز أحد جزئية بالوجدان، و هو: الغسل بشي ء، لا معني لنفيهما معا بالأصل، كما لا مجال لنفي الغسل بالماء بما أنه أمر بسيط، لعدم كونه ببساطته موضوعا للأثر.

و يشكل: بأن تركب الماء في موضوعيته لا ينافي بساطة الغسل في موضوعيته، لوضوح أن الماء بما هو أمر بسيط أو مركب قد أخذ قيدا في الغسل، فليس المطهر إلا الغسل الخاص، و هو مشكوك بسبب الشك في تحقق كلا قيدية و إن أحرز أحدهما، فلا بأس بنفيه بالأصل.

ص: 432

______________________________

نعم، يتجه ذلك لو لم يؤخذ الماء قيدا في الغسل، بل جزءا في قباله، كما لو كانت الطهارة مسببه عن الغسل و وجود الماء، فإنه لا مجال لاستصحاب عدم الغسل بعد اليقين بوجوده، سواء كان الماء مركبا أم بسيطا، نظير ما لو كان الموضوع مركبا من مجي ء زيد و مجي ء عمرو، و علم مجي ء زيد، و لم يحرز مجي ء عمرو و لا عدمه، فإنه لا مجال لاستصحاب عدم المجيئين بعد فرض انحلال الموضوع و تركبه من جزئين، أحدهما معلوم الحصول، فتأمل جيدا.

نعم، هذا كله إنما يقتضي عدم الاجتزاء باستعمال الماء المذكور مع تيسّر غيره، أما مع تعذر غيره و انحصار الأمر به فيشكل تركه، لعدم إحراز مشروعية العمل بدونه.

و يأتي الكلام في ذلك بعد الفراغ من الكلام في أحكام شخص الماء المشكوك إن شاء اللّٰه تعالي.

الثاني: الاعتصام مع الكرية. و اللازم التفصيل في المقام بين الشبهة المفهومية و الموضوعية. فيرجع في الاولي إلي عموم الانفعال- الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الخامس إن شاء اللّٰه تعالي- لإجمال المخصص، و هو دليل اعتصام الماء الكر، و الشك في شموله للفرد المذكور، فيتعين الرجوع للعموم.

و في الثانية إلي أصل الطهارة، بل استصحابها، لعدم حجية العام في الشبهة المصداقية.

نعم، قد يدعي لزوم البناء فيها علي الانفعال إما لقاعدة المقتضي، بدعوي: أن الملاقاة مقتضية للنجاسة، و كرية الماء مانعة منها.

و إما لأن تعليق الحكم الترخيصي علي عنوان وجودي- كالماء في المقام- يقتضي البناء علي عدمه عند عدم إحرازه، نظير ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه عند الشك في الكرية.

و تقدم منا منع كلا الوجهين في الفرع التاسع من الفروع التي ألحقناها بمباحث الماء الذي لا مادة له.

ص: 433

______________________________

علي أنه قد يشكل جريان الأول: بأن المائية ليست من سنخ المانع، بل هي موضوع للمانعية، مع كون المانع هو الكرية المفروض تحققها في المقام، فالشك في المقام ليس في وجود المانع، بل في تحقق موضوع المانعية الذي يتوقف عليه تأثير المانع، و ليس من المعلوم عموم القاعدة لذلك عند القائلين بها.

و الثاني: باختصاصه بما إذا كان دليل اختصاص الحكم بالعنوان الوجودي بلسان الحصر و التعليق، كتعليق الاعتصام علي الكرية في الماء، و تعليق جواز الاستمتاع علي عنوان الزوجية و ملك اليمين، و ليس دليل اختصاص الاعتصام بالماء باللسان المذكور، بل ليس هو إلا من جهة اختصاص عنوان الخاص به و عموم الانفعال لغيره، فلا يبقي في المقام إلا التمسك بعموم الانفعال في الشبهة المصداقية الذي أشرنا إلي منعه.

و لعله لذا التزم بعض الأعاظم قدّس سرّه هنا بالطهارة مع اختياره في الشك في الكرية الانفعال، كما نبّه لذلك شيخنا الأستاذ قدّس سرّه و تابعه فيه.

الثالث: الطهارة بالاتصال بالمادة. و من الظاهر لزوم البناء علي عدمها في المقام عملا بالاستصحاب، من دون فرق بين الشبهة الموضوعية و المفهومية، بناء علي أنه المرجع في أمثال ذلك.

و قد تقدم نظيره في مسألة تتميم النجس كرا. فراجع.

بقي الكلام فيما أشرنا إليه من أنه مع عدم إحراز إطلاق الماء و إن لم يسغ الاكتفاء به في تحصيل الطهارة، إلا أنه يشكل تركه مع انحصار الأمر به، لعدم إحراز مشروعية العمل بدونه. و ينبغي الكلام في ذلك موردين.

الأول: الطهارة الحدثية. فقد ذهب في القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام، إلي أنه لو أريق أحد الإنائين المشتبهين بالمضاف وجب الجمع بين التطهر بالآخر و التيمم، و هو المحكي عن الإيضاح و الروض و كاشف الغطاء، و ظاهر الدلائل. بل نسبه في المدارك إلي قطع الأصحاب، و إن لم يستوضحه، لما سيأتي.

ص: 434

______________________________

و عن نهاية الأحكام احتمال الاكتفاء بالتيمم في ذلك، و جزم به بعض مشايخنا، و قد يظهر من شيخنا الأستاذ قدّس سرّه، مع اتفاقهما- تبعا للسيد الطباطبائي في العروة الوثقي- علي الاكتفاء به في المشتبه الذي لم يكن طرف لعلم إجمالي سابق الذي هو محل الكلام- و وافقهم فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه مع عدم سبق القدرة علي الماء. و قوي بعض الأعاظم فيه وجوب الجمع.

هذا، و قد علل وجوب الجمع بين الأمرين بالعلم الإجمالي بوجوب أحدهما. بل قد لا يحتاج للعلم الإجمالي في مثل المقام مما يجب الاحتياط فيه بمجرد الشك لقاعدة الاشتغال بالطهارة، بل استصحاب عدمها، حيث لا يعلم حصولها بواحد منهما، لاحتمال عدم مشروعيته. بل يأتي في التنبيه الثاني أنه لا أثر للعلم الإجمالي المذكور.

و أما ما في المدارك من أن الماء الذي يجب استعماله في الطهارة إن كان هو ما علم كونه مطلقا تعيّن الاجتزاء بالتيمم، و إن كان هو ما لم يعلم إضافته تعيّن الاجتزاء بالوضوء، و الجمع بين الطهارتين غير واضح.

فهو ظاهر الوهن، فإن الماء الذي يجب استعماله هو المطلق الواقعي الذي لا يعلم انطباقه علي المشكوك ليحرز مشروعية استعماله، و لا يعلم معه بتعذره، ليحرز مشروعية التيمم.

فلا بد في الخروج عن الاحتياط المذكور من إحراز أحد الأمرين بنحو يعيّن مقتضاه و يحرز حصول الطهارة به، و يمنع من منجزية العلم الإجمالي للآخر.

و منه يظهر أنه لا مجال للاكتفاء بالوضوء مع سبق القدرة علي الماء، إما لكون المشكوك مسبوقا بالإطلاق- كما هو أحد الفروض في محل الكلام- أو لإراقة أحد الإنائين المشتبهين- كما هو مفروض كلام الأصحاب- أو لسبق القدرة علي ماء آخر ثمَّ تعذر.

بدعوي: أن مقتضي استصحاب القدرة علي الماء وجوب الوضوء.

إذ فيه: أنه لو سلم جريان الاستصحاب المذكور فهو لا يحرز إطلاق

ص: 435

______________________________

المشكوك و حصول الطهارة به، بنحو يخرج به عن العلم الإجمالي و قاعدة الاشتغال بالطهارة و استصحاب عدمها.

ثمَّ إنه قد يقرب الاكتفاء بالتيمم بأحد وجوه.

الأول: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن موضوع التيمم لما كان هو عدم وجدان الماء فهو يصدق مع عدم التمكن من استعماله، لتعذره عقلا أو شرعا أو عدم العلم به، كما في المقام.

و فيه: أن موضوع التيمم ليس هو عدم وجدان الماء- كما يأتي قريبا- غاية الأمر أن يكون عدم وجدانه مصححا شرعا للبناء علي مشروعية التيمم، علي ما يأتي عند الكلام في وجوب الفحص عن الماء في مبحث التيمم. لكن المراد به حينئذ ليس مطلق عدم العلم بالماء، بل عدم العثور عليه، و هو لا يعم عدم العلم بحال الشي ء الموجود تحت اليد- كما في المقام- فمن وجد ناقة و شك في أنها ضالته أو غيرها، لا يقطع بعدم العثور علي ناقته و عدم وجدان ضالته، كما لعله ظاهر.

الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا من أنه بناء علي ما هو التحقيق من جريان الاستصحاب في الأمور المستقبلة، فمقتضي الاستصحاب عدم ارتفاع الحدث باستعمال الماء المشكوك، و بذلك يحرز ارتفاع موضوع الوضوء و تحقق موضوع التيمم، و هو عدم وجدان الماء، الذي هو بمعني عدم القدرة علي استعماله، إذ لو كان واجدا بتمكّنه من استعمال المشكوك لم يحكم الشارع ببطلان غسله أو وضوئه و بقاء حدثه بعدهما.

و فيه. أولا: أن الاستصحاب المذكور ليس من استصحاب الأمور المستقبلة، لأن مفاد استصحاب الأمور المستقبلة هو الحكم الظاهري الفعلي ببقاء المتيقن في الزمان اللاحق المعلوم الحصول، نظير الحكم حين رؤية المرأة للدم باستمراره ثلاثة أيام.

أما الاستصحاب المدعي هنا فمفاده الحكم ببقاء الحدث علي تقدير استعمال الماء و إن لم يستعمل، فهو يتضمن التعليق في نفس الحكم

ص: 436

______________________________

الاستصحابي، عكس الاستصحاب التعليقي المتضمن للتعليق في نفس الأمر المستصحب فعلا.

و ثانيا: أن الاستصحاب المذكور لا يحرز عدم القدرة علي استعمال الماء الذي هو موضوع التيمم إلا بضميمة ملازمتين.

الاولي: ملازمة عدم ارتفاع الحدث خارجا، لتعذر رفعه و عدم القدرة عليه، لوضوح أن عدم وقوع الشي ء لا يتحد مفهوما و لا مصداقا مع تعذره، و لا مجال لاستصحاب نفس التعذر، لعدم اليقين به.

الثانية: ملازمة تعذر رفعه بخصوص الماء المشكوك، لتعذر رفعه بكلي الماء الذي هو موضوع التيمم، لفرض انحصار الماء المقدور عليه به.

الثالث: ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من استصحاب عدم وجدان الماء، الذي هو بمعني القدرة عليه، و لو بنحو استصحاب العدم الأزلي، فيحرز بذلك ارتفاع موضوع الوضوء و تحقق موضوع التيمم.

نعم، يختص ذلك بما إذا لم تسبق القدرة علي الماء، إذ لا مجال معه للاستصحاب المذكور، و إن لم ينفع ذلك في الاكتفاء بالوضوء، لما سبق، فيجب فيه الجمع بين الأمرين.

و بهذا يفترق هذا الوجه عن الوجهين السابقين.

كما يفترق هذا الوجه و سابقة عن الوجه الأول، بأن مفادهما مشروعية التيمم ظاهرا بالاستصحاب، و مفاد الأول مشروعيته واقعا، لتحقق موضوعه- و هو عدم العلم بالماء- وجدانا.

و من ثمَّ كان لازمه صحة التيمم واقعا، كما التزم به شيخنا الأستاذ قدّس سرّه، بل بناء علي أن مشروعية التيمم تستلزم عدم مشروعية الوضوء، يلزم البناء علي بطلان الوضوء برجاء كون الماء مطلقا و إن أصاب الواقع، و هو غريب. فلاحظ.

ثمَّ إن سيدنا المصنف قدّس سرّه أشار إلي الإشكال في هذا الوجه بما يرد علي الوجهين الأولين أيضا.

ص: 437

______________________________

و حاصله: أنها مبنية علي أن موضوع وجوب الوضوء هو وجدان الماء، كما كان موضوع التيمم هو عدمه، حيث يكون إحراز عدم الوجدان بالوجدان علي الوجه الأول، و بالأصل علي الوجهين الأخيرين، رافعا لموضوع وجوب الوضوء و مؤمنا عنه، كما يقتضي التعبد بموضوع التيمم و الإلزام به.

أما بناء علي ما هو التحقيق من إطلاق موضوع وجوب الوضوء، و أن مشروعية التيمم مع عدم الوجدان لا ينافي مشروعية الوضوء و تحقق موضوعه و ملاكه، و إن سقط عقلا بالتعذر، أو شرعا بالحرج، فإحراز عدم الوجدان و مشروعية التيمم بالوجدان أو الأصل لا يكون رافعا لوجوب الوضوء و لا مؤمنا عنه، بل يجب الاحتياط فيه باستعمال الماء المشكوك، بناء علي ما هو التحقيق من وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة الحاصل في المقام.

و قد أجاب قدّس سرّه عن الوجه المذكور: بأن إحراز مشروعية التيمم رافع لموضوع الاحتياط في الوضوء، لأن تشريعه لما كان بعنوان البدلية عن الوضوء فهذه البدلية توجب المعذورية عند العقل، فلا خوف كي يجب الاحتياط من جهة الشك في القدرة.

و يشكل ما ذكره قدّس سرّه من الجواب: بأن بدلية التيمم عن الوضوء لما كانت واقعية اضطرارية فإحراز مشروعيته لا يصلح للمعذرية، و لا يكون مؤمنا عن الواجب الأولي المفروض حصول ملاكه و عدم استيفاء تمامه بالبدل الاضطراري- مع احتمال فعلية التكليف به- لاحتمال القدرة عليه.

و إنما يتجه ذلك في البدلية الواقعية الاختيارية، لابتناء البدل الاختياري علي استيفاء تمام الملاك.

و كذا في البدلية الظاهرية الراجعة عندهم إلي التعبد ظاهرا بالامتثال، بدلا عن الامتثال الواقعي، كما لو احتمل القدرة علي الماء الطاهر الواقعي و كان عنده ماء مشكوك الطهارة، فإن أصالة الطهارة فيه تحرز حصول الامتثال به ظاهرا بدلا عن الواقع و تؤمن منه، فلا يبقي معها موضوع لوجوب الاحتياط بالطاهر الواقعي الذي

ص: 438

______________________________

يعلم بالقدرة عليه، فضلا عما يحتمل القدرة عليه.

نعم، يندفع أصل الإشكال، بأن وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة إنما هو مع الشك في سعة القدرة، بأن احتمل القدرة علي ما يعلم بتحقق الامتثال به، كما لو احتمل العثور علي الماء بالفحص عنه و طلبه، لا مع الشك في حال المقدور بأن لم يقدر إلا علي ما يحتمل تحقق الامتثال به- كما في المقام- و لذا لا يظن من أحد التزام الاحتياط بدفع الكفارة لمشكوك الفقر إذا انحصر الأمر به.

و عليه ابتني ما اتفق عليه المتأخرون في الأصول من كون تعذر امتثال بعض الأطراف معينا مانعا من منجزية العلم الإجمالي في الآخر، فإذا لم يجب الاحتياط في المقام باستعمال الماء من هذه الجهة، و فرض إحراز مشروعية التيمم و حصول الطهارة به، كان ذلك رافعا لموضوع قاعدة الاشتغال بالطهارة، و مانعا من منجزية العلم الإجمالي، فلا يجب الاحتياط من جهتهما بالوضوء.

فالعمدة في الإشكال في استصحاب عدم الوجدان: أن عدم الوجدان ليس موضوعا لمشروعية التيمم، و إن أوهمته بعض الأدلة و اشتهر في كلماتهم.

كيف، و قد جعل المرض في الآية الكريمة مقابلا لعدم الوجدان، و لا يراد به إلا لزوم الضرر من استعمال الماء و إن لم يجب دفعه، كما تضمنت النصوص مشروعية التيمم مع خوف العطش و نحوه، بل مع الخوف من نفس الفحص عن الماء و طلبه و إن لم يحرز الضرر من استعماله، كما أفتوا بمشروعيته مع الحرج في استعمال الماء، بل في الفحص عنه و إن لم يحرز الحرج من استعماله، و مع مزاحمة التكليف بالطهارة المائية بتكليف آخر يسقطه، فإن الظاهر- بعد ملاحظة جميع ذلك- كون مشروعية التيمم مترتبة علي سقوط التكليف بالطهارة المائية مع بقاء ملاكها و عدم فعلية التكليف بها، بنحو يصلح للدفع و الداعوية، فإن ذلك هو الجهة المشتركة بين الموارد المذكورة، و ليس ذكر عدم الوجدان أو المرض و نحوهما في الأدلة إلا لملازمتها لذلك، لا لكونها بنفسها و بعنوانها الأولي موضوعا لمشروعية التيمم.

ص: 439

______________________________

و ذلك هو المطابق للارتكاز في جميع الأبدال الاضطرارية المبتنية علي التنزل عن بعض مراتب ملاك الواجب الأولي، فإن الموجب لمشروعية البدل الاضطراري ارتكازا هو تعذر البعث للواجب الأولي، لا خصوصية ما يمنع من البعث إليه من تعذر الواجب أو لزوم الحرج منه أو غيرهما.

و يناسبه بعض النصوص، ففي حديث داود الرقي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «لا تطلب الماء و لكن تيمم، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك، فتضل و يأكلك السبع» «1»، و في صحيح ابن أبي يعفور و عنبسة عنه عليه السّلام: «إذا أتيت البئر و أنت جنب، فلم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد، فان رب الماء هو رب الصعيد، و لا تقع في البئر و لا تفسد علي القوم ماءهم» «2»، و في صحيح ابن أبي نجران الوارد في اجتماع ميت و جنب و محدث بالأصغر المتضمن اغتسال الجنب و دفن الميت بتيمم، قال: «لأن غسل الجنابة فريضة و غسل الميت سنة.» «3»، و في صحيح يعقوب بن سالم: «لا آمره أن يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع» «4».

فإن التعليل في الثلاثة الأول إنما يقتضي سقوط الطهارة المائية، و لا يقتضي وجوب التيمم إلا بضميمة الملازمة الارتكازية المذكورة. كما أن الاقتصار في الأخير علي النهي عن الطلب إنما يقتضي مشروعية التيمم بناء عليها، كما أشار إلي ذلك في الجملة سيدنا المصنف قدّس سرّه في المسوغ السادس من مسوغات التيمم.

بل ذلك هو الظاهر من بعض نصوص الإبدال الاضطرارية الأخر، كخبر عبد الأعلي مولي آل سام الوارد فيمن عثر فانقطع ظفره، فجعل عليه مرارة المتضمن، لقوله عليه السّلام: «يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه عز و جل، قال تعالي مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امسح عليه» «5»، فإن معرفة وجوب المسح علي المرارة

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب التيمم حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 440

______________________________

من الآية الكريمة بعد كونها نافية لا مثبتة إنما يتم بضميمة الملازمة المذكورة.

و بالجملة: التأمل في النصوص المتقدمة، و في الارتكازيات العقلائية نافي الابدال الاضطرارية، مع ملاحظة اختلاف العناوين التي تضمنت الأدلة و الفتاوي تشريع التيمم معها مع عدم جامع عرفي بينها، شاهد بأن العناوين المذكورة ليست بخصوصياتها، و لا بقدر مشترك بينها موضوعا لمشروعية التيمم، بل أخذها في الأدلة بلحاظ ما يترتب عليها من سقوط التكليف بالطهارة المائية و عدم صلوحه للبعث، فلا ينفع مثل استصحاب عدم الوجدان في إحراز موضوع التيمم و الخروج عن مقتضي القاعدة المتقدمة المقتضية للجمع بينه و بين استعمال الماء المشكوك.

إن قلت: استصحاب عدم الوجدان و نحوه من المسقطات للطهارة المائية و إن لم يحرز وجوب التيمم بنفسه بالمباشرة، إلا أنه يحرزه بضميمة إحرازه لموضوعه، و هو سقوط الطهارة المائية، لأنه من أحكامه، فلا أثر للفرق المذكور.

قلت: ترتب سقوط الطهارة المائية علي مثل عدم الوجدان- مما يستلزم تعذرها- عقلي، لا شرعي راجع إلي أخذه في حدود التكليف و موضوعه، و هو مما يكون عقلا مسقطا للتكليف بواقعة و مصداقه الفعلي، فما هو العذر و المسقط في كل آن هو التعذر فيه، و هو غير قابل للاستصحاب، و ليس عنوان التعذر بما هو أمر من شؤون المكلف أو المكلف به و من عناوينهما المضافة إليهما القابلة للاستمرار مأخوذا في موضوع المسقطية، ليمكن استصحابه و إحراز سقوط التكليف تبعا له.

و بعبارة أخري: الاستصحاب إنما يجري في العناوين التقييدية المأخوذة في موضوعات الأحكام، لأنها القابلة للاستمرار، دون العناوين التعليلية، كعنوان المزاحمة و المقدمية و نحوهما، مما يكون له الدخل بواقعة الفعلي الذي يكون المؤثر منه في كل آن مباينا للمؤثر منه في الآن الآخر، من دون أخذ جهة مشتركة

ص: 441

______________________________

قابلة للاستمرار.

و لذا لا يظن من أحد استحباب عدم القدرة عند الشك في تجددها، بنحو يكون واردا علي قاعدة الاحتياط، التي هي المرجع مع الشك في القدرة.

و أما ترتبها علي مثل الحرج و المرض فهو و إن كان شرعيا، إلا أنه لا يبعد كون مسقطية الأمور المذكورة شرعا علي نحو مسقطية التعذر عقلا، لارتكاز كونها مثله من سنخ العذر المسقط، لا لكونها بمفهومها العام من حدود التكليف و قيوده، بل هي مبنية ارتكازا علي سعة القدرة المعتبرة، و لذا كان استصحابها بعيدا عن المرتكزات جدا.

و عليه، فحيث لا طريق لإحراز سقوط الطهارة المائية كان المتعين الجمع بينها و بين الطهارة الترابية، عملا بالقاعدة المتقدمة.

إن قلت: بعد ما تقدم من عدم وجوب الاحتياط في الطهارة المائية من حيثية الشك في القدرة، لكون الشك في حال المقدور لا في سعة القدرة، فمقتضي أصالة البراءة منها وجوب التيمم بعد فرض الملازمة بينه و بين سقوط الطهارة الترابية، فينحل بذلك العلم الإجمالي، و يرتفع موضوع قاعدة الاشتغال.

قلت: ليس مفاد أصل البراءة إلا محض التأمين و المعذرية، لا إحراز سقوط التكليف واقعا، ليكون محرزا لموضوع الملازمة.

إن قلت: يكفي في ذلك استصحاب عدم وجوب الطهارة المائية، و لو بلحاظ ما قبل الوقت، لإحراز لازمه الشرعي، و هو وجوب التيمم.

قلت: موضوع مشروعية التيمم ليس مجرد عدم وجوب الطهارة المائية، بل عدمها في ظرف مشروعيتها و فعلية ملاكها، المقتضي للتكليف بها لو لا التعذر، و من الظاهر أنه لا مجال لاستصحاب ذلك بلحاظ ما قبل الوقت، إذ ليس الثابت حينئذ إلا محض عدم التكليف بالطهارة المائية.

و ليس هو مركبا من الأمرين و منحلا إليهما شرعا، ليحرز أحدهما بالاستصحاب و الآخر بالوجدان بعد دخول الوقت، بل لعله ببساطته صار موضوعا

ص: 442

______________________________

في الملازمة، فلا يحرز لا بالوجدان و لا بالأصل.

نعم، قد يستصحب الموضوع المذكور لو فرض احتمال تجدد القدرة بعد الوقت، لليقين في أول الوقت بتحقق الأمر البسيط المذكور، المتحصل من فعلية الملاك و سقوط أمر الوضوء.

اللهم إلا أن يقال: وجوب التيمم و إن كان لازما لسقوط الطهارة المائية- كما تقدم- إلا أن الملازمة ليست عنوانية راجعة إلي جعل سقوط الطهارة المائية بعنوانه موضوعا لوجوب التيمم شرعا، لينفع استصحاب الأمر المذكور بعنوانه القابل للاستمرار في إحراز وجوب التيمم، بل هي ملازمة واقعية راجعة إلي أن سقوط الطهارة المائية في كل آن علة بواقعة لمشروعية التيمم، نظير ما تقدم في مسقطية التعذر للتكليف، فلا ينفع استصحاب سقوط التكليف، فضلا عن أصل البراءة منه، كما لا ينفع استصحاب عدم الوجدان لإحرازه علي ما تقدم.

و علي هذا لا مخرج عما تقدم من القاعدة المقتضية للجمع بين استعمال الماء المشكوك و التيمم، و لا مجال للاكتفاء بالتيمم، لعدم إحراز مشروعيته و حصول الطهارة به في جميع فروض المسألة. فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

تنبيهان.

أولهما: قال في جامع المقاصد بعد الحكم بوجوب الجمع: «و لا يخفي أنه يجب تقديم الوضوء علي التيمم»، و في مفتاح الكرامة: «و لعله ظاهر الأكثر، و هو ظاهر الأستاذ الشريف أدام اللّٰه حراسته»، و ظاهر المدارك نسبته إلي قطع الأصحاب.

و استدل له في مفتاح الكرامة بأنه إذا توضأ بالأول صار فاقدا للماء بيقين.

و فيه- مع اختصاصه بما إذ كان استعمال الماء مستوعبا له بحيث لا يبقي منه شي ء-: أنه لا ملزم باليقين بفقد الماء عند التيمم، بل لا بد من اليقين بالطهارة، و هو حاصل بالجمع بين الأمرين كيفما اتفق.

ص: 443

______________________________

و دعوي: توقف الجزم بالنية في التيمم علي فقد الماء بتقديم استعماله.

مدفوعة: - مضافا إلي عدم اعتبار الجزم بالنية في العبادة- بتعذر الجزم بها فيه حتي مع تأخيره، لاحتمال تحقق الطهارة المائية قبله، فلا يكون مشروعا. و لا يتحقق الجزم بالنية إلا بإراقة الماء المشكوك، ليعلم بمشروعية التيمم. و لا يظن من أحد الالتزام بوجوبه، و إن كان قد يناسب ما عن ابن إدريس من لزوم الصلاة عاريا مع انحصار الساتر بالثوبين المشتبهين.

لكنه بالإعراض عنه حقيق.

هذا، و قد احتمل الوحيد قدّس سرّه في حاشية المدارك كون منشأ الحكم بتأخير التيمم اعتبار ضيق الوقت فيه.

و يشكل: بأنه لو سلم اعتباره فيه فالمراد به الضيق العرفي الذي لا يخل به تقديمه علي الوضوء. فالبناء علي جواز تقديمه- كما في المدارك- متعين.

ثانيهما: ما ذكرناه كما يقتضي وجوب الجمع بين التيمم و استعمال الماء المشكوك مع وجوده كذلك يقتضي لزوم المحافظة عليه و عدم جواز إراقته، للعلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين، المنجز لكل منهما و المقتضي للمحافظة عليهما.

اللهم إلا أن يقال: لمّا كان وجوب كل من الأمرين لكونه محصلا للطهارة، و كانت الطهارة الحاصلة من التيمم أقل مرتبة من الطهارة المائية- كما هو مقتضي كون البدلية اضطرارية. و يشهد به التعبير في كثير من النصوص عن التيمم بأنه نصف الطهور- فمثل هذا العلم الإجمالي لا يصلح إلا لتنجيز المرتبة الضعيفة من الطهارة التي تحصل بالتيمم، دون الرتبة التامة المتوقفة علي استعمال الماء، بل المرجع فيها أصل البراءة، بناء علي ما تقدم من عدم وجوب الاحتياط مع الشك في حال المقدور.

فالعمدة في لزوم الجمع بين الأمرين هو قاعدة الاشتغال بالطهارة، لعدم إحرازها مع الاقتصار علي أحدهما، و هي لا تقتضي لزوم حفظ الماء،

ص: 444

______________________________

لوضوح أن إراقته تستلزم العلم بحصول الطهارة بالتيمم الذي هو مقتضي القاعدة المذكورة.

نعم، لو علم إجمالا بإطلاق أحد المائين ثمَّ أريق أحدهما، اتجه تنجز احتمال وجوب الطهارة المائية بالثاني الملزم بحفظه، بناء علي ما هو الظاهر المعروف من أن تعذر بعض الأطراف بعد حصول العلم الإجمالي لا يرفع منجزيته للباقي.

و منه يظهر أن الوجه الثاني- الذي ذكره بعض مشايخنا- المقتضي للاكتفاء بالتيمم ظاهرا لو تمَّ لا ينهض بجواز الاقتصار عليه في الفرض المذكور، لأنه إنما يصلح للخروج عن مقتضي العلم الإجمالي بوجوب الطهارة المائية أو الترابية و عن قاعدة الاشتغال، و لا يصلح للخروج عن مقتضي العلم الإجمالي بوجوب استعمال أحد المائين المنجز للباقي منهما و إن لم يعلم بحصول الطهارة به، فيجب ضم التيمم إليه لقاعدة الاشتغال.

و أما الوجه الأول الذي ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه فمقتضاه العلم بمشروعية التيمم بإراقة أحد المائين، و الجهل بحال الباقي منهما، و بناء علي أن مشروعيته تستلزم عدم مشروعية الوضوء، لا يبقي مجال للاحتياط باستعمال الباقي من جهة العلم الإجمالي، بل يكون كما لو أريق الاناءان معا. فلاحظ.

هذا ما وسعنا التعرض له في هذا المقام، و قد أطلنا الكلام في هذه المسألة لاختلاف المباني فيها و دقتها و تشعبها، و نسأله تعالي أن نكون قد وفقنا فيها للجري علي ما ينبغي الجري عليه. و منه سبحانه نستمد العون و التسديد، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

الثاني: الطهارة الخبثية الواجبة بنفسها، كما في تطهير المسجد، أو المعتبرة في بعض المركبات الواجبة نفسيا أو غيريا، كتطهير البدن و الثياب للصلاة، و تطهير أعضاء التيمم أو الأرض التي به يتيمم بها.

و لا ينبغي التوقف في لزوم حفظ الماء المشكوك و الاحتياط باستعماله، لو سبق العلم الإجمالي بإطلاق أحد المائين ثمَّ أريق أحدهما، كما أشرنا إلي نظيره قريبا

ص: 445

______________________________

في التنبيه الثاني.

و أما مع الشك البدوي، فقد يدعي وجوب الاحتياط باستعمال الماء، لأن الشك في المقام في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط.

و يندفع بما تقدم من اختصاصه بما إذا شك في سعة القدرة، لا في حال المقدور، كما في المقام.

فالذي ينبغي أن يقال: الشك في حال الماء.

إن رجع إلي الشك في أصل التكليف فالمرجع البراءة، كما لو كان المسجد نجسا، إذ تعذر تطهيره لإضافة الماء، موجب لسقوط التكليف به.

و كذا لو رجع للشك في اعتبار الخصوصية في المكلف به، كما لو كان تعذر الطهارة موجبا للتنزل للعمل الفاقد لها، كما في الصلاة مع نجاسة البدن، بناء علي ما هو التحقيق من الرجوع للبراءة في الدوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و إن رجع إلي الشك في امتثال التكليف فالمرجع الاشتغال، كما لو كانت أعضاء التيمم نجسة، حيث يعلم بوجوب التيمم، إما مع نجاسة الأعضاء لكون المشكوك مضافا، أو مع طهارتها لكونه مطلقا، فلا يحرز حصول الطهارة الحدثية به إلا مع غسل الأعضاء بالشكوك، نظير ما تقدم من لزوم الجمع بين الطهارة المائية و الترابية.

كما أنه لو كان استعمال الماء طرفا لعلم إجمالي منجز تعين الاحتياط بموافقته، كما لو كانت الأرض الصالحة للتيمم نجسة، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب تطهيرها بالماء المشكوك ثمَّ التيمم بها و الصلاة في الوقت، أو بوجوب القضاء لفقد الطهورين، بناء علي ما هو الظاهر من عدم مشروعية الأداء معه، فيجب الجمع بين الأمرين.

و بملاحظة ما تقدم في الطهارة الحدثية يتضح كثير من جهات الكلام هنا.

فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 446

جاز (1) رفع الخبث بالغسل بأحدهما، ثمَّ الغسل بالآخر (2). و كذلك رفع الحدث (3). و إذا اشتبه المباح بالمغصوب (4).

______________________________

(1) بل وجب مع الانحصار، و توقف إحراز الامتثال علي ذلك.

(2) بلا ريب، لأنه توصلي لا يعتبر فيه الجزم بالنية، و لا يقدح فيه التكرار بلا إشكال.

(3) كما في الخلاف و القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام، و عن المبسوط و جواهر القاضي و غيرها، بل نسبه في المدارك و محكي الذخيرة إلي قطع الأصحاب.

نعم، صرح في جامع المقاصد باعتبار فقد ما ليس بمشتبه، و عن المبسوط و الروض و المنتهي أنه إذا تمكن من الطهارة الواحدة بمزج أحدهما بالآخر بحيث يكون الممزوج مطلقا، فالأحوط اختياره علي تكرار الطهارة بكل منهما، إذ مع إمكان الجزم بالنية لا يجوز الترديد، و عن كاشف الغطاء: «و المسألة مبنية علي أن الاحتياط طريق في الاختبار، أو أنه إنما يسوغ عند الاضطرار».

و من المعلوم أن الأقوي الأول، كما تقدم تقريبه في المسألة الثالثة من مسائل التقليد.

و منه يظهر ضعف احتمال وجوب التيمم مع الانحصار، كما لعله لازم ما عن ابن إدريس من وجوب الصلاة عاريا مع الانحصار بالثوبين المشتبهين.

(4) أما الشك في إباحة الماء مع عدم العلم الإجمالي فربما ينسب للمشهور أن الأصل فيه الاحتياط تخصيصا لعموم أدلة البراءة و الإباحة. و إليه يرجع ما قيل من انقلاب الأصل في الدماء و الفروج و الأموال.

و ربما يستدل عليه برواية محمد بن زيد الطبري: «كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، إن اللّٰه واسع كريم، ضمن علي العمل الثواب، و علي الضيق الهمّ. لا

ص: 447

______________________________

يحل مال إلا من وجه أحله اللّٰه. إن الخمس عوننا علي ديننا و عيالنا و علي موالينا [أموالنا. خ ل] و ما نبذ له و نشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته فلا تزووه عنا.» «1».

بدعوي: ظهوره في كون الحلية منوطة بالسبب المحلل، فمع الشك في تحققه يرجع إلي أصالة عدمه، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و فيه- بعد الغض عن سنده- أنه ظاهر في التحليل الوضعي المسؤول عنه الراجع إلي تملك المال، و الذي لا إشكال في كونه خلاف الأصل، لا التحليل التكليفي، الراجع إلي جواز التصرف الذي هو محل الكلام.

مع أن العنوان المذكور ليس موضوعا للحلية شرعا، كي ينفع فيما نحن فيه بلحاظ كونه عنوانا وجوديا منفيا بالأصل، بل هو منتزع من كون العنوان موضوعا للحلية، و متأخر عن ذلك رتبة، فهو حاك عن الأسباب الشرعية بعناوينها الخاصة، كالإذن من المالك و عدم ملكية أحد للمال و نحوهما، فاللازم إجراء الأصل في تلك العناوين التي قد تكون علي طبق الأصل، و قد تكون علي خلافه، و لا دلالة فيه علي كون جميع العناوين المحكية به وجودية مخالفة للأصل، لينفع فيما نحن فيه.

بل المرتكز أن جواز التصرف في المباحات الأصلية ليس لكونها واجدة لعنوان وجودي يقتضي التحليل، بل لعدم وجود ما يمنع من التصرف فيها، و هو يناسب كون حرمة التصرف هي المنوطة بالأمر الوجودي.

بل هو الظاهر من بعض النصوص الظاهرة في حقن الإسلام للمال.

نعم، مال المسلم لا يحل إلا بطيب نفسه، و منه مورد الحديث الشريف.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي ظهور الحديث في تعليق الحل في الأموال بعنوان وجودي، فيدخل في كبري ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن تعليق الحكم الترخيصي علي عنوان وجودي يقتضي البناء علي عدمه عند عدم إحراز ذلك العنوان و إن لم يحرز عدمه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس حديث: 2.

ص: 448

حرم التصرف بكل منهما (1)، و لكن لو غسل نجس بأحدهما طهر (2)، و لا يرفع بأحدهما الحدث (3).

______________________________

مضافا إلي منع الكبري المذكورة، كما تقدم عند الكلام في الشك في الكرية في الفرع السادس من الفروع التي استدركناها في الماء الذي لا مادة له.

و الحاصل: أنه لا مجال للخروج عن عموم أصالة الحل و البراءة، و لا سيما مع ورود بعضها في الأموال، كموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سمعته يقول: كل شي ء هو لك حلال حتي تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة و المملوك عندك لعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا.» [1].

إلا أن يكون هناك أصل موضوعي يقتضي حرمة التصرف، كما لو فرض سبق ملكية الغير و شك المكلف في إذنه له أو انتقال المال منه إليه، فإن مقتضي الاستصحاب عدم الأمرين، بخلاف ما لو شك المكلّف في سبق ملكية الغير للماء من أول الأمر، كما لو تردد في كونه ماء بئره أو بئر الغير.

و قد أطلنا الكلام في تفصيل ذلك في التنبيه الأول من تنبيهات أصل البراءة من الأصول بما لا مجال لاطالة الكلام فيه هنا. فراجع.

(1) لمنجزية العلم الإجمالي بنحو تمنع من المخالفة الاحتمالية. و يتعين حينئذ اختيار ماء آخر غير المشتبهين، أو التنزل للتيمم لو انحصر الأمر بهما، لسقوط الطهارة المائية بالتعذر.

(2) لعموم دليل طهورية الماء الطاهر، و لا دليل علي مانعية الغصبية، أو الحرمة التكليفية المتفرعة عليها من ذلك بعد كونه توصليا لا يعتبر فيه التقرب.

(3) بمعني أنه لا يتحقق رفعه، لمانعية تنجز الحرمة من التقرب المعتبر في

______________________________

[1] الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به من كتاب البيع حديث: 4. و قد ذكرنا في أدلة البراءة من الأصول بعض الكلام في الموثقة فراجع. منه عفي عنه.

ص: 449

و إذا كانت أطراف الشبهة غير محصورة جاز الاستعمال مطلقا (1).

______________________________

الطهارة الحدثية و إن لم يسقط الماء بذلك عن الطهورية، و لذا تقع الطهارة بالمغصوب لو فرض حصول التقرب للغفلة عن حاله، علي ما حقق في مبحث اجتماع الأمر و النهي.

(1) لعدم منجزية العلم الإجمالي حينئذ علي ما ذكر في الأصول مفصلا.

لكن ذلك إنما يقتضي الرجوع للأصل في كل طرف بنفسه، و هو يقتضي جواز الاستعمال مع الشك في الطهارة و الحلية، لأنهما علي طبق الأصل، كما تقدم، لا مع الشك في الإطلاق، لعدم أصل محرز له، كما تقدم أيضا.

بل مقتضي استصحاب الحدث و قاعدة الاشتغال بالطهارة عدم الاجتزاء باستعمال الماء المذكور، كما اعترف به قدّس سرّه في مستمسك العروة الوثقي و جري عليه في حاشيتها، و من البعيد جدا عدوله عن ذلك هنا.

فالظاهر ابتناء الإطلاق المذكور هنا علي الغفلة عن شموله لاحتمال إضافة الماء. بل قد يحمل الجواز في كلامه علي التكليفي، فيختص باحتمال الغصبية، و لا يشمل احتمال الإضافة، ليكون خروجا عما عرفت.

و إن كان ذلك بعيدا جدا، بلحاظ استلزامه عدم تصدّيه قدّس سرّه لبيان حكم الشبهة غير المحصورة في النجاسة التي هي من أظهر مواردها، بل لا يبقي معه مورد للإطلاق. إلا أن يحمل علي الإطلاق بلحاظ جواز الارتكاب و لو استوعب الأطراف في وقائع متعددة في قبال القول بلزوم ترك مقدار المعلوم بالإجمال. لكنه قد يبعد بلحاظ عدم إشارته قدّس سرّه لهذه الجهة في صدر كلامه.

هذا، و أما احتمال إلغاء الشك في أطراف الشبهة غير المحصورة، فلا يبقي معها موضوع للأصل الإلزامي، فلا مجال له، خصوصا بناء علي الضابط الآتي لغير المحصور، الذي لا يستلزم ضعف الاحتمال.

إلا أن يفرض ضعف الاحتمال بنحو ملحق له بالوسواس الذي لا يعتني به

ص: 450

و ضابط غير المحصورة أن تبلغ كثرة الأطراف (1) حدا يوجب خروج بعضها عن محل الابتلاء (2). و لو شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة فالأحوط وجوبا إجراء حكم المحصورة (3).

______________________________

العقلاء في مقام العمل، كما ذكرناه في محله. لكنه لا يختص بالشبهة غير المحصورة.

(1) لا دخل لكثرة الأطراف في سقوط منجزية العلم الإجمالي، و إنما هي دخيلة في صدق عنوان غير المحصور الذي وقع في كلماتهم.

(2) أو ابتلائه بغير ذلك مما يمنع من منجزية العلم الإجمالي، كتعذر المخالفة فيه، و تعذر الموافقة أو تعسرها، و غير ذلك مما ذكر في الأصول مفصلا، بل قد يراد بعدم الابتلاء ما يعم ذلك.

هذا، و قد ذكر في كلماتهم ضوابط أخر لغير المحصورة- غير تامة- لا مجال لإطالة الكلام فيها هنا، بل تذكر في الأصول.

(3) حيث أشرنا إلي عدم دخل الكثرة في حكم غير المحصورة، فلا بد من كون مفروض الكلام الشك في الابتلاء.

و قد ذكرنا في الأصول أن اللازم معه البناء علي عدم منجزية العلم الإجمالي، سواء كان الشك في تحديده بنحو الشبهة المفهومية، أم في تحققه مع العلم بحده بنحو الشبهة المصداقية.

و أما بقية الموانع التي أشرنا إلي الاكتفاء بها في جريان حكم الشبهة غير المحصورة فيختلف الحال فيها، فتعذر الموافقة و لزوم الحرج منها لا يكتفي فيهما بالشك، لأنهما من سنخ الأعذار التي لا بد من إحرازها عند العقلاء، و لذا تقدم وجوب الاحتياط مع الشك في سعة القدرة، و تعذر المخالفة يكتفي فيه بالشك، كعدم الابتلاء، لأنه من سنخه، و قد أطلنا الكلام في ذلك في الأصول بما لا يسع المقام تفصيله.

ص: 451

______________________________

كما لا مجال للكلام في فروع الماء المشكوك التي تعرض لها في العروة الوثقي و استدل لها في شروحها، لضيق الوقت عن ذلك و عدم انشراح الصدر له، و لا سيما مع اضطرارنا لإطالة الكلام فيما تقدم و عدم أهمية كثير من تلك الفروع، لقلة الابتلاء بها، و إنما هي مجرد فروض لها أمثال كثيرة قد يسهل معرفة حكمها بعد الرجوع للضوابط المتقدمة، و إتقان المباني الأصولية التي أشرنا لبعضها في هذا الشرح.

و منه سبحانه و تعالي نستمد العون و التوفيق، و التأييد و التسديد. و له الحمد علي كل حال في المبدأ و المآل، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 452

الفصل الخامس: في الماء المضاف و الآسار

اشارة

الفصل الخامس الماء المضاف (1)- كماء الورد و نحوه- و كذا سائر المائعات (2)

______________________________

(1) تقدم منا في نهاية الفصل الأول الكلام في طهارة الماء المضاف مع أخذه من طاهر، و في تطهيره بالتصعيد مع أخذه من نجس. فراجع.

(2) مما يكون ذا رطوبة بحيث تنتقل أجزاؤه بالملاقاة و يتأثر به الملاقي- كالزيت و العسل- أما الفلزات المائعة بالأصل- كالزئبق- أو بالحرارة، فميعانها لا يوجب انفعالها، كما صرح به في العروة الوثقي، و أمضاه جملة من شراحها و محشيها، منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه، و إن توقف فيه شيخنا الأستاذ و بعض السادة المعاصرين قدّس سرّهما «1».

و يكفي في عدم سريان النجاسة فيه بتمامه قصور أدلة السريان عن مثله، لاختصاصها بالماء و نحوه مما يشتمل علي الرطوبة، كالعسل و الزيت و السمن و المرق.

و التعدي عنها لأمثالها كالنفط و الحليب بقرينة الارتكاز العرفي، لا يقتضي التعدي عنها لمثل المقام بعد عدم مساعدة الارتكاز العرفي، و جعل المدار في سريان النجاسة فيها علي ذوبانها لا يقتضي كون المدار في السريان مطلق الذوبان، و لو في مثل محل الكلام.

بل لو فرض جعل المدار في النصوص علي مطلق الذوبان أمكن دعوي

______________________________

(1) راجع النصوص الدالة علي ذلك في باب: 5 من أبواب الماء المضاف، و باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 453

ينجس القليل و الكثير فيها بمجرد الملاقاة للنجاسة (1)

______________________________

انصرافه عن محل الكلام بقرينة الارتكاز العرفي.

كما يكفي في عدم انفعال ظاهره بمجرد الملاقاة من دون رطوبة خارجية ما دل علي عدم الانفعال مع الجفاف- مثل ما في موثق ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

«كل شي ء يابس ذكي» «1»، و غيره مما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي في المسألة التاسعة عشرة من الفصل الأول من مباحث الطهارة الخبثية- لوضوح أن ميعان ما نحن فيه لا يوجب رطوبته و لا ينافي يبسه عرفا.

و منه يظهر اندفاع ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أنه إن كان المدار علي الذوبان لزم الانفعال فيما نحن فيه، و إن كان المدار علي الرطوبة المائية لزم التوقف في انفعال مثل النفط و الدهن مما لا يشتمل علي الماء.

ثمَّ إنه لا إشكال في أنه يلحق بالفلزات مثل الزجاج و الحجر الذائبين بالحرارة، بل لا يبعد إلحاق مثل المطاط و النايلون، بل و الشمع، مما لا يتأثر به الملاقي و إن جمد عليه، فإنه ليس المعيار علي مطلق العلوق، إذ الفلزات قد تعلق أيضا، بل علي تأثر الملاقي بالمائع، و هو غير حاصل في الأمور المذكورة.

و لا أقل من الشك في إلحاقها بمثل الزيت، المسوغ للرجوع لأصالة الطهارة.

(1) هذا مذهب الأصحاب لا أعلم فيه خلافا. كذا في المعتبر. و إجماعا، كما في الروضة و بعض نسخ الشرائع، و عن التذكرة و المنتهي و كشف الالتباس و الدلائل. و عن السرائر نفي الخلاف فيه. و في الجواهر: «إجماعا منقولا نقلا يستفاد منه التحصيل».

و كلامهم و إن كان في الماء المضاف إلا أن الظاهر عمومه للمايعات الأخر، لأولويتها في الحكم عرفا، و بقرينة استدلال بعضهم- كالمحقق في المعتبر-

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة و الموجود في الوسائل طبع إيران: «زكي» بالزاء. و الذي أثبتناه من التهذيب طبع النجف الأشرف ج: 1 ص: 49.

ص: 454

______________________________

بنصوص الزيت، و بأن المائع قابل للنجاسة.

و كيف كان، فيدل علي ذلك في الماء المضاف بعض النصوص، كخبر زكريا ابن آدم: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟ قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله» «1».

و موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «أن عليا عليه السّلام سئل عن قدر طبخت و إذا في القدر فارة؟ قال: يهرق مرقها و يغسل اللحم و يؤكل» «2».

و موثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الدن يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس» «3».

لوضوح أن المرق في الأولين هو ماء اللحم الذي هو من سنخ الماء المضاف، كما أنه لو لا انفعال ماء الكامخ لم يكن وجه لاعتبار غسل الدن في الثالث.

كما يدل عليه في غيره من المائعات ما ورد في السمن و الزيت و العسل من النصوص الكثيرة، كصحيح الحلبي: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الفارة و الدابة تقع في الطعام و الشراب فتموت فيه؟ فقال: إن كان سمنا أو عسلا أو زيتا- فإنه ربما يكون بعض هذا- فإن كان الشتاء فانزع ما حوله و كله، و إن كان الصيف فارفعه حتي تسرج به، و إن كان ثردا فاطرح الذي كان عليه، و لا تترك طعامك من أجل دابة ماتت فيه» «4»، و غيره.

و بعض هذه النصوص يشمل بإطلاقه الكثير، فإن القدر في الأولين قد تكون كبيرة تسع كرا، و لا سيما مع التنبيه في خبر زكريا إلي الكثرة. و فرض اجتماع الزيت و نحوه بمقدار الكر غير بعيد في الرابع و نظائره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8 و باب: 26 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4.

ص: 455

______________________________

نعم، لا مجال لدعوي الإطلاق في الثالث، لأن الدن و إن كان هو الراقود العظيم الذي قد يشمل ما يسع الكر، إلا أنه وارد لبيان قابلية دنّ الخمر لتنجيس ما فيه بعد الفراغ عن قابلية ما فيه للانفعال، فلا ينافي اعتصام ما فيه بالكريه.

فتأمل جيدا.

و يستفاد عموم الانفعال من بعض نصوص الأسآر، فإنه لو تمت المناقشة في الاستدلال بكثير منها:

تارة: باختصاصها بالماء المطلق، إما لاختصاص السؤر بالماء الذي يشرب منه، أو للتعرض فيها للوضوء.

و اخري: باختصاصها بالقليل، لأن السؤر هو البقية من الطعام و الشراب، و هي تنصرف للقليل.

إلا أنه لا مجال لها في مثل صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات» «1»، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: اغسل الإناء» «2»، فإن الشرب يعم الماء المضاف و غيره من المائعات كالحليب، كما أن الإناء يعم الكبير الذي يسع الكر.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في الحكم بعد النظر في هذه النصوص و نحوها، مما يظهر منه المفروغية عن قابلية الماء المضاف و شبهه للانفعال و سريان النجاسة تبعا للارتكاز العرفي، فتسالم الأصحاب علي عموم الحكم مع ذلك كاشف عن ثبوته تبعا للارتكاز المذكور. و لا سيما مع كونه موردا للابتلاء و العمل، الذي يبعد معه اختفاء الحال.

و بهذا يسهل إلغاء خصوصية موارد النصوص بلحاظ كثير من الجهات، لكشف تسالمهم عن بلوغ الارتكاز المذكور حد القرينة علي إلغاء الخصوصية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 3.

ص: 456

______________________________

بل قد يقال: إن المستفاد من نصوص الكر أن الانفعال هو مقتضي طبع الماء، فضلا عن غيره من المائعات كما هو مقتضي الارتكاز العرفي، و أن الكرية عاصم تعبدي، فسكوت النصوص عن بيان عاصم لغيره مع تسالم الأصحاب علي عدم اعتصامه و كثرة الابتلاء بذلك كاشف عن جري الشارع فيه علي مقتضي الارتكاز المذكور.

و من ثمَّ لم تتطرق أكثر النصوص لبيان الانفعال رأسا، و إنما تعرضت لبعض الخصوصيات فيه بنحو يكشف عن المفروغية عنه، كما يظهر بملاحظتها. فتأمل جيدا.

هذا، و قد تأمل سيدنا المصنف قدّس سرّه في الانفعال مع الكثرة المفرطة، كألف كر، قال: «لعدم السراية عرفا في مثله، نظير ما يأتي من عدم السراية إلي العالي الجاري إلي السافل، و النصوص الواردة في السمن و المرق و نحوهما غير شاملة لمثله. و ثبوت الإجماع علي السراية في الكثرة المفرطة غير ظاهر».

لكن عدم السراية عرفا غير ظاهر، و لذا لا يتوهم مع كثرة النجاسة الملاقية للمايع. و قياسه علي الجاري في غير محله مع اختلاف سنخ الحكمين، لأن الجريان موجب لقصور مقتضي الانفعال عن التأثير في المتدافع منه.

أما الكثرة فهي من سنخ المانع عن تأثير المقتضي، كما هو المرتكز في كرية الماء، و ثبوتها في المقام غير ظاهر. و لا سيما مع اختلافهما بعدم تحديد الكثرة المفرطة و تحديد الجريان عرفا.

كما لا مجال للتشكيك في الإجماع بعد تنصيصهم علي الكثرة و إغفالهم لتحديدها.

علي أن الالتزام في الكثير بالنحو المذكور بعدم الانفعال أصلا حتي في موضع الملاقاة صعب جدا، و كذا الالتزام بانفعال موضع الملاقاة من دون استيعاب تمام الماء، لعدم تحديد الموضع المذكور ارتكازا.

و الظاهر أن التأمل في ذلك موجب لوضوح السريان في الجميع عملا بالعموم

ص: 457

إلا إذا كان متدافعا علي النجاسة (1)

______________________________

المتقدم المستفاد من مجموع الأمور المتقدمة.

و ليس ما ذكره قدّس سرّه إلا من سنخ الاستبعاد بلحاظ كثرة المتأثر و قلة المؤثر بحسب النظر الحسي، أو بلحاظ ترتب المشاكل أو نحو ذلك مما يبتني علي التغافل عن الانفعال بالنجاسة شرعا.

و قد أشير إلي الردع عنه في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: «أتاه رجل فقال:

وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما تري في أكله؟ فقال له أبو جعفر عليه السّلام: لا تأكله. فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها. فقال له أبو جعفر عليه السّلام: إنك لم تستخف بالفارة، و إنما استخفت بدينك. إن اللّٰه حرم الميتة من كل شي ء» «1».

(1) قال في المدارك: «و لا تسري النجاسة مع اختلاف السطوح إلي الأعلي قطعا، تمسكا بمقتضي الأصل السالم عن المعارض»، و عن الدلائل استحسانه، و عن السيد الطباطبائي قدّس سرّه في مصابيحه و ظاهر منظومته دعوي الإجماع عليه. بل عن الروض أنه لا يعقل سريان النجاسة إلي العالي، فإن ذلك و إن كان ممنوعا، إلا أنه منه كاشف عن وضوح عدم السراية.

و يظهر الوجه فيه مما تقدم في أحكام الماء القليل من قصور أدلة الانفعال عنه بعد قصور مقتضي النجاسة عن التأثير فيه ارتكازا، كما أشرنا إليه هناك.

بل لا ينبغي التأمل فيه بعد ملاحظة سيرة المتشرعة و ارتكازياتهم، إذ لا يتوهم من أحد البناء علي نجاسة تمام المائع بإراقة بعضه علي الموضع النجس، مع شيوع الابتلاء بذلك.

و من هنا اتجه من صاحب المدارك دعوي القطع، المغني عن التمسك بالأصل، بل لا موضوع له معه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 458

بقوة (1)- كالجاري من العالي، و الخارج من الفوارة- فتختص النجاسة حينئذ بالجزء الملاقي للنجاسة، و لا تسري إلي العمود. و إذا تنجس المضاف لا يطهر أصلا (2)

______________________________

كما لا مجال معه لما عن كاشف الغطاء من بناء المسألة علي أن الأصل سراية النجاسة لغير موضع الملاقاة، أو عدمها.

و ما في الجواهر من عدم تحقق القطع له غريب. و أغرب منه ما عن المناهل من الحكم بسريان النجاسة للعالي، لدعوي دخوله في معقد إجماعاتهم علي انفعال المضاف.

فإن ما ذكرناه من الوجه موجب لانصراف إطلاق معاقد الإجماعات المتقدمة علي الانفعال عنه.

هذا، و مما تقدم أيضا يتضح الوجه في جعل المعيار علي التدافع و عدم الاقتصار علي خصوص عدم سريان النجاسة من الأسفل إلي الأعلي، كما يتضح الوجه في بعض الجهات الأخر مما تقدم التعرض له هناك، فان المقامين من باب واحد. فراجع.

(1) تقدم الإشكال في اعتبار قوة الدفع في مبحث الماء القليل.

(2) يعني: ما دام باقيا علي الإضافة، و لا يصح إطلاق اسم الماء عليه، أما لو خرج عن الإضافة و صار مطلقا فيلحقه حكم الماء المطلق المتنجس، لإطلاق أدلته.

و أما احتمال طهارته بخروجه عن الإضافة- نظير طهارة الخمر بالانقلاب- فلا مجال له مع استصحاب نجاسته، لأن الانقلاب المذكور لا يوجب تبدل الذات، التي هي موضوع النجاسة عرفا بنحو يمنع من الاستصحاب.

و طهارة الخمر بالانقلاب علي خلاف القاعدة، فلا يقاس عليها، و لا سيما بعد اختصاصها بالنجاسة الخمرية، و عدم جريانها في النجاسة الخارجية بالملاقاة- كما هو الغالب في محل الكلام- حيث لا يطهر الخمر معها بالانقلاب كما يذكر في محله.

ص: 459

و إن اتصل بالماء المعتصم (1)، كماء المطر أو الكر.

______________________________

(1) كما هو المعروف، لاختصاص مطهرية الاتصال بالمعتصم بالماء المطلق.

فإن العمدة فيه التعليل في صحيح ابن بزيع الوارد في ماء البئر، و التعدي منه لبقية أقسام المطلق لمناسبته لكونه ارتكازيا لا يقتضي التعدي للمضاف بعد قصور الارتكاز عنه.

بل ظاهر الأمر في النصوص المتقدمة بإهراق المائع أو إطعامه أهل الذمة أو الكلب تعذر أكله و سقوطه عن الانتفاع المعتد به، و هو لا يناسب طهره بالاتصال بالمعتصم لتيسر ذلك، و الاهتمام بقيمة المتنجس تقتضي الاهتمام بتحصيله، و ليس هو كالماء المطلق المتنجس ليس له قيمة مهمة تقتضي تكلف ذلك فيه.

و أما الاستدلال بعموم قوله عليه السّلام في مرسلة الكاهلي: «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1».

فلا مجال له في الماء المطلق المتنجس فضلا عن المضاف، لانصرافه إلي التطهير باستيلاء ماء المطر علي المتنجس، و هو لا يتحقق في السوائل، كما أشرنا إليه في المسألتين الثانية عشرة و العشرين.

و مثله في ذلك مرسلة ابن أبي عقيل في الماء المجتمع في الطريق: «إن هذا لا يصيب شيئا إلا طهره» «2».

و أضعف من ذلك الاستدلال بعمومات مطهرية الماء، لعدم التعرض فيها لكيفية التطهير به، فلا بد من تنزيلها علي الوجه العرفي، و هو التطهير باستيلاء الماء علي الموضع النجس، الذي لا مجال له في السوائل.

و منه يظهر ضعف ما في القواعد و محكي التحرير من الاكتفاء في طهر

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 8.

ص: 460

نعم، إذا استهلك في الماء المعتصم فقد ذهبت عينه (1)

______________________________

المضاف بإلقاء كر عليه إذا لم يسلبه الإطلاق، بناء علي شموله لما إذا بقي المضاف علي إضافته، كما قد يشهد به ما في القواعد من أنه لو صار المطلق مضافا خرج عن الطهورية دون الطهارة، لظهوره في عدم خروج المضاف عن الإضافة و طهره بالاتصال بالكر المطلق، و لذا لا ينفعل به الكر بعد صيرورته مضافا.

و قد أطال في الجواهر في توجيهه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

و الأمر سهل بعد وضوح ضعفه بظاهره.

(1) يعني: فلا يبقي معه موضوع صالح للحكم بالنجاسة عرفا. و هو الوجه في عدم جريان استصحاب النجاسة فيه، فلا تترتب آثارها من انفعال الماء به لو فرض خروجه عن الاعتصام بعد ذلك.

و يقتضيه النصوص الدالة علي عدم نجاسة الماء الكثير بوقوع البول فيه أو الدم أو غيرهما، و نصوص البئر المتضمنة لعدم انفعالها أو نزحها بوقوع شي ء من ذلك فيها [1]، فإنه لم ينبّه في النصوص المذكورة إلي لزوم التوقي عما يؤخذ من الماء المذكور مما يشتمل علي الأجزاء المستهلكة من النجاسة، لقلته و انفعاله بالأجزاء المذكورة مع وضوح غفلة العرف عن ذلك و سيرتهم علي عدم التوقي عنه.

نعم، لا بد من عدم خروج الماء عن الاعتصام إلي حين تحقق الاستهلاك، و إلا تعين انفعال الماء بالمضاف، كما لو فرض خروج بعض الكر عن الإطلاق بحيث ينقص الباقي منه عن الكرية، أو فرض فصل المضاف بين المادة و ذيها، حيث يتعين حينئذ انفعال الباقي من المطلق باتصاله بالمضاف المتنجس، و لا ينفع استهلاك المضاف بعد ذلك في طهر الماء، بل يلحق الجميع حكم الماء المتنجس من الاحتياج إلي الاتصال بالمعتصم في تطهيره.

______________________________

[1] إما بلحاظ أنها في أول زمان امتزاجها بالماء المطلق قد تجعل قسما منه مضافا، أو لأن طهارة عين النجاسة بالاستهلاك تستلزم طهارة المتنجس بالأولوية منه عفي عنه.

ص: 461

و مثل المضاف في الحكم المذكور (1) سائر المائعات (2).

مسألة 21: الماء المضاف لا يرفع الخبث (3)،

______________________________

هذا، و قد اعتبر في محكي المبسوط عدم تغير المطلق بصفات المضاف.

و هو متجه بناء علي الاكتفاء في انفعال المعتصم بالتغير بصفات المتنجس- الذي تقدم أنه خلاف الظاهر- أو يكون مراده بذلك الكناية عن بقائه علي الإطلاق في مقابل غلبة المضاف عليه.

و أما حمله علي التغير بصفات النجاسة التي قد يحملها المضاف- حيث تقدم كفايته في انفعال المعتصم- فبعيد. و الأمر سهل.

(1) يعني: من عدم طهره بالاتصال بالمعتصم و طهره بالاستهلاك.

(2) لاشتراكها مع الماء المضاف في الوجه المتقدم.

(3) عند أكثر أصحابنا، كما في الخلاف و عن الغنية و التذكرة. و هو المشهور، كما عن المختلف، بل عن الروض الإجماع عليه، و إن لم يتضح وجهه بعد معروفية الخلاف من السيد و المفيد، بل عن السرائر نسبته إلي السيد و جماعة من أصحابنا.

إلا أن يريد به الإجماع الحجة، كما هو ظاهر الجواهر، حيث قال: «و هو المشهور نقلا و تحصيلا شهرة كادت تبلغ الإجماع، بل هي إجماع، لمعلومية نسب المخالف إن اعتبرناه، و انقراض خلافهما».

لكنه مبني علي حجية الإجماع بدخول المعصوم حسا إجمالا، أو حدسا بقاعدة اللطف. و الأول ممنوع صغري، و الثاني ممنوع كبري.

و كيف كان، فيدل علي المشهور النصوص الكثيرة الظاهرة في انحصار المطهر بالماء.

إما للأمر به في بيان كيفية التطهير الظاهر في التعيين، مثل ما في حسن الحسين بن أبي العلاء و صحيح البزنطي في البول يصيب الجسد من قوله عليه السّلام: «صب عليه

ص: 462

______________________________

الماء مرتين» «1»، و غيره مما هو كثير جدا.

أو لظهوره في الحصر بمفهوم الشرط أو نحوه، كقوله عليه السّلام في موثق أبي بصير:

«أ ليس يغسل بالماء؟ قلت: بلي. قال: لا بأس» «2»، و قوله عليه السّلام في خبر بريد ابن معاوية:

«يجزي من الغائط المسح بالأحجار، و لا يجزي من البول إلا الماء» «3»، و قوله عليه السّلام في خبر ابن جعفر في الصلاة في الأكسية التي تنقع في البول: «إذا غسلت بالماء فلا بأس» «4»، و قوله عليه السّلام في صحيحه فيمن ليس عنده إلا ثوب نصفه دم: «إن وجد ماء غسله، و إن لم يجد ماء صلي فيه» «5»، و قريب منه صحيح الحلبي و موثق عمار «6».

فإن هذه النصوص ظاهرة في انحصار التطهير بالماء، و بعدم الفصل- بل فهم عدم الخصوصية في كثير منها لظهوره في كون الاحتياج إلي الماء مقتضي طبع النجاسة- يتم عموم عدم مطهرية غير الماء.

مضافا إلي استصحاب النجاسة، بناء علي ما يأتي من انفعال الطاهر بملاقاة النجس.

و أما دعوي: أن ذلك مقتضي أصالة الاشتغال بالطهارة بالإضافة إلي ما اشترطت فيه لو فرض عدم جريان استصحاب النجاسة.

فهي مندفعة: بأن قاعدة الاشتغال انما يرجع إليها مع الشك في الطهارة الحدثية، لا الخبثية، بل المرجع فيها قاعدة الطهارة. مع ان ذلك قد يتم لو كان المانع من الاستصحاب خللا في المقام فيه.

أما لو كان المانع منه دعوي عدم انفعال الطاهر بالنجاسة، و أن الغسل واجب تعبدي، فلا مجال لقاعدة الاشتغال، لأن الشرط علي ذلك هو الغسل، فمع الشك في

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، 7.

(2) الوسائل باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 71 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(6) الوسائل باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 1، 8.

ص: 463

______________________________

وجوب كونه بالماء يكون المرجع البراءة منه. فلاحظ.

هذا، و قد أشير في جامع المقاصد و غيره إلي الاستدلال بما تضمن الامتنان بطهورية الماء كقوله تعالي وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً «1»، و قوله عليه السّلام في صحيح داود بن فرقد:

«كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسع اللّٰه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض و جعل لكم الماء طهورا، فانظروا كيف تكونون؟» «2».

بدعوي: أن الاقتصار عليه في بيان المنة ظاهر في الانحصار به، و إلا كان المناسب التنبيه لغيره لبيان سعة المنة.

و فيه: - مع أن ظاهر الآية الشريفة الامتنان بإنزال الماء الطهور، لا بطهوريته- أنه يكفي في تخصيصه بالذكر في مقام الامتنان سهولة تحصيله و عدم الكلفة باستعماله، لكونه منظفا عرفيا لا يحتاج بعده إلي الغسل، بخلاف غيره من أقسام المائع.

هذا، و قد نسب غير واحد مطهرية المائع الطاهر للمفيد و السيد، كما أشرنا إليه آنفا، و ظاهر الكاشاني في المفاتيح موافقتهما في الجملة، و حيث كان في كلامه إشارة إلي ما يصلح أن يكون مبني للمسألة فالمناسب نقله. قال: «يشترط في الإزالة إطلاق الماء علي المشهور، خلافا للسيد و للمفيد، فجوزا بالمضاف، بل جوز السيد تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث تزول العين لزوال العلة، و لا يخلو من قوة، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، أما وجوب غسلها بالماء عن كل جسم فلا، فكل ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره، إلا ما خرج بالدليل، حيث اقتضي فيه اشتراط الماء، كالثوب و البدن. و من هنا تظهر طهارة البواطن كلها بزوال العين. و كذا أعضاء الحيوان المتنجسة.».

______________________________

(1) الفرقان: 48، 49.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 464

______________________________

و مراده لا يخلو عن إجمال، إذ.

تارة: يريد بذلك أن ملاقاة الطاهر للنجاسة لا توجب تنجسه بها، و إنما يجب اجتنابه بلحاظ حمله لها، فإذا فرض زوال عينها منه زال المانع من استعماله و إن لم يغسل بالماء، إلا أن يدل الدليل علي لزوم ذلك، فيقتصر علي مورده.

و اخري: يريد أن الطاهر و إن تنجس بملاقاة النجس إلا أنه يطهر بزوال عين النجاسة عنه، إلا أن يدل الدليل علي اعتبار الغسل بالماء في طهارته، فيقتصر علي مورده.

أما الأول فيشكل.

أولا: بأن ظاهر كثير من النصوص هو انفعال الملاقي للنجاسة و تنجسه بها مع قطع النظر عن حمله لها، كما يظهر من التعبير بالتنجيس و التقذر و الفساد في الماء في النصوص الكثيرة الواردة في قاعدة الطهارة في الماء و غيره «1» و الكر و الحمام و البئر و غيرها، و منها قوله عليه السّلام في النبيذ: «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء» «2»، و في الثوب في قوله عليه السّلام في صحيح ابن مهزيار: «من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجسا.» «3»، و قوله في حديث أبي العلاء: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي ء ينجسه.» «4»، و قوله عليه السّلام في صحيح ابن سنان: «فإنك أعرته إياه و هو طاهر و لم تستيقن أنه نجسه» «5»، و ما في خبر الحسين بن علوان: «يعني: الثياب التي تكون في أيديهم فينجسونها» «6»، و ما ورد في الخمر أو النبيذ أو الدم يقطر في العجين من قوله عليه السّلام: «فسد» «7»، و ما في طين المطر من قوله عليه السّلام في مرسلة ابن بزيع: «إلا أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 5 و باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(7) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 465

______________________________

يعلم أنه قد نجسه شي ء بعد المطر» «1».

و يظهر أيضا من التعبير بالتطهير و الطهر و نحوهما مما يتفرع علي فرض النجاسة، كنصوص طهورية الماء «2» الظاهرة في خصوصيته في أحداث الطهارة شرعا، لا من حيث كونه مزيلا للعين الذي يشاركه فيه غيره، و نصوص قاعدة الطهارة في الماء «3»، و غيره و استصحابها «4» و نصوص الاستنجاء بالماء «5» المتضمنة لتفسير قوله تعالي إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «6»، و ما ورد في اعتبار طهارة ماء الوضوء «7»، و كيفية تطهير الإناء «8»، حيث قال عليه السّلام بعد بيان كيفيته: «و قد طهر»، إلي غير ذلك مما يستفاد منه انفعال الملاقي بالنجاسة شرعا، لا مجرد حمله لها.

و الاقتصار علي موارد النصوص المذكورة في الانفعال دون بقية ما أمر فيه بالغسل أو الصب، فضلا عما استفيد منه الانفعال بطريق آخر، كالنهي عن الصلاة، مما تأباه المرتكزات في فهم الكلام جدا.

كيف، و قد اختلفت في كثير من الخصوصيات حتي في الثوب و البدن، و لم يتيسر تحصيل قاعدة عامة فيهما، و ليس التعدي عن المورد في النجاسات بأولي من التعدي عنه في المتنجسات.

قال في الجواهر: «و إلا فسائر النجاسات ما سئل عنها جميعها في ملاقاته للثوب، و لا عنها جميعها بالنسبة للبدن، بل بعضها في الثوب و بعضها في البدن،

______________________________

(1) الوسائل باب: 75 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 5 و باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 1 و باب: 74 حديث: 1.

(5) راجع الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة.

(6) البقرة: 222.

(7) راجع الوسائل باب: 51 من أبواب الوضوء.

(8) الوسائل باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 466

______________________________

و بعضها في غيرهما، لكن لمكان القطع بعدم إرادة الخصوصية قلنا في الجميع».

بل ما ذكرنا هو المناسب ارتكازا لاعتبار الرطوبة في الانفعال، و لورود الأمر بالغسل في كثير من موارد ملاقاة النجاسة التي لا ينتقل شي ء منها للملاقي، كالميتة و الكلب و المتنجس، فان المرتكز كون الغسل لأجل الانفعال بالنجاسة و مقدمة للتطهير منها المعتبر في بعض الأمور، كالصلاة، لا تعبديا محضا.

و إلا أشكل إثبات مقدمية الغسل لمثل الصلاة، إلا بدليل خاص في كل مورد مورد، و هو يوجب اضطراب نظم الفقه، و لا يظن بأحد توهمه.

و ثانيا: بأنه يصعب إقامة الدليل علي عموم وجوب رفع عين النجاسة لو فرض عدم انفعال الملاقي لها، إذ لا دليل علي قادحية حمل عين النجاسة في الصلاة إلا في مثل الميتة، و لا علي قادحية ملاقاتها للماء في الوضوء به، و لذا لا يقدح في مثل الكر مما لا ينجس، و لا علي حرمة ملاقاتها للمسجد، و لذا لا تحرم مع الجفاف إلي غير ذلك مما ينحصر الوجه فيه بفرض انفعال الملاقي.

و ثالثا: بأن المستفاد من موثق عمار الوارد فيمن يجد في إنائه فأرة عموم عدم الاكتفاء بزوال عين النجاسة عن الملاقي، بل لا بد من الغسل، كما أشار إليه بعض مشايخنا، لقوله عليه السّلام: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه. فعليه أن يغسل ثيابه و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء.».

و الاقتصار علي مورده و هو الماء الملاقي للفأرة لا يلتزم به هو نفسه، لأنه فصل بين المتنجسات، لا النجاسات.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد النظر في النصوص و مرتكزات العرف و المتشرعة في بطلان الوجه المذكور، و لذا أطبق الفقهاء علي ذلك علي اختلاف مشاربهم، و جروا عليه في فهم الأدلة و العمل بها، بل جري عليه هو حيث عبر بالنجاسة كثيرا.

و أما الثاني فيكفي في رده استصحاب النجاسة، لعدم الدليل علي كفاية زوال العين في التطهير في غير مورد الدليل علي عدمه.

ص: 467

______________________________

بل قال في الجواهر: «و دعوي: أن الطهارة الشرعية عبارة عن النظافة العرفية فرية بينة، إذ المستفاد من تعفير الإناء و الصب مرتين و غير ذلك خلافه». فان المنصرف من الأمر بالغسل كونه هو المطهر، لا أنه واجب تعبدا مع كون المطهر هو زوال العين كما أنه الظاهر من أدلة مطهرية الماء و غيرها، بل هو كالصريح من مثل موثق عمار الوارد في غسل الإناء الذي تقدمت الإشارة إليه في أدلة المشهور.

مضافا إلي أن ما ذكره من الجمود علي موارد الأمر بالغسل من الثوب و البدن و غيرهما، و عدم التعدي عنها مما تأباه المرتكزات العرفية في فهم الكلام جدا بعد كون الغسل من المطهرات عرفا.

كيف، و لم يستفد نجاسة بعض الأمور إلا من الأمر بغسل الثوب أو البدن بملاقاتها لها، فإن بني علي الاقتصار في تنجيسها علي مورد الأمر لزم عدم وجوب إزالة عينها عن غيره، و إن بني علي التعدي في تنجيسها عن المورد المذكور لزم البناء علي وجوب الغسل منها، و التعدي في التنجيس دون الغسل تحكم، كما أشرنا إليه في الجواهر.

علي أنه يكفي في عموم وجوب الغسل للمتنجسات موثق عمار المتقدم، كما أشرنا إليه آنفا.

و أما الاستدلال علي الاكتفاء بزوال العين بصحيح حكم بن حكيم الصيرفي:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أبول فلا أصيب الماء، و قد أصاب يدي شي ء من البول، فأمسحه بالحائط و بالتراب ثمَّ تعرق يدي فامسح [فأمس] به وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي. قال عليه السّلام: لا بأس به» «1».

فيدفعه النصوص الكثيرة الصريحة في لزوم الغسل من البول. مع أنه إنما يتضمن عدم البأس بملاقاة اليد للثوب و البدن مع عرقها، لا في نفس اليد، فهو ظاهر في عدم تنجيس اليد و لو لعدم تنجيس المتنجس، و لا ظهور له في مطهرية زوال عين النجاسة أو المسح بالأرض لليد، لينفع فيما نحن فيه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 468

______________________________

و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ما ذكرنا في انفعال الجسم الطاهر بالملاقاة و في عدم كفاية زوال عين النجاسة في تطهيره، فلا بد من النظر في أدلة القول بالاكتفاء بالمضاف بعد ما ظهر من أنه علي خلاف الأصل.

و قد استدل عليه في كلماتهم بأمور:

الأول: إطلاق التطهير في الأدلة الشامل للتطهير بالمضاف.

و فيه: أن الشك إنما هو في حصول التطهير بالمضاف، و الإطلاق لا يحرز عنوانه، و لا يتضح بناء العرف علي حصوله به ليرجع إليه بمقتضي الإطلاق المقامي للأدلة المذكورة. بل من القريب اختصاصه بالمطلق عندهم، كما قد يتضح بملاحظة ما يأتي.

علي أن مقتضي ما تقدم من النصوص الظاهرة في اعتبار الماء الخروج عن الإطلاق المذكور لو فرض تماميته.

الثاني: إطلاق الغسل في النصوص الكثيرة الشامل للغسل بالمضاف.

و فيه: أنه لا يبعد انصرافه للغسل بالمطلق- كما ذكره غير واحد- لا لأنه الأكثر شيوعا، بل لوروده في مقام التطهير مع ما هو المركوز في أذهان العرف و المتشرعة من خصوصية الماء في المطهرية من بين سائر المائعات و إن شاركته في إزالة عين النجاسة، لتمحضه في التنظيف بخلافها، حيث يحتاج إلي التنظيف منها، فلا ترفع الاستقذار الحاصل من عين النجاسة و إن إزالتها.

و قد يشهد بانصراف الغسل و التطهير إلي خصوص ما يكون بالماء المطلق آيتا التيمم، حيث اشتمل صدرهما علي إطلاق الغسل و التطهير، و تضمن ذيلهما تشريع التيمم مع فقد الماء، فلو لا المفروغية عن اختصاص الغسل بالماء لم ينسجم الذيل مع الصدر.

و قريب من ذلك خبر علي بن جعفر الوارد في غسل الفراش المبطن بالصوف، حيث قال عليه السّلام: «يغسل الظاهر، ثمَّ يصب عليه الماء في المكان الذي أصابه

ص: 469

______________________________

البول» «1»، و ما في صحيح البقباق من قوله عليه السّلام: «إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و إن مسه جافا فاصبب عليه الماء» «2»، و نحوه ما في حديث الأربعمائة «3»، و ما في صحيح الحلبي: «فإن ظن أنه أصابه مني و لم يستيقن و لم ير مكانه فلينضحه بالماء، و إن استيقن أنه أصابه و لم ير مكانه فليغسل ثوبه كله» «4».

فإن إطلاق الغسل مع تقييد الصب و النضح بالماء مشعر بالمفروغية عن اختصاص الغسل به، إذ يبعد إرادة الإطلاق منه، كما يبعد كون ذلك من سنخ القرينة الخارجية علي التقييد. و لا أقل من إجمال الغسل من هذه الجهة بنحو لا ينعقد له ظهور في الإطلاق بالإضافة إلي المضاف. علي أنه لو تمَّ إطلاقه تعين رفع اليد عنه بالنصوص المتقدمة في دليل المشهور الظاهرة في لزوم الماء.

الثالث: ما عن المفيد من نسبة ذلك إلي الرواية، و لا يعلم مراده بذلك، فلا تخرج عن كونها رواية مرسلة قد بني نقلها علي الاجتهاد، فلا تصلح للاستدلال.

نعم، قد يكون مراده بها موثق غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عن علي عليهم السّلام: «قال: لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق» «5».

لكنه يشكل: بأن ذكر الدم في كلام الإمام عليه السّلام مشعر بخصوصيته، فلا مجال للتعدي عنه لغيره من النجاسات بفهم عدم الخصوصية، و ليس هو كالتقييد في كلام السائل.

مضافا إلي أن ذلك هو مقتضي الحصر في موثقة الآخر- الذي لا يبعد اتحاده معه- عنه عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام: «قال: لا يغسل بالبصاق غير الدم» «6»، و نحوه مرسل

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 11.

(4) الوسائل باب: 16 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 470

______________________________

الكليني «1»، فلا مجال مع ذلك للاستدلال علي مدعي الخصم من عموم المطهرية بالحديث المذكور.

بل إن أمكن البناء علي مؤدي هذه النصوص- كما قد يناسبه اختصاص الدم بنحو من التسهيل في الأحكام، كالعفو عن قليله في الصلاة، و ما في بعض النصوص «2» من مطهرية النار له- فهو المتعين و يقتصر فيه علي مورده، و هو الريق، و إن كان إعراض الأصحاب عنها في موردها موهنا لها. فالأمر أظهر.

هذا، و لا يبعد عدم صلوح الإعراض لتوهين هذه النصوص، لقرب استناده إلي تخيل استحكام التعارض بينها و بين أدلة اعتبار الماء أو قوة عموم اعتباره لارتكازيته بنحو يصعب رفع اليد عنه بها، نظير ما يذكره في بعض الموارد من ندرة الرواية و شذوذها لمخالفتها للأصول.

و من الظاهر عدم تمامية كلا الأمرين، لقوة ظهور هذه النصوص الملزم بتخصيصها لأدلة اعتبار الماء، و إمكان كون الريق مطهرا تعبديا للدم علي خلاف مقتضي الارتكاز، فلا يكشف إعراضهم عن وهن هذه النصوص بنحو يخرجها عن عموم دليل الحجية، و لا سيما مع ظهور ذكر الكليني و الشيخ قدّس سرّهما «3» لها في نحو اعتماد منهما عليها.

و أما حملها علي إرادة الغسل لإزالة العين مع الاحتياج في التطهير للماء- كما يظهر من المعتبر- فهو تأويل بعيد عن الظاهر جدا، إذ هو- مع عدم اختصاصه بالدم- من الأمور التكوينية التي لا منشأ لتوهم المنع عنها شرعا، ليحتاج لدفعه، بل الظاهر إرادة الغسل الشرعي المطهر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8 و باب: 44 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 3.

(3) الكافي 3: ص 6 طبعة إيران الحديثة، و التهذيب: ج 1: ص 423- 425 طبع النجف الأشرف.

ص: 471

و كذا الحدث (1).

______________________________

نعم، كثرة الابتلاء بالدم الذي يصلح الريق لغسله تستلزم وضوح هذا الحكم لو فرض ثبوته و كثرة السؤال عنه، لكونه تعبديا محضا، و لا يناسب الاقتصار فيه علي هذه الروايات التي قد ترجع لشخص واحد، كما لا يناسب تسالم الأصحاب علي إهمال هذه الروايات و غض النظر عن الحكم المذكور و ضياعه، بل ذلك موجب للريب فيها بنحو تخرج عن عموم الحجية، لاختصاص بناء العقلاء علي حجية السند و الدلالة و الجهة بما إذا لم يحتف الخبر بما يوجب الريب فيه، نظير ما يذكر في و هن الخبر بإعراض الأصحاب عنه. فلاحظ.

هذا، و عن ابن أبي عقيل التفصيل في استعمال المضاف بين حالي الانحصار به و عدمه، فيجوز في الأول مع الضرورة دون الثاني، و في مفتاح الكرامة أن المعروف عنه خصوص إزالة الخبث، و نقل عنه في محكي الذكري أنه عمم الاستعمال له و للحدث.

و لا يتضح وجهه علي التقديرين.

نعم، يأتي في صحيح عبد اللّٰه بن المغيرة ما يناسب ذلك. لكنه- مع اختصاصه بالنبيذ- وارد في الوضوء، فلا مجال للتعدي منه للطهارة الخبثية، فضلا عن تخصيص الحكم بها.

(1) إجماعا، كما في الشرائع و عن الغنية و التذكرة و المنتهي و التحرير و نهاية الأحكام، و نفي عنه الخلاف في محكي المبسوط و السرائر.

و كأنه مبني علي تنزيل المخالف لندرته منزلة العدم، و لذا اعترف به في محكي المختلف و نسبه للشذوذ، و عبر في المدارك و محكي المقتصر و الذخيرة عما عليه الأصحاب بالمشهور.

و يقتضيه- مضافا إلي قاعدة الاشتغال بالطهارة، بل استصحاب الحدث- آيتا

ص: 472

______________________________

التيمم «1» الظاهرتان في مشروعيته مع عدم الماء و إن تيسر المضاف، و كثير من نصوص التيمم الواردة في طلب الماء، و في بطلان التيمم بوجدانه و غير ذلك مما يظهر منه انحصار الغسل و الوضوء به، بل المفروغية عن ذلك.

مضافا الي خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «في الرجل يكون معه اللبن أ يتوضأ منها للصلاة؟ قال: لا، إنما هو الماء و الصعيد» «2». و قريب منه خبر عبد اللّٰه بن المغيرة «3»، علي الكلام الآتي فيه.

بل لعل النظر في النصوص البيانية الواردة في الوضوء و التيمم يوجب وضوح الحكم المذكور، لأنها و إن لم تتصد لبيان ذلك، إلا أنها بمجموعها ظاهرة في المفروغية عنه. فلاحظ.

و أما الاستدلال له بما ورد لبيان مطهرية الماء في معرض الامتنان فقد تقدم في الطهارة الخبثية منعه.

هذا، و في الخلاف: «و ذهب قوم من أصحاب الحديث و أصحابنا إلي أن الوضوء بماء الورد جائز»، و صرح الصدوق قدّس سرّه بجواز الوضوء و الغسل بماء الورد في الأمالي و محكي الفقيه و الهداية، و يستدل له بخير يونس عن أبي الحسن عليه السّلام:

«قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد و يتوضأ به للصلاة. قال: لا بأس بذلك» «4».

و قد استشكل فيه. تارة: بضعف السند.

و اخري: بعدم الدلالة.

أما السند فلروايته عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسي العبيدي عن يونس.

و عن الصدوق عن شيخه ابن الوليد أن ما تفرد به محمد بن عيسي من كتب يونس و حديثه لا يعتمد عليه، كما أن سهلا لم تثبت وثاقته، بل طعن من غير واحد.

______________________________

(1) النساء: 43، المائدة: 6.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 473

______________________________

و الجواب: أنه لا مجال للتعويل علي ما ذكره ابن الوليد بعد ثبوت وثاقة محمد بن عيسي، بل جلالته، و لا سيما مع قول النجاشي في رده: «و رأيت أصحابنا ينكرون هذا القول و يقولون: من مثل أبي جعفر محمد بن عيسي؟!. و قال القتيبي: كان الفضل بن شاذان رحمه اللّٰه يحب العبيدي و يثني عليه و يمدحه و يميل إليه، و يقول: ليس في أقرانه مثله. و بحسبك هذا الثناء من الفضل رحمه اللّٰه».

و أما سهل بن زياد فهو و إن طعنه النجاشي بأنه كان ضعيفا في الحديث غير معتمد فيه، و نقل عن أحمد بن محمد بن عيسي أنه كان يشهد عليه بالغلو و الكذب و أخرجه من قم، و ضعفه ابن الغضائري فيما حكي عنه، حيث قال: «كان ضعيفا جدا فاسد الرواية و الدين، و كان أحمد بن محمد بن عيسي الأشعري أخرجه من قم و أظهر البراءة منه، و نهي الناس عن السماع منه، و يروي المراسيل و يعتمد المجاهيل»، كما ضعفه الشيخ في الفهرست.

إلا أن طعن النجاشي غير صريح في تضعيفه، لأن ضعف الحديث باصطلاح القدماء لا يراد به ضعف نقل الشخص للرواية الراجع إلي عدم وثاقته، بل ضعف الحديث الذي يرويه، لعدم التزامه بالاقتصار علي رواية الأحاديث المعتمدة، فهو نظير الطعن بالرواية عن الضعفاء أو اعتماد المجاهيل الذي أشار إليه ابن الغضائري.

نعم، نقله عن أحمد بن محمد بن عيسي أنه كان يشهد عليه بالكذب و عدم رده له ظاهر في توقفه في وثاقته. لكنه لا يعارض ما يأتي.

كما أن طعن ابن الغضائري لا اعتماد عليه مع ما هو المعروف عنه من تسرعه في الطعن و تشبثه فيه بأدني شبهة.

و كذا أحمد بن محمد بن عيسي، فإن إخراجه للبرقي من قم لروايته عن الضعفاء و اعتماده للمراسيل، مما يرفع الوثوق بمثل هذه التصرفات المبنية علي العنف و القسوة، الناشئة عن ما له من قوة و نفوذ في البلد، فإنه و إن أمكن حمله علي الصحة في نفسه، إلا أنه لا طريق لاستكشاف وهن من يتصدي لمقاومته بنحو تقبل شهادته المذكورة.

ص: 474

______________________________

و لا سيما مع ظهور حال الأصحاب في الاعتماد علي روايات سهل، خصوصا شيخ المحدثين الكليني الذي أكثر في الكافي الرواية عنه مباشرة أو بالواسطة، مع تصريحه في ديباجته بأنه يتوخي فيه الآثار الصحيحة و السنن القائمة التي عليها العمل و بها يؤدي فرض اللّٰه عز و جل و سنة نبيه صلّي اللّٰه عليه و آله، فان هذا مما يوجب الريب في الشهادة المذكورة و بغيرها من الطعون و يمنع من الركون إليها.

و أما تضعيف الشيخ قدّس سرّه له في الفهرست فهو معارض بتوثيقه له في كتابه- في أصحاب الهادي عليه السّلام- الذي قيل: أنه متأخر عن الفهرست تأليفا، لإشارته إليه فيه، فيكون مقدما عليه.

و لا أقل من تساقطهما، و الرجوع في توثيق الرجل إلي ظهور حال علي بن إبراهيم و ابن قولويه في توثيقه، لأنه من رجال كتابيهما، المؤيد أو المعتضد بما أشرنا إليه من إكثار الكليني و غيره من الأصحاب من الرواية عنه، و بكونه كثير الرواية و رواياته سديدة مفتي بها منتشرة في كتب الفقه إلي غير ذلك من الأمور العملية الكاشفة عن وثاقة الرجل في نفسه، و أن الطعون الصادرة فيه ناشئة عن أمور لا تنافيها، و أهمها شبهة الغلو التي يظهر من قدماء الأصحاب، و لا سيما القميين، شدة الاهتمام بها و التشبث فيها بأدني سبب، بنحو يسيئون الظن لأجلها بصدق الشخص و يستسيغون مقاومته بل قتله. و نسأله تعالي العصمة و السداد.

هذا كله، مضافا إلي أن ظاهر ما يأتي من الشيخ قدّس سرّه اشتهار الحديث المذكور و تكرره في الكتب و الأصول، و لذا طعنه بانفراد يونس به، لا سهل و لا محمد بن عيسي مما يشهد بكون ذكرهما لمحض المحافظة علي اتصال سلسلة السند بالإمام عليه السّلام.

و أما الدلالة فقد استشكل فيها باحتمال كون «الورد» بالكسر بمعني ما تورد منه الدواب، و هو مظنة للسؤال، كما في الجواهر.

لكنه كما تري، احتمال لا يعتد به بعد استدلال الأصحاب قديما و حديثا بالحديث علي الحكم المذكور، مما يظهر منه المفروغية عن كونه واردا في محل

ص: 475

______________________________

الكلام، مع ما هو المعلوم من قرائتهم للحديث في مقام الرواية و التحمل و المذاكرة، فلا يحتمل خفاء مثل هذا الاختلاف عليهم.

و لا سيما بعد عدم معهودية مثل هذه الإضافة و إن أمكن تصحيحها، بل يعبر عن الماء المذكور بأنه الماء الذي ترده أو تشرب منه الدواب أو السباع، كما يشهد به غير واحد من النصوص الواردة في الماء المطلق «1».

و مثل ذلك حملها علي الغسل للتحسين الذي قد يطلق عليه الوضوء، كما ذكره الشيخ في التهذيب «2» و الاستبصار «3».

إذ- مع كونه خلاف المنصرف من الغسل و الوضوء للصلاة- لا منشأ لتوهم المنع عنه، ليسأل عنه. و كأن ذكره له للفرار من الطرح و إن كان مخالفا للظاهر.

فالعمدة ما نبّه له غير واحد، أولهم- فيما أعلم- الشيخ قدّس سرّه في كتابيه.

و الأولي في تقريبه أن يقال: إنه لم يعلم حال ماء الورد الذي كان مستعملا و معروفا في عهد صدور الرواية، لإمكان عدم خروجه عن الإطلاق، بل كان عبارة عما يختلط بالورد بنحو يوجب اكتسابه رائحته التي هي الغرض المهم منه.

و دعوي: ظهوره في خصوص المعتصر و المصعد، لظهور الإضافة في إضافة الشي ء إلي مصدره و منبعه.

ممنوعة، إذ ليس مفاد الإضافة إلا اختصاص أحد الشيئين بالآخر، و كما يصح انتزاع ذلك بلحاظ كونه منبعا له، يصححه اختلاطه به بنحو يتميز به لتأثره به.

و كذا غير ذلك من أنحاء الملابسات، فاختلاف الملابسات و الأسباب الموجبة للاختصاص عرفا و المصححة للإضافة لا توجب اختلاف معناها، ليدعي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

(2) ص: 219 ج: 1 طبع النجف الأشرف.

(3) ج: 1 ص: 14 طبع النجف الأشرف.

ص: 476

______________________________

ظهورها في أحد المعاني بالخصوص.

و مثلها دعوي: عموم الإضافة المذكورة للمعتصر و المصعد الخارج عن الإطلاق.

لاندفاعها: بأن الإضافة ليست مأخوذة بمعناها الاسمي، ليتمسك بإطلاقها لسائر موارد صحتها، بل بمعناها الحرفي بلحاظ وجود المصحح لها الذي هو الموضوع في الحقيقة، فمع فرض عدم وضوح الجهة المصححة لها فيه يتعين البناء علي الإجمال، و لا ينهض الحديث للخروج عما دل علي عدم صحة الوضوء بالمضاف.

و منه يظهر عدم صحة التمسك بأصالة تشابه الأزمان و عدم النقل، حيث لا إشكال في عموم ماء الورد أو اختصاصه في عصورنا بالمعتصر أو المصعد.

فإنه إنما يتم مع احتمال تبدل مفهوم اللفظ و لا يتجه مع احتمال تبدل مصحح انتزاع المصداق و السبب المصحح لإطلاق اللفظ.

هذا، و لو فرض ثبوت الإطلاق المذكور كان بينه و بين النصوص الواردة في التيمم- الظاهرة في اعتبار الماء المطلق- عموم من وجه، و لا إشكال في ترجح تلك النصوص عليه بالشهرة و موافقة عموم الكتاب المستفاد من آيتي التيمم.

هذا كله مضافا إلي قرب و هن الحديث بإعراض الأصحاب الذي أشار إليه الشيخ قدّس سرّه في كتابيه، قال في التهذيب: «فهذا الخبر شاذ شديد الشذوذ، و إن تكرر في الكتب و الأصول، فإنما أصله يونس عن أبي الحسن عليه السّلام و لم يروه غيره، و قد أجمعت العصابة علي ترك العمل بظاهره، و ما يكون هذا حكمه لا يعمل به».

و قد يشير إلي ذلك ذكر الكليني قدّس سرّه له في باب النوادر من كتاب الطهارة «1».

و الاكتفاء مع ذلك بعمل الصدوق به في غاية الإشكال. و اللّٰه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد.

______________________________

(1) الكافي ج: 3 ص: 73 طبع إيران الحديث.

ص: 477

______________________________

ثمَّ إنه ربما ينسب لابن أبي عقيل وجوب استعمال المضاف عند عدم غيره، كما تقدم في آخر الكلام في الطهارة من الخبث.

و قد يستدل له بوجهين:

الأول: صحيح عبد اللّٰه بن المغيرة عن بعض الصادقين، قال: «إذا كان الرجل لا يقدر علي الماء و هو يقدر علي اللبن فلا يتوضأ باللبن، إنما هو الماء أو التيمم. فإن لم يقدر علي الماء و كان نبيذ فإني سمعت حريزا يذكر في حديث: أن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله قد توضأ بنبيذ و لم يقدر علي الماء» «1».

و هو مبني علي أمور:

الأول: أن المراد ببعض الصادقين أحد الأئمة عليهم السّلام كما يناسبه مقام عبد اللّٰه بن المغيرة، و اهتمام الأصحاب بروايته كما يروون أحاديثهم عليهم السّلام.

الثاني: أن قوله: «فإن لم يقدر علي.» تتمة لكلام الإمام عليه السّلام، كما هو مقتضي سياق الحديث، لا كلاما مستأنفا لابن المغيرة.

الثالث: أن المراد بالنبيذ ما يخرج الماء به عن الإطلاق، لا الماء الذي ينبذ فيه قليل من التمر، و هو من أفراد المطلق، الذي ذكر في رواية الكلبي النسابة.

الرابع: أن اكتفاء الإمام عليه السّلام في مقام بيان الحكم بذكر مرسلة حريز عن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله ظاهر في فتواه بمضمونها.

و يشكل الأول: بعدم معهودية التعبير من الرواة عن الأئمة عليهم السّلام بالصادقين بصيغة الجمع بنحو ينصرف إليهم عند الإطلاق و يخرج به عن الظهور الأولي في الجنس، و إنما عهد متأخرا التعبير بصيغة التثنية عن الباقرين عليهما السّلام، و مجرد مناسبته لمقام ابن المغيرة لا يوجب الظهور الحجة.

و مثله اهتمام الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) برواية الحديث. علي أنه قد يكون لأجل اشتماله علي مرسل حريز عن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله.

و الثاني: بعدم مناسبة مقام الإمام عليه السّلام للتحويل علي رواية حريز، فلا بد من

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الماء المضاف حديث: 1.

ص: 478

______________________________

رفع اليد عن ظهور «بعض الصادقين» في إرادة الإمام- لو تمَّ في نفسه- أو عن ظهور سياق الحديث في كون الذيل من كلامه عليه السّلام، لمنافاتهما لذلك.

و حمل ذلك علي التقية أو نحوها و إن كان ممكنا، إلا أنه لا ينافي سقوط أحد الظهورين لاحتفافه بما يصلح للقرينية. و لعل الأقرب رفع اليد عن الثاني منهما.

و منه يظهر الإشكال في الثالث، لتوقفه علي كون المستدل هو الإمام عليه السّلام و إلا فاستدلال ابن المغيرة بالمرسل علي جواز الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء لا ينافي كون المرسل واردا في النبيذ الذي لا يخرج الماء فيه عن الإطلاق، لإمكان الخطأ في الاستدلال المذكور، لضعف المرسل و إجماله في نفسه، لوروده في قضية شخصية، بل مقتضي عموم انحصار الطهور بالماء حمله علي النبيذ المذكور. فتأمل.

و أما الإشكال في هذا الوجه: بأن النبيذ الذي يخرج الماء به عن الإطلاق مسكر نجس لا يمكن الوضوء به.

فلا مجال له بعد ظهور بعض النصوص «1» في إطلاق النبيذ علي الشديد الذي لا يسكر.

و أما الرابع فيشكل: بأن تحويل الإمام عليه السّلام علي المرسلة المذكورة بعد أن لم يكن مناسبا لمقامه لا ظهور له في الفتوي بمضمونه، بل هو بالتهرب عن الفتوي أنسب بعد وجود قول به من العامة.

و دعوي: أن حمل الاستدلال علي التقية أو نحوها لا يلزم بحمل ظهوره في الفتوي عليها. قد تتجه مع التصريح بالفتوي ثمَّ الاستدلال عليها بالخبر، لا مع الاقتصار علي التحويل علي الخبر المفروض حمله علي التقية أو نحوها.

و بالجملة: لا مجال للاستدلال بالحديث المذكور و الخروج به عما تقدم من الأدلة. و لا سيما مع ما ذكره الشيخ قدّس سرّه من إجماع الطائفة علي عدم جواز الوضوء بالنبيذ، إذ لا مجال للتعدي عن الخبر بعد طرحه في مورده.

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5 و باب: 24 من الأبواب المذكورة حديث: 3.

ص: 479

مسألة 22 الأسآر كلها طاهرة

مسألة 22: الأسآر (1) كلها طاهرة،

______________________________

علي أنه لو فرض تماميته في نفسه لزم الاقتصار علي مورده، و هو النبيذ، و لا مجال للتعدي منه لغيره من أنواع المضاف بعد ظهوره في كون المرسل مخصصا لعموم الانحصار بالماء و التيمم، كما لا يخفي.

الثاني: قاعدة الميسور، بدعوي: أن مقتضاها التنزل إلي أصل الغسل و الوضوء و لو بالمضاف بعد تعذر خصوصية كونه بالماء المطلق، لأنه ميسور منه عرفا.

و يشكل: - مضافا إلي عدم تمامية القاعدة في نفسها، و أنه لا مجال لها في مثل المقام مما كان الواجب فيه هو الأمر البسيط المسبب عن المركب، و هو الطهارة، و ثبوت الاكتفاء بالميسور، في بعض فروع الوضوء و الغسل للدليل الخاص- بأن مفاد قاعدة الميسور شرح حال المركبات، و أنها انحلالية في حال تعذر القيد، و مقتضي أدلة التيمم أن التقييد بالماء ليس انحلاليا، فتكون أخص من القاعدة.

اللهم إلا أن يقال: استفادة ذلك من أدلة التيمم إنما هو بإطلاقها الشامل لحال وجود الماء المضاف، و إلا فالانتقال للتيمم مع عدم الماء المضاف أيضا لا ينافي قاعدة الميسور، لعدم الموضوع لها، فالنسبة بين القاعدة و أدلة التيمم هي العموم من وجه، و إن كان الترجيح لأدلة التيمم، لما تقدم في آخر الكلام في حديث يونس.

نعم، خبر أبي بصير و صحيح ابن المغيرة المتقدمان الواردان في فرض التمكن من اللبن أخص من القاعدة مطلقا.

لكن ضعف سند الأول، و عدم وضوح نسبة الكلام في الثاني للمعصوم- كما تقدم- مانع من الاستدلال بهما. فتأمل. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم و هو حسبنا و نعم الوكيل.

(1) جمع سؤر بالضم فالسكون. و حيث أخذ في نصوص كثيرة موضوعا لأحكام إلزامية و غيرها فالمناسب تحقيق مفهومه، ليكون هو المرجع في تشخيص

ص: 480

______________________________

موضوع تلك الأحكام، و لا يخرج عنه إلا بقرينة خاصة.

قال ابن دريد في الجمهرة: «و السؤر مهموز، و الجمع أسآر: ما أبقيت في الإناء». و قال أيضا: «و تقول: أسأرت في الإناء أسير إسئارا، إذا تركت فيه سؤرا أي بقية من الطعام و الشراب و غيرهما».

و في الصحاح: «سؤر الفارة و غيرها، و الجمع الأسآر. و قد أسأر. و يقال: إذا شربت فاسئر، أي أبق شيئا من الشراب في قعر الإناء».

و في النهاية: «إذا شربتم فأسئروا، أي أبقوا منه بقية، و الاسم السؤر.

و يستعمل في الطعام و الشراب و غيرهما.».

و في أساس البلاغة للزمخشري: «أسأر الشارب في الإناء سؤرا و سؤرة: بقية.

و أسأرت الإبل في الحوض و سأرت بقية سؤورا. و من المجاز أسأر من الطعام سؤرة، و هذه سؤرة الصقر، لما يبقي من لحمته، و أسأر الحاسب من حسابه أفضل و لم يستقص.».

و في لسان العرب: «السؤر بقية الشي ء، و جمعه أسآر. و يستعمل في الطعام و الشراب و غيرهما. الليث: يقال: أسأر فلان من طعامه و شرابه سؤرا، و ذلك إذا أبقي منه بقية. قال: و بقية كل شي ء سؤره».

و في القاموس: «السؤر بالضم البقية و الفضلة. و أسأر أبقاه كسأر».

و في مجمع البحرين: «في الحديث تكرر ذكر الأسآر جمع سؤر بالضم فالسكون، و هو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض، ثمَّ أستعير لبقية الطعام. قاله في المغرب و غيره. و عن الأزهري: اتفق أهل اللغة أن سائر الشي ء باقية قليلا كان أو كثيرا.».

و قال في النهاية أيضا: «و السائر مهموز الباقي، و الناس يستعملونه في معني الجميع، و ليس بصحيح، و قد تكررت هذه اللفظة في الحديث، و كلها بمعني باقي الشي ء»، و قريب منه ما نقله في لسان العرب عن الأزهري في التهذيب.

ص: 481

______________________________

و كلماتهم- كما تري- متفقة إجمالا علي أن السؤر البقية.

و إنما يقع الكلام في أمور:

الأول: صريح ما تقدم من الجمهرة و النهاية و لسان العرب و الليث و ظاهر إطلاق القاموس عموم السؤر للطعام، بل لغيره، خلافا لما صرح به الزمخشري من أن استعماله في الطعام فضلا عن غيره مجاز.

و ربما يحمل عليه ما تقدم عن المغرب، بل قد يحمل كلام الجميع عليه، لعدم وضوح تقيدهم بالاستعمال الحقيقي، كما قد يشهد به تعميمهم للبقية من غير الطعام، كالشباب و الحساب و غيرهما مما لا يطلق عليه السؤر عرفا.

و لا أقل من كون الشراب هو المتيقن من المعني الحقيقي الذي يلزم الاقتصار عليه في ترتيب الأحكام المستفادة من النصوص، إلا بقرينة مخرجة عنه قاضية بإرادة ما يعم الطعام، مثل ما في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: في كتاب علي عليه السّلام: ان الهر سبع و لا بأس بسؤره، و إني لأستحي من اللّٰه أن أدع طعاما لأن الهر أكل منه» «1»، و ما في حديث المناهي: «أن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله نهي عن أكل سؤر الفار» «2».

و كذا ما ورد في سؤر المؤمن «3»، فإن المناسبات الارتكازية تقتضي بإلغاء خصوصية الشراب فيه. بل لا يبعد لأجل ذلك حمل كراهة سؤر ما لا يؤكل لحمه علي ذلك أيضا. و لا سيما مع قرب كون الاستعمال في الطعام حقيقيا و أن منشأ توهم التخصيص بالشراب كونه أظهر الأفراد لما يباشره الفم، لعدم الخصوصية له عرفا.

كما قد يؤيده الخبران المتقدمان، لبعد حملهما علي المجاز المحتاج للقرينة.

بل قد يؤيده ما عن المصباح المنير من أن السؤر من الفأرة و غيرها كالريق من الإنسان، بناء علي أن مراده أنه الأصل في معناه، و أن استعماله في الباقي من الشراب

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 7.

(3) راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المباحة.

ص: 482

______________________________

باعتبار ممازجته له- كما احتمله في الجواهر- و إلا كان مخالفا للجميع. إذ من الظاهر أن الجهة المذكورة لا تختص بالشراب.

كما أنه لا يبعد حمل ما تقدم عن المغرب من استعارته للطعام علي الاستعارة في الأصل و إن صار فيه حقيقة أو مجازا مشهورا مستغنيا عن القرينة بسبب كثرة الاستعمال، بل قد يحمل علي الثاني ما تقدم عن الزمخشري.

و من ثمَّ لا يخلو ما في المعتبر و المسالك و عن المهذب و المقتصر و غاية المرام و كشف الالتباس من تخصيصه ببقية المشروب عن إشكال.

و أشكل منه ما في المدارك و احتمله في كشف اللثام من اختصاصه بالماء من المشروب، لعدم وضوح منشئه بعد عموم معناه عرفا.

الثاني: صرح في المدارك باختصاص السؤر بما يباشر بالفم.

و هو المناسب لإطلاقات العرف، حيث لا يستعملونه في المباشر لغير الفم إلا بلحاظ مطلق المباشرة و إن لم يترتب عليها الأكل و الشرب، الذي لا إشكال في خروجه عن المعني اللغوي، و إن اشتهر إرادته متأخرا.

و يناسبه أيضا ما تقدم عن المصباح المنير، بناء علي ما سبق في توجيهه.

و من ثمَّ كان المنصرف من كلمات اللغويين المتقدمة خصوص المباشرة بالفم، دون مطلق الفضلة، و لو مع التناول بمثل اليد. و لا أقل من كون ذلك هو المتيقن منها، الذي يلزم الاقتصار عليه في ترتيب الأحكام بعد فرض الإجمال.

نعم، لا يبعد إلحاق المباشرة المشتملة علي اللعاب و لو بالواسطة، كاليد و الملعقة، بالسؤر مفهوما أو حكما. فلاحظ.

الثالث: من البعيد جدا أخذ الإناء في مفهوم السؤر و إن أوهمته بعض كلماتهم السابقة، لقرب حملها علي بيان الفرد الشائع، لإلغاء خصوصيته عرفا.

كما يناسبه إطلاقه علي فضلة الحيوان، و ما تقدم من المصباح، و قول ذي الرمة:

ص: 483

… ______________________________

صدرن بما أسارت من ماء مقفر صري ليس في أعطانه غير حائل

حيث يظهر منهم تفسيره بالقطا الذي يشرب الماء الماكث في الأرض.

و مثله إطلاقهم له و لو مجازا علي غير الطعام و الشراب مما لا يكون في الإناء، فان المناسبات الارتكازية بعد ملاحظة الاستعمالات المذكورة تقضي بعدم خصوصية الإناء.

الرابع: ظاهر المدارك و صريح كشف اللثام اعتبار القلة في السؤر، و هو غير ظاهر المنشأ، عدا انصراف البقية للقليل الذي هو بدوي لا يعتد به. و قد تقدم عن الأزهري التنصيص علي صدقه مع الكثرة، و لا سيما مع الالتفات إلي توسعهم في استعمال «سائر» حتي احتمل كونه بمعني جميع، بل هو كالصريح مما في موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و لا يشرب سؤر الكلب، إلا أن يكون حوضا كبيرا يستقي منه» «1». و كأن منشأ تخصيصهم بالقلة لزوم حمل نصوص الأسآر النجسة- التي هي أهم ما يبحث عنه هنا- عليه إلا أنه لقرينة خارجية تقتضي الحمل علي قلة خاصة لا القلة العرفية، و لا تكشف عن اختصاص مفهوم السؤر أو التصرف فيه.

نعم، لا يبعد قصوره عما يكون له مادة حين استعمال ذي السؤر له، لعدم صدق الفضلة عليه مع استمداده.

كما لا إشكال في عدم صدقه علي المجموع من الفضلة و المختلط بها لو أضيف عليها غيرها، و إنما يصدق علي خصوص الفضلة، فإن فرض ظهور دليل حكمه في كون الموضوع ما يعم السؤر المختلط بغيره عمه الحكم. فلاحظ.

ثمَّ إنه قد عرف في الروضة السؤر بأنه الماء القليل الذي باشره جسم حيوان، و نسبه في المدارك إلي الشهيد و من تأخر عنه.

و من البعيد جدا إرادتهم المعني اللغوي بعد ما عرفت من اطباق اللغويين تقريبا علي أنه الفضلة، بل صريح المسالك عدم إرادته، لأنه جعله في قباله.

و حينئذ فإن أريد به المعني الشرعي- كما جعله كذلك في المسالك، و حكي

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 7.

ص: 484

______________________________

عن كاشف الغطاء الميل إليه- فلا وجه له إلا ما يستفاد من صحيح العيص بن القاسم:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن سؤر الحائض؟ فقال: لا توضأ منه، و توضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ثمَّ تغسل يديها قبل أن تدخلها الإناء، و قد كان رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله يغتسل هو و عائشة في إناء واحد و يغتسلان جميعا» «1».

لكن في ثبوت النقل الشرعي بذلك إشكال بعد كونه استعمالا واحدا لعله يبتني علي المجاز و التوسع في المعني بلحاظ سعة الحكم، لعدم خصوصية المعني اللغوي فيه و ظهور القرينة عليه، فلا مجال للخروج عن المعني اللغوي للسؤر في غير مورده.

و إن أريد به المعني الاصطلاحي للمؤلفين- كما هو مقتضي ما عن الوحيد و السيد بحر العلوم من أنه ظاهر الفقهاء، و ما في الجواهر من أنه ظاهر أصحابنا- فهو غير ظاهر، لأن إرادتهم من السؤر ذلك في مورد الكلام في النجاسة- لما هو المعلوم من أنه المعيار فيها- لا يكشف عن تصرفهم في مفهوم السؤر في سائر أحكامه، و لا سيما مع استدلالهم بالنصوص التي يلزم حملها علي المعني اللغوي.

مع أنه لا أهمية لتشخيص ذلك بعد عدم كونه مصطلحا للشارع ليحمل عليه كلامه في سائر الموارد.

و أما ما في الجواهر من جعل عموم كلماتهم في باب الطهارة و النجاسة لمطلق المباشرة قرينة علي إرادة العموم من روايات الطهارة و النجاسة، و إن لزم حمل روايات سائر الأحكام علي المعني اللغوي بعد استبعاد الحقيقة الشرعية.

فهو غير ظاهر، لعدم صلوح ذلك للقرينية لو فرض ظهور النصوص في نفسها في المعني اللغوي.

هذا، و أما ما عن السرائر من أن السؤر ما شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الأسآر حديث: 1.

ص: 485

إلا سؤر الكلب، و الخنزير، و الكافر (1)،

______________________________

من المياه و سائر اللعاب.

فهو مبني علي الجمع بين المعني اللغوي المشهور، و المعني الذي تقدم عن المصباح، و المعني الذي تقدم من الفقهاء، و الخلط بينها، من دون وجه ظاهر.

(1) المذكور في بعض كلماتهم و المستفاد من بعضها أمران:

الأول: نجاسة سؤر نجس العين. و قد ادعي عليه في كشف اللثام الإجماع، كما ادعي في الجواهر الإجماع المحصل و المنقول عليه، و في مفتاح الكرامة أنه حكاه جماعة.

و يقتضيه- مضافا إلي النصوص الواردة في السؤر التي يأتي بعضها- ما دل علي انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة، إذ لا يحتمل استثناء ملاقاة السؤر عن العموم المذكور.

نعم، قد يناقش في نجاسة سؤر بعض الأمور أو طهارته للمناقشة في نجاستها أو طهارتها، و يأتي الكلام في ذلك في بيان اعداد النجاسات إن شاء اللّٰه تعالي.

و منه يظهر أن الحكم لا يختص بالسؤر بالمعني اللغوي المتقدم، و لا بالمعني الآخر المذكور في كلمات الفقهاء، بل يجري في كل ما يقبل الانفعال من المائع أو الجامد الرطب الملاقي لجسد الحيوان النجس العين، بل المتنجس.

و أن تخصيص الحكم بسؤر المذكورات لاختصاص بعض النصوص به الموجب لعنوانه في كلمات قدماء الفقهاء الذين كان تبويبهم لأبواب الفقه كثيرا ما يتبع العناوين المذكورة في النصوص، و جري علي ذلك المتأخرون في بعض الموارد و إن خالفوهم في بعضها.

كما ظهر الوجه في قصور الحكم عن الماء البالغ قدر الكر، فإنه لو فرض عموم نصوص نجاسة السؤر للكثير، إلا أنه يجب الخروج عنه بنصوص الكر الوارد بعضها في خصوص الماء الذي يشرب منه الحيوان النجس العين، كموثق أبي بصير

ص: 486

______________________________

المتقدم عند الكلام في أخذ الكثرة في مفهوم السؤر، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و سئل عن الماء تبول فيه الدواب و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب؟ قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1»، و نحوه صحيحه الآخر «2»، و قريب منهما صحيح صفوان «3».

الثاني: طهارة سؤر طاهر العين، و عن الغنية دعوي الإجماع عليه، و عن كشف الالتباس أن عليه المتأخرين و أكثر المتقدمين، و نسبه في المدارك إلي عامة المتأخرين، و ادعي في الخلاف الإجماع علي طهارة سؤر ما عدا الكلب و الخنزير من الحيوان، و في محكي السرائر في باب الأطعمة و الأشربة دعوي انعقاد إجماع أصحابنا علي جواز شرب سؤر ذلك و الوضوء به.

و يقتضيه الأصل، بل لا يحتمل عادة انفعال الماء بملاقاة الطاهر، كي يحتاج للأصل.

و قد يستدل عليه بصحيح البقباق: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن فضل الهرة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع، فلم أترك شيئا إلا سألته عنه؟ فقال: لا بأس به، حتي انتهيت إلي الكلب. فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أول مرة ثمَّ بالماء» «4».

و صحيح صفوان و موثق ابن بكير عن معاوية قال: «سأل عذافر أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا عنده عن سؤر السنور و الشاة و البقرة و البعير و الحمار و الفرس و البغل و السباع يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال: نعم، اشرب منه و توضأ منه. قلت له: الكلب. قال: لا.

قلت: أ ليس هو سبع؟ قال: لا و اللّٰه إنه نجس، لا و اللّٰه إنه نجس» «5»، بلحاظ ظهور ذكر نجاسة الكلب فيهما في كونها علة لحرمة السؤر تدور مدارها وجودا و عدما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 6.

ص: 487

______________________________

و فيه: أنه لو سلم ظهورهما في بيان العلة المنحصرة فمقتضي التعليل عموم الحكم تبعا لعموم العلة و قصوره عن غير موردها في موضوعه، لا مطلقا، فإذا قيل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، كان مقتضاه حرمة كل حامض و إن لم يكن رمانا و حلية غير الحامض من الرمان لا من كل شي ء، فلو فرض وجود غير النجس من الكلب لكان ظاهر التعليل طهارة سؤره، و لا ظهور له في طهارة كل طاهر العين.

و مثله الاستدلال بالأول بلحاظ قوله: «فلم أترك شيئا إلا سألته عنه» بدعوي ظهوره في عموم طهارة السؤر.

لاندفاعه: بظهوره في استيعاب السؤال لكل نوع نوع، علي نحو استقصاء الأفراد لا العموم، فلو تمَّ كان نصا في العموم لا ظاهرا فيه، لكنه لا مجال لحمله علي حقيقته، لتعذر الاستقصاء الحقيقي عادة، فلا بد من حمله علي الاستقصاء التسامحي، فلا ينفع في إثبات العموم.

نعم، هو ينفع في كثير من الموارد.

هذا، و في المقام أقوال مخالفة لما تقدم:

الأول: ما قد يستفاد من التهذيب من المنع عن سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان غير الهر و الطيور، و نحوه في الاستبصار، إلا أنه ذكر الفارة و لم يذكرا لهر، و لعله لتحويله علي ما في التهذيب. و إن كان قد ينافي ذهابه لذلك فيهما ذكره للنصوص الدالة علي جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه دون أن يتصدي لتأويلها.

و كيف كان، فقد استدل فيهما علي عدم جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه بموثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سئل عما تشرب منه الحمامة؟ فقال: كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره و اشرب. و عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب. فقال: كل شي ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا أن تري في منقاره دما.» «1».

و يشكل: بابتنائه علي مفهوم الوصف الذي ليس بحجة علي التحقيق،

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الأسآر حديث: 2.

ص: 488

______________________________

خصوصا ما لم يعتمد علي موصوف، كما في المقام، لأن الموصول و إن كان يحكي عن الذات، إلا أنه يحكي عنها حكاية هيئة اسم الفاعل و المفعول بما أنه معني حرفي، و ليست حكاية الاسم الجامد الذي يعتمد عليه الوصف.

و ما ذكره بعض مشايخنا من وروده في مقام التحديد الموجب لظهوره في المفهوم و إن لم يكن مفهوم الوصف حجة.

غير ظاهر الوجه، فان انتقال الإمام عليه السّلام عن مورد السؤال و هو الحمامة إلي مطلق ما لا يؤكل لحمه ظاهر في كونه في مقام ضرب القاعدة لا التحديد.

و دعوي: أن اشتمال الخبر في الجملة الخبرية علي الفاء ملحق لها بالجملة الشرطية في الدلالة علي المفهوم.

مدفوعة: - مع خلو موضع استدلال الشيخ عن الفاء في رواية كتابيه- بأن تشبيههم الجملة الخبرية بالشرطية في دخول الفاء لا يقتضي باشتراكهما في الدلالة علي المفهوم، بل المتيقن من دلالة الفاء تأكيد إشعار الجملة بعلية المبتدأ للخبر من دون أن تدل علي الانحصار الذي يتوقف علي المفهوم، و لم أعثر عاجلا علي تصريح منهم بما زاد علي ذلك.

نعم، لا إشكال في ظهوره في خصوصية مأكول اللحم في الجملة، كما هو مقتضي العلية، و الظاهر بقرينة ذكر «كل» أن خصوصيته بلحاظ عموم عدم المنهي عن سؤره، بخلاف غيره، فان بعض أفراده منهي عنه، فتكون العلية في الحقيقة بلحاظ مقام الإثبات، لأن موضوع القاعدة علة في حصول العلم بالحكم و إن لم يكن علة له ثبوتا.

و أما الإشكال في ظهوره في المفهوم بأنه لا يناسب عدم اكتفاء السائل بالصدر في معرفة حكم ما لا يؤكل لحمه من الطير و تكراره السؤال عن حكم الباز و الصقر و العقاب- كما أشار إليه الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

فمدفوع بما أشرنا إليه غير مرة من قرب حمل هذا النحو من التقطيع في الأسئلة علي كون كل سؤال كلاما مستقلا عن غيره، لا متصلا به ليكشف عن حاله.

ص: 489

______________________________

و مما تقدم يظهر ضعف الاستدلال بصحيح عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: لا بأس أن تتوضأ مما شرب منه ما يؤكل لحمه» «1» إذ لا مفهوم له.

مضافا إلي أن مقتضاه ثبوت البأس فيما لا يؤكل لحمه، و هو أعم من الحرمة.

و مثله في الأمرين موثق سماعة: «سألته هل يشرب سؤر شي ء من الدواب و يتوضأ منه؟ قال: أما الإبل و البقر و الغنم فلا بأس» «2»، فإن «أما» لا تفيد الحصر، بل التفصيل، فهو متضمن لبيان حكم هذه الثلاثة، من دون أن يظهر في عموم الحرمة في غيرها.

نعم، قد يشعر الاقتصار عليها علي الاختصاص بها دون أن يبلغ مرتبة الظهور الحجة. كما أن ثبوت البأس أعم من الحرمة. بل من القريب أن يراد من الدواب المعني العرفي المختص بالمذكورات و بالخيل و البغال و الحمير، لا المعني اللغوي الذي هو بمعني ما يدب علي الأرض، و حينئذ يتعين حمل البأس علي الكراهة.

و بالجملة: لا تنهض هذه النصوص بإثبات عموم حرمة سؤر ما لا يؤكل لحمه. علي أنها لو تمت دلالتها لم تنهض بمعارضة مثل صحيح البقباق الصريح في حلية سؤر الوحش و السباع و غيرها مما أشير إليه إجمالا في السؤال.

و قريب منه حديث معاوية المتقدم في السباع، و كذا صحيح محمد بن مسلم في السنور: «قال: لا بأس أن تتوضأ من فضلها إنما هي من السباع» «3»، و نحوه حديث أبي الصباح «4».

و الجمع بينها بالتخصيص صعب جدا بعد كون ما تضمنته هذه النصوص من أظهر أفراد ما لا يؤكل لحمه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 4.

ص: 490

______________________________

فالأولي الجمع بينها بالحمل علي الكراهة، كما قد يشهد به مرسل الوشاء عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «انه كان يكره سؤر كل شي ء لا يؤكل لحمه» «1».

الثاني: ما عن السرائر من نجاسة سؤر ما أمكن التحرز عنه من غير مأكول اللحم من حيوان الحضر غير الطيور، و قال: «و لا بأس بأسآر الفأر و الحيات و جميع حشرات الأرض».

و هو بظاهره غريب، لبعد كون سهولة التحرز معيارا في النجاسة. مع أنه إن أراد بذلك نجاسة ذي السؤر أو نجاسة لعابه فهو موكول إلي مبحث تعداد النجاسات.

و إن أراد بذلك طهارته مع نجاسة سؤره فهو- مع غرابته جدا- لا شاهد له، إذ النصوص الناهية عن بعض الأسآر لم تتضمن الحكم بنجاستها، فان فرض فهم النجاسة منها بجعل النهي كناية عنها تعين حملها علي نجاسة ذي السؤر لعدم التفكيك بينهما عرفا، و إلا تعين الجمود علي النهي بالبناء علي حرمة السؤر دون نجاسته، لأن التفكيك بينهما أهون بمراتب من التفكيك بين نجاسة السؤر و نجاسة ذي السؤر.

و من ثمَّ لا يبعد التصرف في كلامه بحمل نجاسة السؤر فيه علي مجرد حرمته، فيكون مساوقا لما عن المبسوط و المهذب من المنع عن سؤر ما لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الآدمي و الطيور، إلا ما لا يمكن التحرز عنه كالهر و الفارة.

و علي كل فالجميع خال عن الدليل، لأن النصوص المتقدمة فيما لا يؤكل لحمه لو تمت دلالتها لا تصلح للاستدلال عليه، لأنه أخص منها كثيرا، فحملها عليه- مع خلوه عن الدليل- تخصيص كثير مستهجن بل هو يرجع إلي عدم سوقها للمفهوم و عدم صلوحها للاستدلال.

الثالث: ما عن الشيخ في المبسوط و المرتضي و ابن الجنيد من المنع من سؤر

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الأسآر حديث: 2.

ص: 491

غير الكتابي (1).

نعم، يكره سؤر غير مأكول اللحم (2)،

______________________________

الجلال، و ما عن النهاية من المنع من سؤر آكل الجيف، بل في كشف اللثام: «و كلام القاضي في المهذب يعطي نجاسة السؤرين و نجّس أبو علي سؤر الجلال، و في الإصباح نجاسة سؤر جلال الطيور»، و نسب في الحدائق إلي الشيخ في النهاية نجاسة سؤر آكل الجيف من الطير. و لا وجه للجميع بناء علي طهارة ذي السؤر. بل هو خلاف عموم موثق عمار المتقدم في الطير، و إطلاق صحيح البقباق و حديث معاوية المتقدمين و غيرهما الشامل لبعض أنواع الجلال و آكل الجيف من السباع و غيرها.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و استدل لهم بعدم خلو لعابه عن النجاسة. و هو كما تري ممنوع. مع أنه يختص بملاقي الفم، و لا يطرد فيما يلاقي بقية أجزاء الجسم».

بل مقتضاه تعميم المنع لكل ما يأكل النجس أو المتنجس.

و دعوي نجاسة لعابه ممنوعة، مع ما هو المعلوم من طهارة الحيوان مع زوال عين النجاسة، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

و مثله الاستدلال في الجلال بما دل علي نجاسة عرقه بدعوي عدم الفرق بين اللعاب و العرق. فإنه تحكم.

(1) بناء علي اختصاص النجاسة به، و يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي، كما يأتي الكلام في نجاسة بعض الحيوانات أو نجاسة لعابها، حيث يلزم القائل بالنجاسة القول بنجاسة السؤر، كالمسوخ مطلقا، أو بعض أنواعها، و ولد الزنا، و غير ذلك.

(2) كما في الروضة و عن الاقتصاد و الوسيلة و المنتهي و نهاية الأحكام و الذكري و الدروس. و نسبه في الحدائق إلي الأصحاب، و كأن مراده بعضهم، كيف و قد أهمله غير واحد، بل قد يظهر من اقتصارهم علي العناوين الآتية عدمه.

و كيف كان، فالدليل عليه منحصر بمرسلة الوشاء المتقدمة، و مفهوم النصوص السابقة بناء علي تماميته في نفسه و حمله علي الكراهة.

ص: 492

______________________________

هذا، و قد ذكر غير واحد كراهة أسآر بعض الحيوانات الخاصة فالمناسب التعرض لها تبعا لهم.

الأول: الجلال، كما في الشرائع و المعتبر و القواعد و اللمعتين، و عن جمل السيد و التذكرة و التحرير و الدروس و غيرها، بل نسبه في الحدائق إلي جمهور الأصحاب. و لا وجه له إلا دخوله فيما لا يؤكل لحمه، بناء علي ما هو الظاهر من عمومه لما يحرم بالعارض من حيث كونه لحما، دون مثل المغصوب.

و قد يتمسك له بما تقدم وجها للنجاسة و الحرمة بعد حمله علي الكراهة.

الثاني: آكل الجيف من الطير، كما في المقنعة و المعتبر و عن النهاية و التذكرة، بل مطلقا، كما في الشرائع و القواعد و اللمعتين، و عن المراسم و التحرير. و لا يتضح وجهه، إلا أن يكون مختصا بما لا يؤكل لحمه، فيلحقه ما تقدم فيه، أو يستند إلي بعض ما تقدم وجها للنجاسة و الحرمة بعد حمله علي الكراهة.

الثالث: الدجاج، كما في القواعد و عن سلار و ابني سعيد، و حكاه في المعتبر عن المبسوط، ثمَّ قال: «و هو حسن إن قصد المهملة، لأنها لا تنفك من الاغتذاء بالنجاسة». و هو يرجع إلي ما تقدم في آكل الجيف دليلا علي النجاسة بعد حمله علي الكراهة للاستظهار. فلاحظ.

و أما الاستدلال بما تضمن أن الدجاج خنزير الطير «1»، بدعوي: أن مقتضي التنزيل بعد حمله علي الكراهة كراهة سؤره ككراهة لحمه.

ففيه: أن اللسان المذكور لا يتضمن تنزيل الدجاج منزلة الخنزير، و إلا كان مقتضاه الحرمة، بل تشبيهه به للتنفير عنه و بيان كراهة لحمه لا غير.

نعم، يتجه الاستدلال به- مع الغض عن سنده- بناء علي تبعية السؤر للحم في الكراهة، علي ما يأتي الكلام فيه في الأمر الثامن.

الرابع: الفأرة، كما في الشرائع و القواعد و اللمعتين، و عن الوسيلة و المهذب و الجامع و التحرير و الذكري. و يقتضيه- مضافا إلي دخوله فيما لا يؤكل لحمه- الجمع بين النصوص المجوزة و النهاية.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 16 من أبواب الأطعمة المباحة.

ص: 493

______________________________

فمن الاولي: خبر إسحاق بن عمار- الذي لا يخلو سنده عن اعتبار- عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «ان أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء، أن تشرب منه و تتوضأ منه» «1»، و صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «و سألته عن فأرة وقعت في حب دهن و أخرجت قبل أن تموت، أبيعه من مسلم؟ قال: نعم، و يدهن منه» «2» و غيره، فإنها و إن لم ترد في السؤر إلا أنه يستفاد حكمه منها بفهم عدم الخصوصية عرفا و لا سيما مع غلبة كون وقوع الفارة مسببا عن إرادتها الأكل منه، بل هو ملازم لفتح فمها فيه غالبا.

و من الثانية: ما في حديث المناهي: «ان النبي صلّي اللّٰه عليه و آله نهي عن أكل سؤر الفار» «3»، و موثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «أنه سئل عن الكلب و الفأرة أكلا عن [من ظ] الخبز و شبهه؟ قال: يطرح منه و يؤكل الباقي» «4»، و صحيح ابن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء علي الثياب أ يصلي فيها؟ قال:

اغسل ما رأيت من أثرها، و ما لم تره انضحه بالماء» «5» و غيرها، و هو المناسب لما في وصية النبي صلّي اللّٰه عليه و آله لعلي عليه السّلام من أن سؤر الفأرة مما يورث النسيان «6».

فما يظهر من المعتبر و عن المنتهي من عدم الكراهة في غير محله.

و مثله ما يظهر من بعضهم من نجاسة سؤرها تبعا لنجاستها، كما هو مقتضي ما في المقنعة و ظاهر التهذيب من وجوب غسل أثرها من الثوب، و مثله ما عن النهاية و المبسوط من وجوب غسل ما تلاقيه برطوبة.

هذا، و يظهر من خبر الغنوي الآتي في الوزغ ارتفاع الكراهة أو تخفيفها بالسكب ثلاث مرات من الماء.

الخامس: الحية، كما في الشرائع و القواعد و اللمعتين و عن التحرير و الإرشاد

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 36 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 33 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 91 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 1.

ص: 494

______________________________

و نهاية الأحكام و الدروس و غيرها، و عن الشيخ في النهاية أن الأفضل الترك للسم.

و يقتضيه: - مضافا إلي دخوله فيما لا يؤكل لحمه- خبر أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن حية دخلت حبا فيه ماء و خرجت منه؟ قال: إذا وجد ماء غيره فليهرقه» «1».

هذا، و ظاهر المعتبر و عن المنتهي و صريح المدارك عدم الكراهة، مستدلا عليه في الأخير بصحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن العظاية و الحية و الوزغ يقع في الماء فلا يموت، أ يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به» «2». و هو كما تري لا يمنع من الكراهة.

السادس: الوزغ، كما في المعتبر و عن الدروس و عن التذكرة: هو مكروه من حيث الطب.

و يقتضيه خبر الغنوي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الفأرة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا، هل يشرب من ذلك الماء و يتوضأ به [منه خ ل]؟ قال:

يسكب منه ثلاث مرات و قليله و كثيره بمنزلة واحدة ثمَّ يشرب منه [و يتوضأ منه خ] غير الوزغ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه» «3»، و موثق عمار في حديث: «انه سئل عن العظاية يقع في اللبن. قال: يحرم اللبن؟ و قال: إن فيها السم» «4»، بناء علي أن العظاية هي الوزغ، أو أعم منه و إن لم يخل عن إشكال، بل هو خلاف ظاهر صحيح ابن جعفر المتقدم.

هذا، و في المقنعة و عن النهاية الأمر بغسل الثوب الذي يلاقيه برطوبة، و في الفقيه: «فان وقع وزغ في إناء فيه ماء أهريق ذلك الماء»، و عن المقنع الفتوي بذلك في العظاية.

و الجميع مدفوع بصحيح علي بن جعفر المتقدم، حيث يلزم لأجله حمل

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 46 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

ص: 495

______________________________

النصوص الدالة علي ذلك علي الكراهة.

السابع: العقرب، كما عن الدروس. و يقتضيه موثق أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن الخنفساء تقع في الماء، أ يتوضأ به؟ قال: نعم. قلت: فالعقرب؟

قال: أرقه» «1»، المحمول علي الكراهة لخبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن العقرب و الخنفساء و أشباههن تموت في الجرة أو الدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به» «2»، و صحيح ابن مسكان: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: كل شي ء يسقط في البئر ليس له دم، مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك، فلا بأس به» «3»، فإن التقييد فيه بما ليس له دم ظاهر في أن عدم الانفعال لعدم المقتضي لا لاعتصام البئر، فهو يشير إلي عموم عدم نجاسة ميتة ما لا نفس له، كموثق عمار: «سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه؟ قال: كل ما ليس له دم فلا بأس به» «4» و غيره.

فالعموم المذكور و إن كان قابلا للتخصيص في العقرب إلا أن صحيح ابن مسكان ظاهر في عدم تخصيصه فيه و أن ميتته طاهرة، فيدل علي طهارة سؤره بالأولوية العرفية، و يكون قرينة علي حمل موثق أبي بصير علي الكراهة.

كما أنه يستفاد من خبر الغنوي المتقدم تخفيف الكراهة أو ارتفاعها بالسكب من الماء ثلاثا.

هذا، و قد ذكر في الشرائع كراهة ما مات فيه العقرب و الوزغ.

و الوجه فيه في العقرب- مضافا إلي ما تقدم الشامل لحال الموت، بل هو الأولي من حال الحياة عرفا- موثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن جرة وجد فيه خنفساء قد مات؟ قال: القه و توضأ منه، و إن كان عقربا فأرق الماء و توضأ من ماء غيره» «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الأسآر حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 10 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 6.

ص: 496

______________________________

و في الوزغ خبر الغنوي المتقدم الدال علي حكم الميت بالأولوية العرفية المؤيد بما ورد من النزح لوقوعه و موته في البئر «1».

و لا بد من رفع اليد عن ظهور الجميع في الحرمة و حمله علي الكراهة بما تقدم.

و منه يظهر ضعف ما عن الشيخ في النهاية، حيث أوجب إراقة الماء و غسل الإناء بموت العقرب و الوزغ. فلاحظ.

الثامن: البغال و الحمير، كما في الشرائع و القواعد و اللمعتين، و في الجواهر:

«كما هو المشهور نقلا و تحصيلا، كالخيل أيضا. و ربما زيد الدواب، بل كل ما يكره لحمه، كما صرح به بعضهم، و يظهر من آخرين، لتعليلهم الكراهة في المقام بكراهة اللحم، بل يستفاد منه أن ذلك من المسلمات».

و العمدة فيه موثق سماعة المتقدم عند الكلام في حرمة سؤر ما لا يؤكل لحمه، بناء علي ظهوره في المفهوم و حمله علي الكراهة و لو لأنها المتيقن أو للجمع بين الأدلة.

و قد يستدل له بصحيح ابن مسكان عن الصادق عليه السّلام: «سألته عن الوضوء مما ولغ فيه الكلب و السنور، أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك، أ يتوضأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم، إلا أن تجد غيره فتنزه عنه» «2» بضميمة ما في الجواهر من عدم القائل بالفصل هنا بين الوضوء و غيره.

لكن قد يشكل باشتماله علي ما لا يكره أكل لحمه- و هو الجمل- و علي السنور الذي يأتي عدم الكراهة فيه، بل علي غير ذلك الذي يعم كل حيوان، كما أن اشتماله علي الكلب قد يلزم بحمله علي الكر.

و من ثمَّ لا يبعد حمله علي إرادة الإخبار بتنزه السائل للاستقذار النفسي، لا الأمر بالتنزه عنه لاستقذاره شرعا، كما هو المدعي، فيكون قوله: «فتنزه» فعلا مضارعا قد حذقت إحدي تائيه تخفيفا، لا فعل أمر، فإن احتمال ذلك إن

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 19 من أبواب الماء المطلق.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الأسآر حديث: 6.

ص: 497

______________________________

لم يكن معتدا به في نفسه بنحو يوجب الإجمال، فلا أقل من الحمل عليه لما ذكرنا.

فلاحظ.

التاسع: ولد الزنا، كما في المعتبر و القواعد و اللمعتين و عن الدروس و غيره.

و يقتضيه مرسل الوشاء عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «أنه كره سؤر ولد الزنا و سؤر اليهودي و النصراني و المشرك و كل من خالف الإسلام. و كان أشد ذلك عنده سؤر الناصب» «1».

و قد يستفاد من النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام معللا بأنه يغتسل بها ولد الزنا، و في بعضها: «و هو لا يطهر إلي سبعة آباء» «2».

و منه يظهر كراهة سؤر من يفرض حلية سؤره من الكفار و النواصب، لاشتمال مرسلة الوشاء و نصوص الحمام علي الجميع.

بل هو مقتضي كثير من النصوص لو فرض عدم العمل بظاهرها من النجاسة و الحرمة.

العاشر: الحائض مطلقا، كما عن المبسوط و المصباح و أبي علي.

أو خصوص غير المأمونة، كما في الشرائع و عن المراسم و الجامع و المهذب و الذكري. و كأنه إليه يرجع كلام من قيدها بالمتهمة، كالمعتبر و القواعد و عن النهاية و الوسيلة و السرائر و التذكرة و اللمعتين. و إلا فلا وجه له، لخلو النصوص عنه.

فإن النصوص بين ما هو مطلق، كصحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الحائض يشرب من سؤرها؟ قال: نعم، و لا تتوضأ منه» «3»، و غيره.

و مقيد للرخصة بالمأمونة، كموثق علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه السّلام: «في الرجل يتوضأ بفضل الحائض. قال: إذا كانت مأمونة فلا بأس» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسآر حديث: 2، و في الباب المذكور أحاديث كثيرة تتضمن ذلك.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسآر حديث: 5.

ص: 498

______________________________

و من ثمَّ كان مقتضي الجمع بين النصوص هو التقييد. لو لا ما رواه في الكافي في الصحيح عن العيص بن القاسم: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن سؤر الحائض؟ فقال:

لا تتوضأ منه و توضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ثمَّ تغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء. و قد كان رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله يغتسل هو و عائشة في إناء واحد و يغتسلان جميعا» «1»، فإنه ظاهر في اختصاص ارتفاع الكراهة بالأمانة بالجنب، و عدم ارتفاعها بذلك في الحائض.

نعم، استشكل فيه برواية الشيخ له في كتابيه بإسقاط «لا» من الجواب.

لكنه قد يدفع بما اشتهر من أضبطية الكافي، و بأصحية سنده. قال في مفتاح الكرامة: «و يؤيده ما نقل من أن الشيخ رواها مرة أخري في التهذيب كالكليني»، و نحوه ذكر الوحيد في حاشية المدارك بل ظاهر الوسائل موافقة الشيخ للكافي في إثبات «لا».

مضافا إلي استفادة ذلك من صحيح ابن أبي يعفور: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام:

أ يتوضأ الرجل من فضل المرأة؟ قال: إذا كانت تعرف الوضوء، و لا تتوض من سؤر الحائض» «2»، فإن الظاهر أن اعتبار معرفة الوضوء في المرأة راجع إلي اعتبار أمانتها في رفع الكراهة، فإطلاق النهي مع ذلك في سؤر الحائض ظاهر في عموم كراهته.

و قد يؤيده صحيح أبي بصير عنه عليه السّلام: «سألته هل يتوضأ من فضل وضوء الحائض؟ قال: لا» «3»، فإن فرض وضوئها مثير لاحتمال أمانتها، فاغفال التقييد بها مشعر بعموم الكراهة. فتأمل جيدا.

و أما ما في الجواهر من أن ذلك ينافي النصوص المقيدة بعدم الأمانة. فلا مجال له بعد إمكان الحمل علي اختلاف جهات الكراهة و مراتبها، حيث يكون المتحصل من مجموع النصوص أن في الحائض كراهتين: ذاتية لا تزول بالأمانة، و عرضية تزول بها، و تشاركها فيها الجنب، بل مطلق المرأة، كما هو مقتضي صحيح

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسآر حديث: 7.

ص: 499

______________________________

ابن أبي يعفور.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن صريح غير واحد من النصوص اختصاص الكراهة بالوضوء و عدم كراهة الشرب، فإطلاق كراهة السؤر غير ظاهر.

و مجرد اشتهار الإطلاق بين الأصحاب، حتي قد يدعي عليه الإجماع، لا مجال للاعتماد عليه في رد النصوص مع ما هو الظاهر للممارس من تسامحهم في المكروهات و المستحبات.

كما لا وجه لردها بدعوي مناسبة الإطلاق للتقييد بالأمانة المقصود بها الاحتراز عن النجاسة، حيث لا فرق في رجحانه بين الوضوء و الشرب و غيرهما مما يتوقف علي الطهارة، فإنه اجتهاد في مقابلة النص.

نعم، بناء علي ما ذكرنا من ثبوت كراهتين قد يتجه ذلك بحمل النصوص المفصلة بين الوضوء و الشرب علي الكراهة الذاتية التي لا ترتفع بالأمانة، و النصوص المقيدة بالأمانة علي الكراهة العرضية الطريقية الشاملة لمطلق الاستعمال، حذرا من النجاسة بإلغاء خصوصية موردها و هو الوضوء بعد عدم تصريحها بالاختصاص به.

الثاني: الظاهر عدم الإشكال في حمل النهي علي الكراهة. و يكفي فيه اشتهار ذلك بين الأصحاب مع ما هو المعلوم من كثرة الابتلاء بالحكم المذكور، فلو كان النهي تحريميا لم يخف عليهم.

و من ثمَّ لا يبعد حمل إطلاق النهي المحكي عن المقنع علي الكراهة.

الثالث: عن الشهيد في البيان أنه عمم الحكم إلي كل من لا يؤمن، و استحسنه في الروضة، و استظهره في كشف اللثام، و في مفتاح الكرامة: «و هو الظاهر من الشيخين و العجلي و المحقق في الأطعمة، و الأستاذ انه في غاية القوة».

هذا، و لو أريد بذلك تعميم الكراهة الشرعية بفهم عدم الخصوصية فهو ممنوع.

و إن أريد حسن الاحتياط عقلا فهو يجري في كل احتمال، و لا يختص بغير المأمون.

ص: 500

عدا الهرة (1) و أما المؤمن فإن سؤره شفاء (2)،

______________________________

و قد يظهر من بعض النصوص الردع عن الاحتياط فيه و لو من جهة مزاحمته ببعض الجهات الراجحة.

(1) كما في الوسائل، بل هو ظاهر كل من لم يتعرض لعنوان غير مأكول اللحم و اقتصر علي عناوين خاصة، حيث لم يعدوها بخصوصها، بل ربما ينساق من تخصيص بعضهم الكراهة في آكل الجيف بالطير إرادة عدم كراهة سؤر السنور، كما في مفتاح الكرامة.

و كيف كان، فيقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح زرارة المتقدم عند الكلام في مفهوم السؤر، و صحيح محمد بن مسلم المتقدم عند الكلام في نجاسة سؤر ما لا يؤكل لحمه، و نحوه خبر أبي الصباح، و صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

«في الهرة أنها من أهل البيت، و يتوضأ من سؤرها» «1»، و في موثق سماعة عنه عليه السّلام:

«أن عليا عليه السّلام قال: إنما هي من أهل البيت» «2».

نعم، ذكر السنور في صحيح ابن مسكان المتقدم عند الكلام في سؤر البغل و الحمار.

و تقدم الإشكال في الاستدلال به، بل لا مجال للخروج به عن هذه النصوص و لو بحمله علي الكراهة الخفيفة، لإباء صحيح زرارة عنها جدا.

(2) ففي حديث الأربعمائة عن علي عليه السّلام قال: «سؤر المؤمن شفاء» «3»، و في مرفوع محمد بن إسماعيل: «من شرب سؤر المؤمن تبركا به خلق اللّٰه بينهما ملكا يستغفر لهما حتي تقوم الساعة» «4»، و مثله مرسل الاختصاص عن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله «5»، و ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 2.

(5) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 1.

ص: 501

بل في بعض الروايات أنه شفاء من سبعين داء (1).

______________________________

عن المستغفري في طب النبي صلّي اللّٰه عليه و آله عنه صلّي اللّٰه عليه و آله: «قال: و من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه المؤمن» «1».

(1) ففي صحيح عبد اللّٰه بن سنان: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: في سؤر المؤمن شفاء من سبعين داء» «2»، و مثله مرسل الاختصاص عن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله «3».

هذا تمام الكلام في الأسآر، و به ينتهي الكلام في مباحث المياه.

و الحمد للّٰه رب العالمين و له الشكر علي ما منحنا من التوفيق و العون في إنجاز ذلك، و نسأله أن يتقبله بقبول حسن، و أن يتداركنا بلطف منه و رحمة، و يعصمنا من الزلل في القول و العمل.

و هو حسبنا و نعم الوكيل.

و كان الفراغ من ذلك صباح الأربعاء الخامس و العشرين من شهر شعبان سنة ألف و ثلاثمائة و خمس و تسعين لهجرة سيد المرسلين صلي اللّٰه عليه و آله و سلم تسليما كثيرا، في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف علي مشرفه أفضل الصلوات و أزكي التحيّات.

و نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من بركات مشهده و يوفقنا للقيام بحق مجاورته، و يصلح نياتنا، و يزكي أعمالنا، إنه أرحم الراحمين و ولي المؤمنين.

و كان ذلك بقلم العبد الفقير «محمد سعيد» عفي عنه نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد «محمد علي» الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. و الحمد للّٰه في البدء و الختام، و به الاعتصام.

و قد انتهي تبييضه سحر الثلاثاء العاشر من شهر رمضان المبارك من السنة المذكورة، في النجف الأشرف، بقلم مؤلفه الفقير حامدا مصليا مسلما.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 2.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق

ص: 502

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.